Announcement

Collapse
No announcement yet.

بحيرة الملح - 1- 2 - رواية - نبيه إسكندر الحسن

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • بحيرة الملح - 1- 2 - رواية - نبيه إسكندر الحسن







    بحيرة الملح

    رواية ((1-2))



    نبيه اسكندر الحسن





























    رواية





    مع الفجر صدحت طيور القطا في الآفاق ، تركت في نفسي انطباعاً خيالياً ، في الصباحات كنت معتاداً على الخروج إلى بحيرة قابعة بهدوء على تخوم بادية حمص، أقضي ساعات في التجوال على أطرافها ، حيث شجيرات الشيح موزعة على أرض بيضاء كنجوم سماء في ليل مشرب بالسواد .حبّ الطبيعة والجمال يدفعانني إلى الجلوس فوق تلّ يكشف أمام ناظري رداء البحيرة الأبيض ، أحسّها في كل ذرّة من كياني ، فحدثت نفسي : " يا إلهي !...هنا يكمن الجمال"...
    أختزن في مخيّلتي صور العصافير والفراشات ، حين تنطلق في واحات الشيح الواسعة, التي تمشطها خيوط الشمس ، وأحلق بأجنحة إلى بحيرة يغمرها ضوء أحمر بلون الأرجوان، يولد في داخلي إحساساً ولا أجمل ، ازداد عمقاً وشفافية ، مع يقظة النسمات ، حولت بصري إلى مياه البحيرة ، وسرعان ما هبّت تلقن أطيار القطا معزوفة شعاع الشمس المتصابية وما إن تصل إلى عرضها حتى تلقي رأسها التعب في لجة الماء . ألفت هذه السباحات ، أغرق في الحلم ، مع أنغام عذبة ، يمتد شعوري إلى الأشياء ، حيث تبدو البحيرة ( خطاً مائلاً ) يربط ذروة التل بحوافّ الماء ، فأحدث ذاتي : "أنه مثلث منفرج الزاوية" .
    لا أدري أين طرحني الصمت ، وأعادني إلى أيام خلت ، حيث العصافير تنشد شلالات الفجر ، وتبحث عن ينابيع في قيظ الصحراء ، رغم أن طيوراً جارحة ضلت سبيل البحيرة ، في لحظة تبادر لذهني هديل القطا ، أثار في نفسي الأشجان ، وجدتني في حاجة إلى الراحة، رجعت إلى سريري ، انسللت تحت اللحاف ، رأيت نفسي على أطراف بحيرة الملح ، حدقت في لجة الماء ، طالعتني صورتي ، تفرست وجهي ملياً ، مططت لساني ، ضحكت من نفسي ، أرهفت سمعي هنيهة ، وهززت رأسي في هيئة من يفكر ، ولا أحير جواب ، قلت لذاتي : "لا أدري أين تسير الأمواج" ؟ .
    انحدرت إلى أعماق وحدتي ، استظللت بظلّ شجرة تؤوي عصافير بين أفنانها الباسقة ، سرت إلى قلبي جراح ، وعبق الشيح إلى أنفي وتأتى هديل القطا إلى مسمعي ، اجتاز بصري مياه البحيرة ، وقع على حدأة فاغرة منقارها ، تنقضّ على عصفور نسي الاتجاهات سريت لذاتي : "اللعنة على شريعة الظفر والناب" .
    تأجج نار في داخلي ، حولت بصري بعيداً ، ثمة عاصفة تهب من عمق الصحراء ، ريح النكبة غدارة تلف " وردة " ذعرت لمرآها ، ارتعدت فرائصي ، صرخت " وردة " مستجيرة :
    -أنقذني يا حمدان .
    وثبتُ صوبها ، عاندت الريح ، أمسكت ثوبها بيد, و بالأخرى تأبطت جذع شجرة تين ، ملأت عيناها دموع ، وكاد صوتها المبحوح أن يمزق صدرها ، لم أستطع أن أعبّر عن شعوري المفاجئ ، وجدت نفسي أقبض على يدها بحزم ، فسارعت لتطيب خاطري :
    -أرجوك يجب أن أنصرف .
    -هل أنت جادّة ؟
    -أفي هذا ما يزعجك ؟
    -لعله من الأفضل أن تبقي معي .
    -لم تصب حظاً .
    انسلت من أمامي ، وأطلقت ساقيها للريح ،أخذت أشيعها حتى توارت خلف تلال طوقت قباب بحيرة الملح ، برقت عيناي بريقاً ينم عن تفكير ، بحثت في خلايا عقلي لأجد المبررات ، وأخذت أسير ببطء على أطرافها ، أنظر إلى اللجة بتفاؤلٍ ، وبصوت أشبه بحشرجة المحتضر ناديت, وليل جاوبني وأ بكاني: "تعالي يا وردة ".
    شعرت حيرة حين وقع بصري على طائر القطا يشق عباب الهواء ، في أثره طائر جارح ، قبل أن يصبح هدفاً لأظافر قوية ، لجأ إلى جلبابي ، مسحت بيدي على ريشه الناعم . :
    -أليس المنظر مدهشاً ؟ حقاً إن الروح غالية ؟ من يكره الحياة ؟ حتى الحيوان يخاف الموت بغريزته ! .
    أجابت البحيرة :
    -إنها خطيئة الإنسان .
    -أؤاخذ بما جناه السلف ؟
    -يا لك من شقي ؟ !
    -حسنا...قد تكونين على حق .
    نقشت العبارات في تلافيف مخّي, وأخذت عهداً على نفسي أن أقاوم طيوراً مشؤومة . امتطيت صهوة جوادي ، وأخذت أشق عباب العاصفة :
    -فلتكن ملعوناً يا جغمير ويا فدعان أيضاً .
    جاءني صوت الأعماق :
    -أنا الذي كره الحماقات البشرية .
    -حسبك ما قلت .
    -سيكون الغد لنا .
    -ما أدراك ؟
    -أوليست المرأة عروس الحياة ؟
    -أجل ....
    -لكن القوانين كبلتها !
    -ما هذه الفلسفة ؟ ..
    -لا عليك ، قبل الحظوة يكون التواضع .
    -هذا محتمل جداً .
    -لا أستطيع أن أعبّر لك عن مدى سعادتي ، لكن هل تعلم أين ستقذف الرياح بوردة ؟ ! ...
    -إن ما يقلقني هو مصيرها .
    -هل أستطيع مساعدتكما ؟
    -لا أدري ! .
    انتشرت من حولي رائحة الشيح ، وكم تمنيت لو كنت مع وردة لأتخلص من توتر شديد ، رحلت ، محدقاً في لجة بحيرة الملح ، ثم هززت رأسي ، ورفعت بصري إلى قبة فيروزية حيث يلتقي ثوبها مع تخوم بادية تؤمها الأنعام ، وفي الآفاق تتهادى طيور القطا . فجأة أيقظني صوت " عمار " من غفوة عميقة ، نهضت مرتبكاً بعض الشيء . تلفت يميناً وشمالاً ، حدقت إلى وجهه ، فوجئت بالتغير الذي طرأ على سحنته ، بدت عيناه واحتي نخيل تستحم بندف الثلج ، حاولت أن أتحرر من الحلم ، أجهدت نفسي لأن أعود إلى طبيعتي ، دعكت عيني ، ونظرت من كوّة الخيمة ، بدت الشمس لناظري قرصاً لازوردياً ترتقي قبّة الآفاق ، تأملني " عمار " في إعجاب :
    -ترى هل كنت تحلم ؟ .
    -من أنبأك ؟ !
    -هيئتك .
    ينبغي على المرء ألاّ ينسى بلدته ، أنا لم أنس بحيرة الملح وطيور القطا بين شجيرات الشيح ، لأنها منحتني الحنّو .
    -ما أدراك ؟ .
    -الحلم اعتراف بالفضل ، وبعث لقيمة الوطن في كل زمان ومكان .
    -ما قصدك ؟ .
    -مرت السنون ، وما زلنا نطوي الأيام نحو القادم الجديد ، حيث تعارفنا، تماشينا ، عركتنا الأيام . والآن ينتصب أمامنا خطر القنابل الذرية والفراغية .
    تاه " عمار " في تفكيره ، أحس تحررا من قنوطه ، وارتسمت علامات فرح على وجهه ، تنفس باطمئنان . وقال بلهجة مرحة :
    -أرى في ملامح وجهك نذير الحرب !.
    -لم أدر إن الغبش الحضاري يحجب عنّا سير القفزات .
    -كيف ؟
    -بين حرب الخوف ، وخوف الحرب ؟!
    -أفصح .
    -ألم يصنع الإنسان القنابل التي ساهمت في القتل الجماعي ؟!
    -مؤكد .
    -وما زال يصنع نظريات تسهم في قتل الإنسان في داخل البشر .
    -أجل ..
    -وها هي أفعى الاحتكارات ، تطارد الشعوب ، تدفعها إلى الرعب الدائم . انتفض عمار ، وفي عينيه القلق :
    -ما العمل يا حمدان ؟ .
    درجت لفافة تبغ ومججت نفساً عميقاً ، بادلته النظر بضع لحظات ، تأملت سحنته المخدّدة ، ولدت في قلبي بحيرات من الملح ، وكان مستحيلاً أن أعرف أين كانت تنتهي البحيرات :
    -ما رأيك بقضية تخلق الإنسان من جديد ؟.




    فصل الثاني
    دخل "وليد " وبدت عليه المهابة ، أدار عينيه الكبيرتين ، اختفت الابتسامات من وجهه ،دفعني فضولي أن تلهف إلى معرفة ما يدور في خلده ، رقصت في مخيلتي الأفكار ، و كنت شديد الرغبة في محاورته :
    -ما الذي حصل ؟
    -جاءت الأوامر .
    -أي أوامر ؟ .
    -أن تتحرك القوات إلى لبنان .
    لم أستطع أن أعبر عن شعوري المفاجئ بأية كلمات ، ووجدت نفسي ، أشدّ على يده بحزم ، تبدلت رؤيتي للأشياء ، تعلقت عيناي على شفتيه ، تنتظران الأخبار، تنهدت بغيظ ، شعرت أن قوة صماء ، تنبعث في داخلي ، سمعت صوتاً غريباً في الأرز الأبيض . فقلت لنفسي : "هي أشجار صنوبر أمام حيتان محيطات الرعب البشري" .
    هبت عاصفة في داخلي ،وأنا أتأمل وجه " وليد " الذي تنهد بغيظ وغير جلسته :
    -اللعنة عليهم .
    وراح يضع الإشارات على خريطة ، تقبع بهدوء على الطاولة ، وأنا أطالع وجهه الذي كاد أن يلامس الخريطة ، تنهدت من أعماقي بغية أن أريح صدري من عبء الأسئلة التي احتلت تجاعيد دماغي ، تمددت عضلات وجهي بضغط التساؤلات، وحين رفع رأسه ، بادرت أروي له الحلم الذي راودني .
    قال وليد بهدوء عميق :
    -تفسّر حلمك .
    -لم أفهم .
    -ما يجري في الأرز الأبيض لا يحتمل .
    كان وليد وسيماً خجولاً يفكر بإرهاق ,ثاقب النظر ، حدّق متأملاً شيئاً ما ،وهز ّرأسه,ثم تناول الخريطة . قال بلهجة المنتصر:
    -سأعود حالاً .
    اندفع صوب قيادة اللواء ، سرحت في صدى كلماته ،كانت لهجته مثيره تبعث على التفكير ، أجهدت نفسي لأعود إلى طبيعتي ، ومكثت في مكاني أنتظر أوبته على أحرّ من الجمر ، وكنت أصغي باهتمام إلى تكدر " عمار " الذي كان يفكر في المستقبل بحذر كبير . عرفته ينحدر من عائلة فلاحيّة جاءت من جبال عكار ، واتخذت مكاناً لسكناها في حمص،لقد انتابه خوف شديد على الوطن :
    -لا ريب التاريخ يعيد نفسه..
    -لم أفهم...
    - أننا لا نزال نحصد تركة الاستعمار !.
    هززت رأسي موافقاً :
    -أجل ..
    - كان الغرب مصدراً لأزمة الأرز الأبيض .
    -ماذا حل .
    -لا تنس الأيدي الملوثة ، والعقول الغريبة التي تحيك السياسات على أرضه ، وجشعهم .
    -من المؤسف.
    -نعم... الإنسان يقتل أخاه حباً بالذهب ..
    -يا للعجب!.
    أشرفت الشمس على المغيب ،حين دخل " وليد "و وقف قبالتنا ، تطلّع إلى وجهينا بذهول ،كان ينتعش صدره بالأمل ،لقد استطاع التكيف مع الظروف ، فأدرك ما يتعّين عليه أن يفعل ، كان واسع الخبرة في الحياة :
    -علنّا ألا ننظر إلى ما يجري مثل البعض .
    ابتسمت قائلا :
    -حسننا, ما قصدك ؟
    -علينا .. أن لا نقيمّها ، كل حسب فهمه للأمر .
    قال عمار :
    -مفهوم.
    -كل شيئ على ما يرام.
    -يا لك من دقيق الملاحظة .
    -نعم ، ستكون هذه الحرب عكس سابقاتها من حروب .
    سأله عمار :
    - كيف؟
    -ستكون فلسفة جديدة !.
    صرخ وليد :
    -اللعنة عليهم .
    أكدت قائلا:
    - هل بقي من شيء دون تهميش ؟ !
    ما كادت الكلمات تستقر في ذهن وليد ، حتى ابتدر:
    -صدقت ، هم أشعلوا أوار حرب بين الأخوة .
    - ألا من حدًّ لهذا الزمن الأرعن يا أسياد الجحيم ؟ ! .
    بدت على وجهي علامات تفكير متواصل ،و تجمد ما يجول بخاطري عندما ذكرت " أديل" عندما باحت عن أسرار الخواجا وهي في حالة من السكر ، وانتابني خوف شديد على " وردة " .فجأة, قطع وليد عليّ الاسترسال مع الماضي :
    -لا تقلق ..
    -علام؟.
    - لكل منّا مهامه .
    -لا عليك.
    -أعرف ستكون حسب ظني .
    كان وليد ذكياً ، يمتاز بوجه لوّحه لهيب الصيف ، منذ طفولته يهوى لعب الشطرنج ، نظر إلينا بصمت ، فأخذت أعد القهوة ، تناول الفنجان ,رشف شيئاً منه ، حدق ملياً من الكوة, رأى على المدى البعيد في قبّة الكون دخاناً وردياً يتلوى ، مثل سحابة عند الفجر ، تناول البندقية تفحصها مليا،ثم شدّ على يدي بحزم, وانصرف إلى مهامه :
    -مهامك ستكون الأصعب يا حمدان .
    ترجمت أقواله إلى مسؤولية كبيرة ، حدقت بعيداً ، كانت عيناي تحصران المكان ، شعرت أن الدماء تمزق الجسدي ، تأتي إلى سمعي نداء من الأعماق ، نقش حروفاً على تجاعيد دماغي ،ظهرت أمامي آلاف من صور خرافية ،و وجوه كالحة :
    -زمن ناشز .
    فقال عمار :
    -هبوا أيها الناس ، ما زالت حقولنا ناضجة .
    -صدقت يا صديقي.
    قال وليد:
    - وداعا.
    ثمة ريح تعول في الفجاج ، وعربدت شياطين الأرض . أخذتني نشوة أمل في ولادة جديدة ، حلق فوق رأسي طائر " الفينيق " تطلعت حولي ، رأيت حقول الحنطة مزهرة ، سمعت قرع طبول أعراس أعادني إلى بحيرة الملح ومزنة، حين كانت الرياح تلسعنا بسياطها ،لقد تبرعمت الكلمات على شفتيها ،التصقت بجسدي :
    -أتحبني ؟ .
    -أحبك رغم الصقيع ، وبحيرة الملح .
    ضحكت وهي تنظر إلى عيني:
    - وتشهد علينا طيور القطا .
    كانت الدقائق تقفز بقلق ، وأنا أقرأ على وجه عمار أشياء وأشياء :
    -حيّاك الله .
    قرأت على وجهه الذي بدا كرغيف تنوري أخرجته فلاحة تدمرية من تنور عروس الصحراء الأمل :
    -سأتابع المسير قبل الفجر .
    -ما أدراك ؟
    -هكذا أتوقع .
    -أتمنى لك التوفيق.
    -عصفت في رأسي الأفكار :
    -جرح سوف يلتئم .
    أمسكت بفكرة ومضت بذهني ، شممت هواء بردى الرطب, ونسيمه الخفيف يهدهدان وجهي ، حدقت في غيوم زاحفة من خلف محيطات الرعب ، تجشمت مشقة الحياة ، نيّف وعشرون عاماً أصحو قبيل الفجر أقص على العصافير ، و القطا حكايات عن صقيع يطارد اليمام على قباب البحيرة ، شغلت الخواطر مساحة دماغي ، جاءت " مزنة " ترتل الصلوات مع الطيور ، كانت بنيتها تضفي عليها مسحة من نضج ، وقبل أن تبعد :
    -أنت تعرف كل طقوس العشق .
    -معك الحق .
    -تعال ، لنحتفل بهذه المناسبة .
    -هيئ نفسك.
    ثَبت نظري في عينيها ، بدا وجهها وجهاً " فينيقياً " كاد يغيب في زحام الأيام ، لبثت في مكاني ، زمجر النهر في أذني كنبوءة ، أردت أن أسكّن روعها ,تلمست كتفها ، أحسست أن الأرض تمور تحت قدمي ، شعرت تسارعاً في نبضات القلب . وأنا أطوف في عقول الناس ، تراءت لي " مزنة " أسرعت صوبها ، هربت من أمامي لئلا أظفر بها ، حولت نظري إلى ياسمين الشام يعرش على الجدران القديمة . قطع عمار عليّ التواصل مع الحلم وسألني :
    -قل بصراحة.
    -تفضل...
    - أين رحلت ؟
    -إلى البحيرة الملح يا صاح .
    -يا إلهي !.. كم أنت وفيٌ ؟ . .
    -كيف ، للإنسان أن ينسى مربع طفولته؟! ..
    -لا بأس يا حمدان .أراك تعب.
    -لا تقلق نفسك.
    - ألا تريد أن تخلد للراحة ؟
    -ليكن ما تشاء !.
    -عمت صباحاً
    -وأنت أيضا.

    فصل (2)
    جمعت الشمس حبالاً حمراء ،وخبت الأضواء ، وأحاط الظلام المكان واختفت العصافير في أعشاشها ، أعادتني هذه السويعات إلى أيام خلت ، حشدت كل قواي ووجهت رسالة عبر الأثير إلى قريتي أمّ القباب التي تطوق بحيرة الملح ، ولم أنس حاكورة أمّ شحود ، والقناة الرومانية أيضاً ، التي شطرت القرية إلى شطرين غربي يملك كل شيء ، والشرقي لا يملك شيئاً ، أسقطت من حسابي الشطر الأول .
    -سألني النقيض :
    -ما قصدك ؟
    -الأول الجغمير وحنوف وفدعان أيضاً .
    -والثاني ؟ .
    -الأستاذ جميل وفهد وشحود وسالم .
    انعكس على وجهي فيض من مشاعر وحنين إلى طيور القطا والزرازير التي تحط على أطراف البحيرة ، تلتقط الحبّ بمناقيرها ، رغم أن الصيادين باتوا يسددون فوهات بنادقهم إلى أجنحتها المزركشة ، البنادق لا تعرف رحمة . قلت لنفسي :
    -رغم السنوات العجاف كانت حياتنا جميلة .
    قال النقيض :
    -علام ؟
    -كانت البيوت عامرة بأناس طيبين ، طيبة أرض بعل .
    -أتقصد كل الناس ؟
    -نعم .
    -حسناً ، أنسيت الجغمير ، مثلاً ؟ ! .
    -كن مطمئنا لم انس الحمار وذيله ورأسه أيضا .
    -لا تقلق نفسك هؤلاء أسقطهم من سجلات الناس .
    -الأمر في غاية الخطورة.
    -أعرف ما لجأ إليه هؤلاء.
    مرّ أمام ناظري شريط من الذكريات ، وثمة ذكرى لها وقع خاص في حياتي ، حين رأيت " فهداً " خارجاً من دار الأستاذ جميل يحثّ خطاه في الأزقة الضيقة :
    -اللعنة على الحمار وذيله .
    كان حنوف جالساً جلسة نصف دائرية واضعاً رجلاً على رجل فاعترض على"فهدُ" وظهر على وجهه خوف ضبابي ، تهدج صوته قائلا:
    -حرام عليك .
    ضحك فهد ضحكة ، أضاءت وجهه الأسمر الجميل :
    -عرفت نفسك ؟ !
    -لعله زاد لك الجرعة ! .
    -أي جرعة؟
    -الجرعة من أفكار الأستاذ المسمومة .
    التفت فهد ومدّ شفتيه في حركة من يتفل :
    -تفوه ... يا ذيل الحمار .
    أجاب حنوف:
    -دعك من المهاترات.
    -ليكن كما تشاء.
    قبل أن يغادر فهد المكان استوقفته,وحشدت كل قواي وسألته :
    -ما قصدك بذيل الحمار ؟
    أجابني :
    -الحمار الجغمير ، وذيله حنوف ,ورأسه فدعان .
    -يا للعجب!.
    -وداعا.
    ربت على كتفي, وانصرف إلى شأنه ، سرّتني الإجابة ، حفظتها عن ظهر قلب ، ابتسمت واحتفظت بالصمت ، لأن ذكرى دموع " وردة " وأحلام العم " فهد " وأماني الأستاذ " جميل " الذي اعتقال لأنه أراد أن يشعل شمعة في أزقة البحيرة المظلمة ، وعمل قصارى جهده ، لأن يزرع في عقول أهلها فلسفة الحياة ، وكان يردد :
    ( ديوجين أشعل مصباحه في لظى الهاجرة) .
    رحلت بعيداً عن القرية ، كانت تنتشر في الحقول رائحة الشيح والقيصوم ، كنت أجوب الحقول بحثاً عن العصافير ، هبت ريح شرقية ، فكرت برهة وأنا أتدفأ بشعاع الشمس ، فجأة أقبل " فهد " ترتسم علامات مبهمة على وجهه ، سرحت في صدى كلماته :
    -الأقانيم الثلاثة مصدر لأزمات الناس .
    -ما قصدك يا عم ؟
    - الجغمير ورجاله .
    -حديثك ، أشبه بأحاديث الأستاذ جميل .
    -الله يعلم.
    -لا تزعل.
    مع بسمة من تحت شاربين قال :
    -يا بني ، من عركته الأيام ، حق له أن يستفيد من فلسفة الحياة .
    -كيف ؟ .
    -الحياة مدرسة الجميع .
    -حقا؟.
    - وعلى المرء أن يتعلم من تجاربه .
    -حسنا ...دعك من الماضي.
    -لا يا بني الماضي امتداد الحاضر والمستقبل.
    ومضت ذكرى في مخيلتي ، حين كنت أدرس المرحلة الابتدائية ،كنت عائدا من الامتحان ,استوقفتني أمّ شحود بعث حديثها في نفسي كآبة حين قالت :
    -هاجر رجال البحيرة إلى الخليج .
    سألتها :
    -علام يا خالة ؟
    -سعياً وراء الرزق .
    -لكن الجغمير وحنوف وفدعان في بيوتهم ! ..
    -هؤلاء لا يعرفون السنوات العجاف . وراءهم الجني الأصفر .
    -لم أفهم؟.
    -لا تتدخل فيما لا يعنيك.
    وراحت تغني : ( نايل قتلني
    ونايل غيّر الواني
    ونايل بحر الملح
    حبيس الروح خلاني ) .
    لا حت نظرة خوف على محياها ,ومضت في سبيلها تهش على شاتها ، على مألوف العادة , اختلطت الأمور في ذهني ,وبدت لي أن الأيام تنطوي على مشاكل ، فانتابني خوف شديد ، احتلت الأفكار ثنايا دماغي, أنبأتني بأمر مرعب, فأدركت أن خيبة أمل تعلقت على وجه أمّ شحود ,وراحت تهش بحذر على شاتها, فاندفعت أتطلع بذهول ,وأرقب الشمس التي أشرفت على المغيب ,فأخذت أسير بحذر في أزقة القرية, فلم أشعر بالمسافة التي قطعتها, وحين ولجت البيت ,كاد قلبي ينفطر، حيث أدركت أن والدتي تعلمت كيف تشد الحزام على بطنها, بادلتها النظرات, فتنهدت من أعماقها, وغيرت جلستها وقالت :
    -الوقت ضيق.
    -إذن ما العمل؟.
    -لا عليك يا بني . . كن مطمئناً .
    -أنا موافق!.
    -لندخل في الأمر.
    -دعك من الماضي...
    -علام؟.
    -هذا من شأني الخاص..
    -لا تزعل.


    فصل ( 3 )
    في غضون ذلك تعرضت قرية البحيرة إلى سبع سنوات عجاف ، لم تغلّ الأرض شيئاً ، وحل عليها الهواء الأصفر الذي جاء على عدد كبير من أبنائها ، وكادت الماشية والدواجن أن تنقرض ، وكان للأستاذ جميل دور كبير في توعية الأهالي وتجنيبهم الخطر ،عمل قصارى جهده أن يعرّي فدعان ، ورفض شعوذاته ، كان الأستاذ لا يطيق الحياة مع فدعان لأنه قاسي القلب بلا رحمة ، ذات يوم من أيام الربيع ، كنت ذاهباً إلى دار الأستاذ " جميل " وكانت أمّ شحود تروح وتجيء في الزقاق الذي يؤدي إلى الساحة ، حاجبةً عينيها بيدها اتقاء للشمس ، استوقفتني أم حنوف شاحبة ، بوجه مذعور غاضب وقالت :
    -أنت يا ابن المدرسة .
    -نعم يا خالة .
    -أرى العجب.!.
    -لم أفهم؟.
    -صحيح الحصان الأصفر ، لا يأكل الحشيش .
    -لا أبدا.
    -كيف؟.
    -الله يعلم.
    تملكتني الحيرة . شعرت أنها تهزأ مني ، أطرقت خجلاً فلم أنبس بكلمة ، وحين شدتني من شعري, أدرت وجهي حيث أرادت ، وقع بصري على سيارة ، ذات لون أصفر في وسط لفيف من الناس وعلى رأسهم ابن الجغمير ، دمدمت بارتباك :
    -يا ويلي ... أيكون الجني الأصفر .
    -ماذا تقصدين ؟
    -خادم الشيخ فدعان .
    انتظرت بقلب واجف وحين لم تسمع جواباً . قالت :
    -يا ويلي ... ابن المدرسة لا يعرف ، كيف أعرف أنا الجاهلة ؟ .
    -يا خالة .. كيف أعرف سر الحصان الحديدي ، إذا كان والدي لا يملك طنبراً؟
    -يا ولد سمعت أن الحصان الأصفر يمشي بسرعة الهواء كأن عشرات من جنّ فدعان تجره .
    لم تترك شعري أمّ حنوف حتى أقبلت عليها إحدى العجائز وقبل أن تسلم عليها نظرت بعينين دامعتين وقالت :
    -الدنيا آخر وقت يا أمّ حنوف .
    أجابتها :
    -برأيك فدعان أباه سر الجان للجغمير ؟ .
    قلت لهما :
    -أكيد عرف الجغمير سر ه ، لأنهما مؤخرتان في سروال واحد.
    قالت العجوز :
    -حرام ، يا شيطان .
    أجابتها أمّ حنوف :
    -أقطع ذراعي إن لم يكن كلام الأستاذ.
    -نعم أنها تربية الأستاذ جميل .
    -لم يعد في الدنيا أمان..
    -لا أحد يدري عنه شيئا.
    قفزت مسرعاً صوب الناس وقلت :
    -اسألي حنوف ذيل الحمار ,عن سر الحصان الأصفر .
    وجدت نفسي مشغولاً بهذه التداعيات ، تملكني حزن لا يطاق فقلت لنفسي :
    "أية أسباب شيطانية أوقعت أهل قرية ( بحيرة الملح ) بين براثن هؤلاء" ؟ ! كانت النجوم تلم من بعيد ، كنت أنتظر بقلب واجف عودة " عمار " وقررت أن أعبر له بكل وضوح عما يجيش في صدري ، وحين دخل " عمار " يحمل إبريقاً من الشاي غمرني شعور بالارتياح ،.. ملأ الفنجانين ، قدم لي واحداً ، شكرته .
    سألني عمار :
    - أنت وفيّ للبحيرة إلى هذه الدرجة ! ..
    حين وقعت عبارات " عمار " على مسمعي ، نظرت إليه لأرى مدى الجد في كلامه ، ورحت أؤكد أن مسألة البحيرة تهمني جداً ، وينبغي أن أقص عليه بعض حكايات عن أهل القرية القابعة على تخوم البادية تطوقها شجيرات الشيح والقيصوم ، رحلت بأفكاري بعيداً ، واسترجعت صوراً موغلة في القدم ، وثمة حادثة لها وقع خاص في حياتي سمعتها من جدتي ، فتركت في نفسي صورة " لفدعان " صورة حيوان فتح شدقيه لالتهام أموال الناس ، وفجأة هبت نسمات دافئة بعثت السرور في نفسي ، في أثناء ذلك رفعت نظري إلى وجه " عمار" كان وسيماً مهذباً شغوفاً بالحكاية المفيدة ، وأخذت أقص عليه قصة سمعتها من جدتي بأمانة بالغة . فكرت جدتي برهة ثم قالت بلهجة ذات معنى :
    -كانت تقام كل عام مبارزة في القرية بعد جني المحصول من قمح وملح من البحيرة، كانت المبارزة مصدراً لاختيار شاب يحمل لقب شيخ الشباب ، ومما لا ريب فيه أنه لم يبق لدى أهل قرية بحيرة الملح أي عمل بعد جني المحصول ، وادخاره في خلايا طينية صنعت خصيصاً للمؤونة ، في هذه الأثناء دوى صوت حنوف :
    -يا أهل بحيرة الملح ، الداني يعلم القاصي، ستقام مبارزة الشباب قبل صلاة العصر .
    استوقف الصوت نظرات الصبايا ، وارتسمت الأفراح على قسمات وجوههن ، وتلاقت نظراتهن مع نظرات الشباب ، كما يتلاقى الضياء والظل ، كأنهم يستيقظون من سبات سنة كاملة ، حدثت جلبة في الأزقة الضيقة ، والصبايا لبسن ثيابهن النظيفة وأخذن ينتظرن المبارزة على أحر من الجمر ، فجأة ألمت بحميدة عاطفة غامرة ،فهرعت إلى بيت أمّ شحود لأنها تحب شحوداً حباً يفوق حبها لحياتها ، وما إن أصبحت أمام دار شحود حتى نادت :
    - يا خالة ... يا خالة ..
    رد شحود :
    -أهلاً يا حميدة .
    -أين أمك ؟ .
    -تجمع الحشيش في الحقل .
    -وأنت ألم تشارك الشباب ؟
    -بلى لعينيك .
    -حقاً ؟ .
    -ستكونين عاشقة شيخ الشباب .
    -ما جئتك إلا لذلك...
    -حقا؟.
    -لم يعد لي في الدنيا غيرك.
    -لعينيك يا نور العين..
    بلغ الهيام من نفسها مبلغاً كبيراً ، وانصرفت إلى صديقاتها بغية أن يحضرن المبارزة وفي قلوبهن شوقٌ كبيرٌ . لعلّهن يفزن بنظرة من عشاقهن ، حيث توارثت القرية عادة يتم فيها زواج الشباب بعد المبارزة في كل عام . وفجأة حدثت حركة في الأزقة وكان كل شاب يتفقد صاحبته ، والصبايا ترددن .
    ( دكتور جرح الأول عوفا
    جرح الجديد عيونك تشوفا
    أكبر من الأول ، أمّا الجرح طّول
    ناراً شعلت بالقلب
    شعلتها مزيونة )
    قبل صلاة العصر بساعة تقريباً ،تجمع لفيف من بنات القرية وشبابها في ساحة بحيرة الملح ، واصطف الشباب على شكل نسق وكل منهم يحلم باللقب ، وفجأة وصل حنوف ومن خلفه حماره يحمل على ظهره قطعة من الحديد أسطوانية الشكل يتجاوز طولها مترين بحجم دائرة عشرة " إنشات " وما إن وطأت قدماه ساحة القرية حتى دفع قطعة الحديد فهوت على الأرض مصدرة صوتاً وما هي إلا دقائق حتى أعلن حنوف بداية المبارزة ، وأخذ الشباب يجربون حظهم واحداً تلو الآخر ، أحدهم رفع"المخل"حتى ركبتيه وآخر تجاوز صديقه بقليل ، ومنهم استطاع رفع " المخل " حتى صدره وحين انبرى شحود إلى وسط الناس زغردت حميدة ، وسبقتها زوجة الجغمير وغمزته بطرف عينيها الحوراء ، زادته حماسة ، قهقه " الجغمير " وقال ساخراً :
    -(ليِكْ) ابن الأرملة !
    قالت زوجه :
    -أكيد سيفوز .
    -خاب ظنك .
    ردت عليه :
    -تراهن ؟
    -أجل ... ما شرطك ؟
    -إذا فاز شحود وجب عليك أن تبعد عن زوجة فدعان .
    ضحك وأجابها :
    -طلبك مرفوض ، ولو كنت واثقاً أنني ... سأربح الشرط .
    -وإن فاز سأدعوه للعشاء .
    مع بسمة صفراء بعض الشيء :
    -طلبك مستجاب .
    -كلام رجال .
    -أجل ..
    -أمسك شاربك .
    -لك ما شئت .
    وضع يده على شارب فدعان .
    غمر الفرح قلب " شحود " عندما لاحت لعينيه نظرات زوجة الجغمير ، والحق إنها امرأة لعوب غاية في الجمال وما كادت زغرودة " حميدة " تصل إلى سمعه حتى مسح بنظره الوجوه ، قذف لفافة التبغ ، قبض بيديه على قطعة الحديد بحزم ، تفتح الحلم الجميل في ذهنه لم يدع الفرصة تفوته ، عليه أن يتحدى تقلبات الطقس ، وزغرد الأمل في داخله وفجأة خطف القطعة إلى فوق رأسه وبقي لدقائق وقال :
    -كرمى لعيني الحوراء .
    جنحت القرية بالتصفيق ، وزغردت حميدة ، وكل ذلك كان بسبب فلسفة الحديد ، ضرب الجغمير الطاولة بفوهة النرجيلة وقال :
    -آه .. يا ابن الأرملة ! ..
    استوقف المشهد نظرات فدعان ، تجعدت جبهته رهبة وقال :
    -أنسيت إنه من جماعة الأستاذ .
    -ما أدراك ؟
    -خبرني الجني الأصغر .
    -إذن سينال حسابه .
    -أيهمك الأمر؟.
    -أجل...
    أدركت زوجة الجغمير ما يجول في خاطره ، حدقت في وجهه علّها ترى مدى الجد في كلامه ، لم تستطع تمالك نفسها فقالت :
    -لقد كسبت الشرط .
    أجابها :
    -يا لك من بلهاء .
    -قل ما شئت فاز شحود .
    -ما معنى هذا؟.
    -لا مؤاخذة,تعرف ما عنيت..
    -آسف جدا!.
    -أنظر إلى فدعان.
    اشتد غيظ فدعان ، لم يقدر أن يتمالك أعصابه ، فانصرف إلى شأنه ، لحظتئذٍ شعر " شحود " أن الأرض تمور تحت قدميه ودارت به الدنيا ، ووجد نفسه يهوي على الأرض ، مغشياً عليه ولولت " حميدة " وبدت على وجوه الصبايا علامات الذهول ، حـارت الدمـوع في عيونهنّ ، وأسرع الشبابْ إليه حملوه إلى بيتـه ، وراحت " حميدة " تغلي الماء مع الأعشاب ، حاولت أن تسقيه منقوعها ، فيما صهرت إحداهن الرصاص ، وقفت أمام رأسه ثم سكبته في وعاء ماء بارد ، تجمد الرصاص على أشكال مختلفة ، نظرت " حميدة " إلى الأشكال بلهفة ، ولأنها رأت تصرفات زوجة الجغمير صرخت :
    -أقطع يدي إن لم تكن زوجة الجغمير .
    ردت إحداهن:
    - لم يعد في الدنيا أمان.
    -ما قصدك؟.
    -يحسدونا على شبابنا..
    -ألا يكفيهم المال؟..
    -كيف سيكون حال أمه؟...
    وراحت النسوة تنظرن إلى الشكل الرصاص بالدور ،فجأة انقسمن على أنفسهن الغالبية توافق "حميدة " في رأيها :
    -صدقتي يا حميدة الرسم يشبهها.
    ومهن من قالت:
    -يشبه فدعان...
    فجأة استيقظت أم " شحود " مذعورة من حلم ، حملت كيس الحشيش على ظهرها و يممت وجهها شطر البيت ،وحين وطئت قدماها البيادر, وقع بصرها على لفيف من أهل القرية أمام دارها ،من الخوف, لم تتمالك أعصابها ، ألقت الكيس أرضاً ، وهرعت إلى البيت ،حين عرفت الأمر ألقت بنفسها قرب " شحود " غابت عن الوعي ، عالجتها النسوة بروائح الشيح ، وحين عادت إلى طبيعتها, نهضت مسرعة, واتجهت إلى بيت الشيخ فدعان ، أحست أن الدماء تجمدت في عروقها ، حثت خطاها مذعورة ، بحثت في خبايا دماغها عن سبب العين التي أصابت وحيدها ، لكنها لم تفلح ، حاصرها الألم ، ولجت دار فدعان ، زحفت حتى أصبحت أمامه وقالت :
    -دخيلك يا شيخ فدعان .
    -كفى الله الشر..
    - شحود بين الحياة والموت .
    -ما دوري ؟..
    -دخيلك أطرد الروح الشريرة .
    -حان وقت صلاة العصر ، الأعمار بيد الله .
    -أقبل يديك..
    - خذيه للأستاذ .
    -أقّبل رجليك .
    -لا وقت لديّ .
    رغم توسلاتها لم تجد أذناً صاغية ، اعتراها خوف شديد ، واستولى عليها إحساس كآبة عارم وراحت تتوسل زوجة فدعان التي كانت أقسى منه لأنها لم تعْرف الأمومة ، لكنها استطاعت أن تستدر عواطفها ، حين وضعت يدها في الحزام الحريري الذي يطوق خصرها ، فقالت زوجة فدعان :
    -أمّ شحود طيبة .
    رد فدعان:
    - من قال عكس ذلك؟.
    قالت أمّ شحود :
    -سأبقى خدامتك طيلة عمري .
    تذكر فدعان شجرة التين ,غمغم حفيف أوراقها ، زغرد الأمل في داخله ، تاه في تفكيره وصوّب نظره إلى حاكورتها ، وراح يلعن شحوداً في سره ولم ينسَ نصيب الأستاذ جميل ، وأجهد نفسه ليعود إلى هدوئه ، افترت شفتاه عن بسمة من تحت شاربين متهدلين :
    -كرمى لعيون زوجتي سأقرأ تعويذاتي .
    -أسرع...
    - ولو تأخرت عن واجب الصلاة .
    -سأعوضك عن كل شيء.
    -الجنة لا تعوض..
    -صدقت.أطلب ما شئت..
    كان النهار قد أشرف على نهايته ، وستحط العصافير في أعشاشها بين أغصان شجرة التين ، كانت أمّ شحود صامتة ، يغمرها الأمل ، فأطرق فدعان ، يستنشق من ثوبها رائحة شجرة التين ، ولم يزل طعم تينها تحت أضراسه ، يحس بها في كل ذرة من كيانه ، فسر في خلده :
    -( جئت برجليك ، منذ زمن أنتظر هذه الفرصة ) .
    غرق في تيه الحاكورة لدقائق، تنهد من أعماقه ، يريح صدره من عبء ثقيل ، لم يكن بوسعه أن يفوه بمكنونه ، وراح يطالع وجهها ، وثمة شوق حميمي يدفعه إلى أشجار حاكورتها التي تستحم بحبال الغروب ، اعتدل في جلسته وقال :
    -كل تعاويذ فدعان في خدمتك .
    -داخله عليك يا شيخ .
    -لكن لي شرطا.
    -أنت تأمر...
    -أن يبتعد عن الأستاذ.
    -لك ذلك..
    -وعد ...
    -نعم وعد
    نظر فدعان إلى الأرض ، وفي أعماقه شبّابه تغني أغاريد حاكورتها ، أحست أمّ شحود الأمل ، حين سمعته يتمتم بعبارات لم تفهمها ، هبطت الفكرة إلى ذهنه ،أخرج من جيبه كتاباً صغيراً ، وبعد لحظات رفع بصره إلى أمّ شحود ، ضرب كفاً بكف وقال :
    -الأمر صعب .
    -كفى الله الشر ؟
    -خجّلني الجني الأصفر .
    - أدفع عمري في سبيل وحيدي .
    كان ينتظر منها هذا القول ، أزهر الأمل في قلبه ، ورقص في عرس شجرة التين ، حلّق بأجنحته فوق الحاكورة ، تألقت عيناه حبوراً من شدة الفرح ،لقد أفلحت الحيل التي اختزنها في خلايا عقله وقال :
    -اصبري ،
    -دخيل رجليك
    - سأسأله بعد الوضوء .
    -داخله عليك..
    - ربما يستجيب لطلبي .

    خرج لدقائق ، ثم عاد إلى مجلسه بعد أن أرسل أحدهم إلى الجغمير وحنوف يدعوهما الحضور فورا ، كانت أم شحود تنظر إلى وجهه, فأورق الألم في صدرها ، وهبت في داخلها " ريح جفول " ومازالت ترهف السمع إلى تعويذات ،لم تدرك منها حرفاً ، ورغم ذلك كانت تحس أملا، فجأة نهض فدعان وقال :
    -الله حي ... الله حي ..
    ورفع يده وأشار بإصبعه أن تصمتا ، ابتسمت زوجه وكبحت ضحكة كادت تفلت من فمها ، لأنها كانت تدرك عندما يقوم بهذه الحركات يكون قد حقق غايته ، وفجأة ارتعش جسده ، والتفت يميناً وشمالاً وقال :
    -كبير الجان رفض طلبي .
    -علام؟.
    - إن لم ألبّ طلبه .
    -ما هو ؟ .
    -يريد حاكورتكم .
    -ليش !.
    -لأسباب...
    -ما هي؟.
    - كان يحتفل يوم أمس بعرس ابنته يا أمّ شحود في حاكورتكم، فدخل شحود ومعه الأستاذ وتحت شجرة التين تحدثا بالسياسة وبعض الأمور ، مما جعل حاشية الجان يغادرون المكان .
    -ما ذنبنا ؟.
    - ضاعت فرصة زواج ابنته لذلك أصر على عدم قبول أي عذر حتى تصبح حاكورتكم ملكه .
    دون تردد قالت أمّ شحود :
    -أتنازل عن كل شيء في سبيل شحود .
    -حقا؟.
    -نعم حتى عمري.
    في هذه اللحظة دخل الجغمير ومن خلفه حنوف ، تمّ كل شيء على جنح السرعة بشهادتهما ، ثم ناولها تعويذة ، وانصرفت إلى شأنها مطمئنة ، وقبل أن يفوه الجغمير بكلمة ، بادره فدعان قائلاً :
    -لا عليك ستكون الحاكورة مناصفةً .
    -وحنوف؟..
    -يأ خذ نصف الموسم.
    -وزوجك ؟..
    -لها كل شيئ..
    ابتسم حنوف وسر لنفسه" إذن أصبح كل شيء ملك اجغمير".
    أسرعت أمّ شحود دون أن تودعهم عبرت الأزقة بلمح البرق دخلت البيت ويدها تقبض على التعويذة بحزم ، وفي داخلها أغاني الأمل دنت من ولدها الذي كان يحتسي منقوعا من الأعشاب تحت ضوء فانوس يخبو مرتجف ، قال :
    - أين كنت؟.
    -علق التعويذة في رقبتك .
    -من كتبها ؟
    -الله يطول عمره فدعان .
    -من فدعان الكلب ؟
    -حرام يا بني .
    تناول التعويذة بيد مرتجفة, اعتراه قلق وضيق في الصدر ، كان يعرف كل شيء عن فدعان واختزنت ذاكرته عشرات المشاهد لأعماله الاحتيالية ، فأصغى لوالدته وسألها :
    -كم أخذ مقابل التعويذة ؟.
    -الحاكورة .
    أحسّ شحود أن نصلاً نفذ إلى أعماقه ، لم يستطع تمالك أعصابه وصرخ :
    -اللعنة عليهم .
    ومزق التعويذة.
    -لا تشتم أحفاد الأولياء .
    -أنه نصاب .
    -نفس كلام الأستاذ .
    -من جاء على ذكر الأستاذ ؟
    -حنوف .
    -ذيل الحمار .
    صرخ شحود :
    -يا ناس هل بقي شيء ولم يهشمه الحمار وذيله ؟ .
    هبّ شحود وفي قلبه تأجج أتونٌ ، انطلق إلى فدعان ولسوء حظ الأخير ، كان مصطحباً معه صديقه إلى صلاة العشاء ، وفجأة وقف أمامهما وجهاً لوجه ، ودون أي تساؤلات انهال عليه ضرباً مبرحاً وركلاً برجليه ، وأكل حنوف حصته أيضاً . كانت البنات يشاهدن الحادثة ، فتأججت في قلوبهن النار، قالت إحداهن :
    -الله يعينك يا شحود على هذه الليلة .
    سألتها صديقتها :
    -ما قصدك ؟ .
    -الآن سوف يحضر فدعان جميع الجن ، بغية أن يفلحوا عليه كل أرض بحيرة الملح البعل .
    -حقاً ؟ .
    -إذا لم تسرع أمه وتقدم قرباناً به .
    ضحكت صديقتها :
    -وهل بقي لديها شيء تقدمه . الحاكورة صارت ملك فدعان والشاة لفظت أنفاسها الأخيرة .
    أسرعت " حميدة " إلى دار الأستاذ ، وأخبرته بما جرى ، ضحك الأستاذ وقال :
    -لا عليك يا حميدة لدي ما أفتديه بهم .
    -أنت لا تملك حتى دجاجة .
    -نعم ، لدي الفدية.
    -ما هي؟.
    - الحمار وذيله .
    -لا وقت للمزاح يا أستاذ .
    -قسما لن أمزح .
    - لم أسمع طيلة حياتي أن ذيل الحمار يذبح ! ..
    -حقاً .؟.
    -أجل...
    -عليك آن تعرفي أن الحمار وذيله
    -تفضل ..
    -الأول الجفمير والثاني حنوف .
    -يا إلهي !.
    ضحكت " حميدة " من أعماقها وقالت :
    -صدقت يا أستاذ .
    كان " عمار " يرهف السمع إلى القصة التي رويتها عن بحيرة الملح ، فهزّ رأسه في هيئة من يفكر ، وأدرك أن في هذا العالم شيئاً في حاجة إلى عاطفة وأخلاق وعلم ، وأن الحياة التي تخلو من هذه الأقانيم الثلاثة تبقى جافة فقال :
    -إنها قصة تبعث على التفكير يا حمدان .
    -هذا غيض من فيض.
    تذكرت أغنية حميدة أعادتني إلى مشاجرة حصلت بين الجغمير والعم فهد .
    (غرب الحاكورة نصب ... شوقي تلقاني ... ويريد حبه غصب ... حفنات بكاني ).
    فأخذت أدندن لحنها.





























    فصل ( 4)
    كانت قد توهجت قناديل الليل ، وخيم السكون على المكان ، وأنا أحتسي ما تبقى من الشاي ، أحسست بالملل وشعرت تهالكاً في جسدي ، نهضنا كلٌ إلى سريره، استلقيت على الفراش ، وراحت الأفكار تشغل وعاء الذاكرة ، حدقت من كوّة الخيمة، عصفت ريح في داخلي ، ومع توارد الخواطر غيبني النوم ، وفجأة وقفت " مزنة " أمامي وقالت :
    -هيّا يا حمدان .
    -أين ؟
    -إلى الربوة .
    -ليكن كما تشائين..
    -آن الأوان لنتحرك..
    -على خيرة الله.
    وما إن وطئت أقدامنا أرض الربوة الدكناء ، حتى مشينا تحت الأشجار الباسقة ، وانتهى طريقنا إلى دغل مظلم ، ثمة أضواء تتسرب عبر أغصان متشابكة ، جلسنا لصق جذع شجرة هرمة ، عبقت بأنفينا روائح الياسمين ، مشبعين بالسكينة والرضا عن النفس ،قالت:
    -انظر على الربوة..
    -يا إلهي هنا يكمل الجمال..
    -بدأت تقول الشعر.
    شنفت أذني سقسقة الماء فقلت " لمزنة " :
    -تعالي نشرب ، أحس جفافاً في حلقي .
    -تفضل...
    شربت من الماء حتى رويت الظمأ ، نزعت ثيابي ، ووثبت إلى عرض الماء ، فجأة تحولت الساقية لنهر كبير ، يهدر مهتاجاً ، لم أدر كيف قذفني الماء إلى عرض البحر ، وقع بصري على " مزنة " تركض على الشاطئ ، وقد أصابها الذهول ، وارتجف قلبها خوفاً من أن أصبحَ طعاماً لذيذاً ( لأسماك البحر ) ، وراحت تلّوح بيدها وتصرخ ، الدقائق أصبحت سلسلة من عذابات تحتل كيانها ، إذ ليس من السهل على المرء أن يغرق حبيبه ويبتلعه البحر وهو ينظر إليه ولم يكن لديه حيلة في إنقاذه، رأيت في عينيها دمعوعا، وفجأة امتطيت موجة ، سمعتها تصرخ :
    -أسرع ، واحذر حيتان البحر .
    -لا عليك يا مزنة .
    -أسرع قبل أن يلتهمك الحوت .
    -للحيتان قانون .
    -ماذا قلت ؟.. قانون .
    -أجل...
    - يا لك من مجنون .
    -الجنون نسبي .
    -هذا غير معقول ! .
    -خاب ظني بك .
    -علام؟.
    -الأمر في غاية الخطورة..
    -إذن ما العمل؟.
    -أتعرفين الحيتان؟.
    -عن بعد...
    -لا داعي للقلق..
    -طال العهد..
    -بصراحة ما قصدك؟..
    - هل أصابك الزكام .
    -لا داعي للمزاح .هل لك تجربة في العوم ؟
    -منذ كنت صغيراً .
    -لكن الأمواج صاخبة والدنيا نّو .
    -ما نفع إبحار في هدوء البحر .
    -إنه إبحار قاتل .
    -ما زلت صغيرة يا مزنة .
    -إنك مجنون .
    -لا يأتي الإبداع دون جنون .
    -ليكن ما تشاء..
    حركت رأسي إلى اليمين واليسار ، حين هدأت العاصفة ،خرجت إلى الشاطئ ، استقبلتني " مزنة " شاحبة الوجه ، فأخذتها بعاصفة من سرور يحس به المرء عند اللقاء بحبيبته بعد غياب ، كذلك عبرت عن فرحتها ، وهمّت أن تلتصق بجسدي ، وفجأة تحوّلت إلى جنية ، هرعت إلى الكهف ، كانت تخرج كلما طلبتها تنبق كماء نبع في جرف لها حضور كحضور الومضة ، وفي المساء خبت أضواء الشاطئ ، بحيث لم تعد الأصداف واضحة على الرمل ، أحيطت بشيء يشبه الضباب ، وفجأة وقفت الجنية أمامي وقالت :
    -ألسنا أفضل منكم ؟
    -من المؤسف ثمة من تزعم أنها الأفضل .
    -من ؟ .
    -عروس البحر .
    انقبض قلبها ، وسمعت تهدج صوتها الباكي وقالت :
    -عروس البحر تملك اللآلئ .
    -من اين جاءت؟. .
    -سأعرف .
    -كيف ؟
    -من مملكة الجن .
    -هل ، ثمة مملكة للجن ؟
    - أجل ...
    -أين مملكتهم ؟
    -لا تتدخل فيما لا يعنيك.
    -علام؟.
    -أيهمك الأمر؟.
    -أجل...
    -في عالم الكهوف . كنوز ثمينة .
    -أعرف..
    -تفضل...
    -هذه الكنوز صنعها الإنسان .
    -يا للعجب!..
    فجأة تحولت الجنية إلى فتاة ، وقفزت كظبية شرود ، اختفت من أمام ناظري ، ألهب الغضب كياني ، ورحت أبحث عنها في كل الاتجاهات حتى الشاقولية ، دونما جدوى ، فحملت حقيبة متاعبي ، وأنا أبحث عنها أعياني التجوال ، وكان بحثي بحث فارس شجاع يتحدى تقلبات الطقس ، تلفت حولي رأيت اصفرار الشجر ، وما زال الليل ينشر غلائله على أرجاء المكان ، وفجأة عادت " مزنة " تسألني :
    -أين كنت ؟
    -أراقبك من بعيد .
    -حسنا.من أين جئت؟.
    -لا داعي..
    -علام؟.
    -الحياة قصيرة..
    -وجميلة ...
    لم تستطع درء دموعها ، فأخذت أمسح بيد شعرها الغجري ، خانني لساني ولم أستطع أن أعبر عن مشاعري ، وأنا أرطب شعرها راحت " مزنة " ترسم على عباب الماء خطوطاً ، تقمصت الأشياء :
    -هيا يا مزنة .
    -إلى أين ؟
    -إلى حيث جئنا .
    -لا طاقة لي على الأغلال .
    -أنت واهمة .
    -يا لك من أبله ! .
    -لا تدعي الفرصة تتلاشى ، الحب لا يؤثر في القلب سوى مرة .
    هزت رأسها :
    -والحياة لا تكون إلا مرّة .
    -حسناً ، لم أتوقع هذا النبأ .
    -هذا شعوري.
    -ليكن كما تشاء..
    أمسكت غلائلها ، حاولت أن أخطفها إلى عالم مسحور ، لكنها استطاعت أن تفلت ، وابتعدت مثل ريح جفول ، لاحقتها بناظري تحولت إلى سنونوة تسبح بالآفاق تنشد دفء الحياة . خوفاً من صقيع الشتاء . تجمد الزمن أمام ناظري وتوقفت الحركة، فلم أستطع أن أعبر عن شعوري ، غصتُ في خلايا عقلها ، قرأت ما يجول بخاطرها . لم أدر كيف ارتسمت أمام ناظري صور منسية ، تجسدت أمامي ملاعب طفولتي على أطراف بحيرة الملح المترجرجة مع نسمة صيفية ، تشهد علينا طيور القطا ، تطلعت حولي وقع بصري على " مزنة "بدت طالعة فجراً ، تلاحق فلول الليل ،بعثت في داخلي الحلم والأمل ، ركضت أمامي ، جريت أقتفي أثرها ، كان بيننا مسافة قريبة وحين أصبحت قاب قوسين وثبت كي أمسكها ، اندمجت في بحيرة الملح ، وقفت مذهولاً لا أدري أين طرحني الصمت ، أسندت ظهري إلى جذع شجرة تشرش في عمق الأرض ، تؤوي عصافير تعشق الحرية ، خبأت إحساسي بصدري، وأخذت أطوف على أطراف البحيرة ، ثمة طيور حزينة تجوب الآفاق ، اعتراني قلق، فجأة تأتّى إلى سمعي وقع خطوات ، حوّلت بصري فوقع على " حميدة " فبدت طلعتها أبهى من غيمة صيف ناصعة تكحل عين الشمس ، وقفت أمامها والأسئلة تشغل مخيلتها فقالت :
    -أستحلفك بشيح الصحراء ، وطيور القطا وتراب بحيرة الملح . قل الحقيقة .
    -أيّ حقيقة تسألين عنها يا حميدة ؟ ! ..
    -هل ستلد كنة أمّ الجغمير ؟ .
    -العلم بيد الله .
    -كل الناس يقولون ذلك .
    -إذاً لما تسألين ؟ ! ..
    -لأعرف رأي الأستاذ منك .
    -لماذا لا تسألينه بالذات ؟
    -أتريدني أن أصبح مضغة في أفواه الجميع ! ...
    -لم يعد في الدنيا أخلاق.
    -قل بصراحة..
    -لن تلد..
    -يا للعجب!...من الطاعون.
    قذفت حميدة حصاة بالماء ، ومضت صوب القرية ، شعرت أن الدقائق تقفز بقلق وأنا أشيعها بناظري حتى توارت بين الأزقة الضيقة ، وبقيت وحيداً بائساً منفرداً، احتل الأفكار مساحة الدماغ ، فتبدلت رؤيتي للأشياء ، أحسست أن الأمل لم يتبخر ، ما دامت " حميدة " تفكر بأقوال الأستاذ ، وفجأة تغير كل شيء من حولي دوى الرعد ، تطلعت إلى بحيرة الملح ، فبدت الأمواج تتلاطم ، ومن بعيد لاحت لناظري " مزنة " ترقص بجنون بين شجيرات الشيح تلّوح بمنديل أحمر ، تلمع عيناها في عتمة الليل وقالت :
    -تعال يا حمدان .
    -اعذرني..
    -ما بك؟.
    -إنهم قساة جدا.
    -أتشكين من صداع؟.
    -لا أبدا.
    وثبت صوبها كمهر جموح يحمحم على تخوم بادية حمص يخبط الأرض بقائمتيه وأخذت أصرخ :
    -أسرعي يا مزنة ، ربما تصابين بأذى الصقيع .
    لا أدري كيف قذفت الحاف ، واستيقظت مرتبكاً بعض الشيء وأيقظ الحلم في كياني صوراً هاجعة ، حولت بصري إلى سرير " عمار " كان لا يزال يغط بالنوم وربما أنه كان يعيش حلماً وردياً ، لا أعرف . لذلك تركته نائماً ، وخرجت أطوف حول الخيمة وما زال الغروب يصبغ الأفق بلون الخضاب فقلت لنفسي : "اللعنة على الحمار وذيله ورأسه" .
    تنبهت إلى نداءات ترددها هجعة الغروب ، تلفت يميناً وشمالاً ، سمعت ثغاء المواشي ,وهي تسرح بين خصلات العشب الناتئة ,تقضم العشب ,ثم ترفع رؤوسها ماضغة الأعشاب ، تنظر إلى الراعي الذي يعزف على الناي ألحاناً شجية, ترددها الفجاج ، ثم تعود إلى القضم ، أعادتني الذاكرة إلى أيام خلت ,حين اصطحبني والدي في رحلة إلى مدينة حمص ، أخذ الطفل في ذهني يدفعني إلى رحلة غير متوقعة، يومذاك كنت ألعب مع أقراني ألعاباً كنا ورثناها عن السلف ، ما إن تشرق الشمس على البحيرة حتى نوجه وجوهنا إلى أطرافها ، حيث الحقول مزدانة بسنابل قمح ، نطارد الفراشات الملونة ، نبحث عن العسل في خلايا النحل ، ونراقب طيور القطا بين شجيرات الشيح ، يوم ذاك أخذني والدي على متن عربة ذات أربع عجلات صنعت من الخشب أطر الدواليب طوق من حديد صلب،يجرها أدهمان. قبل الفجر ، لكز والدي الحصان الأدهم ، وانطلقت العربة تعبر الأزقة الضيقة ، استلقيت على ظهري ، ورحت أجوس النجوم المعلقة في قبة الكون التي بدت كمظلة مشربة بالسواد ،ومضت نجوم من بعيد ، ورحت أحلم و يتسع الحلم ، كان البدر صافياً كرغيف تنوري أخرجته فلاحة من بحيرة الملح لتّوها . وثمة سحابة تمسح وجهه بلطف ,يطل منه وجه رقيق كوجه " مزنة " منحن ذي وجنتين ناعمتين ، ونظرة واثقة تدنو مني ، عزمت أن أضمها إلى صدري ، بيد أن نومي لم يدم طويلاً ، وحين صحوت من النوم . كان الظلام يندحر أمام ضوء الصباح ، وأخذت الشمس تمشط بأهدابها سوق القمح الندية فقال والدي :
    -انهض يا بني . هيا بنا إلى بائع الحلوى .
    كان والدي يشدّ اللجام ويلزم الجوادين على الوقوف بمحاذاة جدار بازلتي أسود . سألت والدي :
    -أهذه حمص ؟
    -نعم ..
    ما زالت المدينة هاجعة ، وخيّم عليها السكون إلا من حركات بعض القطط التي تموء وتموء ، وجرذان ترمح هنا وهناك ، وأسراب من يمام على شرفات المنازل والياسمين يعرش على الجدران ، وقفت دهشاً أتأمل مناظر المدينة ذات الجدران الحجرية السود ، إنها على خلاف بيوت قرية البحيرة التي صنعت من القش والطين وروث الماشية ، قطع عليّ والدي الانسياب مع هذه المناظر . وقال :
    -اتبعني يا بني .
    قصد والدي بائع الحلوى وأنا أسير خلفه بحذر ، ناولني قطعة حلوى ، أخذتها والتهمتها بشراهة :
    - آه ... ما أجمل تلك الأيام ، رغم قسوة الجغمير وحنوف وفدعان ، حيث البساطة تتماشى مع العصر ، حيث لا وجود إلا للحيوانات كوسيلة للنقل ، إيه .. زمن غريب ! .. كيف تغيرت الأيام ؟ ... مرت السنون ، اطلعنا على أشياء وأشياء ، عركتنا الأيام ، وانقضت أجيال ، ونحن مازلنا نطوي الأيام ، نجري باتجاه القادم الجديد .
    قبل الغروب كان والدي قد أنهى أعماله وابتاع بعض الفاكهة وعبوّة من التمر ، صعدت إلى العربة منهك الجسد من التعب ، اندسست ببردة والدي وغططت بسبات عميق ، وانطلقنا ذات الليل إلى البحيرة . أيقظني والدي وسألني :
    -أنواصل السير أم نتوقف قليلاً من أجل الراحة ؟
    لم أكن أدري ماذا تعني الراحة ، المهم أنني أمتطي عربة ذات أربع عجلات يجرها جوادان فأجبت والدي :
    -كما ترغب فأنت أدرى .
    -إذن قم وقدم العلف للجوادين . وكن حذراً من الجواد الأدهم .
    ترجلت من العربة أحمل بين يديّ العلف . استقبلني الجواد وهو يهوي حافره على الأرض ، حمحم بعنف كأنه يؤدي التحية ، فيما رفض الثاني العلف . قلت لنفسي : "ربما كان مضرباً عن الطعام ".
    عدت إلى العربة ، وشرعت أتأمل نجوم الليل ، ورحت أراقب الكواكب السيّارة. ثمة نيازك تهوي هنا وهناك . ولما مللت النظر إلى الكواكب حولت نظري إلى الأمام، كان والدي يهدهدني بأطراف بردته . فسألته :
    -ما هذه الشهب ؟
    -هذه هي ... و... الخ .
    فسألته مستوضحاً :
    -كيف ؟ .
    نهرني والدي وقال :
    -ما زلت صغيراً يا بني على مثل هذه الأمور .
    وبعد صمت لم يدم طويلاً راح والدي يدندن قصيدة صوفية حفظتها عن ظهر قلب ، رغم أنني لم أفهم كنهها . فجأة جاءني صوت وليد وقطع عليّ الغوص في الماضي ، ومن حركته أدركت أن شيئاً قد حصل ، أحسست بريح صقيعية تنخر عظامي وشعرت بألم في خاصرتي ، وقبل أن يتكلم سألته :
    -ما الخبر ؟
    -أصحوت من النوم ؟
    -منذ قليل .
    جلس قبالتي بعد أن أيقظ " عماراً " حدق في وجهي ، رأى في ملامحه تعابير تعج بتساؤلات ، وحين هز رأسه عرفت أنه قد وضع إصبعه على الجرح وقال :
    -من الجائز أنك صحوت من حلم ؟
    -أجل .
    -ما وراءك ؟
    -لا معنى للحياة دون المرأة .
    -لهذه الدرجة : ؟
    -لم أعد أطيق الفراق .
    -الصبر يا حمدان .
    -أي صبر تقصد ؟
    وضحكت من أعماقي ، وتذكرت أن وليداً كان شغوفاً بمطالعة النكات المفيدة ، وروحه متفتحة على ألطفها ، وفي لحظة خاطفة ومض في ذاكرتي قصة ماضيها قريب ، أملت رأسي فوق ذراع الكرسي وقلت :
    -ذات يوم ذهب حنوف إلى عيادة الطبيب وكانت زيارته الأولى والأخيرة .
    سألني وليد :
    -لم أفهم كيف الأولى والأخيرة ؟ .
    -كان يشكو من مرض عضال ، وقبل أن يذهب إلى الطبيب كان يكتفي بالعلاج على يد " فدعان " الذي يعالجه بالتعويذات ، وحين اشتد مرضه ولم يعد يتحمل الألم ذهب إلى الطبيب الذي قام بواجبه أمام مريضه ، وحين اكتشف أن حنوفاً في أيامه الأخيرة ولا يمكن علاجه قال :
    -يا عم عليك بالصبر . فقط .
    سأله حنوف :
    -الصبر لا غيره يا طبيب ؟
    -نعم ...
    حاول حنوف أن ينقده أجرة المعاينة تمنع الطبيب أن يتقاضى منه شيئاً ، في أثناء ذلك ودع حنوف الطبيب ، وذهب إلى سوق الخضار وابتاع صندوقين من تين الصبار ، وعاد إلى قرية بحيرة الملح ، وطيلة الطريق وهو يتناول من التين حتى أتى على الصندوق قبل أن يصل إلى القرية ، وما إن وصل إلى داره طلب من زوجته أن تحضر له ما بقي من التين ، ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى أعدت ما طلبه منها وراح يلتهم الصبار بشراهة ، وما إن حلّ المساء حتى أخذ يصرخ :
    -آه .. يا بطني .. يكاد ينفجر .
    أسرعت زوجه إلى ابن الجغمير وأخبرته ما حصل ، كان فدعان يشرب الشاي عند ابن الجغمير فأسرعا إلى حنوف وحملوه في السيارة الصفراء ، وانطلقوا إلى المدينة ، ثم حملوه إلى عيادة الطبيب . أسرع الطبيب وقال :
    -ماذا فعلت يا حنوف ؟ .
    -نفذت وصيتك يا دكتور وتناولت صندوقين من تين الصبار .
    صرخ الدكتور :
    -ماذا ؟
    أطبق حنوف جفنيه ولفظ أنفاسه الأخيرة .
    انفرجت شفتا وليد عن بسمة صغيرة وقال :
    -لك بشرى .
    -ما هي ؟
    -جاءت الأوامر بالتحرك إلى لبنان ، الأوامر تخص كتيبتنا .
    -ونحن؟.
    - أنتم لكم مهام أخرى .
    -ماذا أيعقل ؟ .
    شعرت غيظا ، حدقت في البعيد أبصرت ريحاً تهب من عمق الغرب ، أسرعت من غير توان ، علّني أقوم بالواجب قبل أن يفارقني وليد ، الذي أغدق علي مدحاً فأخذتني نشوة الانتصار على من يسخرون من الإنسانية ، وعاثوا فساداً في الأرض ، ولأني أثق بوليد حدثت نفسي :
    - عندما تشرق الشمس ، حتى يهرع الخفاش إلى جحره .
























    فصل ( 5 )
    انصرف وليد إلى مهامه ، وبقيت في مكاني مع عمار أنتظر الأوامر ، تسللت صور ملونة إلى تلافيف دماغي ، تيقظت أحاسيسي ورحت أفكر بالنهار والليل ، داهمني صمت قاتل ، حدقت بعيداً ، تبادر إلى ذهني حين كنت أخرج إلى بحيرة الملح بغية أن أصطاد العصافير ، كنت أركض خلف الطيور بمرح طفلي ، حيث كانت " مزنة " تثب أمامي كظبية على أطراف البحيرة ، وهي تقول :
    -أريد قبة كأهرامات الفراعنة .
    -لك ذلك .
    أطلقت ساقيها للريح على غير المألوف شطر قرية البحيرة ، وقفت أحدّق فيها بعينين حانقتين ، لاحت نظرة خوف على وجهي ، وبدت لي " مزنة " كأنها فتاة جديدة ، رغم طلبها وصعوبة بلوغه ، اندفعت صوب البحيرة ، كانت تزدحم بالطيور، رغم أن الشتاء قارس ، اختلط الأمر في مخيلتي ، انكفأت مضطرب الأعصاب ، وأخذت أرصد دبيب الحركات علني أرى بصيصاً في الليل ، خطرت " مزنة " من أمام ناظري وهي ترفل بثياب العرس ، على أطراف البحيرة ، وتفرد غلالتها على قباب بدت كأهرامات الفراعنة ، راودتني أحاسيس عجيبة حين كفـّت الدقائق عن التراكم ، حين تذكرت جدتي وهي تقصّ عليّ حكاية زفافها على جدي، اكتسى صوتي لهجة رقيقة وقلت لنفسي :
    -يا لتلك الأيام ما كان أجملها ! ..
    في تلك المرحلة المبكرة من حياتي ، دغدغت كلماتها كل ذرة من كياني ، وهي تهدهدني بطرف اللحاف وقالت :
    -أقبل الفجر وبدأت الشحارير تقفز من شجرة إلى أخرى وهي ترتل صلوات الصباح ، كان منزلنا يقع ضمن لفيف من أشجار الصنوبر ، نهض والدي جدك وخرج ليروي الأرض ، واستمر يسقي الأشجار التي تحمي المنزل من شمس حارقة ، والثلوج التي تكلل جبل عكار ، وحين نهضت ذكاء من خدرها ، حول عينيه وتطلع إلى الطريق المنحدر الذي بدا كأفعى تـذّهبها حبال الشمس ، وقع بصره على عربة يجرها أدهمان ، عرفها ، أشار بسبابته إلى والدتي جدتك وقال :
    -جاءنا ضيوف يا وحيدة .
    نظرت من خلال الباب ، وحين وقع بصري على جدّك ، أحسست أن عينيه لهما سحر خاص . وما هي إلا غمضة عين حتى قال والدي :
    -أهلاً … بأهل بحيرة الملح .
    ردّ عليه جدّك :
    -وبكم ، يا أهل عكار .
    حين وقع صوته على سمعي ، أورق الحب في قلبي ، أرهفت سمعي لأدنى كلمة حابسة أنفاسي ، ورحت أختلس النظر إلى وجهه ، أحسست بشيء يشدني إليه ، وكاد قلبي يقفز من داخلي ، نظر والدي إليه وقال :
    -ابنتي الوحيدة فاطمة .
    -تشرفنا ..
    ثم قال والدي :
    -حامد قريبنا من بحيرة الملح شرقي مدينة حمص .
    -أهلاً ..
    بقي موضوع تأملي طيلة الليل ، وكنت شديدة الرغبة في محاورته ، علني اكتسب فطنته ، كان أسبق إلى قلبي ، فاضت من عينيه ينابيع حب ، صنعت لنفسي أجنحة وطرت كهدهد محلقة في فضاء القرية ، تطلّع والدي من حوله شارد الذهن ، وأخذ يرنو إلى وجهي ، عرفت ما يدور في ذهنه ، فقال :
    -من دواعي الشرف أن يسأل الوالد ابنته رأيها إذا تقدم أحد وطلب يدها .
    -ما معنى هذا ؟
    -طلب حامد القرب . ما رأيك ؟
    -الرأي لك .
    -لا أستطيع أن أعبّر لك عن مدى سعادتي بكما ! ..
    - هذا يسرني .
    لم استطع أن أعبر عن شعوري المفاجئ بأية كلمات ووجدت الأحلام تنسكب وترفرف كفراشات فوق رأسي ، وتهلل وجهي بالفرح حين سرحت في صدى كلماته ، وشعرت بارتياح لا تفسير له رغم أنه لم يكن لدي أية فكرة عن أبناء قرية بحيرة الملح ، وأخذت أعد الأيام والليالي ، وانتابني خوف شديد ، حين هبت رياح ثلجية عاصفة قلعت الأشجار ، أنبأتني العاصفة بأمر مرعب وقلت لنفسي :
    -قد قضي الأمر .
    لكنني كنت واثقة من حضوره ، وذات مساء عاد جدك مع لفيف من أهالي البحيرة ، وبسرعة تمت الخطوبة وقامت الأفراح حتى طلوع الشمس ، وبعد أن تناولنا الفطور ، لبست ثياب العرس ، وقبل أن أصعد إلى العربة ، قبلني والدي وقال:
    -كوني لحامدٍ نعم الزوجة .
    -كن مطمئناً .
    - في حفظ الله .
    وأخذ الجوادان يجران العربة ، وعبرنا عشرات القرى حتى وطئت أقدامنا أرض القرية ، وما زالت الصبايا يرددن الأهازيج وعبقت رائحة الشيح والقيصوم ، ورفرفت فوق رؤوسنا طيور القطا وغناؤها جاب الآفاق ، على أطراف القرية استقبلنا الناس بالأفراح وزغردت النسوة ، وقرعت الطبول ، وعقد الشباب حلقات الدبكه ، وفجأة وقف الجغمير أمام العربة وقال :
    -العروس وأهلها في ضيافتي اليوم .
    وتعالى صوت حنوف :
    -اختمرت القهوة ، وأشعلنا النار .
    فأخذت كلمات الجغمير طريقها إلى أذني " فدعان " فاستل سكيناً ، وراح يحز بها رقاب الخراف ، وبسرعة البرق قطّع اللحم إرباً ، كان " حنوف " قد أضرم النار وتطاولت ألسنة اللهب ، أخذتني زوجة الجغمير " إلى المضافة ، فيما كان لمع نجوم السماء نجماً إثر آخر ، ورقصت أضواء الفوانيس في بيوت بحيرة الملح .
    كان سالم لا يزال شاباً ، لقد حضّر كل شيء بخصوص العرس وقف ضجراً، مضى في الأزقة ، علّه يستقبل ضيوفه ، وحين عرف ما حصل ، أخذه الغيظ ، وشعر بالإهانة ، تذكر حلم ليلة أمس حيث رأى أخاه معفر الثياب ، وثمة تمساح يزحف من البحيرة فاتحاً شدقيه يقتفي أثره وحامد يصرخ :
    -النجدة ... النجدة يا سالم ..
    لاحت نظرات خوف على محيّاه ، وثب إلى التمساح وهوى بهراوته على رأسه، وقد أنقذ حامداً ، وانكفأ التمساح وغاص في البحيرة . فبدا له أن الأمر ينطوي على مشكلة ، دخل إلى مضافة الجغمير ، وكان يعرف أن مجابهة الجغمير عسيرة وبعد جدل طويل مع ذاته :
    -سآخذ دوري مهما بلغ الثمن .
    أحس أنين ريح غضوب ، حاول أن يتمالك أعصابه لكن دونما جدوى فقال :
    -سنأخذ العروس الآن يا جغمير .
    لمعت عيناه وقهقه ضاحكاً ورد قائلاً :
    -لم أفعل غير الواجب يا سالم .
    -اتركنا بحالنا .
    قال حنوف :
    -لا غاية سوى إكرام الضيوف .
    رد سالم :
    -لا نريد كرمكم الطائي .
    أجاب حنوف :
    -واجب أهل عكار كبير .
    أجاب سالم :
    -نحن أهل الواجب .
    -صرخ الجغمير بغضب وقال :
    -اتركه يا حنوف ( أهل مكة أدرى بشعابها ) .
    -ما قصدك ؟
    -فسر الأمر كيفما تشاء .
    -أعرف نواياك ، أنت مخطئ .
    -تتطاول عليّ يا كلب ! .
    -أنت ستين كلب .
    كان سالم قوي البنية ، سريع الحركة ، فانقضّ على الجغمير وهوى على رأسه بيد قوية ، وناوله ضربة أخرى على وجهه فسال الدم من أنفه ، وقبل أن يصل الجغمير إلى بندقيته ، وثب سالم إلى السـاحة وأطلق ساقيه للريح وهو يصرخ :
    -اللعنة على الحمار وذيله .
    كان الليل هابطاً ، وقارع الطبل يهوي بعصاه على جلد الطبل الذي صنع من جلد الثور ، وعازف المجوز العجوز ينفخ بقوة والألحان تتصاعد ، والصبايا يسترقن النظر إلى الشباب ، وعلى أطراف البحيرة جلس سالم يصغي لغناء الكروان ، خبأ الألم في صدره ، في أثناء ذلك أحس الجغمير بارتياح بعد أن مسح الدماء عن شفتيه ، وراح يبحث في خلايا عقله عن ذريعة تخوله أن يحقق حلمه ويستولي على قطعة الأرض العائدة" لحامد " وحين قفزت الفكرة إلى ذهنه ، دنا من حنوف وهمس في أذنه :
    -عليك أن تحرق الزريبة فوراً .
    -أمرك .
    -كن على حذر
    -ما الغاية ؟
    -غداً تعرف كل شيء .
    -حاضر .
    استأذن حنوف الحاضرين ، وخرج تحت جنح الليل ، وأضرم النار في الزريبة حسب ما أمره الجغمير ، وعاد إلى مكانه وكأن شيئاً لم يكن ، وهمس بأذن صاحبه ، يعلمه أن كل شيء تم بدقة ، فسارع الجغمير وطيب خاطره ، وكان يفكر في قطعة الأرض فقال :
    -لك حصة من الأرض .
    -أجرٌ ؟..
    -أجرك كبير ( الحسنة بعشرة أمثال ) .
    ثم سأل :
    -سمعت يا حنوف .
    لم يسمح لحنوف أن يفوه بكلمة فقال حنوف لنفسه :
    -نعم ما زلت ذيل حمار ! ..
    الليل يخفي في طياته ، انبثاق النور ، وفي الهزيع الأخير خرج أحدهم مع مواشيه إلى طرف القرية ، وقع بصره على ألسنة اللّهب التي جاءت على الأخضر واليابس ، فهرع مسرعاً وأخبر الجغمير بالذي حصل ، كان صوته متعباً وهو يصرخ :
    -النار ، النار ..
    فجأة هرع أهل القرية إلى مصدر الصوت أكثرهم قال لنفسه :
    -إلى جهنم ، أتمنى لو كان الجغمير في داخلها ، لكنّا تخلصنا من طغيانه . وآخرون جاءوا بالماء ، وصبوه فوق اللهب خوفاً من جبروت الجغمير . وتلافياً لشروره ، وقامت بحيرة الملح ولم تقعد ، جلس الجغمير في زاوية ، تتسرب إلى قلبه فرحة نجاح خطته ، وحين وصل حنوف صرخ :
    -كارثة يا ناس ! .
    تساءل الناس من يكون وراء هذا العمل فقال حنوف :
    -من يكون غير قليل الأصل .
    فقال الجغمير :
    -لعله توقع أننا لم نعرفه ، حقاً سيدفع الثمن غالياً .
    أقبل الفجر وبدأت العصافير ترتل صلوات الصباح على أطراف البحيرة ، وانطفأت آخر النجوم ، أمام بياض الصبح ، ولم يدر سالم إلا وهو مغلول اليدين من قبل رجال الدرك ، فقادوه إلى المضافة ، وجاء العريس بغية أن يصطحب العروس إلى داره ، وكانت المفاجأة حين وقع بصره على أخيه مربوطاً في ركن الدار ، كان حامد شديد الطيبة تهادت أمامه أشباح خرساء ، دون أية تساؤلات قال حامد :
    -حدد الفدية .
    -أرضك .
    -لك ما شئت مقابل أن تطلق سراح سالم .
    حين سمع سالم كلمات أخيه ، طغى عليه الألم وحول عينيه عن رؤية أمه التي تنوح وتعفر وجهها بالتراب وعبرت حافية ، وفجأة دوّى صوته :
    - لا تفعلها يا حامد ، السجن للرجال .


















    فصل ( 6 )
    تنفست عبير الماضي ، وتراقصت أحلامي على أطراف البحيرة وهدلت طيور القطا بين شجيرات الشيح ، صافحت عيناي طيوراً حزينة ، تشق عباب الآفاق ، وبدا الفضاء مستغرقاً في الصمت ، فجأة وقفت جنية الحلم وسألتني :
    -أين ضالتك ؟
    -من أنت ؟
    -ألم تعرفني ؟
    -ربما ...
    -جنية بحيرة الملح . إلام تبقى سكران ؟
    كيف لا أسكر ، والعصر يجرح بوابة التاريخ ، وما زالت أنثى الليل ترخي حمولتها ، أن نحيا أو نموت ليس خرقاً لقوانين الحياة ، أما أن يكون بهذا النزيف ، فإن الأمر لا يحتمل . أثناء ذلك لم أنتبه حين دخل وليد ، وجلس بجانب "عمار" كان يصغى باهتمام إلى شرودي ،لأنه يملك ثروة طائلة من المعرفة, وبلهجة من يستقرئ الوجوه سألني :
    -ما وراءك يا حمدان ؟
    -هذا الإشراق له وقع خاص ، تذكرني برجل أجلّه .
    -من يكون؟.
    - ذات يوم كنت أجمع الأزهار على أطراف بحيرة الملح عاري الجسد عندما كنت طفلاً ، ووالدتي تلحق بي منادية :
    -عد يا حمدان إلى البيت واهدأ .
    غير أنني كنت أحلم بالأزهار وطيور القطا على مساحات البحيرة ، ألاحق " وردة " كسنونوه تسبح في الهواء ، وتزقزق في أيام الربيع ، شجنها المألوف ، خوفاً من الجغمير الذي اعتدى عليها ، وتركت أظافره علامـة في فخـذها الأيسر ، وبقدرة
    جنية الأصفر تحول الأمر ، إنه من صنع ذئب مفترس ، هذا الأمر الذي نقله حنوف إلى أهل البحيرة ، لكنني لم أصدق ترهاته لأنني رأيته يقوم بالفعل ، أمام عيني اللتين سيأكلهما دود الصحراء . ويومذاك رأيت فهداً وسألني :
    -ماذا تصنع هنا يا بني ؟
    -أصطاد العصافير .
    -كم عمرك ؟
    -أرسلني والدي إلى المدرسة في السنة السادسة من عمري ، والآن أصبحت في الصف الثاني ، ومدرسي الأستاذ جميل .
    انفرجت عني بسمة طفلية ، وأنا أقرأ أحرفاً من نور وجهه ، وانكفأت أسبر أغواره ، حين قال :
    -أنت ولد ذكي .
    -وأنت من ضيعة ... ؟
    -من ضيعة الأستاذ جميل .
    -حقاً ؟
    -نعم .
    -لكن لم أرك من قبل .
    -ثمة حكاية طويلة ، لن أقصّها عليك لأنك غير قادر على فهمها الآن ، وما أزال على انتظار إشارة من الأستاذ جميل .
    صمت مليّاً بعد أن مسح بيده على شاربيه المتهدلين وسألني :
    -ما هذه الوردة التي تقبض عليها ؟
    -أنا أحب الورد والنحل والعصافير .
    -يا بني إن للورد قدسية ، والنحل أيضاً .
    -نعم أخبرنا الأستاذ جميل ، أننا سنحتفل في الربيع بهذه المناسبة .
    -قد يكون على حق .
    بحثت في خلايا عقلي لأجد العبارات ، وأنا أصغي إليه ، وتذكرت حين قضت والدتي تاركة أربعة أطفال في كنف جدّي ، منذ ذاك التاريخ أخذت أغوص في لجّة الكتب على أطراف البحيرة ، وقبل أن أنال الشهادة الثانوية ، قضى جدي أيضاً .
    فحملت عبء الحياة ، وكان التواصل مع جدي في عكار شبه معدوم ، ولم أنس أن أمرّ بدوري إلى المقبرة ، حيث أرى طيف والدتي ، وكلماتها تشنف أذني :
    -إياك أن تقطع صلة رحمك ، أهل عكار أجدادك .
    تطلع " فهد " إلى وجهي بنظرات لا تخلو من اللباقة ، ثم نهض وصحح العقال فوق الكوفية التي بدت كشراع في مهب الريح ، وراح يحث خطاه شرقاً ، وينشد مع أطيار القطا وعباراته ترددها الصحراء :
    -أنا ابن آدم وحواء ، ابن بحيرة الملح ،( قابيل قتل هابيل ).
    خفق قلبي حين توارى خلف كثبان الرمل ، أخذني الغيظ ، حين قصدت البيت ، أحمل في داخلي سخطاً على الحمار وذيله ، مضيت في أزقة البحيرة الضيقة على غير مألوف العادة ، جلست إلى نافذة الأستاذ ، سمعته يقول لرفاقه :
    -الناب لن يدوم ، ولا الحمار ، ولا ذيله .
    أجابه احدهم :
    -ذيل الحمار تحت قبضة يدي .
    ردّ الأستاذ :
    -ما الفائدة إذا قطعت ذيل الأفعى وبقي الرأس ؟ ! .
    كنت مستغرقاً ضجراً وأنا أفكر في عبارات الأستاذ ، كان الليل هابطاً ، وكانت أزقة قرية الملح مقفرة ، عدت إلى البيت ، كان الظلام يلفه ، ووالدتي تعمل على إشعال جذوة الفتيل . سألتها :
    -تأخرت على إشعال الفانوس .
    -لم يعطني الجغمير كبريتاً .
    -لماذا ؟
    -قال ( الدين ممنوع وعتب مرفوع والرزق على الله ) . وفي طريق عودتي ، أخذت كبريت من أمّ شحود .
    لم ندر كيف دخل والدي وسمع قول والدتي ، وكانت حريصة أن لا يعلم والدي بمثل هذه الأمور ، خوفاً من ردود أفعاله ، لكن هذه المرة ، كان حظها سيئاً ، فاكتسى صوت والدي لهجة غضب :
    -إذن هكذا فعل الحمار .
    -يا ويلي ... حقه .
    -ليش حقه ؟
    -لأنه لا يعطي بالدين .
    -اليوم أخذ مني خمس ليرات ، ولم آخذ سوى علبة تبغ .
    أخذت والدتي تهدئ من روع والدي ولاحظت نظرة خوف على محيّاها وراحت تلوم نفسها ، بدا لها أن الأمر ينطوي على مشكلة ، لكنها لا تعرف كيف فاهت بعبارة: ( أمثال الجغمير يحق حرقهم ) .
    كانت جذوة الفتيل تتطاول وترسم أشباحاً على الجدران ، وجلس والدي متكئاً على مرفقيه ، يمجّ دخان لفافة التبغ ، كان وجهه متألق الاحمرار كجذوة الفانوس ، شرد بخياله بعيداً ، بدت له بحيرة الملح كأنها عالم جديد ، اختلط الأمر في ذهني ، لأنه لم يسألني عن دروسي كعادته ، تبادر لذهني أن اسأله عما يدور في خلده ، تيقظت أحاسيسه ، وحدّق إلي وسألني :
    -كيف الأستاذ ؟
    -أنت أعلم .
    -ماذا ؟
    -ألم تكن عنده منذ قليل ؟
    -كيف عرفت ؟
    -كنت أستمع إلى حديثكما من وراء النافذة .
    -هذا صحيح .
    كان والدي لا يزال شاحباً ، وعرفت ما يدور بذهنه ، لكن في بداية الأمر لم أقو على سؤاله ، لأنه كان مستغرقاً ، وهو يخطط لمغامرة ما . كفت الدقائق عن التراكم ، وفجأة حشدت كل قواي ، ومسحت بيدي على شعره وقلت :
    -أعرف بما تفكر .
    -لا مانع لديّ .
    -ستحرق دكان الجغمير .
    -هل لديك مانع ؟
    -لا ..
    -إياك أن تخبر أمك .
    فجأة عادت والدتي من المطبخ تحمل الحساء ، سمعت أقوال والدي ، حدقت إليه طويلاً ، لأنها عرفت طعم الجوع ، وكانت تعرف كيف تشدّ الأحزمة على البطون ، وكانت دائمة التفكير في إدارة شؤون البيت ، وهي تعرف كيف تتكيف مع ظروف البيت ، فاختفت البسمة عن وجهها وقالت :
    -يكفينا الفقر ..
    ضحك والدي وقال :
    -الأقانيم الثلاثة هم أسباب تعاستنا .
    -الفقر أهون من السجن ، لكن قل من قصدت ؟
    -فدعان والحمار وذيله .
    كنت أدرك ما حرص عليه والدي ، بعكس والدتي ، وما كادت العبارات تستقر في ذهن والدتي ، حتى أسرع والدي يطيب خاطرها وقال :
    -تصدق المرأة كل ما تسمع .
    قالت والدتي :
    -لم أفهم ..
    -من الذي يجرؤ أن يقتحم حاكورة فدعان ، أنسيت أن حاشيته الجني الأصفر وأشدهم شراً الأسود .
    دهشت والدتي وهي تصغي إلى والدي بشغف ، تطلعت حولها وهي تبسمل وتحوقل ، وربما تلاشت من مخيلتها فكرة أن يقدم والدي على حرق دكان الجغمير ، ونهضت إلى فراشها وانسلّت تحت اللحاف ، هادئة الأعصاب ، وحين بادلته نظرات ذات معنى ، وهي تهدهدني بطرف اللحاف ، تظاهرت في النوم ، وباحت عيناي بابتسامة عذبة ، أسرع والدي وانسل جانبها ، هزت رأسها بدلال واستحسنت تصرفه، ووجدت نفسي مصغياً إلى حديث فائق بالعشق ، وهي توسد رأسها صدره ، فبادلها موجة عارمة من الغرام ، فتسلل النعاس إلى حواسها ، وربما تزاحمت مخيلتها بالصور من أيام الشباب ، حين كان والدي يطل من كوّة الباب ، فيّبدو كرغيف تنوري يشع في ليل يلف أطراف بحيرة الملح ، وحين غطت والدتي في النوم ، ابتسم والدي ، وانسل من الفراش ، ارتدى ملابسه ، ولف رأسه بكوفية ، بحذر تناول قطعة قطنية ، صب عليها الكاز ، أوصد الباب خلفه وانصرف إلى شأنه، كنت أرقب حركاته ، وحب الفضول دفعني أن امشي خلفه تاركاً مسافة بيننا تخولني أن أرى حركاته ، وفجأة تسلق حائط الحاكورة ثم وثب إلى أرض الحاكورة ، لعله تذكر أمّ شحود ، وهيئ له أن شحوداً تحت شجرة التين ، فجأة سمع وقع لأقدام ، تراجع خطوة إلى الخلف حتى أصبح لصق الجدار فقال :
    -من هناك ؟
    -أنا يا أبا حمدان .
    -شحود .
    -نعم .
    كان شحود يأتي إلى الحاكورة في الليل ، يستنشق رائحة شجرة التين ، وحين عرف أن أبا حمدان أمامه ، أحس خفقاً في صدره من شدة الفرح ، سار صوبه بحذر وقال :
    -اليوم يومك يا أبا حمدان .
    -ما وراءك ؟
    -لا وقت لدينا .
    -لماذا ؟
    -سأحرق الحاكورة .
    ضحك والدي وقال :
    -لا .. سوف أحرق الدكان .
    وفجأة صعد والدي على كتفي شحود ، أسرع والدي وأشعل قطعة القماش وقذفها إلى داخل الدكان من الكوّة ، ولم يهبط عن كتفي شحود حتى تأكد أن النار أخذت تلتهم الأشياء في الداخل ، وفجأة وثب عن كتفيه ، وصافحه بحرارة وشدّ على يده بحزم وقال :
    -اترك القرية فوراً .
    في غضون ذلك هرعت إلى دارنا ، وانسللت إلى فراشي وما زال قلبي ينتفض كطائر يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ورحت أرصد دبيب الحركات أنتظر أوبة والدي ، تمطت الدقائق ، أحسست بالضيق ، كدت أخبر والدتي بالأمر ، لولا دخول والدي إلى البيت ، وأخذ ينزع ثيابه ، وانسل إلى فراشه ، وكأن شيئاً لم يكن ، سمعت نقرات قلبه ، فجأة استيقظت والدتي وقالت :
    -ما الذي جرى أراك مرهقاً ؟
    -إنه حلم مزعج .
    طيلة الليل لم أعرف النوم ، حتى تعالت صيحات الديوك ، حين استيقظ والدي ، قذفت اللحاف برجلي متظاهراً ، أنني صحوت من النوم لتوي ، دعكت عيني وتلفت يميناً وشمالاً وقلت :
    -ما بال الديك يصيح باكراً .
    -نعم ، الديك الفصيح من البيضة يصيح .
    -أين ذهبت في الليل .
    -لم أغادر الفراش ... أتحلم ؟
    -حسناً من الذي حملك على أكتافه ؟
    وحين تأكد أنني عرفت كل ما قام به ، نظر إلى وجهي وقال :
    -إياك أن تفوه بكلمة يا شقي .
    في الصباح خرج راعي الماشية إلى الحقل ، وما إن وقع بصره على دكان الجغمير حتى صرخ :
    -يا ناس حريق .. حريق .
    لم تمض إلا دقائق حتى اجتمع أهل القرية ، كانت النار قد جاءت على دكان وبيادر الجغمير ، اكتظت الأزقة بالناس ، فكانت النار تلتهم الأخضر واليابس، وساد قرية الملح الدخان وعمّها الظلام ، تطلعت حولي فرأيت أن الجغمير يهوي على الأرض ومن حوله رجاله ، ولم أدر كيف أنعشه حنوف وحين وقف على قدميه أخذ يتلو الوعيد والتهديد وهو يرغي ويزبد ، وفجأة همس بأذن حنوف ، حيث انصرف الآخر بسرعة الريح ، ركب على حصان الجغمير ، وغاب لساعة تقريباً ، وعاد يصطحب معه رئيس الدرك مع أفراد الدورية ، فيما كان " فدعان " يرهب الناس قائلاً :
    -قسماً سوف أعرف الفاعل ، وأعرف من تستر عليه . وسوف أطلق الجني الأصفر إلى دورهم بغية أن يفعل بهم الأفعال .
    كان والدي يجلس القرفصاء ملتصقاً بالجدار وكأن الذي فعله ، شيئاً لم يكن ، وراح يختزن في ذهنه كل الصور والمشاهد ، حيث لبست البيادر رداءً أسود وتتطاير الهباب في الآفاق ، وأحس أن هذه المشاهد ستبقى وساماً أبدياً على صدر شحود ، وسيذكرها التاريخ ، كان الجغمير يذرع أزقة القرية ذهاباً وإياباً ، وفي لهفة الانتظار، استقبل قائد الدورية :
    -أهلاً ..
    قال والدي لنفسه : " هؤلاء هم حاشية فدعان " .
    في أثناء ذلك ، أسرعت إلى دارنا ، أقاسي ضيقاً شديداً ، راودتني الأفكار، وساورني خوف شديد ، ما الذي سيجري لوالدي إذا اكتشف أمره من قبل الجني الأصفر ، رجعت بذاكرتي إلى الأستاذ جميل :
    -يختبئ فدعان وخفافيشه في شقوق الجدران .
    في ساعات الليل ، جمع الدرك أبناء بحيرة الملح ، وراح رئيس الدرك يتفرس الوجوه التي لونتها شمس الحصاد ، وحفر الفقر على وجوههم الأخاديد ، بعد شقاء الأرض والقحط الرهيب ، المقرونة بشعوذة " فدعان " وفظاظة الجغمير ومناصرة الدرك لهما ، نظرت أمّ شحود إلى جدتي وقالت :
    -الله كبير يا أم حمدان .
    فجأة أمر قائد الدرك حضور الجميع أمام عليّة الجغمير ، حيث أعد الجغمير عشاءً على مألوف العادة ، وبعد أن تناول الدرك وجبتهم الدسمة ، وملأ الجغمير جيوبهم ، قفزت فكرة جهنمية إلى ذهن قائد الدرك وهو يربت على كرشه :
    -يا أهل بحيرة الملح !.. من ينكر أفضال الجغمير عليه .
    وصمت قليلاً ، وهو يتفرس الوجوه ، هز رأسه وأردف قائلاً :
    -جميل إذاً كلكم تعترفون بالفضل ، لذا أقترح أن نقدر الخسارة على كافة أفراد القرية ، الحمل على الجماعة خفيف .
    أحس والدي أن الذي فرضه قائد الدرك كان قاسياً خشناً ، لا رحمة فيه ، وفي داخله عشرات الأصوات تصرخ ، نظر إلى الوجوه العابسة ، زمجرت في أذنيه كنبوءة : فسأل نفسه :
    -أية أسباب عاقت ألسن الناس عن الرفض والتمرد ؟ ! ..
    حاول أن يفعل شيئاً ، لكنه تردد ، لأن الأستاذ جميل في المدينة لأسباب لم يعرفها ، فانكفأ إلى وحدته ينظر في ذعر إلى الكائنات المتوحشة ، حين نظرت إليه لم تكن هيئته طبيعية ، كأنه يسترجع شريطاً من حوادث استغلها الجغمير بمساندة الشيخ فدعان ، فصرخ :
    -يا حضرة الرقيب ما علاقة الفقراء بمصائب الجغمير ؟.
    -ما قصدك ؟
    -ليس لدى هؤلاء ما يأكلون ، كيف تفرض عليهم هذا العبء ؟ .
    قال حنوف :
    -لا تأخذ على كلامه . هذا من جماعة الأستاذ .
    قال قائد الدرك :
    -لا عليك يا حنوف ، سيدفع عن كل الفقراء .
    فصرخ والدي :
    -اخرس . اللعنة عليك يا ذيل الحمار .
    فجأة أمر قائد الدرك بإلقاء القبض على والدي ، الذي وثب إلى أحد الدور ، وقفز من سطح إلى آخر ، حتى وصل بيادر القرية وأطلق ساقيه للريح قاصداً الأماكن التي تحجبه عن أعين الدرك . يغرد مع طيور القطا على أطراف بحيرة الملح ، ارتسمت علامات الدهشة على وجهه ، وهو يرقب قطاة تقفز بين الشيح ، تحمي فراخها من خطر داهم ، وراح يصغي باهتمام . إلى ترتيل صلواتها فقال :
    -بدافع الغريزة يجنب الطائر أفراخه من خطر داهم .
    فجأة وقفت " صبريه " أمامه ، عقدت الدهشة لسانه حين وقع بصره عليها فسألته :
    -عاد الدرك إلى المخفر .
    -لا أخشاهم .
    -أرجو أن تعرف ، أنني رأيتك تحرق الدكان .
    -هراء ... هراء ...
    أسأل فهداً :
    -أين هو ؟
    -كنت معه في الجهة اليسرى من الحاكوره ، حين صعدت على كتفي شحود .
    -لله درك يا صبريه . اللعنة على الحمار وذيله .
    -ما زلت تحبين فهداً ؟
    -حتى آخر لحظة في حياتي .
    وقفت صبريه أمام أبي حمدان وأخذت تقص عليه ما اقترحه قائد دورية الدرك . فقالت :
    -قال رئيس الدرك من منكم يستطيع أن يقوم على فتح دكان ؟.. إذ خسرتم خدمات الجغمير ، من الذي يستطيع أن يلبي حاجاتكم ؟.. فأكيد لم يستطع أحدكم الحصول على علبة كبريت إن لم يذهب إلى المدينة ، وإذا ذهب ستكون كلفة عبّوة الكبريت الواحدة تربو الخمس ليرات إذا حسبنا أجرة الركوب أضف إلى الإرهاق الذي سيعانيه ، هذا إذا سنحت له الفرصة .
    -قال حنوف :
    -صدقت يا حضرة الرقيب .
    وقال : " فدعان " اسألهم من الذي يقرضهم إلى الموسم يا حضرة الرقيب غير الجغمير حماه الله .
    هزّ الجغمير رأسه وقال :
    -صدق مولانا فدعان .

    فصل ( 7 )
    لم يعرف "حمدان " ما هو النوم في الليل ، تفتحت زهرة الحلم في داخله ، وشمخت السفوح الخضر ، لا يدري أين طرحه الصمت . في ساعات الليل المتأخرة ، تلهفت نفسه شوقاً إلى بحيرة الملح ، وتراقصت في مخيلته رفوف القطا بين شجيرات الشيح تنحدر صوب الماء ، وفي داخلها الظمأ ، امتد شعوره إلى الأشياء ، ارتوى من نبع أحلامه ، تبرعمت الكلمات على شفتيه ، حرك مفتاح المذياع :
    ( أقول لطفلتي
    إذا الليل برد
    وصوت الرُبا
    رُباً لا تحد
    فصّلي فأنت صغيرة
    وإن صلاة الصغار لا ترد )
    ما زال الليل يهرب أمام خيوط الفجر ، اختزن " حمدان " آلاف الصور في وعاء الذاكرة ، طالعته عصافير الصباح وفراشات الحقول ، وعبقت بأنفه رائحة الشيح ، وما كاد الغناء يستقر في ذهنه حتى صهل جواده ، وعصفت في داخله ذكريات أثارت في قلبه فرحاً جامحاً ، واقتنصت عيناه نظرة أمل تعلقت على وجه " مزنة " وباحت عيناه عن أشياء وأشياء ، فأدرك مدى الجد في كلامها ، وتجسمت أمامه المدرسة ، والأستاذ جميل حين قال :
    -الحمار ، وذيله وفدعان طاعون .
    ضحكت في سري ، وأحسست أن موجة عارمة من الأسئلة ، تحتل مساحة الدماغ ، فأدركت ما يتعين عليّ أن أفعله . هو أن أقول للأستاذ بطريقتي :
    -أن محموداً يعرف عنهم كل شيء إنه حفيد ذيل الحمار .
    كنت أحلق في الذكريات . بأجنحة فراشات تحلق فوق حقول خصبة واسترسلت مع بحيرة الملح التي بعثت فيّ الحلم والأمل وطالعتني طيور القطا التي تجوب الآفاق بحثاً عن أرض آمنة بغية أن تضع بيضها في مأمن من وحشية الإنسان ، يومذاك قال فهد وقد أثخنته الجراح :
    -العمل علينا ، والأكل عليهم .
    رغم السنين العجاف ، ما زال الأستاذ جميل شامخاً ، وأنا ما زلت أتنفس عبير التاريخ ، وتراقصت أماني على أطراف بحيرة الملح ، وما زال الأستاذ في ذاكرتي كأنه شجرة نخيل على أطراف بادية حمص تتجدد بالمطر ، سابحة في نور القمر ، تحتوي أعشاش العصافير . فقلت لنفسي : ( سيأتي وقت ويحقق الأستاذ أمانيه ) .
    وقفت أمامي الجنية وقالت :
    -لا تكن أبلهَ ..
    -كيف ... أن الحياة موقفٌ ؟ .
    -دعك من الترهات .
    -الرجل يعرف في اليوم الصعب .
    -لا .. لا ...
    -قسماً أنهم رجال .
    -من تقصد ؟
    -الأستاذ شحود ، وفهد ، وسالم أيضاً .
    -ألم أقل إنّك ابله ..
    في الحصة الأولى من الدرس ، وقف الأستاذ أمام السبورة ، أخذ قطعة من طبشور ، وخط على السبورة تاريخ لعام 1961 ، وراح يتفرس وجوه التلاميذ ، ثم حوّل بصره إلى وجهي ، وحدّق بعينين تنمان عن ذكاء ، وحين ثبت عينيه بعينيّ ، قرأت على سحنته تعابير لم أدرك كنهها ، فشعرت أنه على غير عادته ، لأنه لم يحدثنا عن عصافير الصباح ، والنحل الدؤوب الذي يحطّ على حواف الورد والأزهار . وعن طيور القطا التي تزدحم على أطراف بحيرة الملح التي تشكلت من / بعل / ولم يتفوّه بأي كلمة إلاّ أنه رسم حماراً بلا ذيل ، وأتبع رسمه بذيل على شاكلة إنسان وصورة جني يسير في الأمام ، يطوق بحيرة الملح بذراعيه ، وفجأة . سأل التلاميذ :
    -من يعرف هذه الأشكال ..
    صمت جميع التلاميذ ، ورحت أبحث في خلايا عقلي ، وتلهفت شوقاً لمعرفة ما قصد الأستاذ جميل ، خبأت الفرحة في قلبي حين عرفت ما رمى إليه الأستاذ ، وبعد أن ردّ بعضهم على سؤال الأستاذ لكنهم لم يفلحوا بالجواب ، رفعت إصبعي وقلت :
    -نعم ... عرفتهم ...
    -تفضل يا حمدان ..
    -الجغمير ، وحنوف ... وفدعان .
    هز رأسه وقال :
    -ما خاب ظني فيك ، أحسنت .
    في أثناء ذلك تهت في تفكـيري ، وهربت الدقائق مسرعة ، وسرحـت في صدى كلمـاته ، التي أيقظت في داخلي صوراً هاجعة ، ذكرتني بـ " فـهد " فأحسست أن الفجر يلوح من بعيد ، مع تراتـيل عصافير الصباح . توغلت في الماضي ، ورحت أنظر إلى المستقبل نظرة متفائلة خلفت في نفسي شعوراً بالاطمئنان ، وفجأة تملكتني المفاجأة ، حين جاءت الأوامر ، ورغم الاستنفار ، السـماح لكل صاحب حق النزول إلى منزله . استعدت في ذهني صورة " جد " مزنة لأمها ، زحفت عقارب السـاعة ببطء ، إلا أن عقرب الثواني ما برح يرقص بجنون غريب ، وبعد هنيهة صعدت إلى سيارة المبيت ، رحلت بحلمي وراء الأيام ، وأنا أمْسح بناظري الوجوه التي لوحتها شمس الحصاد ، تذكرت بحيرة الملح ونساءها الطيبات كطيبة أرض " بعل " والأرغفة التنوريه التي صنعت بأياديهن المعروقة الحنونة ، لم أدر كيف عبرت السيارة الشوارع ، وحين عبرت السيارة ساحة الأمويين ، وقع بصري على حشود من العمال يرفعون يافطات كتب عليها عيد العمال ، وفجأة انعطفت السيارة إلى اليمين ، وراحت الدواليب تدور ببطء ، قفزت من جوفها ، وسرت بين الحشود ، وأخذت أردد شعارات العمال ، وبعد انتهاء الاحتفال ، حثثت خطاي صوب المخيم ، والأفكار تحتل تجاعيد الدماغ ، تذكرت الأستاذ جميل وقلت لنفسي :
    -نعم كان يبتهج بالأول من أيار .
    لم أشعر بالمسافة التي قطعتها ، حيث عبرت شارع سينما اليرموك ، وحين تجاوزت الأزقة ، وأصبحت على مقربة من الدار التي أشغلها بطريقة الإيجار ، ولم أدر من أين جاء صاحب البيت وقبض على يدي بحزم وسألني :
    -أيعقل يا حمدان ، مضى شهر ولم تدفع الأجرة ؟ ! ..
    -طول بالك يا عم عايد .
    -أي بال تقصد ؟ .. اسمع ( أعذر من أنذر ) .
    ثم قفل أدراجه ، ولا أدري ما كان يتمتم به احمر وجهي خجلاً ، خوفاً من أعين الناس ، تلفت يميناً وشمالاً ، لم يقع بصري على أحد . كان الشارع خالياً ، أحسست بالراحة . فاستعادت ذاكرتي الأقانيم الثلاثة ، ولعنات الأستاذ جميل التي كان يصبها عليهم ، كانت " مزنة " تراقب الشارع بفارغ الصبر ، تنتظر أوبتي ، تلتهم المكان بنظرها ، أومأت مسلّمة ، أحسست بشعور لذيذ ، وما إن وطئت قدماي عتبة الباب ، انطلقت معانقة وقالت :
    -لدينا ضيفٌ ؟ .
    -من هو ؟
    -جدّي .
    -توقعت ذلك .. لأنني تذكرته اليوم .
    أسرعت ألملم أشتات نفسي ، انبثق حلم من ظلمة الليل ، وأشرق نور أضاء أرجاء البيت ، وأنا آخذه بين ذراعي ، رقص النور في داخلي ، كان طيب النفس ، يملك جاذبية ، تدخل الأعماق كشعاع الفجر ، نقلني إلى أطراف البحيرة . فشكرته على مبادرته وقلت :
    -أهلاً .. تفضل ..
    همست " مزنة " في أذني وقالت :
    -إن الجوع قاتل .
    -خسئ الجوع يا مزنة .
    انسلت مزنة إلى المطبخ ، وحين اعتراني الجوع ، طرأ علي تغير جوهري . حاولت إخفاء مشاعري ، وكنت أجد ذهني مشغولاً بهذه الزيارة ، فيما كان " الجد " لا تبرح البسمة محيّاه ، ولكي أخفف عن نفسي شيئاً من عناء التفكير في هذه السويعات قلت :
    -أسرعي يا مزنة .
    ردّ الجد :
    -ما معنى هذا ؟ .
    -ربما تكون جائعاً .
    -قد تكون على حق .
    وبسخاء عادت مزنة لنا بغداء طيب ، وأخذ كل منا مكانه حول المائدة وأخذت ألتهم الطعام بشراهة ، تطلعت إلى" مزنة " رأيت على وجهها إمارات انشغال ، كأنها عرفت أنه حان الوقت لكي تبوح عن شظف العيش ، افتر فم الجد عن بسمة ، وأصغى هنيهة مثلما يصغي طفل إلى جدته وهي تقص عليه حكايات " شهرزاد " وقال :
    -لا عليك كل شيء في طريقه إلى الأفضل .
    تفتحت زهرة الحلم في داخلها ، ومازلنا نتناول الطعام ، حين توقف الجد عن الطعام ، ودرج لفافة تبغ ، ثم مسح بيده شاربه المتهدل ، باحت عيناه أن في داخله أشياء مهمة ، فأصغيت باهتمام ، لأني أعرف أنه يملك ثروة من المعلومات ، رحل بعيداً ، محدقاً في وجهي ثم قال :
    -سأقص عليكما ما يدور بذهني .
    -حقاً ؟
    -نعم ، من يدري ما يحمل لنا الغد .
    -حسناً ، الأعمار بيد الله .
    ردّت مزنة :
    -بعد عمر طويل يا جدّي .
    كانت تنتشر في البيت رائحة حلوة منبعثة من شجرة ورد الشام ، بجوارها ياسمين تعرش على الجدران ، وحين ملأ العبق أنفي أدركت ما يتعين علي أن أفعل . اندفعت صوب الباب ، وقع بصري على الأستاذ جميل ، وقفت أتطلع بذهول إليه ، غمرني دفء لطيف ، سلم علي بحرارة ، وحين سلم على " الجد " جلس بجانبه ، تعجبت من هذه المصادفة ، وأخذت أنقل نظري بينهما ، وقضيت برهة في التفكير ، أحسست بشيءٍ غيرعادي .وما زال الأستاذ يسأل الجد عن صحته باهتمام ، ثم سأله :
    -متى جئت من البلد ؟
    -اليوم ..
    -كيف أهل البلد ؟
    -بخير ..
    هذه السويعات أعادتني إلى أيام خلت ، ازدحمت في مخيلتي صورة " وردة " وزوجة " الجغمير " وامرأة الشيخ " فدعان " وأم" شحود" فأحسست أن الأرض تمور تحت قدمي ، وتأتي إلى سمعي صياح ديوك القرية ، وقوقأة الدجاج ، وثغاء المواشي ، ونهيق الحمار / فتذكرت الجغمير وحنوف لم أدر كيف فلتت مني قهقهة ، حول " الجد " نظرة إلى وجهي والتفت الأستاذ وسألني :
    -هل تذكرت أحدهم ؟
    -نعم . الحمار وذيله .
    -اللعنة عليهما .
    دخلت " مزنة " تمسك يد " فهد " بحزم ، وقفنا نرحب به أيّما ترحيب ، جلس معنا هادئاً ، شعرت بأفكار مستفيضة تحتل مساحة الذاكرة ، بدا وجهه بلون أرضنا الخصبة رغم أن وجهه كاد يغيب في زحام الأيام ، وأخذت أطوف بعصارة عقول ضيوفي الأعزاء ، ونحن نشرب منقوع المتة ، نتجاذب أطراف الحديث ، وحين اشتد الحوار ، اعتدلت في جلستي ورحت أبحث عن ضالتي ولكن عبثاً حاولت ، وفجأة برعم الغاب وتفتح في هزيع الليل ، أحسست أن الصغير في وعاء الدماغ ، يشدني أن أستوضح " فهداً " عمّا كان يجول بخاطري ، فسألته :
    -يا عم فهد ، ما عنيته حين سألتني عن الورد ؟ .
    ضحك وقال :
    -الله . كم ذاكرتك قوية يا حمدان ! ... أعدتني إلى ثلاثة عقود .. ولكن ... اترك الأستاذ يحدثك عن سر الورد .
    تطلع الأستاذ باهتمام :
    -سأجيب ، وأنا على ثقة أن فهداً يعرف كل طقوس العشق .
    ردّ فهد :
    -أحطّني بشرف كبير يا أستاذ .
    ثم أردف قائلاً :
    قال الشاعر :
    قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
    ضحك الجدّ :
    -أجل .. يا بني ..
    أنفسح الدرب أمام الأستاذ ، رغم أنه سمع ضجيج الحياة وأدرك أن الأمواج في حالة مد وجزر وقال :
    -سأبدأ الحديث عن الجغمير وحنوف ، وسندهما فدعان ، لم يدرك أهل القرية ، لأسباب أنه استخدم فدعان وزوجه لحماية مصالحه ، حيث إن فدعاناً قد استفاد من مواقفه ، وربما كان يجهل علاقة الجغمير العشقية بزوجه ، وللتأكيد أن فدعاناً كان عقيماً لا ينجب .
    -كيف عرفت يا أستاذ ؟ ..
    -من الطبيب في المدينة .
    -خيراً إن شاء الله ، ما غرضك عنده ؟
    -لا تذهب بأفكارك بعيداً .
    -لم أفهم ..
    -رافقت أحد المدرسين إلى العيادة ، وبعد أن أجريت له الفحوصات .
    سأله الطبيب :
    -كم مضى على زواجك ؟
    -سنتان .
    قرأ الطبيب نتيجة التحاليل ، وقال :
    -لديك بعض الالتهابات .
    -ما العمل ؟
    -لا شيء سوى تناول الدواء بانتظام .
    حب الفضول دفعني أن أسأل الطبيب عن سر عدم الإنجاب ، واشتد الحوار بيننا . فسألني :
    -حضرتك من أي قرية ؟
    -من بحيرة الملح .
    -إذن تعرف الشيخ فدعان .
    -أتعرفه ؟
    -نعم .
    -أجل .. وحالة صديقك المرضية بعكس حالته ، ورغم الأدوية التي تناولها ، لم يرفع عدد الحيوان المني عنده أكثر من مليوني حيوان . فإنه عقيم .
    قهقهت ضاحكاً وقلت :
    -أتعلم يا طبيب أنه يستطيع أن يشفي النساء من العقم .
    -كيف ؟
    -يعتمد على الجني الأصفر .
    -أكيد إنك تمزح ! ..
    -لا أبداً إنها الحقيقة .
    لقد تجلى ما كان خافياً ، أطرقت ملياً ، حين تذكرت قصة فدعان ، وحين احتال على " أمّ شحود " واستطاع أن يسلبها الحاكورة . وكيف بدا الوجوم ، على وجوه الصبايا ، حين عرف " شحود " بموضوع حاكورتهم اليتيمة ، وثب كنمر وراح يكيل إليه الضرب بيديه ، ويركله برجله حتى وقع فدعان مغشياً عليه . وقال :
    -اللعنة عليك وعلى جنيّك الأصفر .
    عرفت من " حميدة " أن الصبايا بقين طيلة الليل ، يفكرن ما الذي سيحصل " لشحود " خوفاً من جني فدعان الذي سينتقم لصاحبه من شحود وبقين حتى أشرقت الشمس ، ولم يعرف النوم إلى عيونهن سبيلاً ، وبقي فدعان طريح الفراش لأيام وشحود لم يصب بأذى ، وفجأة صحوت على صوت حميدة :
    -هيّا يا أستاذ جميل .
    فجأة سعل " الجد " عدة سعلات ، أنخطف لونه ولم تمض إلا دقائق حين شلت حركته ، تطلعت " مزنة " إلى وجهه صرخت :
    -يا ويلي .. يا ويلي .
    حاولت أن أرش على وجهه الماء ، لكن دون جدوى ، أسرعت إلى الشارع ، استوقفت سيارة تكسي ، وعدت إلى البيت بغية إسعافه إلى المشفى ، استوقفني الأستاذ جميل وفي عينيه دمعة حرون :
    - العمر لك يا حمدان ، لا جدوى من نقله إلى المشفى .
    -لا ، لا يا أستاذ جميل .
    -الانفعال لا يجدي .
    بكت " مزنة " بعنف ، مزقت ثيابها ، نتفت شعرها ، ولولت عج البيت بالناس ، وحضر " شحود " وسالم الدفن ، وبقي إلى جانبي طيلة أيام العزاء كل من الأستاذ و " فهد " وبعد أيام انصرف الأستاذ إلى شأنه ، لكن فهداً بقي معي انتهت إجازتي ، قرأت على سحنته أشياء وأشياء ، وشعرت أن أحلامي بدأت تخرج كعصافير الصباح ، فلم أتمكن من كبح جماح نفسي فسألته :
    -ما الذي عنيته بقدسية الورد يا عم فهد ؟
    -إنّ الورد يغذي النحل ، كما أن النحل يعطي الشهد للإنسان . والإنسان اكتشف الطبيعة وسخرها لصالحه . وحين كان يجهل عوامل الطبيعة ، عمل على عبادتها اتقاء لشرها .
    -حسناً متى ؟
    -حدث ذلك في مرحلة المشاع ، والبدائية ، والرق ، والعبودية ، وأخيراً مرحلة الجغمير وفدعان .
    -والآن في أي مرحلة نعيش ؟
    -الاشتراكية ، ونقيضها . وفي مرحلة الثورة ، حيث عمل الإنسان دون ملل بغية أن يسخّر عوامل الطبيعة لصالحه .
    في أثناء ذلك نظر فهد إلى ساعته ، فأدرك أن الوقت أدركنا . فقال :
    -حان وقت الراحة والنوم ..
    -كما تشاء .
    نهضنا بتثاقل ، وانصرفنا إلى مضاجعنا ، اندسست جانب " مزنة " حدقت في سقف البيت ، رحلت بأفكاري خلف الأيام ، قاومت النعاس ، حين تذكرت ذاك اليوم حين خرجت إلى الأزقة عبرتها وسلكت مسلكاً يفضي إلى الحقول ، حيث ترتل العصافير أغاريد الربيع ، والنحل يحطّ على حواف الورد ، وفجأة وقع بصري على نحلة ، كنت أبحث عنها ، حاولت أن أقبض عليها ، طارت من أمامي ، وحطّت على زهرة أخرى ، ورحت أقتفي أثرها ، ولم أدر أنني توغلت في بستان الجغمير ، ولسوء حظي كان يعيش ساعات حمراء مع زوجة فدعان ، وحنوف معهما يطوف في البستان يقطف بعض الثمار ، فلم أدر إلا بيد تقبض على عنقي بأصابع قوية ، وانهال على جسدي ضرباً بالأخرى ، شعرت بسائل يسيل من أنفي ، مسحته بأصابعي ، التي أصبحت بلون الأرجوان ، بكيت بعنف ، توسلت إليه أن يتركني ، لكن دون جدوى ، وراح يشتمني ويصرخ :
    -سأربي فيك الأرض .
    لكنني لم أفد شيئاً رغم توسلاتي ، لم أدر من أين جاء بالخمار وخمر وجهي وشد وثاقي إلى شجرة ، كنت أعرف من جدتي ، أنها زرعت بيد جدي المعروقة ، وبجواري حصان الجغمير ، عرفت ذلك حين حمحم الحصان ، لأنني أصبحت في ليل وأنا في وضح النهار ، وحين ملأ عبق الشيح أنفي انتعش صدري بالأمل ، وتأتى إلى سمعي زقزقة عصفورة شجية ، وثمة نحلة تطن على حافة وردة . قلت لنفسي :
    -ما أجمل هذه الأقانيم ! .. على أرض بحيرة الملح .
    سمعت حنوفاً يقول :
    -ما الذي يحصل لو جاء فدعان الآن ؟
    أجاب الجغمير :
    -ماذا يفعل ؟
    -ألم تخف جنيّه الأصفر ؟
    -إلى جهنم هو وجانه أيضاً .
    ضحك حنوف وقال :
    -لو ضبطك مع زوجه ، ستركبه كل جان الأرض .
    طفح غضبي ، وأخذت أبحث عن بصيص من ضوء ، كان خماري محكماً ، كنت شبه مشلولٍ ، حاولت أن أتحرر ، لكن دون جدوى . ساد الصمت إلا من صوت أنثى ناعم ، مع تأوهات تأتي إلى سمعي ، عرفت أن المرأة تتلوى تحت جسد الجغمير ، وهو يطوف على الجسد الناعم برحلة مجنونة ، أرادت أن تتحرر من الألم . فقالت :
    -تؤلمني أسنانك .
    -سأدعها تغرس أكثر .
    -أحس أن الثدي ينقطع .
    -ما أجمل اللذة مع الألم ! ..
    ساد الصمت من جديد ، غرقت في اليأس ، بقيت دقيقة صامتاً ، كنت حائراً لا أدري ما أفعل ، حاولت أن أتوسل لها ، وكان عليّ أن أهيئ نفسي ، لئلا أتظاهر ، أنني عرفتها ، اعترتني حيرة ، كيف أستدر عواطفها قلت لنفسي :
    -لا جدوى لأنها لم تعرف الأمومة .
    تمطت الدقائق ، أوغلت في الغابات ، تذكرت الأستاذ جميل ، غرقت في المبهم من الأشياء ، لم أستطع تمالك نفسي ، أرهفت أذني إلى أنفاسهما ، طرق سمعي تأوهاتها ، لم أدر إلا وأنا أتوسل لها :
    -أنا في عرضك يا زوجة فدعان .
    وتهالكت خائر العزم ، وخانتني قدماي ، فهويت على الأرض ، وقفت بهيئة مذعورة ، وسمعتها تهمس :
    -انفضح أمرنا .
    -لا عليك ، سأتخلص منه .
    -كيف ؟
    -سأدفنه في التراب .
    -لا .. لا .. إنها جريمة يعاقب عليها القانون .
    -ألم نقم بالجريمة ؟ .
    -ينبغي ألا تكون عجولاً .
    أحسست أن قلبه مليء بالجريمة ، ومضت الدقائق تهرب في غير انتظام ، وراح يتخبط وسط أفكار لا يدري عاقبتها ، بادلها النظرات ، ( كان مستحيلاً أن أعرف أيّن كان ينتهي مصيري ) ، اشتد خوفي ، وكتمت أنفاسي ، لم أدر كم من الدقائق مضت ، فأحسست أني ملاقي حتفي ، لكنني مازلت أسمع زقزقة العصافير وأحياناً طنين النحل ، فقال بلهجة غامضة :
    -يا حنوف .
    -مر .
    -أسرع فك خمار الشقي .
    -حاضر .
    ثم همس في أذنيه أن يقلد صوت زوجة فدعان ، في أثناء ذلك فك حنوف خماري، بقيت لدقائق لم أر شيئاً ، وارتسم أمام ناظري ذرات غضبي ، التفت يميناً وشمالاً وبقيت للحظات أشعر بفقدان بصري ، وحين عرفت الجغمير ، قهقه ضاحكاً :
    -إنك بارع في التقليد تقليد النساء ! .. قسماً لو لبست تنوره لظنك الناس امرأة .
    رد :
    -حقاً أيها الشقي ما قاله ؟
    -نعم .
    كنت أدري ما رمى إليه الجغمير ، لكنني لم أدر أين ذهبت زوجة فدعان ، كتمت أنفاسي ، وفجأة أمر الجغمير حنوفاً قائلا:
    -اربط الحبل في ذيل الحصان .
    وحين أنهى حنوف ما أمر به ، لكز الحصان ، الذي اندفع يهرول صوب القرية وأنا خلفه ، وعندما بلغنا داره ، كان رجال الدرك ينتظرونه ،أسرع يرحب بهم ، فقلت لنفسي : "الآن جاء الفرج ".
    وضعت لنفسي أجنحة نحلة تشق عباب الهواء ، تطلب خليتها ، شعرت أن والدتي تنتظرني بفارغ الصبر ، صمت لدقائق أملاً أن أسمع قائد الدرك :
    -( دعه ينصرف ) .
    لكن الأماني لم تجد نفعاً ، تغيرت نظرتي إليه ، وانقطعت الشعرة التي كنت أتعلق بها ، حين قال قائد الدرك متسائلاً :
    -يبدو أنه شقي .
    قال حنوف :
    -إنه سارق العنب .
    -سارق . ما خاب ظنّي !..
    قال الجغمير :
    -أتحسب الطالع ، أم لعّل فدعان أعطاك سرّه .
    قال قائد الدرك :
    -كيف حال زوجته ؟ .
    أجاب الجغمير :
    -ما زالت في البستان تنتظر عودتي .
    تدارك حنّوف الأمر :
    -أنسيت أنّ البيت مسكون ؟
    كان قائد الدرك جالساً يحيط به أربعة من رجاله حين سمعت كلماتهم شعرت بتهالكٍ في جسدي ، ولم أدر كيف دنا قائد الدرك مني وقبض على عنقي ، وضغط بأصابع قوية فشعرت باختناق ،في أثناء ذلك دفعني غضب طفلي لأصرخ :
    -اتركوني أنتم أولاد قحبه .
    وبعد وليمة من غضب الجغمير وقائد الدرك ، دخل " محمود " يحمل الحساء، وبسرعة تحلقوا حول المائدة ، وراحوا يلتهمون الدجاج المقلي بالسمن العربي بشراهة قلّ نظيرها ، وأصخب قهقهاتهمْ أزقة البحيرة ، تحسست الألم في جسدي ، وقرقرت معدتي الفارغة ، هذه الدقائق ذكرتني حين قال الأستاذ جميل :
    -قال عمر بن الخطاب لبطنه ( قرقر أو لا تقرقر فإنك لن تذوق السمن قبل أمة محمد ) .
    أجج الألم في داخلي حقداً ، حسبته سينزل عليهم كصواعق من السماء ،في أثناء ذلك قدم حنوف صحناً من بقايا الفضلات . وقال :
    -كل أيها الشقي ..
    -لا أريد دعني أرحل ..
    - كلْ علّك أفضل من الكلب ..
    ما إن وقعت الكلمات على سمعي ، حتى أحسست أن شيئاً يدفعني أن أحطم كل شيء ، وبحركة قوية ركلت برجلي الوعاء ، الذي جعل من المرق أن يسقط على ثيابهم ، وترك بقعاً بحجم قلب الأم التي تقبع منتظرة أوبة صغيرها الذي خرج ولم يعد ، وما إن صبغ المرق جلباب الجغمير وملابس الدرك الرسمية حتى ثارت ثائرته، أرغى وأزبد وقال :
    -خذ الشقي إلى الزريبة يا حنوف .
    نفذ حنوف رغبة الجغمير وقادني إلى زريبة الماشية ، وعمل على شد وثاقي إلى عمود قرب معلف الحصان وما أن خرج حنوف حتى تأتى إلى سمعي صوت فدعان يتوعد الجغمير ، و لم أعرف ما السبب هل هو حقيقة أم مداعبة بينهما ، لكنني صرخت :
    -يا فدعان . زوجتك في البستان .
    أكيد أن صوتي لم يصل إلى أذني فدعان ، وأعتقد أنه لم يتجاوز أرجاء الزريبة ، بكيت بعنف ، لفني خوف كبير ، تراءت لي صور في الزوايا حسبتها حاشية فدعان ، لا أدري كيف غالبني النوم ، رغم أنني لم أكن أعترف بوجود هذه المخلوقات ، وكان ذلك بتأثير الأستاذ عليّ ، وفي حصة من دروس التاريخ سأله أحد التلاميذ :
    -هل فدعان يطاع من قبل الجان ؟ .
    -لا وجود لمثل هذه الترهات .
    ورغم ذلك راحت تراودني الأفكار ، ورأيت أحلاماً كثيرة لم أعد أتذكر سوى حلم أخير ، حيث وقف الأستاذ جميل أمامي : ( دع الخوف يا حمدان ) .
    -كيف ، لم أخف أشباح فدعان ؟ ! ..
    -لو كان صادقاً لعرف ما حصل لزوجته في البستان .
    -لعله يعرف ..
    -لا يا صغير .. لا يعقل ! ..
    -علام ؟
    -تصور ليس ثمة من لا يغار على زوجته . حتى الحيوان يرد عن زوجته فعل الزنى ، إلا حيوان واحد .
    -من هو ؟ .
    -الخنزير .
    -ربما أغدق الجغمير الأموال على حاشية فدعان لهذا السبب يتسترون على فعله الشائن . على مبدأ ( أطعم الفم تستحي العين ) .
    وفجأة وقف أمامي حصان أبيض صهل بقوة ، ضرب الأرض بقائمتيه قدحت حوافره ناراً ، امتطيت صهوته ، واندفع من الباب مسرعاً حلق في الفضاء ، أفرد جناحيه للريح ، وحين أصبح فوق دارنا ، لزمته أن يهبط على سطح بيتنا ، ترجلت عنه وأخذت أمسح بيدي على غرته التي بدت بلون حبال الشمس المتصابية ، كنت أنظر إليه متعجباً ، وأنطلق وهو يصهل حاولت أن أتمسك به ، وحين اندفعت خلفه ، استيقظت مذعوراً ، فلم أر إلا الظلام يخيم على أرجاء الزريبة ، صرخت من شدة الخوف ، فجأة دخل أحدهم ، من وقع أقدامه ومن بسملته عرفته . فصرخت :
    -دخيلك يا عم محمود .
    ارتجف فهد من صوتي وارتجفت ذبال الفانوس ، وأخذ يلتفت يميناً وشمالاً ، وحاول أن يحدد مصدر صوتي ، حاول أن يرفع ذبال الفانوس التي تركت ظلالاً على الجدران ، فاطلقت صوتاً آخر ، استطاع أن يحدده ، فاقترب مني وحين عرفني، اضطرب خوفاً وسألني :
    -ما الذي جاء بك ؟
    -حنوف يا عم ..
    -من ذيل الحمار ؟ .
    -داخل عليك يا عم ..
    فك وثاقي بسرعة ، أحسست بخفق في صدري ، استنشقت رائحة الشيح من ثيابه ، أخذتني الرغبة أن أقبل يديه ، حين حررني من الحبل ، مسح يده على شعري، لمعت عيناه في الظلام ، قبض ذراعي ، مضينا تحت جنح الليل ، كان الزقاق مقفراً، إلا من بعض القطط التي تموء وتموء . كانت والدتي تدور في أرجاء الدار تنتظر أوبتي بفارغ الصبر بعد أن سألت أهل الحي ، لكن دون جدوى لم تعثر على أي خبر ، فسلمت أمرها إلى الله . وغرقت في اليأس وهي حائرة لا تدري ما تفعل ، وحين وقع بصرها علينا انهمرت دموع الفرح من عينيها ، أخذتني بين أحضانها ، وضعت رأسي على صدرها وأصغيت إلى نبض قلبها ، دون كلمة شكر قفل أدراجه إلى دار الجغمير . فقالت :
    -يا بني جاء الحلم على سلام .
    -أيّ حلم ؟ ..
    -رأيت ثعباناً أسود يلفك من أخمص قدميك حتى أعلى بطنك وعيناه تحدقان في وجهك ، وفجأة تحول رأسه فبدا كرأس الجغمير ، تطلعت إليه بذهول وأنا أضرب على صدري ، وفجأة تناولت عصاً وقبل أن أهوي بها على رأسه طرق سمعي نداء : ( مهلاً ... مهلاً ) .
    ثمة رجل حث خطاه ، وقف بهيئة مذعور ، وقبض على عنق الثعبان بيده القوية ، مما جعل الثعبان يتمدد بتراخ فغدا خرق في مهب الريح ، ثم سحق رأسه بحجرة كبيرة ، ورجع خطوات وانصرف دون أن أميز سحنته . وقالت :
    - حمداً للرب .
    وحين عبر محمود الأزقة ، أحس في داخله تعج أغانٍ تحتّ الصخر ، يغني لورد الصباح ، والنحل يحطّ على الأزهار ، والفراشات تتقافز عبر الحقول ، وحين أصبح على مقربة من دار الجغمير حاول أن يعود إلى طبيعته وقبل أن يدخل إلى الزريبة كي ينهي عمله اعترضه أحد رجال الدرك ، حدق في وجه محمود ، وتنفس مثل ثور وقال :
    -أين أخذت الولد ؟
    -أيّ ولد ؟
    -لا تكذب .
    -ألزم أدبك .
    دبت الحرارة في جسد فهد نفذت إلى رأسه ، لم يستطع أن يتخلص من توتره ، أدرك انه أمام مشكلة لا مفر ، وفجأة هوى الدركي بالسوط على ظهره . وقال :
    -سأربي شياطين الجحيم بأمثالك .
    -أنت يا كلب الجغمير .
    تبدلت رؤيته للأشياء ، لم يستطع أن يتحمل الإهانة ، حاول أن يصدّ ضربات الدركي ، تناول معولاً ، وبدافع الخوف من أن يستعمل عيار ناري هوى بالمعول على رأسه وقال :
    -فلتمت يا ابن الزانية .
    ثم أطلق ساقيه للريح صوب حقول بحيرة الملح المترامية الأطراف ، وأنقذ نفسه من موت محتم ، وبعد منتصف الليل عاد قائد دورية الدرك مع ثلاثة من رجاله يصطحبهم الجغمير من قضاء ليلة حمراء ، وفي منتصف الزقاق سأل الجغمير :
    -أين الدركي جدوع ؟ ..
    -لعله عاد إلى المخفر ..
    -أمرته أن يبقى .
    -ربما دخل خلسة إلى دار فدعان .
    -علام ؟
    -عله سيقضي ليلة حمراء .
    -إن فعلها سوف ينال جزاءهُ .. الصباح رباح ..
    في الليل تنهض الخفافيش من شقوق الجدران ، وما إن وصل قائد الدرك وأفراد الدورية إلى المضافة حتى غطوا في النوم ، وأخلد أهل القرية إلى مضاجعهم، تلفهم الأحلام ، وقبيل الفجر ، استيقظ حنوف من حـلم مريع ، حيث رأى شحوداً يربطه إلى ذيل الضبع الذي أسرع ورشق بولـه ، على وجـه حنوف ، فتذكـر حكايات جدته التي قالت فيها :
    - أن الضبع قبل أن يهاجم الإنسان يرشقه ببوله ، وحين يشم الإنسان بول الضبع ، لم يعد يتمالك أعصابه ولا يستطيع أن يفعل شيئاً ، سوى أنه يتبع غريمه حتى وكره ، وهناك يقوم الضبع على ( قرقشة عظام ضيفه ) .
    وصل حنوف إلى المغارة وراء الضبع دون أن يتفوه بكلمة ، وفجأة التفّ الضبع وجلس على قائمتيه وحدّق في وجه حنوف ، ولمعت عيناه الفوسفوريتان في العتمة وأخذ يعر ويعر ، فقال حنوف لنفسه :
    -ربما ينادي على أفراد قطيعه .
    رددت المغارة والكهوف صداه ، كأنه ينادي الوحوش المفترسة على وليمة من لحم الإنسان الشهية ، تلفت حنوف إلى الخلف ، وحاول أن يعود مسرعاً ، سلك مسلكاً آخر ، تعثرت رجله بحجر ، فاستيقظ وهو يصرخ :
    -آخ .. يا رجلي ..
    وحين فتح عينيه أدرك أنه كان يعيش حلماً ، حاول أن يتحرر منه ، لكنه ما زال مذعوراً ، ولبث جالساً في فراشه ، لم يملك الجرأة على الخروج قبل انبلاج الفجر ، كان عليه أن يهيء نفسه إلى الخروج إلى بيت الجغمير ، أحسّ الجفاف في حلقه ، وارتعش الليل في أعماقه ، اجتاز الوكر ، أجهد نفسه أن لا يتذكر حمداناً الذي بات طيلة الليل في الزريبة ، ظلّ دقائق صامتاً ، وسر لنفسه :
    -أن حمداناً يقبع في زريبة الماشية .
    أحسّ بشفقة عارمة ، وكان ذلك بسبب المنام ، جلس في حيرة من أمره وحين طلع الصبح ،هرع مسرعاً إلى دار الجغمير علّه يطلق أسر حمداناً ، وحين وطئت قدماه فسحة الدار، كان يقف أمام منظر مريع ، ثمة دركي يغوص بدماء جامدة ، أحسّ خوفاً شديداً ، تلّفت يميناً وشمالاً ، فلم يقع بصره على أحد ، عاد مسرعاً من حيث جاء ، وانسلّ في فراشه خوفاً من أن تلصقه التهمة بجريمة قتل لم يرتكبها ، استيقظت زوجه ، رأته شاحباً فسألته :
    -ما الخبر ، خير إن شاء الله ؟ .
    -مصيبة يا هند .
    -لم أفهم ، وضح قصدك .
    - هناك جريمة قتل .
    -وما علاقتك أنت ؟
    -لا شيء ... لا شيء .
    -الله يجيب العواقب سليمة .
    صمتت هند هنيهة ، مسحت بناظرها جدران المنزل الطينية ، امتد شعورها إلى الأشياء ، تنهدت من أعماقها ، وما زالت كلمات حنوف تطوف في تجاعيد دماغها ، حدقت في وجهه الشاحب بعض الشيء ، قرأت عليه ركاماً جهنمياً ، أفقده صوابه ، ومضت أفكارها إلى زريبة الماشية حيث يقبع حمدان ، فأحست أنه تعرض لعنف كبير ، أصابها الذهول ، حين أدركت أن ضمير حنوف غدا من حجر صلد . وبلا شعور قالت لنفسها : ( إن الله يمهل ولا يهمل ) .
    قبل انبلاج الفجر ، ارتعش الندى على شجيرات الشيح وما زال " حمدان " يحلم في رؤية الشمس السجينة ، مضى في تفكيره إلى أحضان بحيرة الملح ، يتحدى تقلبات الطقس ، جلس تائهاً ، حيث تواردت الأفكار إلى ذهنه دون ضجيج ، ورفرفت فوق رأسه أحلام ، غدت كطيور القطا تنشد الماء على أطراف البحيرة ، سمع الأغاريد وهي تجوب الضفاف ، تفتح حلمه الجميل ،في أثناء ذلك تأتى إلى سمعه طرقات على باب داره ، نظر بحذر إلى كوّة الباب وقع بصره على جابر يقف في الزقاق ، حيث تعالى النباح ، في آخر الزقاق كلابٌ سائبة ، فقال بهدوء :
    -تفضل يا جابر ..





























    فصل ( 8 )
    دخل جابر إلى البيت ، وضع حقيبته في الزاوية ، جلس على الفراش بتراخ ، كان مضطرب الأعصاب ، نظرت إليه باهتمام كبير ، رأيته في غمرة من ألمه ، فجأة افترت شفتاه عن ابتسامة شاحبة ، وكان رأسي مليئاً بالأحلام ، فاستحوذت اللحظات عليّ بالذكريات ، وكنت أحلم برؤية الفجر بعد ليل طويل ، فسألته :
    -كيف الأحوال في القرية ؟ .
    -بخير ..
    في أثناء ذلك أدرت إبرة المذياع ، كان المذيع يتحدث عن أخبار أيلول الأسود ، وبعد نشرة الأخبار أخذنا نتجاذب أطراف الحديث ، أحياناً نتقارب بالأفكار ، وأحياناً نختلف ، فأقول :
    -هذا غير معقول .
    -أنت واهم ، ما زلت صغيراً .
    -هذا ما أخشاه .
    -لكنه الصواب .
    -لقد خيبت ظني فيك ! .
    اهتاج فيه الغضب ، حين نشر الليل غلائله على القرية وما زلنا نسمع أخبار معارك طاحنة بين الإخوة في الأردن ، غرقت في اليأس ، أردت أن أتحرر من الألم ، بغية أن أخرج من الغموض ، وساد الصمت من جديد ،في أثناء ذلك كان عليه أن يهيء نفسه للرحيل ، وكان حائراً لا يدري ما يفعل فقال :
    -ما رأيك بالسفر ؟
    كنت مستغرقاً ، ضجراً ، فقلت له مندهشاً :
    -إلى أين ؟
    -إلى دمشق .
    تأملته لحظة ، واكتسى صوتي لهجة رقيقة ، وقلت لنفسي إنها فكرة رائعة ، حتى الآن لم أذهب إلى الشام ، ولم اطلع على عراقتها إلا من خلال الكتب والأستاذ جميل .. وأردفت قائلاً :
    -دفعة واحدة إلى الشام ؟ ! ..
    أضاف جابر في طلاوة :
    -أتوافق على السفر ؟ .
    غرقت في المبهم ، يخيّل لي أني أعرف أزقتها الضيقة وشواهدها الحجرية ، واجتزت الغوطتين ، وأوغلت في أوابدها ، فاستدركت قائلاً :
    -ولم لا أسافر؟!..
    تنفس بهيئة مطمئنة ، وأخذت عيناه تبرقان ، حين أخذ موافقتي على السفر ، بادلني النظر بضع لحظات مأخوذاً ، وانعكست أمانيه كشفق الشمس ، وغدا كمن يحلق في فضاء تومض فيه نجمة الثريا ، ولأنه لم يصدق أذنيه ، سارع لإغرائي بالرحلة غير المنتظرة ، وبسخاء أخذ يحدثني عن الأزقة التي سنطوف فيها ولم ينس أن يحدثني عن الغوطه ، واليمام على شرفات البيوت التي عرّش الياسمين على جدرانها ، ثم قال :
    -والأجمل نهر بردى ..
    -ما أروع وصفك ! .
    تبادلنا النظر بضع لحظات ، لف سيكارة وأشعلها ، وارتشف ما تبقى من الشاي ، كان مستحيلاً أن أعرف أيّن رحل بأفكاره ، نهض وتناول حقيبة علقها في كتفه ، لمحت الفرح على محيّاه ، وعبّر وجهه عن السرور ، وكنت مرهقاً من الأفكار ، تحت عبء رحلة غير متوقعة ، حين قال :
    -هيا بنا يا حمدان .
    أخذت عيناه تبرقان ، وأنا أرتدي ملابسي ، وبعد أن غسلت وجهي ومشطت شعري ، تفقدت محفظة نقودي ، كنت قد ادخرت ثلاثمائة ليرة سورية ، وفجأة نظرت إلى المرآة ، بحركة سريعة كشرت ، بادلني النظير نفس الحركة مع بعض التغير لأسباب أن المرآة كانت شبه مشوهة فضحكت بسخاء . فتأمل جابر سحنتي وسألني :
    -ما وراءك ؟
    -لا شيء .. أضحكني وجه من المرآة .
    قال بلهجة غامضة مرحة :
    -ما قصدك ؟ .
    كنت قد وضعت النقاط على الحروف ، ومضينا في الشارع على غير مألوف العادة ، كانت البيوت موشحه بالفسق ، وكان الشارع خالياً ، إلا من بعض جرذان وقطط قابعة قرب أكوام القمامة هنا وهناك ، شعرت بإحساس مغامرة ، فخيل إلي إني ألمس ذروة السعادة ، وكنت أسمع هديل يمام الشام ، وأحياناً ، طنين النحل ، ولمحت في السماء رسومات خرافية ، وفجأة ربت على كتفي ، وقال بغيظ :
    -حتى الجرذان تسعى إلى طعامها .
    -أليس الأمر مؤلماً ؟
    -لماذا ؟
    -ماذا يحل لو جاءتها كلاب الحي ؟
    -لاشيء ، لا شيء ، هكذا قانون الطبيعة .
    -كيف ؟
    -إن الجرذ يخاف القطط ، والقطط تحذر الكلاب ... الخ .
    جوابه ولد في قلبي الشفقة على الضعفاء ، فقلت :
    -أليس القانون مدهشاً ؟
    كانت السماء معمرة بالنجوم في المدى البعيد . والشارع مغطى بأوراق الشجر، غنت أغاريد الأمل في داخلي ، وعزفت في أعماقي شبابة حزينة ، من فرط سعادتي، تراكمت الدقائق ، ومازلت أعيش عرساً غجرياً ، رغم أنه لم يكن لدي أية فكرة عن الشام إلا من الأستاذ جميل الذي كان يحدثنا عنها إنها عروس العرب ، خفق قلبي خفق متتالي ، وظل ما يقلقني كيف سأبقى بمفردي في مدينة لا أعرف فيها أحداً ، ورحت أعيش التردد ومع جدل مع الذات فضلت العودة إلى البيت وفجأة فرملت سيارة وصرّت دواليبها على الإسفلت وطلّ رأس من خلف الباب وقال بلهجة حلبية :
    - عــ الشام .. عــ الشام .
    صعد جابر إلى الحافلة ، وصعدت خلفه . أسرعنا إلى المقعد الخلفي ، قبعنا فيه ، طالعتني وجوه صامتة ، شعرت بفرحة غريبة ، لم أستطع أن أعبر عن مشاعري ، خيمّ الصمت إلا من هدير محرك الحافلة ، أشعل جابر لفافة وناولني أخرى ، كانت اللفافة الأولى التي أشعلها في حياتي ، حيث بلغت من العمر ستة عشر عاماً ونيف ، هذه الدقائق أعادتني إلى بحيرة الملح ، فأحسست أني تخلصت من توتري ، وعملت قصارى جهدي لأعود إلى طبيعتي ، مع صوت أم كلثوم :
    ( هذه ليلتي
    وحلم حياتي )
    اجتزت بحلمي الأقانيم ، وأصغيت باهتمام إلى اللحن رغم تكدري ، حدقت إلى جابر كنت سأسأله الكثير عن الشام ، لكنني وجدته يغط في النوم وظل مستسلماً للأحلام، منذ زمن لم يعرف للراحة طعماً ، تنهدت بغيظ وطويت أحلامي ، سمعت نداءً خافتاً يهتف من بعيد ، نظرت من نافذة الحافلة ، وثمة أشباح خرساء تتهادى أمامي ، غدا كل شيء ألماً وحسرة في نفسي ، حولت بصري ، ورحت أراقب قمر الليل ، طل منه وجه عروس الشام ، وما زال ضجيج محرك الحافلة يغيب ألحان الموسيقا ، طالعت وجوه الناس الذين غالبهم النعاس ، وأخذت أفكر في المرحلة التي جاءت دونما تخطيط مسبق وأن كل شيء بدا بالمصادفة ، فتحت النافذة عبقت رائحة الشيح بأنفي ، كان يبدو عليّ الهدوء والانشراح حين تذكرت بحيرة الملح ، وطيور القطا . سادت لحظات كنت أسمع فيها النحل ، وما زالت الدواليب تطوي الطريق طياً ، فأدار السائق مفتاح المذياع . تعالى صوت فيروز :
    ( ورقوا الأصفر
    شهر أيلول ) .
    حوّلت بصري إلى القمر من خلال النافذة ، بدا كل شيء يسير إلى الخلف إلا القمر ما زال أمام ناظري يتوسد قبّة الليل ، تخيلت وجه " مزنة " تطوقه حبال ذهبية ، فما هي إلا ثوان حتى غالبني النوم ، راودتني الأحلام ، رأيت نفسي في أحضان الفراغ ، فجأة اعترضت سبيلي " مزنة " ارتسمت علامات فرح على وجهي حين سألتني :
    -أين تهرب ؟ سأتبعك إلى آخر الدنيا .
    -لطفاً يا مزنة إن الفكرة ليست فكرتي .
    تملكها الحياء وقالت :
    -لا تكذب .
    -قسماً إنها فكرة جابر .
    -أدرك أنك لا تستطيع أن تهجر بحيرة الملح .
    كان وجهها يشع في كل الاتجاهات ، وعلى سحنتها علامات تفكير متواصل ، سألت نفسي : ( من أي مكان جاءت ؟ ! ) .
    انبثقت من شعاع الشمس ، أمسكت يدي بحزم ، انتابني خوف شديد ، وكنت أحلم في رؤيتها مع الفجر ، ولا ضير أن نركض على أطراف بحيرة الملح ، لسعتني ريح الخريف ، اعترتني الحيرة ، تجمد ما يجول في خاطري ، لم أقو على طرح السؤال . لأن قلبي كان موصداً ، فجأة افترت شفتاها عن بسمة وقالت :
    -انظر إنها التكية السليمانيه .
    -وذاك ؟ .
    -قلعة دمشق ، وتمثال صلاح الدين .
    وبفضول كبير سألتها :
    -وهذه الساحة ؟ .
    -إنها ساحة الشرف التي علق الأبطال فيها على أعواد المشانق .
    -صبراً ... صبراً ..
    -لا يرفع شأن الوطن إلا أبناؤه .
    وجدت نفسي عاجزاً عن الإجابة ، خفضت بصري خجلاً ، عبرنا ساحة الأشمر ، كيلا ترتاب ، دخلنا أزقة القدم ، بدت متاهة ، تبدو في منتهى الغرابة ! . قرأنا في داخله التاريخ بكل موروثاته ، طرقنا الأبواب بلطف خشية أن لا نزعج الراقدين في القبور فقلت :
    -ماذا نفعل هنا ؟ .
    -يجب أن تعرف الحمامات الدافئة وخانات دمشق الكبيرة ، ووسائط النقل التي تقتصر على الطنابر التي تجرها الجياد .
    بادلتها النظرات بدهشة :
    -من أين أدركت كل هذا ؟ .
    -منذ زمن .
    -غير ممكن ! .
    سرعان ما انقبض وجهها ، واتخذت طابع الجد وقالت :
    -تعال معي إلى باب توما .
    لم يكن لديّ متسع من الوقت لأسألها ، فقلت لنفسي :
    ( عاج الشقي
    على رسم يسائله
    وعجت أسأل
    عن خمارة البلد )
    تطلعت بذهول إلى شرفات تطالعني بأصيص ورد الشام وشجيرات ياسمين تعرش على الجدران تحط على حوافها عصافير في حالة أعراس ، ونحل دؤوب يحط على حواف الورد ، أدهشني المنظر وبدت على وجهي علامات تفكير متواصل ، أنْعَمْتُ النظر فيها ، انسحبت من أمامي هاربة ، اندفعت خلفها ، وجدت نفسي عاجزاً أن أقتفي أثرها ، قلت :
    -أريد أن أسدى نصيحة .
    تعثرت قدمي بجذع شجرة ، فتحت عينيّ ، فأدركت أنني استيقظت من حلم، وأنا في أوج لهفتي ، أقلقت الأفكار رأسي وأخذت أنقل بصري من وجه إلى آخر ، طويت أحلامي ، ثم سألت أحدهم :
    -يا أخ أين نحن ؟
    -ما زلنا في طلوع التنايا .
    ضحكت في سري ، ونظرت بحذر لأن سؤالي لم يجد نفعاً وقلت لنفسي :
    -(خاب ظنك يا صاح ، هل أعرف ما رميت إليه ؟ ! .. ) .
    اضطررت لأن أكرر السؤال لكن بصيغةٍ أخرى فسألته :
    -من فضلك كم الساعة الآن ؟
    -الحادية عشرة .
    -متى نصل دمشق ؟
    -ثلاثون دقيقة .
    كنت مثقلاً بأحلام وردية ، في ضوء قمر ينشد صلوات القطا ، ويمشط بنوره شجيرات الشيح الداكن ، تفتحت نفسي كأزهار الياسمين ، وتأتّى إلى مسمعي صراخ طيور شريدة ، سوف تعود إلى بحيرة الملح بعد أن فهمت فلسفة الحياة وخضمها العاصف فلم تحد عن طريقها قيد أنملة ، اعتراني الذهول حتى تذكرت البساط السحري الذي يقطع الأميال بمدة وجيزة وتذكرت أمّ حنوف حين سألت عن الصافن الأصفر الذي لا يأكل الحشيش ، حلقت في خيالي بعيداً ، لا ضير أن أجوب بحلمي أزقة بحيرة الملح ، وألوذ في صدر جدتي أسمع نبضات قلبها وهي تحدق في الجمر المنطفئ في الموقد ، وثمة بقية من شمعة ترسم ظلالاً على الجدران الطينية ، كأنها أشباح " فدعان " وشجيرات الشيح تئن كالإوز ، وعلى منعطفات الأزقة نباح كلاب سائبه تبحث عن طعامٍ ، فتمضي إلى أحضان دار " الجغمير " وفجأة انتفض قلبي مضطرباً حين اخترق أحدهم السكون وقال بغضب :
    -أسرع يا أخ ... لا تخف لن تنكسر البيضات .
    ردّ عليه أحدهم :
    -اتركه يا أخا العرب ، سائقنا يخاف أن تتزحلق الحافلة إذا جاءت الدواليب على قشر الموز .
    التفت السائق إلى الخلف بعد أن أشعل الأضواء وقال :
    -بلا علاك .
    ردّ عليه أبو قشرة الموز :
    -بلا مراجل ، أسرع لدينا عمل .
    قال السائق :
    -خذ سيارة خاصة إن كنت على عجلة . ( وقذفه بليرة سورية واحدة ) .
    اعترتني الحيرة حين اشتد وطيس النقاش ، لم أقوَ على طرح سؤال ، ولفني صمت عميق ، الدخان يتواثب في الحافلة ، أرهفت السمع إلى النقاش ، بقيت مستسلماً للصمت ، أورق الألم في نفسي ، أنعمت النظر فيهم ، فجأة نهض رجل في عقده الخامس وقال بلطف :
    -صبراً يا شباب سائق الحافلة أدرى منّا بعمله .
    ردّ أبو قشرة الموز :
    -ماذا يعني هذا ؟
    - ( في العجلة ندامة وفي التأني سلامة )
    -يا أخا العرب الدقيقة محسوبة علينا .
    قهقه ضاحكاً أبو فكرة البيض :
    -دعه يا أخ لا قيمة للزمن عندنا .
    شعرت بالتأنيب حين وجدت نفسي عاجزاً عن المناقشة ، سمعت نداءً خافتاً يهتف من بعيد ، ورزحت تحت كابوس الأوهام ، سرت بحذر على أطراف البحيرة ، أطلقت ذاتي من سجن ذاتي ، سمعت شكوى الريح ، نفرت " مزنة " كوعل شرود ، عربدت شياطين الأرض ، تأجج الغضب ، انشطر الناس إلى شقين : الأول يؤيد أن في السرعة ندامة ، والآخر مع الذي طرح أن الوقت لا حساب له . لا أدري كيف ناديت بأعلى صوتي :
    -يا أخوة العرب خير الأمور أوسطها .
    سرت في جسدي رعشة ، واعترتني الحيرة ، حين خفف السائق السرعة ، وأخذ أقصى يمينه ، وفجأة تسمرت الحافلة في مكانها ، ثم التفت السائق إلى الخلف وقال :
    -يا شباب ، تعطلت الحافلة .
    قال أبو قشرة الموز :
    -اسمع .. نعرف ألاعيب السائقين .
    أجاب السائق :
    -إذا لم يعجبك ، الباب يفوّت جمل .
    اقترب الرجل الوقور من السائق ، وقبّل شاربه وقال :
    -رجاءً لدينا مهام .
    أجابه السائق :
    -يجب أن أكون حذراً ، مسؤوليتي أرواح الناس .
    -صدقت .
    استطاع الرجل الوقور أن يمتص غضب السائق الذي عاد إلى كرسيه ، وتابع مسيره دون أي مهاترات مع الركاب ، كان رأسي مليئاً بالأحلام ، رقصت مع الأطيار على أطراف بحيرة الملح وفي أعماقي أنشودة ، وكنت أحلم في رؤية " مزنه " مع طلوع الفجر بعد ظلام دامس ، منذ زمن لم أرها ، شملها صمت عميق والتهمتها الظلمة ، حينذاك جاءت بثوبها الرث تغرق في تيه العذاب ، تملكني الحياء، وأنا أحدق إليها ، وحين غضضت طرفي عبرت مع الناس ، وضلّت مسالك بحيرة الملح ، ناديت بأعلى صوتي :
    ( - تعالي يا مزنه ) .
    فلم أسمع سوى الصدى تردده البحيرة .
    لم أدر كيف رحت أدندن أغنية على وقع طقطقة الحافلة ، اختلجت فيّ الحياة ، وارتسمت علامات فرح على وجهي ، فتحت النافذة ، فاح عبق الياسمين ، حين عبرت الحافلة شوارع دمشق ، وحين أصبحنا في الكراج وقفت بمحاذاة الجدار، وقف معاون الحافلة وقال :
    -الحمد لله على سلامتكم .
    أيقظت جابراً من النوم ، دعك عينيه والتفت يميناً وشمالاً ، ثم تثاءب وسألني :
    -هل وصلنا دمشق ؟ .
    -نعم يا صديقي .
    تناول حقيبته الجلدية ، وهبطنا من الحافلة ، وسلكنا الشارع المقفر إلا من القطط والجرذان القابعة قرب الحاويات ، عبرنا الشوارع ، وحين وصلنا إلى سينما العباسية ، وقع بصري على لوحة تحمل عبارة : غداً يعرض فيلم " اسبارتاكوس والمصارعون السبعة " . تأملت الصور ، صامتاً ، أحببت كبرياءه ، غدا فلسفة جديدة، حلقت في خيالي بعيداً ، قلت لنفسي :
    -لا ضير أن أشاهده غداً .
    شدني جابر من يدي ، وتابعنا السير حتى وطئت أقدامنا ساحة المرجة ، تذكرت حديث الأستاذ جميل عن شهداء السادس من أيار ، تسمرت في مكاني لدقائق ، إجلالاً لأرواحهم الطاهرة ، وتخيلت قامات سامقة كأنها أشجار صنوبر تشرش في أعماقِ الأرض، فاجأني جابر وقال :
    -منذ أشهر شنق هنا عدد من اللصوص .
    انتفض قلبي مذعوراً ، لم أصدق ما سمعت وقلت :
    -لا ... أبداً .. لا يعقل يا جابر .
    -ما الذي لا يعقل ؟ .
    -إن ساحة المرجة للشرفاء فقط .
    -صدقت يا حمدان .
    مضينا إلى الفندق ، وأنا أجوس النجوم في أحضان الفراغ ، صعدنا درجات السلم ، وحين أصبحنا في الصالون ، وتأكد جابر من منامتي ، انصرف إلى شأنه على أمل اللقاء بعد ظهيرة الغد ،في أثناء ذلك طلبت كوباً من الشاي وأخذت أرتشفه بهدوء ، أشعلت لفافة مججّت نفساً عميقاً ، تواثب الدخان حلقات دائرية ، بدت كالقباب التي تطوقها بحيرة الملح القابعة بهدوء على تخوم بادية حمص ، تخفرها شجيرات وطيور القطا أيام الخصب ، حيث كان مورد الرزق لأهل القرية من الملح الذي يستخرجونه من البحيرة أيام الصيف ، حتى غدت هي مصدر رزقهم الوحيد ، حيث كان أهل القرية يقايضون الملح بالفاكهة من عنب وتين وجبس أيضاً ، وفجأة رحلت بذاكرتي إلى أيام خلت ، وقبل أن تنهض الشمس السجينة دخلت أم حنوف على جدتي وقالت :
    -يا ويلي لقد خربت بيوتنا .
    -ليش كفى الله الشر .
    -لبست بحيرة الملح رداءً أسودَ .
    -كيف ؟
    -تفجر ( بوري ) البترول .
    يومذاك كنت في الصف الثالث الابتدائي ، قلت لنفسي : ( يا له من نبأ ) ! ...
    سرت بحذر على طول الطريق وحين وطئت قدماي أرض البحيرة ، أصبت بالذهول ، حين وقع بصري على طيور لا تقوى على الطيران ، أبحرت في الآلام ، حين عرفت أن النفط جاء على كل شيء ، أرهفت السمع إلى شكوى الطبيعة ، وحين تعالى النحيب ، كنت صامتاً ، وكان الصمت جرحاً ، وتجرع أهل القرية كأس المرارة ، وأخذوا يفكرون بمورد رزق آخر لهم ، فأدت هذه الكارثة إلى هجرة الناس إلى دول الخليج ، ولم يبق سوى الأطفال والنساء والشيوخ . فقلت :
    -اللعنة .
    ثم قذفت اللفافة من النافذة ، ودون أن أخلع ثيابي استلقيت على السرير ، حاولت النوم . عبثاً فعلت . وحين خرجت إلى الشرفة ، كان الفجر يلاحق فلول الليل ، والشمس ترسل ضوءاً لازوردياً يصبغ أطراف القبة الفيروزية ، وقفت دهشاً وأخذت أتأمل جدران البيوت الدمشقية المغطاة بالطين . يبدو أن عامل الفندق أحس أنني ضجر فناداني :
    -تعال يا أخ لنشرب القهوة .
    كان عامل الفندق بحاجة لمن يسامره ، خوفاً من أن يغالبه النعاس ، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث ، عرفت أنه يدرس في جامعة دمشق ، ويعمل في الفندق ، لئلا يشكل عبئاً على أهله ، حب الفضول دفعني لأن أقول :
    -إذن أنت محامي المستقبل ؟ .
    -نعم ، وربما قاضٍ .
    فتحت النافذة على مصراعيها ، سمعت زقزقة عصافير تحب الياسمين ، وانداح النحل من زهرة إلى وردة ، نبض قلبي بحب الشمس التي ألبست السطوح رداء ذهبياً ، كنت في أوج لهفتي لرؤية أوابد الشام ، غادرت الفندق ، ودعته على أمل العودة ، هبطت درجات السلم ، فجأة أصبحت في عرض الشارع ، كان النسيم دافئاً ومنعشاً ، أبحرت في الأزقة ، تأملت اليمام على شرفات تزدحم بأصيص حبق وورد شامي ، أقلقت الأفكار رأسي ، سمعت نبض الأشجار الباسقة ، بجانب المتحف الحربي سمعت نداء بائع السحلب ، ابتعت كوباً مع كعكة ، ارتشفته ، والتهمت الكعكة بشراهة ، سمعت لغة نهر بردى ، حثثت خطاي في الشوارع ، حاملاً أحلامي ، ثمة أشباح خرساء تتهادى أمامي ، تذكرت بحيرة الملح ، التي ظللت ملاعب طفولتي ، أورق الألم في نفسي ، سمعت أحدهم يهتف :
    -بيروت .. بيروت .
    دنوت منه وسألته :
    -كم الأجرة ؟ .
    -خمس ليرات .
    حشرت نفسي في المقعد الخلفي ، خائر العزم ، تدفق فيض من ذكريات ، اندفعت السيارة تجوب الشوارع ، وفجأة سلك طريقاً يفضي إلى ساحة الأمويين وهناك انعطفت السيارة إلى اليمين وسلكت الطريق الملتوي حسب تعرجات نهر بردى ، حيث أشجار الحور تشكل مصداً للريح ، اجتزنا الأقاليم ، وحين أصبحنا أمام ضريح يوسف العظمة ، تفتح الحلم الجميل في داخلي ، وتذكرت أحاديث الأستاذ عن شخصية البطل الذي قارع الفرنسيين ، حرك السائق مفتاح المذياع :
    ( يا دارة دوري فينا
    ضلّي دوري فينا
    تينسوا أساميهم
    وننسى أسامينا ) .
    سمعت تنهدات الرياح ، وفاحت رائحة الأشجار ،وأرسلت الغيوم خيوطاً ورسومات خرافية،جاءت من أعماق البحر،وكان الماء ينهمر من أعالي الجبال ،أشجاني هديل الشحارير على الأفنان ، تبحث عن سبل الحياة ، وفجأة انزلقت السيارة صوب البحر ، أصابني الذهول حين مضى بصري إلى أحضان الطبيعة ، عرفت لغة الأرض الصامتة ، لم أشعر بمرور الدقائق ، وما زالت السيارة تصعد سلاسل الجبال ، فجأة اتشحت السماء بالغيوم ، وراح يسقط مطر خفيف ، لمعت حبات المطر على سنديان الأرز الأبيض ، لا أدري كيف غالبني النعاس ، ولا أعرف كم مضى من الوقت حين ربت السائق على كتفي قائلاً :
    -الحمد لله على السلامة .
    -أين نحن ؟
    -في بيروت .
    تلفت يميناً وشمالاً ، وانزلقت من جوف السيارة ، وقفت هنيهة أصلّح هندامي ، ورحت أتأمل الشوارع المكتظة بالسيارات والعمارات الضخمة ، عبرت إلى الرصيف الآخر ، وقفت أمام محلات كبيرة تأملت الدّمى التي صنعت بإتقان محكم ، في بادئ الأمر ، نظرت إليها بإعجاب . لحسبي أنّها من لحم ودم ، ذات نظرة عميقة ثابتة من عينين صافيتين بلون البحر ، وبشرة نضرة وذقن صغيرة ، شقراء مكتنزة ، تشجي النفس ، غضضت طرفي خجلاً . عبرت الشارع الذي ينتهي إلى الحديقة ، اقتعدت تحت شجرة ، وأخذت أتأمل حزام الشمس ، وأخذت أنقل نظري من شجرة إلى شجرة ، وقع بصري على عقارب ساعة تشير إلى الثانية ظهراً ، تعجبت لمنظر الساعة العشبية ، وثمة أنغام موسيقا تأتي من هنا وهناك ، حركت رأسي تعجباً ، شعرت بالوحدة والغربة القاتلة ، طفت بالحديقة زمناً ، شعرت بأفكار مستفيضة تحتل تجاعيد الدماغ ، وفجأة انهالت عليّ ذكريات الماضي ، وبدا اليأس مكتوباً على وجهي ، نهضت وسرت الهوينا ، انعطفت إلى اليسار ، طالعني المقهى ، ولجته ، جلست على الكرسي بتراخٍ ، جاءني النادل :
    -من فضلك فنجان قهوة بلا سكر .
    -حاضر .
    لم تمض إلا دقائق ، حتى عاد يحمل القهوة ، وضعها على الطاولة وقال :
    -تفضل .
    -شكراً لك .
    أشعلت لفافة تبغ ، وبقيت صامتاً ، كأن ذكرى بحيرة الملح أثارت في نفسي نوعاً من ذبذبات تجاوزت المدى ، وأخذت أهز رأسي في هيئة من يفكر ، فأدركت أن في هذا العالم شيئاً جديداً . ثمة رجل ثمل ، بيد أنه متألمٌ ، امتلأت عيناه بالدموع ، استوقفتني نظراته ، تجعدت جبهته ، فجأة قهقه ضاحكاً وخاطب رجلاً قبالته :
    -ولك أنت جبان .
    أجابه الآخر :
    -اللعنة عليك يا عربيد .
    في هذه اللحظات ، انقضا على بعضهما ضرباً ، انقسم رواد المقهى على بعضهم منظر يبعث الرعدة في الجسد ، فقلت :
    -عجباً ! . كيف يتقاتل الناس بهذه السرعة .
    ردّ علي شاب يجلس قربي قائلاً :
    -أرجو أن لا تنطلي عليك الحيلة .
    -ما قصدك ؟
    -سوف ترى بعد قليل .
    ولم تمض إلا دقائق حتى عاد كل إلى مكانه ، وانصرف المتشاجران من القهوة ، وفجأة وقف رجل وقال بلهجة ارتياب :
    -يا ناس لقد فقدت محفظتي .
    نظر إليّ الشاب وقال :
    -ألم أقل ذلك ؟
    تملكني حزن لا يطاق وقلت :
    -هكذا إذن ، ما جدوى الكلام ؟ .
    هرعت إلى الشارع شاحب الوجه ، مذعوراً غاضباً ، ورحت أبحث في خلايا عقلي لأجد الأسباب ، وقلت لنفسي : ( ابعد عن الشر ، وغَنِّ له ) .
    سرت في الشارع تجاوزت دور السينما ، تذكرت فيلم " اسبارتاكوس " عرفت أن الحياة قاسية بلا رحمة ، شعرت بالجوع ، أسرعت إلى بائع المناقيش ، ابتعت واحدة مع عبّوة مرطبات التهمتها بسرعة ، ومالت الشمس إلى الغروب ، وأصبح المكان مغموراً بضوء أحمر مرتعش ، يممت وجهي شطر فندق " بلميرا " الذي يتوسد ساحة البرج بهدوء ، صعدت درجات السلم وما إن أصبحت في منتصف السلم، حتى فوجئت بفتاة تنزلق ، فأسرعت ، وقبضت على إبطها بحزم ، ولم أدرِ كيف لامس شعرها وجهي ، شممت منه رائحة عطر ياسمين الشام ، شعرت بالخجل وقالت :
    -الشكر لك .
    -عفواً .
    كانت وسيمة ذات عينين جفلتين ، وفودين عريضين ، نظرتها عميقة لا تنسى، فيها رقة لا تخفى ، جعلتني أحس برعشة تسري إلى أنحاء جسدي ، احمرّ وجهي لها خجلا ، فأسرعت إلى عامل الفندق ، كان مشغولاً في حديث على الهاتف ، ما إن وضع السماعة في مكانها حتى قلت :
    -مساء الخير .
    -أهلا .
    -أأجد عندكم منامة ؟
    -نعم ..
    ناولته بطاقتي الشخصية ، دوّن المعلومات ، وقال :
    -سبع ليرات في الليلة .
    -لا عليك .
    -كم يوم ستنزل عندنا ؟
    -ثلاثة أيام . ( و أنقدته المبلغ سلفاً )
    -تفضل اجلس .
    جلست قبالته على المقعد بتراخٍ ، هبت نسمات دافئة تبعث على السرور ، حركت مشاعري ، كان عامل الفندق وسيما ، رفيع التهذيب ، حدثني بوقار وسألني :
    -الأخ من حمص ؟
    -نعم
    -إذن سأسألك عن آخر نكته حمصية .
    ابتسمت :
    -ما هو المقابل ؟
    -سرير نظيف في غرفة مرتبة أيضاً .
    -موافق .
    -تفضل .
    في أثناء ذلك ضغط على كبسة الجرس ، ورحت أسترجع ذاكرتي علّني أتذكر أي نكتة ، ولو كانت النكتة قديمة بعض الشيء ، لا فرق . ورغم ذلك لم أستطع أن أعبر عن مدى سعادتي لأنني حظيت بأحد الشباب ربما اتخذته صديقاً في مدينة لا أعرف عنها شيئاً ، منذ فترة وجيزة كنت أفكر كيف سأقضي الليل دون سمير ، فجأة دخلت فتاة هادئة طيبة ، ذات نظرة وديعة ناعمة ، وابتسامة طيبة ترتسم على وجهها ، وضعت صينية القهوة أمامنا على الطاولة ، وانصرفت إلى شأنها قدم الشاب فنجانا وقال :
    -تفضل .
    -شكراً .
    أشعلت لفافة تبغ ، وارتشفت القهوة من فنجانه ، ومججّت نفساً عميقاً تصاعد الدخان في حلقات فضية ، أعادتني إلى بحيرة الملح ، حدّقت في وجه الشاب ملياً . وقلت :
    -ما رأيك أن نؤجل النكتة إلى غد ؟
    -لماذا ؟ هل تشكو تعباً ؟
    -لا .. أبداً .
    -حسناً ، إذن هات ما عندك .
    سمعت صرير الباب في الغرفة المقابلة ، طلّت منه فتاة السلم ، كانت ترهف السمع ، منذ دقائق إلى حديثنا ، تحركت مشاعري ، ما برحت صورتها من مخيلتي ، وجهها كرغيف تنوري أخرجته فلاحة من بحيرة الملح لتوها ، عيناها يمامتان في كوّتين تطلّلان من قبة تطل على شجيرات الشيح عند الشروق ، اختزنت في ذاكرتي كل الصور ، ذكرتني " بوردة " لم أدر كيف حلقت بأجنحتي في سماء البحيرة ، غرقت في الحلم وقلت لنفسي :
    -بيروت رائعة وساحرة أيضاً .
    هزّ الشاب رأسه في هيئة من يفكر ، فأدرك ما يدور بخلدي . فقال :
    -إيه يا صاح .
    -بكل سرور سأقص عليك ما تريد .
    -أسرع قبل أن يدركنا الوقت .
    -ذات يوم مطير ، ذهب رجل من حمص إلى حماة ...
    هزّ الشاب رأسه :
    -نعــم ...
    -و طيل الطريق لم تفارق الابتسامة وجهه ، وهو يحلم إنه سوف يحقق أمانيه التي انتظرها طيلة أيام الصيف ...
    -حسناً .
    -ورغم الصقيع الذي لسع جلده ، غمره دفء لطيف ، وتأكد أنه لا محال سوف يمتطي أكتاف رجل ٍمن حماة ، ما إن توقفت الحافلة ، حتى انزلق من جوفها، وهرع إلى رجل ينقل الناس من رصيف إلى آخر ، وقبل أن يلقي تحية الصباح طلب من الرجل أن ينقله إلى الرصيف المقابل ، لبّى الرجل الطلب وهناك طلب أن يعود به إلى حيث جاء ، وكرر الطلب عشر مرات .
    فاستاء منه الرجل وقال :
    - أمرك عجيب يا أخ ما وراءك ؟
    ضحك الرجل الحمصي بافراط وقال :
    - جئت من حمص خصيصاً إلى حماة كي أركب على أكتاف رجل حموي . والآن أنا في غاية السرور .
    هزّ الرجل رأسه وقال :
    -لا يا صاح ، ستعود( بخفّي حنين )
    -لماذا ؟
    -عليك أن تكتم السر لأنني حمصي
    ضحك الشاب ملء شدقيه ، لم يستطع أن يعبر عن شعوره المفاجىء ، وقبض على يديّ وقال :
    -يا صاح ، أنا من الحاضر .
    نظرت في وجهه لأرى الجد في كلامه ، وسألته :
    -حقاً ؟
    -نعم ، أعمل هنا وأدرس الحقوق ، وترفعت إلى السنة الرابعة .
    وبقي صامتاً كأن النكتة أثارت في نفسه نوعاً من ذبذبات امتدت حتى النواعير ، نهض وأشار لي أن أتبعه ، ولج غرفة تحتوي على سرير ، وقبل أن يمضي إلى داره استأذنني قائلاً :
    -ينتهي الدوام في الساعة السابعة .
    -دعنا نسهر معاً .
    -يجب أن أحضّر بعض الدروس .
    -إذن ستذهب ؟ .
    -وداعاً على أمل اللقاء .
    وحين انصرف إلى شأنه ، جلست على حافة السرير ، هاجمني الحنين إلى بحيرة الملح ، وأخذت أمسح بناظري الجدران الضبابية ، استلقيت على الفراش ، حاولت النوم ، لكن دون جدوى ، لم يجد النوم إلى عيني سبيلاً ، نهضت دونما ضجيج ، وقفت إلى النافذة ، ثمة أزقة ضيقة ، ترسل حجرتها أضواءً كابية ، وثمة أناس يدخلونها وأصحابهم لدقائق ويخرجون ، خمنت أن هناك متوفياً وليس هؤلاء الناس سوى معارفه وأصحابه يعزّون ذويه حسب تقاليد بحيرة الملح .
    جلست أفكر باهتمام من يكون صاحب المقام ، فقلت لنفسي ( لعله من الأثرياء ) وفجأة تذكرت قول أحدهم :
    ( تعريص الغني ، وموت الفقير والعكس أيضاً ) .
    حدّقت في الأزقة وقع بصري على امرأة شبه عارية ، تسمرت أمام هذا المنظر، وغضضت طرفي ، وشعرت أن عيون أهل البحيرة ترقبني ، وارتسمت أمام ناظري نساء بحيرة الملح وهنّ يستخرجن الملح الأجاج من البحيرة ، في مثل هذه الأوقات كنت أجلس قرب الطريق المعبد الذي يربط عروس الصحراء تدمر بمدينة حمص، فجأة انكفأت إلى السرير هرباً من أعين تخيلت أنها ترقبني ، سمعت صدى صوت :
    -خسارة فيك ملح البحيرة .
    عرفته صوت جدّي فقلت :
    -لم أفعل شيئاً .
    -يا للعنة الجحيم .
    -مجرد مصادفة قسماً .
    تخيلت وجه جدتي ، انتابني خوف شديد ، حاولت أن أغمض عيني وسلكت جميع المسالك ، أطفأت النور ، وضعت الوسادة على وجهي ، ارتسمت أمام ناظري صور في العتمة . قلت :
    -اللعنة ، إنها صور الأقانيم الثلاثة .
    وحين غيبني النوم راودتني جدتي ، ترتدي غلالة تدمرية تحوي رسومات طيور القطا وشجيرات الشيح ، حدقت إليّ ، أحسست بالخوف ، حين لوحت بقضيب الرمان ، كنت قد عرفت طعمه مسبقاً حين قالت أمّ شحود لجدتي :
    -زوجوا هذا القرد ..
    وفجأة أخذت جدتي تهش على الماشية ، هرع خاروف صغير وقفز على ظهر إحدى النعاج ، هوت جدتي بالعود على ظهره . وقالت :
    -أبعد عن النعجة ما زلت صغيراً يا مقروف العمر .
    فجأة نظرت إلى وجهي ، وهوت بالعود على جسدي ، بادلتها النظرات مستفسراً إلا أنها صرخت :
    -وأنت تلصلص على العاريات .
    ارتعشت غير واثق من قولها ، وتمنيت لو كنت مع " وردة " ربما أتخلص من توتري الشديد ، لكنني هربت من أمام جدتي واتجهت إلى أطراف بحيرة الملح ، فجأة وجدت نفسي في بستان الجغمير ، وسمعت تأوهات زوجة " فدعان " حاولت أن أعود أدراجي . إذ تبادر إلى سمعي صوت الأستاذ جميل :
    -لا تخافهم .
    -لا .. المصادفة السابقة كانت ستودي بحياتي .
    -اليوم غير الماضي .
    نظرت إلى مصدر الصوت ، تجمد ما يجول في خاطري ، لم أدر كيف انتفضت ، وقذفت الوسادة فارتطمت بباب الغرفة فاستيقظت على عجل تلفت يميناً وشمالاً ، وفركت عينيّ وقلت : ( إنه حلم ليس إلا ) .
    تنهدت من أعماقي ، احتفظت بالصمت ، مشيت بتؤدة صوب الباب تناولت الوسادة ، نظرت من خلال فتحة القفل وقع بصري على فتاة السلم ، كانت تحدق في جريدة ، تضع رجلاً فوق رجل ، أدهشني فقع بياض الفخذين ، وأزال اليأس المكتوب على وجهي ، وأخذت أفكر بطريقة أن أخرج إليها ، ترددت في بادئ الأمر ، لكنني لم أستطع كبح جماح نفسي ، فقلت لذاتي :
    ( علّها تدعوني إلى الجلوس معها ، وربما نشرب القهوة معاً وربما تبوح عيناها بابتسامة ) .
    أجاب النقيض في داخلي :
    -دعك من هذه الترهات .
    -لا .. ستقوم بالواجب رداً للجميل . وهل قليل الذي قدمته لها ، لولا أن أقوم بالواجب الإنساني ، لكانت في المشفى الآن .
    عشت التردد في هذه اللحظات ، فأدركت أن الإنسان بحاجة إلى عاطفة ، وإن الحياة دون عاطفة " جافة " بقيت لدقائق صامتاً لم أحر جواباً ، وهززت رأسي في هيئة من يفكر ، وفجأة سألت نفسي :
    -ربما لن تعتبرني شيئاً .
    وبعد جدل طويل مع ذاتي ، أحسست أن هذه المصادفة مصدرٌ لأزمة جديدة في حياتي ، وتخبطت وسط طقوس اخترعها المجتمع . فقلت لنفسي :
    ( التفاؤل أفضل من التشاؤم ) .
    استجمعت كل قواي ، فتحت باب الحجرة بحذر ، قصدت الحمّام ، سعلت عدة سعلات ، أبغي لفت انتباه فتاة السلم وقلت :
    -المعذرة سيدتي .. أشعر بالزكام ..
    رفعت بصرها عن الجريدة ، وعدّلت جلستها ، وبادلتني النظرات ، دبت الحرارة في جسدي ، واتجهت نحو الحمّام بخطوات هادئة ، أدارت عينيها الكبيرتين الشاردتين فأصابت أعشار قلبي ، وانتعش صدري بالأمل حين قالت بلهجة ارتياب :
    -ليلتك سعيدة .
    -وليلتك أيضاً .
    وعادت تنظر إلى جريدتها من جديد ، شعرت بحيرة شلّت لساني فقلت لنفسي :
    -صدق حدسي . أنها لم تعتبرني شيئاً ، ولن تقيم لي وزناً .
    وقفت أمام المرآة ، تفرست وجهي تذكرت جدتي حين قالت :
    -ما زلت صغيراً أيها الخروف .
    غسلت وجهي ورطبت شعري ، قفلت أدراجي ، وكظمت غيظي . في أثناء ذلك نظرة إلى وجهي :
    -تعال لنشرب قهوة .
    أجبت بلهجة ارتياب :
    -أشكر دعوتك سيدتي .
    -تفضل ، اجلس .
    أجهدت نفسي كي أعود إلى طبيعتي ، وهي تسكب القهوة في الفنجان ، ورحت أصغي باهتمام كبير إلى حديثها ، حين قالت :
    -آسفة لما حصل .. آه ما أجمل المصادفة ! …
    -قد تكونين على حق يا سيدتي .
    -لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى سعادتي .
    -لم أفعل سوى الواجب .
    -حضرتك من أي بلد ؟ .
    -من قرية بحيرة الملح محافظة حمص .
    اندهشت ، ولاحت بسمة على ثغرها ، ودست يدها في الحقيبة ، أخرجت ألبوماً ، قلبت صفحاته ، تناولت صورة وقالت :
    -أتعرف هذا المشهد ؟
    قلت :
    -نعم قريتي بحيرة الملح . من أين لك ؟ ! ..
    -كنت عائدة من تدمر ، حين التقطت بعين العدسة هذه الصورة .
    ثم أخرجت صورة عرفتها قلعة حمص تطل على البيوت الحجرية ، فبدت كغانية فرنسية تستحم بخضيب الشمس ، تذكرت أميرها ابن " حمدان " فرددت مقطعاً من قصيدته :
    ( أراك عصيّ الدمع
    شيمتك الصبر
    أما للهوى نهي
    عليك ولا أمر ) .
    لم أستطع أن أعبر عن مشاعري بأية كلمات ، ووجدتني راحلاً إلى ملعب طفولتي حيث انزلقت إلى أحضان البحيرة ، وذات يوم شاهدت قطاة مكسورة الجناح تجوب بساطاً أبيض يعكس شمس أيار اندفعت صوبها وفجأة غاصت قدماي في اللجة ، ورغم محاولاتي لم أستطع الخروج ، حتى تأكدت إني سوف ألقى حتفي ولا أحد يعرف مصيري ، وفجأة غصت في اللجة ولم يبق سوى رأسي وجلبابي الذي بدا كشراع ، ولم أدر من أين جاءت " وردة " وأنقذتني من موت محتم ، ومن ذاك التاريخ لم أعد أسمع عنها أي خبر في بحيرة الملح . وحين عدت إلى حالتي الطبيعية قالت :
    -إياك الاقتراب من البحيرة يا حمدان .
    -القطاة هي السبب .
    -البحيرة ابتلعت العديد من الأطفال .
    فجأة سألتني فتاة السلم :
    -إيه أين شردت ؟
    -لاشيء ... لا شيء ..
    أدارت مفتاح المذياع انداح صوت فيروز :
    ( أنا يا عصفورة الشجن
    مثل عينيك بلا وطن
    واغترابٌ بي وبي فرحٌ
    كارتحال البحر بالسفن ) .
    في أثناء ذلك شعرت بأفكار مستفيضة تحتل مساحة الدماغ ، وبدت بحيرة الملح أيقونة للصلاة ، طافت في رأسي عشرات حكايات ، بحت لفتاة السلم بما ينوء به صدري ، وتذكرت " وردة " بدا وجهها وجهاً " فينيقياً " كاد يغيب في الزحام . فقلت:
    -رجعت بي إلى أيام خلت !! .
    -حقاً ؟ .
    -ما مهنتك ؟
    -مهندسة آثار . شامية المنبت ، ألديك فكرة عن بيروت .
    -لا .. علماً أن جدتي من عكار .
    -أ تمكث طويلاً في الفندق ؟
    -ثلاثة أيام .
    -وبعد .. أين ستذهب ؟ .
    -لن أستبق الأمور .
    انتهت جلستنا ، وانصرف كل منا إلى حجرته ، لفتني الحيرة ، ولا أدري أين طرحني الصمت ، تفتحت زهرة الحلم في داخلي ، تلهفت إلى ظباء الصحراء ، وجعلني شوقي أرزح تحت وطأة التوغل في الماضي ، وأنا ألعب مع " وردة " بين شجيرات الشيح . راودتني أحاسيس عجيبة ، وقبل أن أنسّل تحت الفراش شنفت أذني كلمات :
    (أقول لجارتي
    ألا جئت نسهر
    فعندي تين
    ولوز وسكر
    فصّلي فأنت وحيدة
    وإن الصلاة
    تخلي انتظارك أقصر ) .
    حين غالبني النعاس ، راودتني زوجة " الجغمير " ، رأيت وجهها النحيل ، وعيناها تنمّان عن ذكاء حاد تجادلت مع زوجها بكلمات لم أفهمها : لكنها صرخت :
    -حرام عليك .
    -اللعنة عليك ، الشرش دساس .
    -هكذا علّمتك هند .
    -دعي هند وشأنها ...
    -لا تقل ، أزعجك اسمها ! .
    -سوف أريك جهنم .
    -في أثناء ذلك تدخل قائد المخفر علّه يحل المشكلة بينهما فقال :
    -لا تزعج نفسك .
    -كيف ذلك والطاعون في داري ؟ !
    أرغى الجغمير وأزبد ردت عليه زوجه :
    -مهما فعلت لن أخافك ، إن لم تبعد عن هند زوجة فدعان .
    -أنت طالق ، طالق ، طالق .
    قال حنوف :
    -أنت سبب البلى .
    سمعت طنين نحلة . فقلت لنفسي :
    -لا عليك يا نحلتي،ارحلي لك الزهر والشيح على أطراف البحيرة ، ( والمجد لمملكة النحل ) ، سأعود مع إطلالة الفجر ، أنت دموع فرحي .
    خفقت النحلة بجناحيها ، قائلة :
    -لن أدعك سأبقى بجانبك .
    قلت لها :
    -أنت أجمل أبجدية عرفتها البشرية .
    أيقظني صوت المدينة ، ورغم الحلم المؤلم ، انسل إلى قلبي فرح راعش ، وارتسم أمام ناظري طيف " وردة " ترتدي غلالة عليها صور حاكورة أمّ شحود ، أخذني الحنين إلى بحيرة الملح حيث الشمس تغتسل بمائها ، بغية أن تزيل الوسن عن أهدابها الخضيبة ، ضقت ذرعاً ، خرجت إلى صالون الفندق ، جلست قرب الطاولة ، أخذت فنجاناً من القهوة ، أشعلت لفافة ، تواثب الدخان كعصافير الدوري ، ورحت أرتشف القهوة بشراهة قل نظيرها ، دون أن أشعر بحرارتها ، وأنا على أمل عودة فتاة السلم ، تخيلتها في ثوب العرس يعمر رأسها تاج يحوي كافة أصناف الورد ، مثل تاج صاحب الجلجلة تحط على حوافه نحلة نشيطة . تمطّت الدقائق ولم تعد ضالتي ، سألت نفسي :
    -هل رحلت قبل أن أصحو ؟ ! . لكن ما زال الوقت باكراً ، أو لعلّها تحلم أن فارساً خطفها على صهوة صافن ، بغية أن تجوب الأوابد .
    قطع عامل الفندق الحوار مع الذات :
    -هل من خدمة يا أخ ؟
    -لا .. لك الشكر .
    وعدت اسأل ذاتي :
    -ربما امتطت قارباً تضيئه شعلة بغية أن تجوب عباب البحر .
    نظرت إلى ساعة الجدار ، تجاوزت العقارب العاشرة ، وراحت العصافير ترتل صلوات الصباح فقلت :
    -سألتقي بها مساءً .
    دونما تخطيط وجدت نفسي في ساحة البرج ، سرت بحذر على الرصيف ، وأنا أتأمل اللوحات التي كتبت بأحرف أعجمية ، وبما أنني لم أدرس اللغات الأعجمية ، شعرت أنني لم أستفد أي معلومة ، لكنني شعرت أن المرء مع الزمن يتعلم كل شيء ، فجأة كنت أقف أمام دار سينما ، تأملت الرسوم ، تذكرت سينما العباسية في دمشق ، قطعت تذكرة جاءني صوت : ( بدأ عرض الفيلم ) .
    دخلت إلى الصالة ، أطفئت الأنوار ، أخذت أتلمس طريقي إلى مقعد فارغ بخطوات حذرة ، وحين عثرت على مقعد جلست بهدوء ، وأخذت أتابع الفيلم ، وراحت تتوارد صور لنساء عاريات وشباب أيضاً . هذه المشاهد أعادتني إلى بستان " الجغمير " وفحيحه على صدر هند ، عرفت ذلك بوساطة حاسة السمع ، والآن أرى المشاهد بالعين المجردة ، في هذه اللحظات غصت في المقعد ، لأنني شعرت أنني مراقب من آلاف عيون بحيرة الملح ، خفضت بصري خائفاً ، بدا لي ذلك في منتهى الغرابة . فجأة شعرت بيد تحطّ على فخذي الأيمن في اللحظات التي كنت أهيىء نفسي لمغادرة صالة السينما ، لأن المشاهد أثارت غريزتي الجنسية ، شممت رائحة عطر امرأة لعوب ، ولم أكن أعرف من العطور سوى رائحة الشيح ورطوبة البحيرة ، ولم يكن لدي أية فكرة عن عطر فرنسي والمساحيق ،في أثناء ذلك ارتعشت خوفاً على حافظة النقود ، قبضت على اليد الناعمة بحزم وقلت :
    -ما وراءك ؟
    -هل أعجبك المشهد ؟
    -دخلت هنا عن غير قصد .
    -ما المانع ؟
    -صبراً ، صبراً ..
    ذكرتني بجدتي حين قالت :
    -ما زلت صغيراً .
    وأردفت قائلاً :
    -يومذاك نجوت من موت محتم . اللعنة على حنوف والجغمير .
    كان يبدو عليها الهدوء والانشراح فقالت :
    -هنا كل شيء مباح .
    -علام ؟
    -كل الزناة يمارسون دورهم .
    -لم أفهم قصدك ؟ .
    -ما زلت غرّاً
    -فسري الأمر كما تشائين ، أنا لست غرّاً .
    -ما هي أفلامك المفضلة ؟
    -أحب فيلم اسبارتاكوس .
    قالت مندهشة :
    - لم أسمع بهذا الفيلم .
    وجدت نفسي حائراً لا أدري ما العمل ، حاولت أن أعود إلى الماضي ، تذكرت أن صوتها يشبه صوت هند ، بخلاف رائحة الشيح ، أشعلت لفافة ، وقدمت لي أخرى، رأيت وجهها الجميل ، تأجج اللهيب في أحشائي ، غرقت في المبهم ، شعرت قلقاً حين شممت عطرها ، فقالت :
    -ما عملك ؟
    -لا شيء .
    -لماذا ؟
    -لم أبحث عن عمل بعد .
    -ما رأيك ؟.. العمل لدينا سهل . الرد على المكالمات الهاتفية .
    -ماذا هاتف ، لا أعرفه ؟
    -ألم تعرف الأرقام ؟
    -العربية فقط .
    -إذن هيا بنا .
    سادت لحظات كنت أسمع فيها النحل ، أحسست أنها تريد أن تفوه بأمور كثيرة ، وفكرت أن أفضي بجلبة الأمر ، لكنني تراجعت لأني لا أملك الجرأة ، وهيأت نفسي للخروج ، اجتزنا الفناء ، وحين انعطفنا إلى زقاق ضيق ، وقع بصري على رجل يترنح ، تذكرت ما رأيته ليلة أمس ، ومن أجل أن أخرج من دوامة الغموض ، قلت :
    -يا سيدتي ، ليلة أمس رأيت العجب .
    -أين ؟
    أشرت بإصبعي إلى الحجرات في الأزقة .
    -إن صاحب الجنازة ذو شأن كبير . رأيت عشرات الناس يدخلون تلك الحجرة .
    -أين كنت ؟
    -في فندق بلميرا .
    نظرت إليّ بمؤخرة عينيها وقالت :
    -ما خاب ظني فيك .
    -عفواً ما قصدك ؟
    -أنه المحل العمومي .
    هززت رأسي متفهماً وقلت :
    -أتقصدين أنه رئيس التجار ؟
    وحين وصلنا إلى سيارة فارهة ، فتحت الباب وجلست خلف المقود ، ثم فتحت الباب الآخر وقالت :
    -تفضل .
    حشرت نفسي في المقعد ، انطلقت السيارة تجوب الشوارع ، وحين عبرنا الفندق قلت :
    -بت ليلة أمس ، في هذا الفندق .
    -لا داعي للعودة إلى الفندق .
    -لكنني دفعت أجرة ثلاث ليالٍ .
    -مبلغ بسيط ، تسترده فيما بعد .
    هزت رأسها ، وقالت :
    -المحل العمومي ، تبيع النساء فيه أجسادها .
    -فهمت .
    خفق قلبي ، لم أتجرأ على القول إنني لم أفهم قصدها ، ووجدت نفسي عاجزاً عن الإجابة ، تبادلنا النظرات بدهشة ، وأنا أستنشق رائحة عطرها ، وأغرب ما في الأمر راودتني أفكار من ضباب ، فسألتها :
    -آه .. ما أجمل هذه المنطقة .
    -إنها منطقة فردان .. وصلنا بسلام .
    طالعنا البحر الذي أثار شجوني ، كان الهواء يختلط برائحة الملح ، ذكرني صخب الموج ، بصدى بحيرة الملح ورجع خطا " وردة " وطرقت سمعي تأوهات هند حين قام الجغمير على صدرها رحلة مجنونة ، نهشت الذكريات قلبي ، وفجأة انعطفت السيارة ووقفت أمام بناية شامخة . ترجلت من السيارة وقالت :
    -تفضل ..
    ثم أسرعت وفتحت المكتب ، جلسنا معاً بعد أن فتحت النافذة على مصراعيها ، بدا لي جمال المكتب في منتهى الغرابة ، فجأة دخلت فتاة وقالت بلطف :
    -هل أعد الطعام سيدتي .
    -أجل .
    حين وقع بصري على طرف الفتاة الكحيل ، أربد وجهي وأنبأتني الذاكرة أن هذه الفتاة ليست غريبة عني ، وحين انصرفت سألت :
    -الفتاة ابنتك ؟
    -لا .. إنها ماري .
    لم تمض إلا دقائق حتى دعتني إلى البيت في الطابق الثاني سرت خلفها دون أن أتفوه بكلمة ، ولجنا الشقة ، وجلسنا في حجرة تطل على البحر ، مسحت بناظري البحر الذي يحوي عشرات السفن والزوارق الشراعية ، ذكرني طائر النورس بطيور القطا وبحيرة الملح وتذكرت درس الجغرافيا ، حين قال الأستاذ جميل :
    -إن البحار تحوي عالماً كبيراً .
    ورحت أردد في ذاتي :
    -بحيرة طيور القطا ، وردة .
    دخلت ماري علينا وقالت :
    -الطعام سيدتي .
    -حسناً .
    ثم نظرت إلى وجهي وقالت :
    -إنها ماري .
    -تشرفنا .
    أبحرت في وجه ماري فهيئ لي أني أعرفه ، لا أدري كيف رجعت إلى أيام الطفولة ، وتذكرت " وردة " حين قفل الذئب نابه على فخذها الأيسر ، حين كانت تبحث عن والدتها بين شجيرات الشيح ، حيث كانت أمها تجمع ما تيسر لها من الملح بغية أن تقايضه في بعض الحاجات من دكان " الجغمير " وأغرب ما في الأمر حين قالت أمّ شحود لجدتي :
    -قلب أم وردة من حجر .
    -كفى الله الشر .
    -سمعت أنها باعت وردة لأحد خواجات لبنان .
    ردّت جدتي :
    -يا حسرتي الجوع كافر ، حين سافر زوجها إلى الكويت تركها على أبواب الولادة . ولم تملك أي شيء ، سوى قوة جهدها ، بغية أن تصرف على ابنتها وردة ، حتى خطفها حفيد الجغمير إلى داره ، وكان زفافها على ظهر البغل ، قبل أن تطلق من زوجها . وقد ارتكب حفيد الجغمير الحرام .
    أجابتها أمّ شحود :
    -إذا هجر الزوج زوجته ثلاثة أشهر دون رضاها تعتبر طالقاً بحكم الشرع هكذا قال الشيخ فدعان .
    قالت جدتي :
    -الله يقصف عمره من بين المشايخ ، أنسيت كيف استولى على حاكورتكم بشعوذته ؟! .
    -كيف أنساها وهي من تركة المرحوم ، وكيف أنسى زوجه التي تغيب عن البحيرة ، وتعود حاملة ومحملة ، وفي آخر مشوار لها ، قيل أنها لم تعد ولا أحد يعرف عنها شيئاً .
    في تلك اللحظات انصرفنا إلى غرفة الطعام ، وهناك عبقت رائحة الطعام اللذيذ في أنفي ، لكن لم أكن قد تناولت الطعام بالشوكة سابقاً ، لذا انتظرت حتى بدأت " أديل" بالتقاط شرائح اللحمة بالشوكة ، فأخذت أقلدها ، حيث كنت أفشل أحياناً ، وحاولت أن لا أثير انتباهها ، لذلك كففت عن الطعام ، قبل أن أملأ معدتي ، ورغم ذلك سألتني :
    -جميل أنك تعرف استعمال الشوكة ! .
    لا أدري كيف قلت :
    -الفضل للجني الأصفر .
    -حسناً أتعرفه ؟
    قالت جدتي :
    -انه خادم لفدعان .
    حين وقع اسم فدعان على سمعها ، بدا تغير على سحنتها ، ارتبكت بعض الشيء ، لكنها استدركت الأمر ، نادت على ماري :
    -أين المشروب ؟
    -على الطاولة .
    ربتت أديل على كتفي ، وأشارت أن أتبعها ، جلست لصق الطاولة ، وحين انصرفت أديل إلى غرفة نومها ، انتهزت الفرصة وبسرعة ملأت كأسها من مشروب الويسكي مع قليل من المرطبات ، ثم ملأت كأسي بالعكس ، وحين عادت ترتدي ثوباً شفافاً ، جلست قبالتي ، وقبل أن تأتي بأي حركة ، دفعت الكأس الأول إليها ، تناولته بأصابع ولا أجمل ، وفجأة رفعت الكأس وقالت :
    -كأس المحبة .
    ولم ترفع الكأس عن فمها حتى جاءت على آخره ، فبادلتها ، أن ارتشفت قليلاً من المشروب وقلت :
    -نخبــك .
    أشعلت لفافة تبغ ، ثم قدمتها لي ، أزلت بأصابعي بقايا أحمر الشفاه عن الفلتر ، وتناولت زجاجة الويسكي ، وغبت منها كمية كبيرة ، ثم مجّت الدخان ، تواثب الدخان حلقات دائرية ، كالقباب التي تطوق البحيرة ، وأخذت تغب الويسكي بشراهة كأنها تبغي أن تغيب عن الوجود ، ولم تمض إلا دقائق حتى أسرعت وفتحت النافذة على مصراعيها ، كان الهواء يختلط بزميم النورس ، وعادت إلى مكانها ووضعت رجلاً فوق رجل ، أخفضت بصري ، فما هي إلا ثوانٍ ، حتى هوت عن الكرسي ، فصدق حدسي ، وبلا شعور راحت تبوح بمكنونها ، فأدركت بوضوح ، كل شيء عن حياتها ، أحسست بالخوف وشعرت بأنني مراقب من آلاف العيون ، فهيأت نفسي لكافة الأمور ، أمعنت النظر فيها ، ورجعت بالذاكرة إلى أيام خلت ، حين دخلت إلى بستان الجغمير ، وأخذت أقارن بين بوحها اليوم ، والتساؤلات يومذاك ، وفجأة رددت عبارات لم أفهم منها إلا :
    -بحيرة طيور القطا ، جراد الأرض .
    وجدت نفسي أسأل :
    -من أنت ؟
    - مدام الخواجة .
    -أين هو ؟
    -في أوربا ، يحيك السياسات مع بعضهم .
    -والحكومة ؟..
    - لا أدري ، لكنه مصطحباً نساء جميلات من أمثال إيفا ، يعرضهنّ على أصحاب الأموال ، والحق يقال إنهن يجدن فنون التعامل مع أصحاب الشأن ، ويجب أن أكون صادقة ، أن أهل النفط يدفعون إليهن الأموال بسخاء منقطع النظير ، وجل هذه الأموال تعود بطريقة ما إلى منظمات يهودية .
    -وأنت ما دورك ؟
    -لم أعرف هذه الأمور مسبقاً .
    -والآن؟
    -اللعنة عليه سأتركه ، أرجوك ...
    في هذه اللحظات أغمضت عيناها ، وغطت في النوم ، ومع اللهوسة ، وجدت نفسي عاجزاً أن أفعل شيئاً ، تلفت حولي ، فكرت في الأمر ، قفزت الفكرة إلى ذهني ، حشدت كل جرأتي ، ودخلت غرفة " ماري " أشعلت النور ، كانت نائمة في سريرها ، تسمرت في مكاني لدقائق أعيش التردد ، تأملت وجهها ، أحسست أن شيئاً يشدني إليها ، وبفضول كبير رفعت عنها الشرشف ، رأيت سلسلة فضية تنتهي إلى قطعة اسطوانية ، حب الفضول دفعني أن أقرأ التعويذة ، عشت التردد للحظات ، وفجأة وجدت نفسي أفتح الحجاب ، قرأت عباراته ، هززت رأسي وقلت لنفسي :
    -إنها عبارات فدعان أحفظها عن ظهر قلب .
    اعتراني الخوف ، وأنا أستحضر بحيرة الملح ، تذكرت أن " وردة " تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل فدعان وتركت أظافره علامة في فخذها الأيسر ، وبقدرة قادر ، استطاع فدعان أن ينسب العلامة إلى ذئب مفترس ، ودفع حنوفاً أن ينشر الخبر بين أهل بحيرة الملح ، سادت لحظات كنت أسمع فيها النحل وهديل القطا، وأشم رائحة الشيح ، وقفت لصق السرير ، كانت " وردة " تعاني من كوابيس رهيبة ، شعرت بعطف كبير عليها ، حين حسرت ثوبها ورأيت العلامة في فخذها الأيسر ، قلت لنفسي : ( حقاً يا وردة ) ؟ ! ..
    كادت الدموع تطفر من عيني ، لكن سرعان ما خرجت ، وأغلقت الغرفة بهدوء ، ثم طرقت بابها بلطف ، خشية أن لا أخيفها ، فاستيقظت من نومها ، ومن خلف الباب قالت :
    -ماذا تريد ؟
    -لا تخافي يا وردة ، عفواً يا ماري .
    هكذا استدركت الأمر .
    وهي تداعب شعرها الأسود بأصابعها قالت :
    -كيف تطرق الباب في هذا الوقت ؟
    وانسحبت إلى سريرها ، خفضت بصري خائفاً ، لم يكن لدي متسع من الوقت ، فقلت :
    -أديل ، يا ماري .
    -ما حصل لها ؟
    -لا أدري ، لكنها أفرطت بالشراب .
    -غير ممكن ! .
    -هذا الذي حصل .
    -ما فعلت بها ؟
    -لم أفعل شيئاً .
    -من أنت ؟
    -هيا بنا لا وقت للتساؤلات الآن .
    أسرعت ماري وحضنت أديلاً ، وساعدتها على نقلها إلى فراشها ، وضعت عليها شرشفاً ، وأخذت تضرب على صدرها ، وبكت دموعاً غزيرة جعلتني أشعر بتأنيب الضمير ، بادلتني النظرات دون أن تفوه بكلمة ، وأغرب ما في الأمر ، أنَّ كل شيء بدأ بالمصادفة ، خفضت بصري خائفاً وقلت .
    -أرجوك يا وردة بل يا ماري لا علاقة لي بالذي حصل .
    اعتراها الخوف ، وتغيرت ملامحها حين لفظت كلمة وردة ، انكسرت عيناها إلى الأرض ، وكيلا ترتاب قلت لها :
    -أنا من حمص .
    -ماذا تفعل هنا ؟
    -مجرد ضيف لا أكثر .
    -لم أكن أتوقع هذه المصادفة .
    -أي مصادفة ؟
    -لا شيء ، لا شيء .
    -أنت بحاجة للراحة .
    -أي راحة تقصد وأديل على هذه الحال ؟ ! .. سأبقى بجانبها حتى الصباح ، ربما أرد لها جزءاً من الجميل ، لقد أعطتني أكثر من أهلي .
    تداعت ذكريات الماضي ، وغدا كل شيء ألماً وحسرة ، وأشباح خرساء ، تتهادى أمامي ، اجتزت الأقاليم ، ومضيت إلى أحضان الشام ، تراءى إليَّ جابر بهدوء في أحضان الفندق ، وحين فرغ صبره قال لنفسه :
    -أكيد عاد حمدان إلى داره .
    وقفت لصق نافذة مطلة على البحر ، وقع بصري على نجوم تتوسد لجج الليل ، سادت لحظات صمت كنت أسمع فيها تلاطم أمواج البحر ، ذكرتني بفتاة الفندق ، شعرت بالشوق إليها ، وأحسست بها تجلس في الصالون تنتظر أوبتي بفارغ الصبر ، ولعلها سألت عامل الفندق ، الذي قد يكون فقدني أيضاً .
    تمطت الدقائق وما زالت أديل تهلوس ، وقد ندمت لأنني كنت السبب ، فيما كانت ماري تختلس النظر بمؤخرة طرفها إلى وجهي ، وفي داخلها أتونٌ ، تدور في تجاعيد مخها عشرات الأسئلة ، رغم أنها لا تستطيع البوح بكل ما ينوء به صدرها وفجأة وجدتني مسمراً أمام تساؤلاتها :
    -أين أهلك يا ماري ؟
    -في سورية .
    -من أي بلد ؟
    -بحيرة الملح .
    -إذن أنت وردة .
    بادلتني النظرات بدهشة :
    -كيف عرفت ؟ .
    -بحيرة الملح بلدتي ، واسمي حمدان .
    هزت رأسها متفهمة وقالت :
    -كيف أهالي القرية ؟ .. أعاد والدي من الخليج ؟
    -نعم ، وقضى وهو في شوق إليك ، ووالدتك ما زالت في عصمة ابن الجغمير.
    كان يجب عليّ أن أبدي استعدادي لمساعدتها ، وأدركت أن أديل تسمع حوارنا، حيث بدا عليها الهدوء والانشراح ، لكنها لم تستطع المشاركة في الحوار . وشعرت أن وردة أحست اطمئناناً ، حين انسلت إلى حجرتها ، حيث تركتني بجوار أديل ، وحين انقضى ثلثا الليل ، وجدت نفسي أمام سرير وردة ، قبلتها بشوق ، فعطرتني أنفاسها التي غدت كأنفاس شيح مخضل بندى صباح بحيرة الملح ، في هذه اللحظة شعرت أن تحت إمرتي كل جان الأرض ، ومردة سليمان بن داوود ،في أثناء ذلك قالت:
    -سأبوح لك بما لا تتوقعه .
    -تفضلي .
    -أديل هذه من بحيرة الملح .
    -غير ممكن .
    -إنها زوجة فدعان .
    -حقاً ؟
    -بالتأكيد .
    -لكن لم أعرف الأمر ، إلا من أيام .
    -وهي أتعرفك ؟
    -لا أدري .
    -كيف جئت إلى بيروت .
    -كنت صغيرة ، حين عهدتني والدتي لأحدهم ، أو قل أنها باعتني إليه وهذا الرجل جاء بي إلى أديل ، وقبض مبلغاً ، وانصرف لا أعرف إلى أين .
    -سأعود بك إلى ملعب طفولتنا .
    -بأي صفة ؟
    -حسب ما تشائين ، عاشقاً ، صديقاً ، زوجاً لا فرق .
    وحين شعرت بيدي تحط على فخذها ، تذكرت فدعان ودعاية الذئب التي انطلت على الناس ، وحين قصصت عليها حكاية الأيقونة المعلقة على صدرها ، أخذتها بسرعة وقذفتها من النافذة ، وأخذت أقص عليها أن فدعان أخذ مقابل التعويذة بيض دجاجاتهم طيلة عام . فكرت للحظة وقالت :
    -لا أملك بطاقة ، كيف أدخل سورية ؟ .
    -لنا قريب في طرابلس ، وربما يستطيع أن يتدبر الأمر .
    -يجب أن نرحل قبل أن تصحو أديل .
    كنت أتجول في ساحة البرج ، حين سمعت صوتاً ينادي ، التفت إلى الخلف ، حيث وقع بصري على جدي لأمي ، وبعد أن تصافحنا سألني عن سر وجودي في بيروت ، اخترعت من بنات أفكاري حجة واهية ، ولأنه لم يقتنع فيها أصر عليّ أن أصطحبه إلى شتوره ، فعرفت أن خالي أرسل له بعض النقود مع أحد المغتربين الذي جاء إلى لبنان منذ أسبوع ، دعاني جدي إلى القهوة ، قائلاً :
    -علّني أرتاح من عناء السفر .
    -أتعرف مقاهي بيروت يا جدي ؟
    -نعم ، أعرف بيروت جيداً .
    انعطف جدي إلى شارع يتقاطع مع ساحة البرج ، حيث كراج انطلاق إلى جنوب لبنان ، وهناك مقهى متواضع ، معظم رواده من العمال ، ولم يدم جلوسنا طويلاً حتى جاء النادل وسألنا :
    -ماذا تشربان ؟
    قال جدي :
    -قهوة دون سكر .
    -قهوة وسط .
    وقبل أن ينصرف النادل ، قال جدي :
    -لا تنسى النارجيلة .
    خفضت بصري خائفاً من تساؤلاته ، وأقلقت الأفكار رأسي لا أدري لماذا لم يوجه لي أي سؤال ، علّه كان مشغولاً بالمبلغ الذي سيقبضه من المغترب ، أو أنه أراد أن لا يعكر صفوي بمثل هذه التساؤلات ، وفجأة غاب جدي لدقائق ثم عاد وقال لي :
    -هيا بنا السيارة بانتظارنا .
    جلس جدي في المقعد الأمامي بجانب السائق ، وجلست في المقعد الخلفي ، واندفعت السيارة تعبر الشوارع ، اجتزنا فندق بلميرا ، تذكرت المتاهة التي رأيتها من نافذته ، فما هي إلا دقائق حتى بدأت السيارة تتسلق الطريق الصاعدة إلى ذرا الجبال ، كأفعى تتلوى تحت شعاع الشمس ، كانت السيارة تشق عباب الهواء ، تاركة الأشجار خلفها ، في هذه اللحظات طالعتني صورة فتاة السلم ، وصورة " أديل " ووردة التي تنتظر أوبتي ، غمرني دفء لطيف ، وهاجمني حنين إلى بحيرة الملح، التي كانت خمراً أرتوي منه ، هاجت بداخلي رياح هزت مشاعري ، وراحت الحقيقة ترتسم هلامات في صور ، فجأة اخترق جدي الصمت وقال :
    -قاتل الله الغربة .
    أجابه السائق :
    -يا عم الغربة تضيع الأصول .
    -صدقت يا بني ؟ .
    -هل لك غائب ؟
    -نعم سافر ولدي إلى الأرجنتين .
    -هل سافر برضاك ؟
    -أجل... سأقص عليك الحكاية ، أنا أراعي عواطف الشباب .
    -تفضل يا عم ..
    -قبل حرب 1914 ، سافر أخي الأصغر إلى الأرجنتين مع بعض الناس من أهل المنطقة ، هروباً من الاستعمار العثماني .
    ابتسم السائق :
    -نعم ، إن هذه الأمور معروفة لدينا .
    فتحت النافذة ، جاءني الهواء مختلطاً بتغريد الشحارير ، فيما صمت جدي لدقائق، علّه يسترجع قريته بهدوء على ذرا جبال طرطوس والأيام العجاف التي ألمت به ، حيث كان محصولهم يقتصر على العنب والتين والدخان ، هز جدي رأسه وقال:
    -في ذلك اليوم خرجنا نجمع الحطب من الحرش ، بغية ادخاره مؤونة للشتاء ، وبعد عمل مجهد . نظرت إلي أم العيال وقالت :
    -كفانا عمل هذا اليوم .
    -هكذا ترين ؟
    -نعم .
    في أثناء ذلك حملنا مناجلنا على أكتافنا ، وحثثنا الخطا صوب القرية ، وما إن وطئت أقدامنا أزقة القرية الضيقة ، حتى وقع بصري على أمواج الدخان تتصاعد من صوب بيتي . فجأة سمعت صوت جارتنا ، أعرفه جيداً تقول :
    -النار أحرقت الأخضر واليابس في دار أبي فهد .
    ألقيت الأغراض جانباً ، وأسرعت إلى داري . حين وقع بصري على النار التي جاءت على كل شيء حتى الدجاج لم يسلم من لهيب النار قلت لنفسي :
    -لقد وقعت المصيبة .
    وقف إلى جانبي جارنا :
    -هوّن عليك . هذا قدر الله .
    كان أهل القرية يعملون على إطفاء الحريق ، والناس يحملون الماء على أكتافهم من عين ماء في أسفل المنحدر ، ورغم ذلك لم تبق النار على شيء ، حتى البقرة احترقت ، وملأ القرية رائحة لحمها المشوي ، مما جعلني أقضي الليلة أنا وأولادي عند أحد الأقارب ، في ذلك الليل لم يعرف النوم إلى عيني سبيلاً ، وقلت لنفسي :
    ( غير الحكمة في مثل هذه الأمور لا يجدي نفعاً ) .
    سألتني أم فهد :
    -ما العمل ؟
    -لا عليك الصباح رباح .
    نظر السائق إليه بمؤخرة طرفه وسأله :
    -وماذا فعلت ؟
    هزّ جدي رأسه وقال :
    -قبل شروق الشمس ، ذهبت إلى قرية مشتى الحلو ، حيث كنت أعرف أناساً يقرضون المال بالفائدة .
    أقلقت الأفكار رأسي ، وما زالت السيارة تصعد الجبال ، وكنت في أوج لهفتي لرؤية البحر ، وأسمع نبض الأشجار ، فيما هي إلا ثوان حتى عاد جدي إلى حديثه وقال :
    -طرقت الباب .
    فتحت الباب أم جبرا وقالت :
    -أهلاً ..
    -أبو جبرا في البيت ؟
    -تفضل ..
    حين دخلت البيت وقف أبو جبرا مرحباً ، ولم تمض إلا دقائق حتى قال :
    -لك ما تريد ، عرفت ما حصل .
    -عشر ( عصمليات ).
    -لك ما شئت .
    خرج لتوه ، وعاد بعد فترة ، يحمل إبريقاً من الشاي ، هذا الشراب الذي يقتصر على أصحاب الشأن ، ناولني كوباً وقال :
    -تفضل اشرب الشاي .
    وأخذنا نشرب الشاي ، وخيم الصمت ،في أثناء ذلك أخرج من جيبه كيساً من القماش ، تناول من داخله القطع الذهبية وعد عشرة (عصمليات ) ، ثم ربط الكيس جيداً وقال :
    -تفضل .
    -عددتها بيد مرتجفة ليرة تنطح ليرة . وبعد أن حشرت المبلغ في جيبي قال :
    -الدنيا فيها حياة وموت .
    فهمت ما رمى إليه ، لكن ماذا أفعل ؟ ! النار جاءت على ملكيتي للأرض فقلت :
    -اطلب ..
    الأرض وغلتها تبقى تحت تصرفي حتى سداد المبلغ ، والفائدة ستدفعها في نهاية العام .
    -موافق .
    نادى زوجه قائلاً :
    جيئي بدفتر السندات فوراً.
    دخلت أم جبرا ومعها ثلاثة رجال ،في أثناء ذلك دون سند الأمانة بالمبلغ والفائدة السنوية بشهادة الأشخاص الثلاثة ، ورجعت إلى القرية على جنح السرعة ، وقمت بترميم ما أتت عليه النار . سألتني أم فهد :
    -من أين جئت بالمال ؟
    -بالفائدة .
    ضحك السائق وقال :
    -الفائدة تأكل صاحبها :
    أجابه جدّي :
    -نعم ، مرت علينا سبع سنوات عجاف ، والفائدة في ازدياد ، حتى أصبحت ضعفي المبلغ . وذات يوم من أيام الشتاء ، جاءني ابن صاحب المبلغ . وأخبرني إنهم بحاجة المبلغ خلال ثلاثة أشهر ، حين عرفت قصده اسودت الدنيا في وجهي ، ولم أدر من أين أحصل على المبلغ ، وشاءت الأقدار وجاءنا شاب من بحيرة الملح ، وطلب ابنتي عروساً ، وافقت على طلبه بعد أن عرفته جيداً ، وقبل أن يأخذ عروسه قال :
    -أحوالي المادية عال العال ، اطلب ما تريد ؟ ! ..
    -نحن لا نأخذ مهراً ..
    -أعرف ، لكن أرجوك أن تقبل هديتي .
    مد يده إلى جيبه وناولني ثلاثين ليرة (عصملية) وقال :
    -اعتبرها هدية ، دين لا فرق .
    بقيت مستيقظاً طيلة الليل ، لم يجد النوم إلى عيني سبيلاً وما إن أشرقت شمس الصباح ، حتى طويت المسافة إلى المشتى وحين أعطيت المبلغ لصاحبه مع الفائدة ، شعرت أن ثقلاً كبيراً قد أزيل عن صدري . وقفلت أدراجي إلى القرية ، أخذت أشتم تراب الأرض ، ومسحت بناظري أشجارها التي زرعتها بيدي المعروقة ، كانت أم فهد تنتظرني ، وسألتني :
    -أعدت المبلغ ؟ .
    -نعم الآن أنام قرير العين . ولم يكن لدي متسع من الوقت لأسألها ، فما هي إلا دقائق حتى سمعت طرقاً على باب داري ، خرجت لأستطلع الأمر وقبل أن أفتح الباب جاءني الصوت قائلاً :
    -البشرى .. البشرى .
    نظرت من كوّة الباب ، وقع بصري على جارتنا ، ومعها شاب ليس من أهل القرية ، فتحت الباب وقلت :
    -تفضلا ، ما الخبر ؟ .
    -الشاب يحمل رسالة من الأرجنتين .
    -تفضل..على الرحب والسعة.
    -اعتذر.
    -علام؟.
    -لدي رسائل كثيرة يجب أن أوزعها على أصحابها .
    -أراك تعب.
    -نعم.
    -خذ راحتك.
    دخلت إلى البيت ودموع الفرح في عيني ، وحين فتحت الرسالة قرأتها جيداً ، عرفت أن شقيقي يطلب مني السماح لولدي فهد بالسفر إليه ، لأنه بحاجة إلى من يساعده في إدارة أعماله ، وقد أرسل لي مع حامل الرسالة مبلغاً ليس قليلاً . وبقيت لمدة أسبوع أدرس الموضوع مع ذاتي ، أحياناً أرى أننا بحاجة لسفر فهد ، وأحياناً تغالبني العاطفة فأتراجع عن رأيي ، وفي آخر المطاف أخبرت أمه بالأمر . فقالت :
    -لا .. لن أوافق على سفره .
    -ألا تذكرين أيامنا السود ؟ .
    -الرزق على الله .
    وحين تأكدت أنها رافضة للفكرة من أساسها ، وتذكّرت الأيام والفقر المدقع الذي ألم بنا . وجدت لنفسي مبرراً بالموافقة ، كان فهد يقف قرب شجرة السنديان ، جئت إليه ومسحت يدي على شعره وسألته :
    -ما رأيك بالسفر ؟. .
    -إلى أين ؟
    -إلى عمك في الأرجنتين .
    شعرت أنه كاد يطير من الفرح وقال :
    -الرأي لك يا والدي .
    -أنا موافق .
    -حقاً ؟ .. أنا أيضاً .
    -إياك أن تخبر أمك بذلك .
    -لماذا ؟
    -لأنها لن توافقك على السفر ، واتفقت معه على خطة ، أن يشيع خبر سفره إلى لبنان من أجل العمل ، وفي أقل من شهر كان قد أصبح على أهبة الاستعداد على السفر ، وذهبت معه إلى بيروت ، حيث سافر على متن باخرة من بيروت وحين رجعت إلى القرية استقبلتني أمه والدموع في عينيها وسألتني :
    -هل توفق فهد بالعمل في بيروت ؟ .
    -نعم ..
    ومضت الأيام وزوجتي تسألني :
    -لم يعد فهد ؟ .
    فأطيّب خاطرها وأخبرها :
    -إني صادفت فلاناً من قرية مجاورة وأخبرني أن فهداً بخير وأرسل معه بعض النقود .
    وذات يوم وأنا عائد من طرطوس وفي منتصف الطريق الذي يتلوى بين الأشجار سمعت أحدهم ينادي :
    -يا عم ... يا عم ..
    التفت إلى الخلف ، وقع بصري على شاب يقول :
    -انتظر من فضلك .
    حين أصبح قبالتي سلّم علي وسألني :
    -حضرتك من هذه القرية ؟
    -نعم ..
    -أتعرف بيت أبي فهد ؟ .
    -وصلت ، من حضرتك ؟
    -أحمل رسالة من فهد .
    أخذته بين ذراعي وأخذت أشم رائحته علّني أشم فهداً من خلاله وقلت :
    -أنا والد فهد .
    -تفضل .
    وسلمني الرسالة ومعها مبلغٌ من النقود ، وعاد رغماً عني ، وربك حميد أنني أجيد القراءة من خلال شيخ الكتاب في قريتنا ، انعطفت إلى شجرة قرب الطريق ، جلست تحت ظلّها ، وفضضت الرسالة التي تحمل صورة شقيقي وعائلته وفهد أيضاً . قرأتها وقبلت الصور ، وكبحت دمعة سقطت رغماً عني ، وحين وصلت إلى البيت قرأت زوجتي على سحنتي أشياء وأشياء ، وفجأة وقع بصرها على الصورة ، لكنها لم تستطع أن تميز صورة فهد عن صورة عمه ، فسألتني :
    -هل أصاب محموداً مكروه ؟
    -لا ..
    -لكنّي أراك على غير عادتك .
    ناولتها صورة فهد وأفراد عائلة عمه ، حين وقع بصرها على الصورة ، وعرفت ابنها فلذة كبدها ، ضربت صدرها وصرخت :
    -فعلتها يا ظالم ؟!.
    -لا يا أم فهد ، فعلت الصحيح .
    -فهد ، أرسلته إلى بلاد الغربة ، وجليلة زوجتها إلى حمص . أيّ فعل صحيح تتحدث عنه يا ظالم ؟.
    لم تدر أم فهد أن قلبي يكاد يتقطع لهفة لرؤيتها ، ولم تسكت عند هذا الحد بل قالت :
    -الله يقطع أثر الرجال ما أقسى قلوبهم ؟
    كنت أرهف السمع إلى شكوى الرياح ، أعادتني اللحظات إلى بحيرة الملح ، وشنفت أذني كلمات شحود حين قال :
    -أنا ابن حواء ، ابن هذه الأرض . سأعود إليك يا بحيرة الملح مع إطلالة الفجر. وأردف قائلاً :
    -اللعنة على الحمار وذيله ، وفدعان لأنهم يسرقون خبز الجياع .
    حولت نظري من نافذة السيارة وقع بصري على ( تلفريك ) وثمة أناس يعيشون رحلة عشق بين السماء والأرض فقلت لنفسي :
    -( ما أجمل منظرنا وأنا أعانق وردة ونحن معلقان في الفضاء ) .
    رحلت بأفكاري بعيداً ، وتخيلت وردة تطوقني بذراعيها ، وما زالت السيارة تشق عباب الهواء والدواليب تطوي الطريق طياً ، وفجأة انحدرت السيارة صوب البقاع ، وثمة شحارير تترنم بين الآجام تقفز من غصن إلى غصن ، عدت إلى " تلفريك " المارد الذي يسير عبر الفضاء بوساطة المغنطة التي أعادتني إلى الأستاذ جميل ودرس الفيزياء ، مرت الدقائق بلا حساب ، وفجأة غالبني النعاس ، ولم أدر أين حطت بي الرحال ، هل تابع جدي حديثه أم غط في النوم ، ولم أدر أين حطت بنا الرحال ، ولكنني استيقظت على صرير عجلات السيارة ، حيث توقفت في محطة " بنزين " وطلب السائق من عامل المحطة :
    -عشرون لتراً من فضلك .
    ناول السائق المبلغ وسأله :
    -هل تعرف هذا العنوان ؟
    تناول العامل الورقة ، نظر فيها ملياً ثم قال :
    -نعم أعرفه ، أمس جاء صاحب هذا العنوان من السفر .
    -أتعرف منزله ؟
    -نعم إنه جارنا .
    أشار بإصبعه إلى شجرة صنوبر في نهاية الشارع وقال :
    -الشجرة أمام منزله .
    في أثناء ذلك استيقظ جدي ، واندفعت السيارة إلى نهاية الشارع ، وبعد أن تأكدنا من الأمر ، ناول جدي حساب السائق . الذي عاد إلى بيروت ، كان المغترب يجلس على الشرفة ، فأطل يستطلع الأمر ، وحين وقع بصره على جدي هرع يهبط درجات السلم ،وأخذ يرحب بنا وسرعان ما سأل جدي :
    -حضرة العم أبو فهد . والشاب شقيقه ، أليس كذلك ؟ ! ..
    أجابه جدي :
    -نعم . أنا والد فهد ، وهذا الشاب حفيدي لابنتي .
    قال خالد :
    -إن الشاب يشبه خاله . ( من شابه أباه فما ظلم ) .
    ضحك جدي : وقال المثل : ( إذا جاد الولد بأفعاله فلخاله ).
    وفي غرفة الضيوف جلسنا على المقاعد الوثيرة وأخذ جدي يسأل بلهفة عن أخيه وولده . وظهر على عينيه دمعة حرون ، مسحها براحة كفه ، ثم قال :
    -أخبرني هل تزوج فهد من ابنة عمه .
    -لا .. تزوج اسبنيولية .
    -كيف وافق أخي ؟
    -يا عم يبقى الرأي للفتاة .
    منذ الدقائق الأولى أرنو إلى المكتبة القابعة لصق الجدار ، تفتح الحلم الجميل في قلبي ، وناجيت عروس خيالي ، وأنا أقرأ عناوين الكتب والروايات الأوربية واللاتينية أيضاً .
    مكوثي أمام الكتب لفت انتباه خالد الذي بادرني :
    -أتقرأ روايات ؟
    -أحب قراءة الروايات لكنني لم أملكها .
    -إذا كنت جاداً . فلك ما شئت .
    -لا يمكن .
    عرف ما قصدت فقال :
    -لدي أكثر من نسخة لكل رواية .
    -إذن أنا موافق على هديتك .
    خرج خالد لدقائق وعاد يحمل حقيبة جلدية أنيقة ، وتناول عدداً من الروايات ، وضعها داخل الحقيبة ثم ربت على كتفي وقال :
    -الحقيبة والكتب هديتي لك .
    -شكراً لك .
    في أثناء ذلك سأله جدي :
    -متى السفر إن شاء الله .
    -لن أسافر يا عم ، سأبقى هنا ، لأني استأت من اليهود ، ولم نعد نحتمل تصرفاتهم بعد حرب حزيران النكسة ، وجميع الناس الذين لم يتعاملوا معهم بقيت أوضاعهم تحت الوسط ، مثلاً فهد وعمه لو تعاملوا معهم لكانت أحوالهم فوق الريح :
    ضحك جدي وقال :
    -أدخلت الفرحة إلى قلبي بهذا النبأ .
    وحين توصل خالد إلى نتيجة أن جدي لا يستطيع البقاء إلى الصباح ، اتصل بأحدهم . ولم تمض إلا دقائق حتى سمعنا منبه سيارة ، فقال خالد :
    -السيارة بانتظاركما .
    حملت الحقيبة والفرحة تحك قلبي ، هبطنا السلم ، جلس جدي في المقعد الأمامي، وحشرت نفسي في المقعد الخلفي ، وحين انطلقت السيارة لوّح جدّي مودّعاً، واجتازت السيارة البلدة ، شعرت من تنفس جدي أنه غط في نوم عميق ، أعادني السكون إلى بيروت وسألت نفسي :
    -ماذا حصل لأديل حين صحت من سكرتها ، وما الذي فعلته ، وهل تكون قد عرفتني ، حين خرجنا من دار السينما ، وأكيد سوف تبحث عني كثيراً ، وربما ستبقى طيلة الليل تترقب عودتي ، أو ربما أنها لم تصحُ حتى الآن ، حملت على نفسي حملة شعواء ، شعرت بضيق شديد ، فقلت لنفسي :
    -لست بحاجة للمشاكل .
    صمت قليلاً،ورحلت بأفكاري إلى سينما العباسيين وتذكرت فيلم (سبارتاكوس)، وساد الصمت إلا من صفير الهواء ، وفجأة غططت بسبات عميق ، وراودتني الأحلام، واستيقظت على صوت السائق :
    -أصبحنا على مشارف حمص .
    نظرت من النافذة وحين تأكدت أنا في أول حمص . قلت :
    -البيت على يمين الطريق .
    توقف السائق :
    -الحمد لله على السلامة .
    -تفضل يا أخ ..
    -شكراً . أنا بحاجة للعودة فوراً .
    أمسكت يد جدي ، وذهبنا إلى البيت ، استقبلتنا والدتي أيما استقبال ، وقبل أن نجلس ناولتني تبليغاً من شعبة التجنيد ، وفي الصباح أسرعت إلى الشعبة ، وهناك أخذ الموظف بطاقتي الشخصية ، وما هي إلا بضع ساعات حتى أصبحنا عدداً كبيراً، حملونا في حافلات، انطلقت صوب دمشق ، نظرت من النافذة وحين أصبحنا على مقربة من حيّنا ، وقع بصري على والدتي ، مددت رأسي من نافذة الحافلة وصرخت :
    -أصبحت عسكريّاً .
    عرفت والدتي ما رميت إليه ، فلوحت بيدها ، وتابع الباص مسيره ، وحين غالبني النوم ، حلمت أنني أسير على أطراف بحيرة الملح ، وثمة قطاة ، تخلفت عن السرب ، وتراءت إلي وردة بثوبها المهفهف تركض على أطراف بحيرة الملح . جريت خلفها حتى غاصت في البحيرة فصرخت ( وردة .. وردة ) .
    فاستيقظت على صوت المساعد :
    -يا لله يا شباب .
    نزلنا من الباص .وحين أصبحنا على الأرض قال المساعد :
    -هيا شكلوا الصفوف .
    في أثناء ذلك رفعت بصري إلى السماء ، وقع على طائرة استطلاعية صهيونية بلون خضيب الغروب ، عملت نصف دائرة ، وعادت إلى فلسطين ، وفجأة قسمنا إلى صفوف بشرية وعرف كل منا سريره، جلست على حافة سريري ، أشعلت لفافة ، كان محمود يتحدث عن مغامراته ، وأنا مصغٍ إليه حتى غربت الشمس وأظلم الليل ، في هذه اللحظات قرأت تغيراً على تعابير وجهه ، سألته :
    -ما وراءك ؟
    -لا شيء ، لا شيء .
    عرفت ما يدور بخلده ، فقلت :
    -اسمع يا محمود اعتبرني أخاك الأكبر .
    -أنا خائف ، لأنني لم أسمع ممن حولي سوى حكايات الجن .
    حين وقعت كلماته على سمعي ، تذكرت بحيرة الملح وفدعان ، وأهل القرية الذين يزحفون إلى الحقول في أثناء جني المحصول ، ولم يبق في القرية إلا العجائز ، وتذكرت ذاك اليوم الذي تظاهرت فيه بالمرض فقالت والدتي :
    -( يا ويلي حمدان حرارته مرتفعة ) .
    ضحكت في سري حين قال والدي : / دعيه ينم / .
    وقبل شروق الشمس ، أخذت الفخ وطمرته بالتراب ، وقصدت أن أضع دودة نشيطة في السنارة بغية أن أثير غريزة العصافير ، وعدت مسرعاً وجلست خلف الباب أراقب العصافير . فجأة حط عصفور أمام الفخ ، وكانت الدودة تتحرك بنشاط ، فرد العصفور جناحيه فرحاً بوجبة لذيذة وقبل أن ينقضّ بمنقاره على الدودة ، دخلت أمّ شحود ونادت :
    -أين جدتك ؟
    -في البيت وراء الخضة .
    كان نظري معلقاً بالعصفور الذي أفرد جناحيه للريح وطار بعيداً ، وحط على شجرة في الحاكورة ، ضربت يدي على ركبتي وشتمت أمّ شحود في سري ، وفجأة جاءني صوت جدتي :
    -تعال يا سعدان ، وهات الماء .
    وخوفاً من فركت أذني من أصابع جدتي ، أسرعت وملأت طاسه ، وقفت أمامها وقلت :
    -تفضلي ..
    قالت أمّ شحود :
    -صرت شاباً يا حمدان .
    ردّت جدتي :
    -ألعن من شيطان ، بقي في الدار مثل العجائز .
    أجابتها :
    -زوجوه ..
    قالت جدتي على سيرة الزواج :
    -هل حملت كنتك ؟
    -يا عيني عليها مسحورة ، لكن فدعان وعدني أن يطرد الأرواح الشريرة القابعة في رحمها ، وهي تراجعه كل يوم خميس ، طيلة المدة .
    فلتت ضحكة مني وسألتها :
    -وإذا تمنعت عن زيارته ؟
    لم أدر كيف هوت جدتي بالقضيب على ظهري الذي مازلت أتذكر طعمه وقالت :
    -(بس يا سعدان) .
    وضعت رأسي بين ركبتي ، وأخذت أصغي إلى حديثهما ، ورحت أضحك في سري ، في هذه اللحظة تذكرت الأستاذ جميل يسألني :
    -من أين لك هذه المعلومات ، لا تقل إن الجني الأصفر علمك ؟
    أرد عليه :
    -لا يقول فدعان مثل هذه الأقاويل ، لأنه لا يجيد الكلام إلا مع النساء .
    -لك مستقبل أيها الشقي .
    ذات يوم كان الأستاذ جميل يحدث زملاءه :
    -لدينا شيخ . استطاع أن يقنع الناس أنه قادر على شفائهم من العقم .
    ردّ عليه جليسه :
    -يعني سيغير قانون الحياة . وهل يشفي الرجال أيضاً ؟ ..
    أجابه الأستاذ جميل :
    -يا صاح في المجتمع الشرقي لا يوجد رجل عقيم . ودائماً المرأة هي السبب في عدم الإنجاب .. وفدعان يعرف الأمر جيداً ، رغم أنه عقيم ، لكنه يقوم بدور الديك الرومي حفاظاً على رجولته .
    -كيف ؟
    -اتخذ من حنوف شريكاً حيث يقوم بتلقيح كل امرأة تريد الإنجاب على يد فدعان .
    -أيعقل ؟
    -أجل .. كانت أول وصية للمرأة تأتي إليه بهذا الخصوص . أن تستلقي على الفراش وتغمض عينيها على هذه الحال حتى يأمرها بالنهوض ، وإذا خالفت هذه التعليمات ، تعرض نفسها للخطر ، وحين يبدأ بقراءة تعويذاته عليها أن لا تبدي أيّة مقاومة لأن الجنيّ الأصفر سينفخ في رحمها أرواحاً طاهرة ، التي ستطرد الأرواح الشريرة ، التي تدخل العين إن لم تكن مغلقة تماماً ، وحين ينتهي حنوف من مهامه يصرخ فدعان :
    -ارفعي ثوبك يا طاهرة .
    ضحك الأستاذ محمود وقال :
    -لذلك يعرف الرجل العقيم من غيره ، يا له من داهية ! .
    فلتت مني ضحكة ، فهوت جدتي بالقضيب على مؤخرتي وقالت :
    -يا قرد ، الضحك بلا سبب قلة أدب .
    لسعة قضيب الرمان جعلتني أقول :
    -إنه يكذب على النساء ، أين أولاده ؟
    غضبت جدتي وقالت :
    -يا قرد حتى الأولياء لا يسلمون من أذاك ، يا رب لا تؤاخذه ما زال صغيراً .
    صمتت، أحسست أن سؤالي جعلها تفكر ، ثم التفتت إلى أمّ شحود وقالت :
    -كيف بقي دون أولاد ؟
    -هو ابن جد ، وتعويذات جده لا ترد ، أمّ الجغمير كانت عقيمة ومن أول حجاب أنجبت الجغمير ، وكتب له أن يملك معظم أراضي بحيرة الملح . وفدعان تطاول على حجب جده ، الذي طلب من جنه أن يقطعوا نسله .
    ونهضت أمّ شحود وغادرت دارنا ، دنوت من جدتي ، وضعت رأسي على جنبها، مسحت بيدها على شعري وناولتني حبة المربى واستدرجتني وهي تقول لأم شحود :
    -كنتك تستاهل كل خير .
    قلت لجدتي :
    -من أين الخير ما دام الطبيب فدعان ؟.. إنها سوف تشم رائحة حنوف النتنة في منامها .
    -أخبرني من علمك هذا القول ، فأعطيك أربعة حبات من المربى .
    صدقت كلام جدتي وقلت :
    -الأستاذ جميل .
    -كيف يروي لكم الأستاذ هذه الحكايات ؟ اسمع لك كل يوم حبة من المربى على شرط أن لا تحفظ أقوال الأستاذ .
    -إذا لم أحفظ أقواله أرسب آخر السنة .
    -العياذ بالله من الأستاذ ومنك ، المدارس لم تجلب معها إلا الهم .
    سمعت زقزقة عصفورة تستجير ، أسرعت ، وقبضت على العصفور ، وراحت العصافير تحلق فوق رأسي ، رأفت لحال العصافير وأطلقت العصفور من يدي ، فحلق في الفضاء ثم حط على شجرة التين في حاكورة أم شحود سابقاً ، هذا الموقف جعلني أقلع عن صيد العصافير . وأصبحت أقرأ القصص من مكتبة المدرسة، وذات يوم سمعت زغاريد أم شحود ، وراحت ترشق التين اليابس من فوق سطحها . وحين عرفت أن أسباب ذلك أنها أصبحت جدة . هرعت مسرعاً إلى بيت الأستاذ ، لكنني لم أجده ، وعرفت أنه مسافر إلى المدينة بمهمة ، فعدت إلى دارنا وبقيت أحتفظ بالسر لمدة عام حيث مات حفيدها ، وعاد الأستاذ جميل إلى القرية ، وبعد أن استقبلته أهل القرية ، وانصرفوا إلى بيوتهم ، دخلت عليه ، وقصصت له ما جرى بخصوص التعويذات ، وولادة حفيد لأم شحود وعن وفاته . فقال :
    -بعد أسبوع تسمع أنباءً جديدة .
    في ذلك اليوم كنت في الصف الثالث حين دخل الأستاذ جميل إلى الصف وأرخ على السبورة عام 1963 ، زغردت النسوة وجاءت جدتي وقالت :
    -مبارك عليك يا أستاذ .
    -كنت أحسب هذا!.
    -جاء الفرح.































    فصل ( 9 )

    قبيل المساء جاءت الأوامر ، ركبنا سيارات صغيرة ، واندفعت تعبر الوهاد والجبال حتى وصلنا الأرز الأبيض في أواخر الليل وأخذنا مواقعنا الجديدة ، لم أنم طيلة الليل ، ورحت بأفكاري بعيداً تذكرت " أديل " وتذكرت " وردة " التي أحبتني بكل قلبها ، كنت أريد أن أحررها من سجنها ولكن الوقت لم يكن لصالحي ، وتذكرت أيضاً فتاة السلم فحلقت بروحي فوق فندق " بلميرا" لكنني لم أدر أين حطت بها الرحال ، وهل بحثت عني في شوارع " بيروت " ، كان الملل قد سرى إلي لكثرة التفكير ، وخدر التعب تفكيري ، فغطظت في نوم عميق ، راودتني الأحلام ، حيث تراءت لي وردة تلقي بنفسها في بحيرة الملح ، وفجأة رأيت قامتها تشرئب بين شجيرات الشيح تتمايل مع هديل القطا ، وفجأة تبدلت الصورة فإذا فتاة السلم تقول :
    -مرحى لك يا حمدان :
    وما أدري ما الذي دفعني لأزرع لها شجرة سنديان على أطراف فلسطين ، وألبستها ثوباً أبيض فضفاضاً ، وهي تسدل شعرها الذهبي كشتلات التبغ ، وكان صدى صوتها الحالم يتردد بين حنايا ضلوعي . وراقني وجود " مزنة " ، فشعرت بالهناء يغمرني ، ورأيت الياسمين يعرش على المكان ، وبردى ينساب من بين قدميها ، ينحدر إلى الغوطتين ، وكنت أشعر بحاجة إلى وليد فقلت :
    -أين أنت يا وليد ؟
    وحين بزغ الفجر ، خرجت أستطلع المكان ، وجدت نفسي بأحضان بحر أخضر من أشجار الصنوبر ، ورحت بأفكاري إلى بحيرة الملح وطيور القطا ، وفجأة وقع بصري على طائرة للعدو. فقلت :
    -اللعنة .
    ضحك حمود :
    -ستعرض صورنا في فلسطين .
    -لا ، يا صاح ، تبقى صورنا في أقبيتهم .
    -علام ؟
    -حرصاً منهم أن لا يدعونا نرى الأرض الحبيبة المسلوبة.
    -صدقت .
    بقينا نتجرع الصبر ونحن على أمل الأوامر القتالية ، لم نعرف للراحة طعماً فقال حمود :
    -لماذا لم نكلف بمهام قتالية ؟
    -القيادة أدرى يا صديقي .
    -يا للعجب!.
    -أليست لك ثقة بهم؟.
    -حان الوقت..
    -لا داعي للقلق.
    -أوقات عصيبة.
    -لم أنس الطاعون
    -وداعا لم أنم البارحة.
    جاء الصباح ، شعرت بالألم في ضرسي ، فطويت أحلامي ونفذ صبري ، لم أعد أحتمل الوجع ، منذ زمن لم أشعر بالألم ، فأمر المسؤول أن أذهب إلى النبطية ، وكان يجب علي أن أبدي استعدادي لإطاعته ، ونفذت أمره ، وذهبت من أجل العلاج، حيث صادف ذلك اليوم عيد عاشوراء ، لذا كان ليس من السهل أن نعثر على طبيب أسنان ، فدفعني الألم أن أطرق باب منزل أحد الأطباء الذي استجاب لطلبي حين عرف أنني من رجال المقاومة ، و بدأ العلاج قال :
    -سيتم العلاج على فترات .
    -لا أستطيع .
    -علام ؟
    -لأنني في راشيا الفخار .
    -إذن ماذا أفعل ؟
    -عليك أن تستأصل الوجع من الجذور .
    -حرام . ما زلت صغيراً .
    -اقلعه الوطن أهم .
    بسرعة قلع الضرس المنخور وقال :
    -إياك السوائل الساخنة . وإذا أصابك نزيف تعال متى شئت .
    -أشكرك.
    نقدته خمس ليرات ،ضحك قائلا:
    -لا يمكن..
    -أرجوك..
    -لا أريد شيئا.
    -أحييك.
    وخرجت إلى الشارع ، فأخذت سيارة إلى مخيم الرشيدية ، وحين وصلت إلى المكان المطلوب ، استوقفني أحد المقاتلين ، عرفته عن نفسي ، طلب بطاقتي وقال :
    -تفضل .
    أسرعت إلى باب يؤدي إلى بهو كبير ثم إلى ممر ضيق عبرته فوجدت نفسي بين غرف متداخلة ، كنت شارداً حين جاءني أحدهم وقال :
    -أهلاً ... تفضل من هنا ..
    مشيت وراءه بحذر ، حتى دخلنا مكتباً يحوي عشرات الفتحات ، جلست على الكرسي وأخذت أتأمل الجدران ، وأخذت أفكر كيف سأقضي هذه الليلة بعيداً عن رفاقي ، فجأة دخل أحد المقاتلين ، جلس خلف الطاولة ، تبادلنا النظرات هيئ لي أن الوجه مألوفٌ ، ورحت أسترجع ذاكرتي ، لكنه عرفني من خلال الاسم ، نهض واقفاً، واندفع صوبي وقال :
    -حمدان ... أهلاً بأهل حمص .
    -وأنت وليد .
    -أجل.كيف حالك؟.
    -على ما يرام..
    - يا إلهي ما هذه المصادفة ؟
    -لا .. إنها حتمية .
    -يا رجل أين ذهبت ، انشغلت عليك .
    -حكاية طويلة .
    وأخذت أقص عليه ما جرى ..قال:
    - الدنيا لا تخلو من الخير..
    - نعم.
    -خذ ما بقي لك بذمتنا .
    - وناولني المبلغ :
    وبقينا نتسامر حتى شعرنا بالنعاس :
    -طابت ليلتك.
    فانصرفنا إلى مضاجعنا وقبل بزوغ الفجر استيقظت على صياح الديك ، أسرعت وارتديت ملابسي وأسرعت إلى المكتب أسأل عن وليد ، وقع بصري على صورته مع فتاة السلم ، تعجبت لذلك وسألت أحدهم :
    -أين وليد ؟
    -كلّف في مهمة ، وهذه الفتاة قائدة العملية .
    -يا إلهي !.فتاة السلم.
    -أتعرفها؟.
    -أجل...
    -ما العمل ؟.
    -علينا بناء عالمنا الجديد.
    شعرت بقلق ، ولم يكن لدي متسع من الوقت لأسأله ، وكان يتحتم عليّ أن أبدي استعدادي لأن أودّعه:
    - الحياة قصيرة.، و انطلقت إلى راشيا الفخار كان الهواء يختلط بطنين نحل البيارات ، أدار السائق مفتاح المذياع :
    -قامت طائرات " سكاي هوك " فجر اليوم بعملية حربية ضد مواقع الفدائيين في راشيا الفخار . أصابت هدفها وقضت على أفراد الموقع .
    بادلت السائق نظرات الدهشة ووجدت نفسي عاجزاً عن الإجابة وشعرت بتأنيب الضمير ، طفرت الدموع من عيني ، سادت لحظات كنت أسمع فيها طنين النحل ، حين أدرك السائق انشغالي ، قال :
    -هذا الخبر غير دقيق .
    -حقا ؟.
    -أنا كنت هناك أثناء القصف الصهيوني .
    -قل الصدق..
    - أصيبت امرأة تعاني من مرض عصبي .
    -أتقول الصدق ؟
    -نعم .. كن مطمئنا
    قبلته على وجنتيه .
    فجأة ، صرح ناطق عسكري :
    - قامت مجموعة من الفدائيين بعملية نوعية في( كريات شمونة) ، واستشهد أحدهم وهو يرفع العلم الفلسطيني في الجليل ، وعادت أفراد المجموعة إلى قواعدها .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    بحيرة الملح - 1- 2 - رواية - نبيه إسكندر الحسن
Working...
X