رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
تحت شمس شرم الشـــيخ
لم يعلن عن إخفاق قمة شرم الشيخ الأخيرة بين الرئيس المصري حسني مبارك ورأس الأفعى الصهيونية اليوم بنيامين نتنياهو، بل تم التأكيد على استمرار المبادرة المصرية التي ترمي إلى فتح الطريق المسدودة أمام مفاوضات عرفات- نتنياهو؛ ومن المفترض أن يُعقد لقاء ثلاثي خلال الأسابيع القادمة يضم الأطراف الثلاثة بغية التوصل إلى استئناف المفاوضات التي توقفت للمرة العاشرة ربما، وذلك بعد قيام حكومة الليكود ببناء مستعمرة في جبل "أبو غنيم " واستمرارها في توسيع المستوطنات القائمة وإقامة مستوطنات جديدة ..
ويبدو أن التكليف الأميركي الذي أخرج بموجبه الملك حسين مفاوضات الخليل من مأزقها أعطى اليوم مؤشراً لمصر لإخراج المسيرة "السلمية" من مأزقها.
ولنا أن نتساءل : هل انسحب دنيس روس مؤقتاً، مخلياً الطريق أمام أسامة الباز عن عجز أم عن خبث؟! كل الدلائل والتصريحات والاستنتاجات تشير إلى أن الدور الأميركي في هذه التسوية دور رئيس، ولم يذكر أحد من المعنيين العرب والإسرائيليين والأوربيين غير ذلك؛ كما أن الأميركيين لم يصرحوا بأنهم بلا جدوى في هذا الوقت أو في أي وقت!؟! إذن لماذا هذه الزحلقة ؟!
لقد أعلن فلسطينيو الحكم الذاتي أن دنيس روس وسيط منحاز وأنه لا يضع الرئيس كلنتون في صورة الوضع تماماً، ولا ينقل مقترحاتهم بأمانة؛ وردَّت الوزيرة أولبريت على ذلك مؤكدة ثقة الولايات المتحدة ورئيسها بدنيس روس، وأن من يرفضه يرفض الرئيس، وبهذا عززت شروطه التي قدمت على شكل مقترحات لسلطة عرفات، وأكدت على ضرورة أن تتم تنازلات لاستئناف المفاوضات وإنجاحها.
والتنازلات هي دائماً- كما عهدنا- تأتي من قبل الفلسطينيين وعلى حسابهم، لأن الإسرائيليين، بعد كل خطوة على طريق الاتفاق أو تنفيذ مرحلة من مراحله، يقفزون قفزة شديدة إلى الأمام في حقول الحق الفلسطيني، ثم تبدأ مساومة مضنية من أجل استئناف السير في طريق التفاوض أو التنفيذ، ويتم ضغط مكشوف أو مستور على الفلسطيني الذي يملك الاستعداد للتنازل فيقدم تنازلاً عن آخر ما وصل إليه الاتفاق، وهكذا تستمر عملية القضم " الإسرائيلي " "المشروع" من حق الفلسطيني التائه؛ وفي هذا الاتجاه تأتي العملية الأخيرة، التي تعني أن شروط نتنياهو- وهي اقتراحات دنيس روس التي قُدِّمت إلى الفلسطينيين - ينبغي أن تُنفَّذ تماماً لكي تُستأنف المفاوضات..
ولكن جبل " أبو غنيم " رُبط تماماً- إعلامياً وسياسياً- بمعنى القدس التي سيجري عليها التفاوض، وأصبح موضوع إقامة المستوطنة الإسرائيلية عليه يعني انتزاع جزء بعد جزء من المدينة قبل حلول موعد التفاوض على ما تبقَّى منها، وهبّ العرب والمسلمون وبلدان العالم لمناصرة القدس، ووصل الأمر إلى الأمم المتحدة بعد الفيتو الأميركي المزدوج في مجلس الأمن؛ وصارت كرامة سلطة الحكم الذاتي ومن وقف معها في الميزان؟ فكيف السبيل إلى إخراج "الزير من البير" مع عدم تعكير الماء ؟!.
هذا الموضوع الذي تقابلت على أرضيته أصابع الاتهام ووضعت فيه جرافة الاستيطان في مقابل وقف "الإرهاب"، لا يمكن أن يحل بالسوط الأميركي اللامع كما لا يمكن أن يحل على حساب " الإسرائيلي " مطلقاً، ولذلك وقع الاختيار على "وسيط" عربي يبادر إلى إخراج "الزير من البير" من دون إخلال بالمواصفات والشروط الإسرائيلية التي صيغت على صورة مقترحات أميركية..
عرفات الذي يدرك جيداً أن حجم الاستيطان في الضفة كلها أضعاف أضعاف ما يجري في جبل " أبو غنيم " علق عودة المفاوضات على وقف البناء في "أبو غنيم"، ونتنياهو الذي أكد مراراً وتكراراً تصميم "إسرائيل" على البناء في "عاصمتها" الأبدية الموحدة ـ القدس " لن يتراجع عن موضوع البناء، فكيف السبيل إلى التوفيق بين "المتفقين"؟! يسوَّى الأمر في إخراج ظاهر بسيط يأخذ المجرى الآتي:
1- يعلن نتنياهو عن بناء بعض المساكن للعرب في الجبل إياه أو في موقع قريب منه، ولكن لن تكون تلك المساكن إلا لمن ترضى عنهم " إسرائيل " من صنائعها، ويستمر في تنمية الاستيطان في المواقع الأخرى.
2- يتغاضى عرفات عن موجة الاستيطان الضخمة المستمرة في الضفة، وعن توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، ويستأنف المفاوضات المرحلية أو النهائية تحت غطاء إعلان "إسرائيلي" مؤقت بتأجيل تنفيذ المرحلة الثانية من بناء المستوطنة الصهيونية في" أبو غنيم" لعدة أشهر تستأنف خلالها المفاوضات، وذلك تحت صيغة إعلامية مدوية ترضي عرفات : "وقف البناء في "أبو غنيم" .
3- يعطى عرفات حق إقامة مطار ومرفأ وطريق يربط غزة بالضفة؛ وهي الأمور المتفق عليها في أوسلو، ولكن تبقى كل تلك المرافق تحت السيطرة الإسرائيلية التامة.
4- يظهر عرفات منتصراً ويحفظ ماء وجهه أمام العالم الذي استنفره، ويقوم بتسويغ هذا الوهم وتصديره للعرب والمسلمين والعالم الذي وقف معه.
5- يستمر نتنياهو في مواقعه، على مبدئيته ومواقفه، ضمن شروطه التي صاغها روس على شكل اقتراحات مرفوضة فلسطينياً، وتمكن أسامة الباز من تقديمها على أنها إنجاز فلسطيني كذلك الإنجاز الذي تم في الخليل.
6- تستأنف " إسرائيل " البناء في " أبو غنيم " بصمت إعلامي، وتستأنف سلطة الحكم الذاتي المفاوضات بضجيج إعلاني.
7- تصل المبادرة المصرية إلى نجاح مؤدية الغرض الأميركي، ويرتاح نافخ الكير العربي من عناء التعب للحظة تحت وهج شمس شرم الشيخ، وربما يستحم على شاطئ البحر الأحمر..
8 - وفي هذه الأوقات لن تُنسى سورية من إشارات وتلميحات بضرورة إيجاد مخرج للمفاوضات المتوقفة، على مسارها، من مأزقها؛ كما أنه لن يتوقف الضغط المستمر عليها من الحلف التركي- " الإسرائيلي " الذي يتمتع بالرعاية الأميركية القصوى..
"ليس بالإمكان أبدع مما كان" هكذا تقدم الذرائعيَّة العربية ما تم التوصل إليه، وهكذا تستمر في نسج شرانقها والتضلُّع من أوهامها، أما على الأرض التي تعسّ في جنباتها النار من الشمال والجنوب والغرب، فإن دبيب الخطر لن يتوقف، ومثل هذه التسويات والمبادرات لن تضع لتقدمه حداً. وما دام كثرة من العرب يقولون:"ليس بيننا وبين " إسرائيل " شيء" و " الفلسطيني قد رضي وارتاح وأراح "، فإن الورم السرطاني سيستمر في النمو، والتراجع العربي المريع سوف يستمر هو الآخر..
لقد اختار عرفات "إسرائيل" اختياراً استراتيجياً نهائياً، ربما تزحلق نحو هذه الهوة في البداية على أرضية استعداداته ورغباته وطموحاته الخاصة، ولكنه الآن فيها يتمتع بنوع من الرضا ويحيك الانتصارات، وسوف يجد أنه حقق نصراً حين يسكت عن إقامة "مستعمرة جبل أبو غنيم" في مقابل السماح له بالتحليق في طائرته من مطار خاص تشرف عليه " إسرائيل " إشرافاً كاملاً، وسوف يجد في تنفيذ ما تم الاتفاق على تنفيذه في اتفاق أوسلو البائس من: مرفأ في غزة، وطريق يربط غزه بالضفة، وإنشاء المطار المشار إليها، سوف يجد في ذلك أكبر الإنجازات في تاريخ السلطة. ولكن ذلك على ضرورته لا يقيم أي قوام لدولة فلسطين التي نتطلع إلى قيامها جميعاً على أسس من المنعة والقوة والكرامة والاستقلال والسيادة التامة.
إن الوعي العربي لحدود المشكلة الآن، أهم من أي فعل يقوم به العرب دون وعي لتلك الحدود؛ وكل تحرك عربي يتم في حدود ضيقة لمحاصرة نار يوقدها العدو في موقع معين ليغطي على جحيم يهيئ له في موقع آخر ويواريه عن الأنظار، هو نوع من الانخراط في برنامج العدو أو السير على الطريق التي يرسمها للوصول بالمنطقة إلى حالة تمكنه من تحقيق أغراضه وتأمين مصالحه ومصالح حلفائه.
العدو الصهيوني يدرك جيداً، بعد أن عرّى منظمة التحرير الفلسطينية من أغطيتها، ودخل في تلافيف بعض الأنظمة والأدمغة العربية، أن الموقع الأهم الذي عليه أن يراقبه ويعمل على تدميره- إن استطاع- هو سورية؛ ومن أجل تهديدها وعزلها ووضع حد لقدرتها على التحرك أقام- بوحي وتدبير ودعم أميركي- تحالفه مع تركيا، وأخذ يمهد لتحالف أوسع يجر إليه بعد الأردن اليونان، عدو الأمس بالنسبة لتركيا.
وفي الوقت الذي يعلن فيه نتنياهو استعداده "للسلام" -على طريقته وبشروطه - يلوِّح بتهديد سورية ما لم تحقق ثلاثاً بالدرجة الأولى وما لا يحصى من المطالب بدرجات أخرى :
أولاً: وقف ما يسميه " دعم الإرهاب "، ولم يعد يقصر ذلك المفهوم على دعم سورية للمقاومة الوطنية المشروعة في جنوب لبنان، تلك التي تقاتل الصهاينة من أجل تحرير الأرض من الاحتلال، بل أخذ يذكر صراحة ما يسمى "بدعم الإرهاب ضد تركيا" وهو يقصد تعزيز الاتهامات التركية لسورية برعاية "عبد الله أوجلان" وجماعته، الأمر الذي نفته سورية مراراً وتكراراً.
ومعنى هذا التطوير للمفهوم، والتوسع في الاتهام: إعداد للعدوان، وتأكيد للاستفزاز، واستمرار في التهديد، ووضع لهذا الأمر في الإطار الذي يرضي الإدارة الأميركية، ويتوافق مع اتهاماتها وتطلعاتها ومخططاتها .
ثانياً: القبول بالعودة إلى المفاوضات الثنائية بالشروط "الإسرائيلية"، والاستعداد لتقديم تنازلات "شجاعة" كتلك التي قدمها الآخرون، تفضي إلى اعتراف بـ " إسرائيل " وسيطرتها على أجزاء من الجولان ومياهه، وهيمنتها غير المنقوصة على القرار السياسي العربي وعلى الوضعين الأمني والاقتصادي في المنطقة؛ أي القبول "باستسلام" ملطف بهيج تفوح منه رائحة عطور الثناء الصهيوني الذي يفد بألسنة غربية وقوام أميركي رشيق.
ثالثاً: الكف عن بذل أي جهد للحصول على سلاح، أو تطوير أي سلاح، ووضع حد لأي تحرك أو اتصال أو فعل من شأنه أن يمتن علاقات مع إيران أو مع أي موقع عربي يمكنها في المستقبل من القيام بدور رئيس في المنطقة، ومن التحرك باتجاه مشروع نهضوي عربي على أرضية قومية تحريرية واعية لأهدافها وأدواتها. فهو يريدها لقمة سائغة بلا أشواك أو منغصات، ودولة بلا رؤية أو طموح أو تطلع أو مشروع قومي أو حس نظيف كريم.
ومن أجل هذا يُحكِمُ- مع حلفائه- الطوق من حول سورية، ويهيئ مع الجنرالات الدونما في تركيا لمناورات بحرية وبرية، ويخلق مناخاً مسموماً بين سورية وجارتها تركيا، ويعمل مع شركائه أولئك، تحت الغطاء الأميركي الشامل، على خلق مناخ يسوده التوتر وانعدام الثقة، وتظلله الأطماع والرؤى الصهيونية- العنصرية السوداء، والجشع الأميركي البغيض؛ لا سيما ما يتجلى من ذلك في: موضوع مياه الفرات- وتوغل القوات التركية مسافة مئتي كيلو متر في شمال العراق، في عمليات عدوانية مسكوت عنها؛ وما يشيع في ذلك الجو من تهديد لسورية وإيران وكل من يحاول أن يرفع صوتاً ضد العصر الأميركي- الصهيوني في عالم بائس تنعق فيه غربان البيت الأبيض.
والسؤال الأساس، في ظل هذا الوضع المحزن، هو: هل نسلم ونستسلم، ونقر بضياعنا إلى الأبد؟! وهل نبقى ندور في فلك ما يرسم لنا من خطط وبرامج؟! وهل يقبل العرب أن تدور الدوائر على كل منهم على انفراد فيمضغون ريقهم ويقولون: ما زال بيننا وبين الخطر مسافة!؟ وهو يتقدم إليهم باستمرار أينما كانوا؟! هل يتحرك العرب على أرضية مغايرة من التفكير والفعل والتعاون بعد كل ما جربوه وما جنوه؟! هل يفعّلون قرارات القمة العربية الأخيرة، وقرارات مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الأخير، ويتخذون من الخطوات ما يكفل الإعلان- مجرد الإعلان- عن أنهم موجودون، وأنهم يعون ما يدور من حولهم وما يدبر لهم؟! أم أنهم سكارى وما هم بسكارى؟!
إن صحوة عربية مما هو واجب الحدوث بسرعة وجدية ومسؤولية، وإلا فإن الظلام والظلم سوف يزدادان كثافة، حتى لو كنا تحت شمس شرم الشيخ المحرقة.
دمشق في 28/5/1997.
الأسبوع الأدبي/ع563//31/آيار/1997.
ويبدو أن التكليف الأميركي الذي أخرج بموجبه الملك حسين مفاوضات الخليل من مأزقها أعطى اليوم مؤشراً لمصر لإخراج المسيرة "السلمية" من مأزقها.
ولنا أن نتساءل : هل انسحب دنيس روس مؤقتاً، مخلياً الطريق أمام أسامة الباز عن عجز أم عن خبث؟! كل الدلائل والتصريحات والاستنتاجات تشير إلى أن الدور الأميركي في هذه التسوية دور رئيس، ولم يذكر أحد من المعنيين العرب والإسرائيليين والأوربيين غير ذلك؛ كما أن الأميركيين لم يصرحوا بأنهم بلا جدوى في هذا الوقت أو في أي وقت!؟! إذن لماذا هذه الزحلقة ؟!
لقد أعلن فلسطينيو الحكم الذاتي أن دنيس روس وسيط منحاز وأنه لا يضع الرئيس كلنتون في صورة الوضع تماماً، ولا ينقل مقترحاتهم بأمانة؛ وردَّت الوزيرة أولبريت على ذلك مؤكدة ثقة الولايات المتحدة ورئيسها بدنيس روس، وأن من يرفضه يرفض الرئيس، وبهذا عززت شروطه التي قدمت على شكل مقترحات لسلطة عرفات، وأكدت على ضرورة أن تتم تنازلات لاستئناف المفاوضات وإنجاحها.
والتنازلات هي دائماً- كما عهدنا- تأتي من قبل الفلسطينيين وعلى حسابهم، لأن الإسرائيليين، بعد كل خطوة على طريق الاتفاق أو تنفيذ مرحلة من مراحله، يقفزون قفزة شديدة إلى الأمام في حقول الحق الفلسطيني، ثم تبدأ مساومة مضنية من أجل استئناف السير في طريق التفاوض أو التنفيذ، ويتم ضغط مكشوف أو مستور على الفلسطيني الذي يملك الاستعداد للتنازل فيقدم تنازلاً عن آخر ما وصل إليه الاتفاق، وهكذا تستمر عملية القضم " الإسرائيلي " "المشروع" من حق الفلسطيني التائه؛ وفي هذا الاتجاه تأتي العملية الأخيرة، التي تعني أن شروط نتنياهو- وهي اقتراحات دنيس روس التي قُدِّمت إلى الفلسطينيين - ينبغي أن تُنفَّذ تماماً لكي تُستأنف المفاوضات..
ولكن جبل " أبو غنيم " رُبط تماماً- إعلامياً وسياسياً- بمعنى القدس التي سيجري عليها التفاوض، وأصبح موضوع إقامة المستوطنة الإسرائيلية عليه يعني انتزاع جزء بعد جزء من المدينة قبل حلول موعد التفاوض على ما تبقَّى منها، وهبّ العرب والمسلمون وبلدان العالم لمناصرة القدس، ووصل الأمر إلى الأمم المتحدة بعد الفيتو الأميركي المزدوج في مجلس الأمن؛ وصارت كرامة سلطة الحكم الذاتي ومن وقف معها في الميزان؟ فكيف السبيل إلى إخراج "الزير من البير" مع عدم تعكير الماء ؟!.
هذا الموضوع الذي تقابلت على أرضيته أصابع الاتهام ووضعت فيه جرافة الاستيطان في مقابل وقف "الإرهاب"، لا يمكن أن يحل بالسوط الأميركي اللامع كما لا يمكن أن يحل على حساب " الإسرائيلي " مطلقاً، ولذلك وقع الاختيار على "وسيط" عربي يبادر إلى إخراج "الزير من البير" من دون إخلال بالمواصفات والشروط الإسرائيلية التي صيغت على صورة مقترحات أميركية..
عرفات الذي يدرك جيداً أن حجم الاستيطان في الضفة كلها أضعاف أضعاف ما يجري في جبل " أبو غنيم " علق عودة المفاوضات على وقف البناء في "أبو غنيم"، ونتنياهو الذي أكد مراراً وتكراراً تصميم "إسرائيل" على البناء في "عاصمتها" الأبدية الموحدة ـ القدس " لن يتراجع عن موضوع البناء، فكيف السبيل إلى التوفيق بين "المتفقين"؟! يسوَّى الأمر في إخراج ظاهر بسيط يأخذ المجرى الآتي:
1- يعلن نتنياهو عن بناء بعض المساكن للعرب في الجبل إياه أو في موقع قريب منه، ولكن لن تكون تلك المساكن إلا لمن ترضى عنهم " إسرائيل " من صنائعها، ويستمر في تنمية الاستيطان في المواقع الأخرى.
2- يتغاضى عرفات عن موجة الاستيطان الضخمة المستمرة في الضفة، وعن توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، ويستأنف المفاوضات المرحلية أو النهائية تحت غطاء إعلان "إسرائيلي" مؤقت بتأجيل تنفيذ المرحلة الثانية من بناء المستوطنة الصهيونية في" أبو غنيم" لعدة أشهر تستأنف خلالها المفاوضات، وذلك تحت صيغة إعلامية مدوية ترضي عرفات : "وقف البناء في "أبو غنيم" .
3- يعطى عرفات حق إقامة مطار ومرفأ وطريق يربط غزة بالضفة؛ وهي الأمور المتفق عليها في أوسلو، ولكن تبقى كل تلك المرافق تحت السيطرة الإسرائيلية التامة.
4- يظهر عرفات منتصراً ويحفظ ماء وجهه أمام العالم الذي استنفره، ويقوم بتسويغ هذا الوهم وتصديره للعرب والمسلمين والعالم الذي وقف معه.
5- يستمر نتنياهو في مواقعه، على مبدئيته ومواقفه، ضمن شروطه التي صاغها روس على شكل اقتراحات مرفوضة فلسطينياً، وتمكن أسامة الباز من تقديمها على أنها إنجاز فلسطيني كذلك الإنجاز الذي تم في الخليل.
6- تستأنف " إسرائيل " البناء في " أبو غنيم " بصمت إعلامي، وتستأنف سلطة الحكم الذاتي المفاوضات بضجيج إعلاني.
7- تصل المبادرة المصرية إلى نجاح مؤدية الغرض الأميركي، ويرتاح نافخ الكير العربي من عناء التعب للحظة تحت وهج شمس شرم الشيخ، وربما يستحم على شاطئ البحر الأحمر..
8 - وفي هذه الأوقات لن تُنسى سورية من إشارات وتلميحات بضرورة إيجاد مخرج للمفاوضات المتوقفة، على مسارها، من مأزقها؛ كما أنه لن يتوقف الضغط المستمر عليها من الحلف التركي- " الإسرائيلي " الذي يتمتع بالرعاية الأميركية القصوى..
"ليس بالإمكان أبدع مما كان" هكذا تقدم الذرائعيَّة العربية ما تم التوصل إليه، وهكذا تستمر في نسج شرانقها والتضلُّع من أوهامها، أما على الأرض التي تعسّ في جنباتها النار من الشمال والجنوب والغرب، فإن دبيب الخطر لن يتوقف، ومثل هذه التسويات والمبادرات لن تضع لتقدمه حداً. وما دام كثرة من العرب يقولون:"ليس بيننا وبين " إسرائيل " شيء" و " الفلسطيني قد رضي وارتاح وأراح "، فإن الورم السرطاني سيستمر في النمو، والتراجع العربي المريع سوف يستمر هو الآخر..
لقد اختار عرفات "إسرائيل" اختياراً استراتيجياً نهائياً، ربما تزحلق نحو هذه الهوة في البداية على أرضية استعداداته ورغباته وطموحاته الخاصة، ولكنه الآن فيها يتمتع بنوع من الرضا ويحيك الانتصارات، وسوف يجد أنه حقق نصراً حين يسكت عن إقامة "مستعمرة جبل أبو غنيم" في مقابل السماح له بالتحليق في طائرته من مطار خاص تشرف عليه " إسرائيل " إشرافاً كاملاً، وسوف يجد في تنفيذ ما تم الاتفاق على تنفيذه في اتفاق أوسلو البائس من: مرفأ في غزة، وطريق يربط غزه بالضفة، وإنشاء المطار المشار إليها، سوف يجد في ذلك أكبر الإنجازات في تاريخ السلطة. ولكن ذلك على ضرورته لا يقيم أي قوام لدولة فلسطين التي نتطلع إلى قيامها جميعاً على أسس من المنعة والقوة والكرامة والاستقلال والسيادة التامة.
إن الوعي العربي لحدود المشكلة الآن، أهم من أي فعل يقوم به العرب دون وعي لتلك الحدود؛ وكل تحرك عربي يتم في حدود ضيقة لمحاصرة نار يوقدها العدو في موقع معين ليغطي على جحيم يهيئ له في موقع آخر ويواريه عن الأنظار، هو نوع من الانخراط في برنامج العدو أو السير على الطريق التي يرسمها للوصول بالمنطقة إلى حالة تمكنه من تحقيق أغراضه وتأمين مصالحه ومصالح حلفائه.
العدو الصهيوني يدرك جيداً، بعد أن عرّى منظمة التحرير الفلسطينية من أغطيتها، ودخل في تلافيف بعض الأنظمة والأدمغة العربية، أن الموقع الأهم الذي عليه أن يراقبه ويعمل على تدميره- إن استطاع- هو سورية؛ ومن أجل تهديدها وعزلها ووضع حد لقدرتها على التحرك أقام- بوحي وتدبير ودعم أميركي- تحالفه مع تركيا، وأخذ يمهد لتحالف أوسع يجر إليه بعد الأردن اليونان، عدو الأمس بالنسبة لتركيا.
وفي الوقت الذي يعلن فيه نتنياهو استعداده "للسلام" -على طريقته وبشروطه - يلوِّح بتهديد سورية ما لم تحقق ثلاثاً بالدرجة الأولى وما لا يحصى من المطالب بدرجات أخرى :
أولاً: وقف ما يسميه " دعم الإرهاب "، ولم يعد يقصر ذلك المفهوم على دعم سورية للمقاومة الوطنية المشروعة في جنوب لبنان، تلك التي تقاتل الصهاينة من أجل تحرير الأرض من الاحتلال، بل أخذ يذكر صراحة ما يسمى "بدعم الإرهاب ضد تركيا" وهو يقصد تعزيز الاتهامات التركية لسورية برعاية "عبد الله أوجلان" وجماعته، الأمر الذي نفته سورية مراراً وتكراراً.
ومعنى هذا التطوير للمفهوم، والتوسع في الاتهام: إعداد للعدوان، وتأكيد للاستفزاز، واستمرار في التهديد، ووضع لهذا الأمر في الإطار الذي يرضي الإدارة الأميركية، ويتوافق مع اتهاماتها وتطلعاتها ومخططاتها .
ثانياً: القبول بالعودة إلى المفاوضات الثنائية بالشروط "الإسرائيلية"، والاستعداد لتقديم تنازلات "شجاعة" كتلك التي قدمها الآخرون، تفضي إلى اعتراف بـ " إسرائيل " وسيطرتها على أجزاء من الجولان ومياهه، وهيمنتها غير المنقوصة على القرار السياسي العربي وعلى الوضعين الأمني والاقتصادي في المنطقة؛ أي القبول "باستسلام" ملطف بهيج تفوح منه رائحة عطور الثناء الصهيوني الذي يفد بألسنة غربية وقوام أميركي رشيق.
ثالثاً: الكف عن بذل أي جهد للحصول على سلاح، أو تطوير أي سلاح، ووضع حد لأي تحرك أو اتصال أو فعل من شأنه أن يمتن علاقات مع إيران أو مع أي موقع عربي يمكنها في المستقبل من القيام بدور رئيس في المنطقة، ومن التحرك باتجاه مشروع نهضوي عربي على أرضية قومية تحريرية واعية لأهدافها وأدواتها. فهو يريدها لقمة سائغة بلا أشواك أو منغصات، ودولة بلا رؤية أو طموح أو تطلع أو مشروع قومي أو حس نظيف كريم.
ومن أجل هذا يُحكِمُ- مع حلفائه- الطوق من حول سورية، ويهيئ مع الجنرالات الدونما في تركيا لمناورات بحرية وبرية، ويخلق مناخاً مسموماً بين سورية وجارتها تركيا، ويعمل مع شركائه أولئك، تحت الغطاء الأميركي الشامل، على خلق مناخ يسوده التوتر وانعدام الثقة، وتظلله الأطماع والرؤى الصهيونية- العنصرية السوداء، والجشع الأميركي البغيض؛ لا سيما ما يتجلى من ذلك في: موضوع مياه الفرات- وتوغل القوات التركية مسافة مئتي كيلو متر في شمال العراق، في عمليات عدوانية مسكوت عنها؛ وما يشيع في ذلك الجو من تهديد لسورية وإيران وكل من يحاول أن يرفع صوتاً ضد العصر الأميركي- الصهيوني في عالم بائس تنعق فيه غربان البيت الأبيض.
والسؤال الأساس، في ظل هذا الوضع المحزن، هو: هل نسلم ونستسلم، ونقر بضياعنا إلى الأبد؟! وهل نبقى ندور في فلك ما يرسم لنا من خطط وبرامج؟! وهل يقبل العرب أن تدور الدوائر على كل منهم على انفراد فيمضغون ريقهم ويقولون: ما زال بيننا وبين الخطر مسافة!؟ وهو يتقدم إليهم باستمرار أينما كانوا؟! هل يتحرك العرب على أرضية مغايرة من التفكير والفعل والتعاون بعد كل ما جربوه وما جنوه؟! هل يفعّلون قرارات القمة العربية الأخيرة، وقرارات مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الأخير، ويتخذون من الخطوات ما يكفل الإعلان- مجرد الإعلان- عن أنهم موجودون، وأنهم يعون ما يدور من حولهم وما يدبر لهم؟! أم أنهم سكارى وما هم بسكارى؟!
إن صحوة عربية مما هو واجب الحدوث بسرعة وجدية ومسؤولية، وإلا فإن الظلام والظلم سوف يزدادان كثافة، حتى لو كنا تحت شمس شرم الشيخ المحرقة.
دمشق في 28/5/1997.
الأسبوع الأدبي/ع563//31/آيار/1997.
Comment