رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
دور المثقف في المقاومة
علاقة جدلية، حيوية وعميقة، تقوم بين من يكتب سفر خلاصه بدمه، ومن يكتب، من أجل الخلاص، أسفاراً بقلمه. أحدهما يدعو إلى تجسيد رؤية، ويمتطي صهوة الحلم مدخلاً لتغيير الواقع، ويختط طرقاً يدعو إلى السير فيها، والآخر يجعل من اقتحام عالم الرؤية والحلم بعزم روحه وجسمه، ومن سلوك تلك الطريق أمراً ممكناً وبمتناول المجتهد.
وحين يحنِّي الدم تراب الوطن، وتلامس قدسه سلاميات الحروف الممتدة في عروق الأرض والشعب، وتخضلّ، وتضرب جذورها عميقاً في تربة الإبداع، وتذهب بعيداً في التأثير في أرواح وقلوب، ويغدو نشيدُها مسموعاً ومؤثراً، فيوقظ القلبُ عزماً في القلب، وتجد الروحُ طريقها إلى الروح، ويهز القول شجرة العطاء في كل نفس فيسَّاقط جناها ثمر العز طرياً طلياً، ويبعث فيها وهج التاريخ وزهوه، فتجود تضحية وفداء على طرق الحرية والكرامة ولتحرير؛ الأمر الذي يخلق مناخ تفاعل العطاء الإنساني وتبادله، بين كلمة مسؤولة نذرت نفسها للحق والحرية والحياة، وبين إنسان تتلخّص معاني الحياة عنده في وقفة عز على أرض وطن عزيز، ويحركه الوعي المعرفي دافعاً إياه إلى سلوك طريق التنفيذ، وتخلق الكلمة الصادقة فيه مناخ النضال، وتثمر روحه أملاً ونوراً وتجود بدم زكي يغذّي مشكاة النور والأمل على طريق مجد الإنسان ومجد الحرية ومجد الوطن.
والعلاقة الجدلية ذاتها تقريباً تنشأ بين أولئك الذين يخلصون كلياً لتلك المهمة، وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه، ويناضلون من أجل تغييره؛ فالمرء ابن المناخ الذي تهب عليه كلَّ يوم نسائمهُ ورياحهُ، ويتقلب على صفائح حرّه وقرّه.
وإذا كانت الكلمة الحرة صاحبة إسهام في صنع قرار المقاومة وفعلها، وإذكاء نارها المقدسة، فإنها إنما تستنبت شرفها ومقومات حياتها وحيويتها وتأثيرها، في تربة الاستشهاد، وعلى عتبات مجده ومجد المقاومين من أجل الوطن والمواطن وغد انتصار الحق والعدل والإنسان. وعلى طرق المقاومة النوعية الصلبة للاحتلال الصهيوني، الذي يعلن اليوم عن عودة عنصرية نازية جديدة أكثر حقداً وخطراً على الإنسانية من نازية هتلر، على طريقها العربي، تزهو الكلمة الموقف بأن تنتمي إلى المقاومة وتمجِّدها وتسهمَ في إذكاء شعلتها، وبأن تتسامى إلى مقام الشهادة بترانيمها لتُقْبل هناك وشاحاً أو زينة على وشاح.
لقد قدم أدباء من أبناء أمتنا إسهاماً في أدب المقاومة ومن أجل استمرارها، ووشاحاً لمجد الشهادة وأبطالها، وواكبوا ذلك الجهد السامي الذي يقدمه أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان وفي المحتل من فلسطين، ورفعوا أصواتهم من أجل استمرار المقاومة واتساع مداها؛ وقدموا ثمر الكلمة ليكونوا ناراً ونوراً: ناراً تحرق الفساد الذي يصيب الضمائر وينشر العفن في نفوس، ونوراً يهدي إلى طريق الخلاص والشهادة ويضيء صرحها الشامخ في أرضنا العربية. وهو بعض الإسهام في المواجهة الثقافية على الجبهة المفتوحة مع الاحتلال والغزو الهمجي المستمر، الذي تشنه إسرائيل، مدعومة بالصهيونية والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن ذلك منهم سوى جهد المقلِّ، فالأدب أكثر قدرة على العطاء للمقاومة مما أعطى والمثقف المبدع يستطيع أن يفعل الكثير مؤكداً في عطائه إيمانه المطلق بقدرة شعبنا العربي على تحقيق النصر، واعتزازه بالعمليات النوعية وبالبطولات الفذة التي يقوم بها أبناء أمتنا العربية ضد العدو الصهيوني في جنوب لبنان وفلسطين، من أجل الحرية والكرامة والاستقلال، من أجل انتصار الحق والإنسان في عالم غدا فيه الحق والإنسان غريبين مشردين، وليس لهما ملجأ وسلاح سوى شعلة الدم والكلمة الموقف، في جهادهما من أجل البقاء في أرض البشر، ومن أجل قيم خيرة في عالم أهم ما يحتاج إليه القيم الخيرة.
وما ينبغي أن يؤكد عليه الكتاب خاصة والمثقفون عامة هو حاجتنا إلى استمرار المقاومة النوعية في هذه الظروف التي ينمو فيها سرطان الاستيطان والتآمر الأميركي- الصهيوني على مواقع الصمود والمقاومة في الوطن، وتحقن اتفاقيات الإذعان السابقة بما ينعش مسيرة الاستسلام ويوطد لإسرائيل ومشروعها أركاناً في أوطاننا.
ومن أولى واجبات المثقفين:
1- الدفاع عن شرعية المقاومة ومشروعيتها، لا سيما في ظل ظروف وسياسات وحملات إعلامية صهيونية وأميركية وغربية وحتى عربية أحياناً تريد أن تسبغ عليها صفة الإرهاب، وتسحب عنها المشروعية وتحملها مسؤولية تدمير "السلام" وفرصه، فالمقاومة ضد الاحتلال حق مشروع لمن تقع أرضه تحت الاحتلال، وهذا الحق المشروع ينبغي الدفاع عنه في معارك الشعوب وهو من أوّل الواجبات وأقدس المهمات.
2- استلهام تضحيات المقاومين وبطولاتهم ومعاناة أسرهم، في الإبداع الأدبي والفني، وتقديم المقاومة بأجلى صورها وأرفع قيمها وأنصع تلك القيم إلى المواطنين والرأي العام، ورفع نماذجها قدوة وإعلاء قيمة الفداء التي تقدمها تلك النماذج مثلاً يُحتذى، لا سيما في المدارس والجامعات وأوساط الشعب.
والمثقف مسؤول بحكم الموقف والاختيار والوعي عن إظهار قيمة المقاومة وضرورتها وفضائل القائمين بها فمن يقضي من أجل الوطن، ويضحي بمستقبله ومستقبل أطفاله ليس كمن يتاجر بالوطن وينام على حساب راحة الآخرين وأمنهم؟ ومن يدفع دمه ليعيش الآخرون بكرامة ليس كمن يمتص دم الآخرين ليعيش على هامش القيم والكرامة؛ ومن واجب المثقف أن يبرز ذلك ويدافع عنه.
3- على المثقف وسادن الثقافة المسؤول تاريخياً عن دورها ومكانتها ألا ينهزم من الداخل، فيلحق الهزيمة بالآخرين، وألا يعمل على غرس روح الهزيمة في الأجيال؛ وألا يضع ثقل الوعي الثقافي في خدمة العدو أو في مجرى فعل سلبي من شأنه تفتيت الثقة وإضعاف الإرادة الوطنية أو تدميرها وإغلاق منافذ الأمل أمام الناس، ليقودهم من بعد إلى الاستسلام وهو يتغنى بواقعية انهزامية يكون من نتائجها القضاء على المعطيات الإيجابية التي تمكِّن الفرد والأمة من المبادرة إلى فعل منقذ في كل اتجاه؛ والتنبه إلى أوضاعها واستدراك أحوالها بكل السبل.
فالثقافة التي تصنع الهزيمة أو تكرسها أو توحي بها ثقافة تقوم بدور الطابور الخامس في الداخل، وتعمل على كسر ظهر المقاومة بدلاً من القيام بإسنادها معنوياً، وهي بالتالي تكسر ظهر الشعب بالغفلة أو بالتغفيل والتضليل، وتسلم الوطن والأمة إلى الهزيمة والضياع.
4- على المثقف أن يقدم، على أرضية العلم والإيمان، والعمل بهما خطاباً بنّاءً يصب في مجرى الحق والتحرير والحرية والعدل، ويسعى إلى إقناع أبناء الأمة بأن قضية الفئة المقاومة هي قضية الجميع، ومسؤولية دعم ذلك مسؤولية الجميع لتغدو المقاومة قضية شعبية وفعلاً شعبياً أيضاً وهذا يستدعي منه:
أ- التدقيق في نوع الخطاب المطلوب في الظروف والأوضاع الراهنة. وتقديم هذا الخطاب مهما كانت نتائج تقديمه مكلفة بالنسبة له. /لاسيما في ظل وجود ضخ إعلامي مضاد للأمة وللمقاومة، ووجود أنظمة عربية مستسلمة أو تدعو إلى الاستسلام وبيدها قرار السلم والحرب ومعظم مقومات ذينك الفعلين/ مهما كانت متطلبات تحويل ذلك الخطاب إلى فعل قوة يؤدي إلى حالة إيجابية ونتائج عملية على الأرض، ومهما كانت متطلبات ذلك قاسية. فَنَفَسُ الأمم لا يقاس بنفس الضعفاء من أفرادها، أو بنفس أفراد بل أجيال أحياناً.
ب- تقديم الأنموذج العلمي في سلوكه وممارساته ليعطي لخطابه مصداقية واقعية محسوسة وملموسة، فمن دون تلك المصداقية يتحول الخطاب إلى شعار فارغ، وما أكثر ما عانينا من الشعارات الطنَّانة الفارغة من كل مضمون عملي وقد لا يكون العيب في الشعار، وإنما في الأداء الذي يحكمه أو يتحكم بنتائجه ومصداقيته ومفعوله.
5- على المثقف أن يشكل ثقلاً في الحضور الجماهيري والاقتناع الشعبي والحشد الشعبي أيضاً وراء المقاومة وفعل التحرير، وأن يساهم في صنع إرادة التحرير وتعزيزها، وأن يشكل حضوراً في ساحة القرار السياسي ليدفع باتجاه ما يدعم المقاومة وتصعيدها على أسس من الكفاءة والاقتدار. فاستخدام مصداقية "الثقافي" وتأثيره وأدواته وبعده التاريخي كل ذلك مندوب إليه في ظرف تحتاج الأمة فيه إليه. وحين ينجح المثقف في إعطاء المقاومة صبغة شعبية شاملة يضع الأمة بإرادة حية على طريق النهضة والتحرير والتقدم.
فالمواجهة أتون يصهر معدن الشعب ويطهره ويبرزه والمواجهة امتحان يؤدي دخوله بثقة واقتدار إلى ولادة جديدة يقبل فيها المرء على الحياة ويتصدى لصعابها. والمثقف شعلة هذه المواجهة ونورها، فليكن له فضل ما خلق له أو ما نذر نفسه له.
6- أن يخلق مناخ المقاومة /نفسياً واجتماعياً/ وأن ينميه ويدافع عنه، ويعمل على توفير الرفد له، من خلال استنهاض الروح القومية التركيز على القيم الوطنية والانتماء الوطني والقومي، والمسؤولية الفردية والجماعية تاريخياً عن الوطن والمواطن، عن الحق والذي يدافع عنه، عن الحرية والتي يمهرها بدمه وبكل مقومات مستقبله.
وأن يتواصل معها تواصلاً حياً، بالوسائل المتاحة، فالمقاتل يشعر بتدفق الثقة في روحه والقوة في أعصابه كلما شعر بجدوى الفعل الذي يقوم به وردود ذلك الفعل، ويتم ذلك بفاعلية إذ استشعر وجود الآخرين معه وتقديرهم لأدائه وتضحياته ومعاناته، وحبهم له واحترامهم لدوره.
والمثقف أهل لأن يقدم له ذلك مع كل ما يثبت وجوده ويدعم ذلك الوجود، ويخلّد ذلك النوع من الأداء.
7- تأكيد المثقفين على التضامن والتكامل الاجتماعي مع المقاتلين وأسرهم، مع المقاومة وشهدائها وأهل أولئك الشهداء، عامل من أهم العوامل التي تدفع أداء المقاومة إلى الأمام، ويخلق حالة اجتماعية فيها الاطمئنان النسبي على الأقل والمسوغ الفاعل لمد المقاوم بالزاد المادي والمعنوي، فضلاً عن مدها بتكاليف التجهيزات والمعدات والعدد.
وتلك المسؤولية بوجهيها المادي والمعنوي من أهم ما يمكن أن يوظف المثقف جهده لخلقها وإنعاشها وتوفير قيمها ومقوماتها.
ولا يكون ذلك بالخطاب "البرجعاجي" ولا برفع الشعار، ولا بالكلام من بعيد عبر أجهزة الاتصال ومجالات النشر، على أهمية ذلك، وإنما يكون بالتواصل الحي مع المقاومة في مواقعها من جهة، ومع الأوساط الاجتماعية التي يخرج منها المقاومون من جهة أخرى. ويعزِّز ذلك تبنى الثقافة المشكلات والقضايا الخاصة والنوعية التي لتلك الفئات والعمل على حلها وإيصال صوت أصحابها إلى حيث ينبغي أن يصل.
8- تعزيز موقف المقاوم واختياره بكل ما في الكلمة من طاقة على الأداء بإقناع وإمتاع وإبداع، والعمل على خلق ذلك الفضاء الذي يمتد عبر تاريخ الأمة بين نماذج أبطالها وقادتها ووطنييها الحقيقيين وبناة مجدها وبين هؤلاء الذين يقاومون اليوم؛ والوسائل إلى ذلك كثيرة وما يبدعه التصميم من تلك الوسائل أكثر بكثير.
فاستقرار التاريخ واستذكار مواقعه ومواقف صَنَعَتِهِ سبيل، وإظهار الحق التاريخي في الأرض سبيل، وحماية المقدس والعقيدة سبيل، والدفاع عن قيم الأمة ووجودها سبيل، وحماية الأهل والأطفال والمستقبل سبيل، والوطنية بجلاء معانيها وقيمها المشرقة مجسدة في فعل منقذ سبيل. ومن يؤمن بقضية يبدع في إيجاد سبل خدمتها ونصرتها وتخليدها.
ولا أريد أن أغفل حقيقةً وواجباً على الثقافة حيال الوطن والإنسان من جهة وحيال المقاومة في وضع يعاني منه الوطن والإنسان معاً من جهة أخرى؛ وسبيلاً من سبل تحويل المقاومة إلى إرادة تحرير شعبية شاملة، وقرار سياسي وجماهيري يتحمل عبء ذلك التحرير وينهض به. وأعني بذلك العمل في جبهة الوطن الداخلية لتحرير المواطن من الجهل، وتخفيف معاناته، ومقاومة من يلغي حريته وينتهك حقوقه وحرياته، ويمنعه من ممارسة دوره في المشاركة في صنع القرار بممارسته الحرة والمسؤولية الواعية لمحيطها وظرفها وأدواتها وغاياتها، ممارسته لديمقراطية نظيفة وسليمة أو أقرب ما تكون إلى النظافة والسلامة. فالثقافة التي تصنع مواطناً حراً تهيئ عملياً لوطن حر، وتقيم من كل مواطن حصناً للحرية ومقاوماً في سبيلها، سواء تعرضت الحرية للانتقاص بفعل عدوان خارجي على الوطن، أم بفعل يقع على المواطن جراء ممارسة سلبية داخلية.
فالوطن الحر يقيمه الأحرار ويدافعون عنه، والحرية لا تتجزأ، وتتكامل مع واجبات وحقوق اجتماعية وتكتمل بها وبالوعي التام بالحق والعدل وصلاح الغاية والوسيلة. وللحرية شرطها البشري والاقتصادي والسياسي والحقوقي، وكل ميدان من تلك الميادين هو مجال عمل مثقف يبدع في خدمة المقاومين على الجبهات جميعاً، جبهات البناء الداخلي وجبهات الدفاع والتحرير.
إن محاربة الفساد نوع من تعزيز المواطنة الصالحة ومن ثم المقاومة الناجحة، وبالتالي التحرير والحرية والبناء السليم: تربوياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يساهم في بناء وضع وطني وقومي سليم هو الآخر يمكن من استشعار الواجب والمسؤولية في الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، ويدفع باتجاه المقاومة:
- مقاومة الانهزام وعوامله في الأعماق الفردية والآفاق الاجتماعية والوطنية والقومية.
- ومقاومة فعل القوة الغازية: عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.
- ومقاومة الاحتلال والاستيطان والمشروع العنصري النقيض لمشروع الأمة النهضوي.
إن المقاومة روح /معنوية ووطنية وعقيدية وخلقية وإنسانية/ تحكم الجسد وتسوقه في طريقها، وبمقدار ما ينتشر الوعي المعرفي ويتجذّر، تنمو هي وتتعمق وتتجذر في الذات والمجتمع بنمو الوعي المعرفي وتعمقه وتجذره واستشرافه. والمثقف هو حامل الوعي أو هكذا يفترض به أن يكون، ولذا تقع عليه مسؤولية خلق مناخ المقاومة وحمايتها والدفاع عنها؛ فالعلاقة بينهما علاقة عضوية بالمعنى الدقيق والشامل والوسع للكلمة.
فهل يبقى، وحالنا ما نرى ونعرف جميعاً، مبرر لتساؤل يقول: ما الذي يصنعه المثقف للمقاومة؛ وهولا يملك أمر نفسه ولا حريته ولا أمر الوطن وقراره؟!
هنا نتوقف عند حالة لابد من التوقف عندها، ومسؤولية، لابد من مواجهتها:
الحالة هي: وطن منتهك ويفتك به المرض والفساد، وتفترع أقطاره عصي سلطة لا تقيم للآخرين وزناً.
والمسؤولية هي: من يخرجنا من هذا الوضع أو يدفع باتجاه الخروج منه، وينير شمعة على طريق ذلك؟!
وهنا تبرز مسؤولية المثقف بحكم الوعي والموقع والاختيار.
فهل يقع عبء الريادة والكشف والقيادة في عصر العلم والمعلوماتية والمعرفة المتنامية على العامل والفلاح والحرفي؟! أم تراه يقع على الشرائح الأكثر وعياً واقتداراً على الصدور بفعلها ومواقفها عن وعي، واستخداماً للطاقات والإمكانات والأدوات بوحي من ذلك الوعي؟!
السُّلَط العربية قد تكون غارقة في تفاصيل الأداء على أرضية الهزيمة أو الإحباط أو بؤس الرؤية المستقبلية فمن يقدم لها روح الشعب عبر رؤية تستمد مقوماتها من واقع الشعب وتطلعه واستقراء تاريخه؟!
إنها الثقافة، وإنه التعلق بحب للأمة والوطن والعدل والحرية والناس معاً، يجعل أداء المثقف أداء شبه نبوي في الاستشراف، وفدائي في تحمل المسؤولية، وعقلاني بمواجهة الأوضاع القائمة، وعملاقاً في التضحية على أرضية التمسك بالحق وإضاءة طريق الناس إلى غدها بتقديم أنموذج الشمعة التي تحترق ليمشي الشعب إلى غد فيه الكرامة والسعادة والحرية.
إنها ضريبة المعرفة وضريبة الانتماء معاً، وهي نوع من صعق البرق لأرض تستنبت فيها روح الخصب وتلقن كلمات الحق بصرخات الرعد، على مطر الوعي أن يسقي عطش الروح ويستنبت في النفس زرعها وثمرها الطيب، وأهل الكلمة، من بين أهل الثقافة، مسؤولون عن الريادة وتحمل مسؤولية الأداء في العتمة بمواجهة سطوة الجهل والسوط، وعليهم أن يدخلوها صفاً، حزمة عيدان لا يسهل الاستفراد بها عوداً عوداً، ولهم من بعد على الناس ألا يقولوا لهم ما قالت اليهود لموسى :"اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون".
وإذا نجحت المقاومة في تقديم نماذج من القيادة والأداء، ترى نفسها في حالة أبوة مسؤولية عن كل مقاوم، واستثمرت الثقافة هذه الحالة، فإن مناخاً إيجابياً يمكن أن ينتشر ليشكل حالة استقطاب شاملة وراء هذا النوع من الأداء الذي نحتاج إليه في وضعنا الراهن.
وتشير سلسلة أداء المقاومة التي ننادي بتآخي الثقافة معها، بل بتداخلهما وتواصلهما عضوياً، إلى تقدم مؤثر في الأداء النوعي الذي يكلف العدو كثيراً، كما تشير المعطيات والاستنتاجات إلى أن التحامنا بالعدو على هذه الصورة الغريبة المؤثرة في مرحلية نضالية "تكتيك" على الهدف الاستراتيجي البعيد، هو من الأمور المطلوبة لأنها:
- تحد من استخدام أسلحته الفتاكة في ساحة المواجهة التلاحمية.
- وتبقيه في حالة استنزاف وعدم استقرار لا تمكنه من الراحة والبناء على أرضية أمن وأمان يمكنانه من استقدام ملايين المجلوبين لأغراض الاستعمار- الاستيطاني- العنصري وطرد شعبنا وتصفيته بأساليب مغطاة بزركشة قانونية وإعلامية.
- وتبقى قضيتنا في الضمائر والذواكر وأمام الأمم، تلح في استنجاز حسمها لمصلحة الأمة؛ وتدفعنا في طرق عمل مبدع على طريق التضامن أو الاتحاد أو التوحد في إطار من النهضة الشاملة يستدعيها فعل التحرير والتطلع نحو وجود حي حضاري في عالم لا يحترم إلا الأقوياء بالعلم والمعرفة، بالقوة المادية والمعنوية.
إن الثقافة وأهلها مندوبون لفعل مسؤول يكون للمقاومة عماداً وسنداً، ويحيطها بمد شعبي شامل، إلى أن تصبح المقاومة مسؤولية شعبية وأداء عربياً شاملاً حتى التحرير والنصر.
وليس ذلك على أمتنا ومثقفينا ومقاومتنا بعزيز.
الأسبوع الأدبي/ع581//11/ت1/1997
وحين يحنِّي الدم تراب الوطن، وتلامس قدسه سلاميات الحروف الممتدة في عروق الأرض والشعب، وتخضلّ، وتضرب جذورها عميقاً في تربة الإبداع، وتذهب بعيداً في التأثير في أرواح وقلوب، ويغدو نشيدُها مسموعاً ومؤثراً، فيوقظ القلبُ عزماً في القلب، وتجد الروحُ طريقها إلى الروح، ويهز القول شجرة العطاء في كل نفس فيسَّاقط جناها ثمر العز طرياً طلياً، ويبعث فيها وهج التاريخ وزهوه، فتجود تضحية وفداء على طرق الحرية والكرامة ولتحرير؛ الأمر الذي يخلق مناخ تفاعل العطاء الإنساني وتبادله، بين كلمة مسؤولة نذرت نفسها للحق والحرية والحياة، وبين إنسان تتلخّص معاني الحياة عنده في وقفة عز على أرض وطن عزيز، ويحركه الوعي المعرفي دافعاً إياه إلى سلوك طريق التنفيذ، وتخلق الكلمة الصادقة فيه مناخ النضال، وتثمر روحه أملاً ونوراً وتجود بدم زكي يغذّي مشكاة النور والأمل على طريق مجد الإنسان ومجد الحرية ومجد الوطن.
والعلاقة الجدلية ذاتها تقريباً تنشأ بين أولئك الذين يخلصون كلياً لتلك المهمة، وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه، ويناضلون من أجل تغييره؛ فالمرء ابن المناخ الذي تهب عليه كلَّ يوم نسائمهُ ورياحهُ، ويتقلب على صفائح حرّه وقرّه.
وإذا كانت الكلمة الحرة صاحبة إسهام في صنع قرار المقاومة وفعلها، وإذكاء نارها المقدسة، فإنها إنما تستنبت شرفها ومقومات حياتها وحيويتها وتأثيرها، في تربة الاستشهاد، وعلى عتبات مجده ومجد المقاومين من أجل الوطن والمواطن وغد انتصار الحق والعدل والإنسان. وعلى طرق المقاومة النوعية الصلبة للاحتلال الصهيوني، الذي يعلن اليوم عن عودة عنصرية نازية جديدة أكثر حقداً وخطراً على الإنسانية من نازية هتلر، على طريقها العربي، تزهو الكلمة الموقف بأن تنتمي إلى المقاومة وتمجِّدها وتسهمَ في إذكاء شعلتها، وبأن تتسامى إلى مقام الشهادة بترانيمها لتُقْبل هناك وشاحاً أو زينة على وشاح.
لقد قدم أدباء من أبناء أمتنا إسهاماً في أدب المقاومة ومن أجل استمرارها، ووشاحاً لمجد الشهادة وأبطالها، وواكبوا ذلك الجهد السامي الذي يقدمه أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان وفي المحتل من فلسطين، ورفعوا أصواتهم من أجل استمرار المقاومة واتساع مداها؛ وقدموا ثمر الكلمة ليكونوا ناراً ونوراً: ناراً تحرق الفساد الذي يصيب الضمائر وينشر العفن في نفوس، ونوراً يهدي إلى طريق الخلاص والشهادة ويضيء صرحها الشامخ في أرضنا العربية. وهو بعض الإسهام في المواجهة الثقافية على الجبهة المفتوحة مع الاحتلال والغزو الهمجي المستمر، الذي تشنه إسرائيل، مدعومة بالصهيونية والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن ذلك منهم سوى جهد المقلِّ، فالأدب أكثر قدرة على العطاء للمقاومة مما أعطى والمثقف المبدع يستطيع أن يفعل الكثير مؤكداً في عطائه إيمانه المطلق بقدرة شعبنا العربي على تحقيق النصر، واعتزازه بالعمليات النوعية وبالبطولات الفذة التي يقوم بها أبناء أمتنا العربية ضد العدو الصهيوني في جنوب لبنان وفلسطين، من أجل الحرية والكرامة والاستقلال، من أجل انتصار الحق والإنسان في عالم غدا فيه الحق والإنسان غريبين مشردين، وليس لهما ملجأ وسلاح سوى شعلة الدم والكلمة الموقف، في جهادهما من أجل البقاء في أرض البشر، ومن أجل قيم خيرة في عالم أهم ما يحتاج إليه القيم الخيرة.
وما ينبغي أن يؤكد عليه الكتاب خاصة والمثقفون عامة هو حاجتنا إلى استمرار المقاومة النوعية في هذه الظروف التي ينمو فيها سرطان الاستيطان والتآمر الأميركي- الصهيوني على مواقع الصمود والمقاومة في الوطن، وتحقن اتفاقيات الإذعان السابقة بما ينعش مسيرة الاستسلام ويوطد لإسرائيل ومشروعها أركاناً في أوطاننا.
ومن أولى واجبات المثقفين:
1- الدفاع عن شرعية المقاومة ومشروعيتها، لا سيما في ظل ظروف وسياسات وحملات إعلامية صهيونية وأميركية وغربية وحتى عربية أحياناً تريد أن تسبغ عليها صفة الإرهاب، وتسحب عنها المشروعية وتحملها مسؤولية تدمير "السلام" وفرصه، فالمقاومة ضد الاحتلال حق مشروع لمن تقع أرضه تحت الاحتلال، وهذا الحق المشروع ينبغي الدفاع عنه في معارك الشعوب وهو من أوّل الواجبات وأقدس المهمات.
2- استلهام تضحيات المقاومين وبطولاتهم ومعاناة أسرهم، في الإبداع الأدبي والفني، وتقديم المقاومة بأجلى صورها وأرفع قيمها وأنصع تلك القيم إلى المواطنين والرأي العام، ورفع نماذجها قدوة وإعلاء قيمة الفداء التي تقدمها تلك النماذج مثلاً يُحتذى، لا سيما في المدارس والجامعات وأوساط الشعب.
والمثقف مسؤول بحكم الموقف والاختيار والوعي عن إظهار قيمة المقاومة وضرورتها وفضائل القائمين بها فمن يقضي من أجل الوطن، ويضحي بمستقبله ومستقبل أطفاله ليس كمن يتاجر بالوطن وينام على حساب راحة الآخرين وأمنهم؟ ومن يدفع دمه ليعيش الآخرون بكرامة ليس كمن يمتص دم الآخرين ليعيش على هامش القيم والكرامة؛ ومن واجب المثقف أن يبرز ذلك ويدافع عنه.
3- على المثقف وسادن الثقافة المسؤول تاريخياً عن دورها ومكانتها ألا ينهزم من الداخل، فيلحق الهزيمة بالآخرين، وألا يعمل على غرس روح الهزيمة في الأجيال؛ وألا يضع ثقل الوعي الثقافي في خدمة العدو أو في مجرى فعل سلبي من شأنه تفتيت الثقة وإضعاف الإرادة الوطنية أو تدميرها وإغلاق منافذ الأمل أمام الناس، ليقودهم من بعد إلى الاستسلام وهو يتغنى بواقعية انهزامية يكون من نتائجها القضاء على المعطيات الإيجابية التي تمكِّن الفرد والأمة من المبادرة إلى فعل منقذ في كل اتجاه؛ والتنبه إلى أوضاعها واستدراك أحوالها بكل السبل.
فالثقافة التي تصنع الهزيمة أو تكرسها أو توحي بها ثقافة تقوم بدور الطابور الخامس في الداخل، وتعمل على كسر ظهر المقاومة بدلاً من القيام بإسنادها معنوياً، وهي بالتالي تكسر ظهر الشعب بالغفلة أو بالتغفيل والتضليل، وتسلم الوطن والأمة إلى الهزيمة والضياع.
4- على المثقف أن يقدم، على أرضية العلم والإيمان، والعمل بهما خطاباً بنّاءً يصب في مجرى الحق والتحرير والحرية والعدل، ويسعى إلى إقناع أبناء الأمة بأن قضية الفئة المقاومة هي قضية الجميع، ومسؤولية دعم ذلك مسؤولية الجميع لتغدو المقاومة قضية شعبية وفعلاً شعبياً أيضاً وهذا يستدعي منه:
أ- التدقيق في نوع الخطاب المطلوب في الظروف والأوضاع الراهنة. وتقديم هذا الخطاب مهما كانت نتائج تقديمه مكلفة بالنسبة له. /لاسيما في ظل وجود ضخ إعلامي مضاد للأمة وللمقاومة، ووجود أنظمة عربية مستسلمة أو تدعو إلى الاستسلام وبيدها قرار السلم والحرب ومعظم مقومات ذينك الفعلين/ مهما كانت متطلبات تحويل ذلك الخطاب إلى فعل قوة يؤدي إلى حالة إيجابية ونتائج عملية على الأرض، ومهما كانت متطلبات ذلك قاسية. فَنَفَسُ الأمم لا يقاس بنفس الضعفاء من أفرادها، أو بنفس أفراد بل أجيال أحياناً.
ب- تقديم الأنموذج العلمي في سلوكه وممارساته ليعطي لخطابه مصداقية واقعية محسوسة وملموسة، فمن دون تلك المصداقية يتحول الخطاب إلى شعار فارغ، وما أكثر ما عانينا من الشعارات الطنَّانة الفارغة من كل مضمون عملي وقد لا يكون العيب في الشعار، وإنما في الأداء الذي يحكمه أو يتحكم بنتائجه ومصداقيته ومفعوله.
5- على المثقف أن يشكل ثقلاً في الحضور الجماهيري والاقتناع الشعبي والحشد الشعبي أيضاً وراء المقاومة وفعل التحرير، وأن يساهم في صنع إرادة التحرير وتعزيزها، وأن يشكل حضوراً في ساحة القرار السياسي ليدفع باتجاه ما يدعم المقاومة وتصعيدها على أسس من الكفاءة والاقتدار. فاستخدام مصداقية "الثقافي" وتأثيره وأدواته وبعده التاريخي كل ذلك مندوب إليه في ظرف تحتاج الأمة فيه إليه. وحين ينجح المثقف في إعطاء المقاومة صبغة شعبية شاملة يضع الأمة بإرادة حية على طريق النهضة والتحرير والتقدم.
فالمواجهة أتون يصهر معدن الشعب ويطهره ويبرزه والمواجهة امتحان يؤدي دخوله بثقة واقتدار إلى ولادة جديدة يقبل فيها المرء على الحياة ويتصدى لصعابها. والمثقف شعلة هذه المواجهة ونورها، فليكن له فضل ما خلق له أو ما نذر نفسه له.
6- أن يخلق مناخ المقاومة /نفسياً واجتماعياً/ وأن ينميه ويدافع عنه، ويعمل على توفير الرفد له، من خلال استنهاض الروح القومية التركيز على القيم الوطنية والانتماء الوطني والقومي، والمسؤولية الفردية والجماعية تاريخياً عن الوطن والمواطن، عن الحق والذي يدافع عنه، عن الحرية والتي يمهرها بدمه وبكل مقومات مستقبله.
وأن يتواصل معها تواصلاً حياً، بالوسائل المتاحة، فالمقاتل يشعر بتدفق الثقة في روحه والقوة في أعصابه كلما شعر بجدوى الفعل الذي يقوم به وردود ذلك الفعل، ويتم ذلك بفاعلية إذ استشعر وجود الآخرين معه وتقديرهم لأدائه وتضحياته ومعاناته، وحبهم له واحترامهم لدوره.
والمثقف أهل لأن يقدم له ذلك مع كل ما يثبت وجوده ويدعم ذلك الوجود، ويخلّد ذلك النوع من الأداء.
7- تأكيد المثقفين على التضامن والتكامل الاجتماعي مع المقاتلين وأسرهم، مع المقاومة وشهدائها وأهل أولئك الشهداء، عامل من أهم العوامل التي تدفع أداء المقاومة إلى الأمام، ويخلق حالة اجتماعية فيها الاطمئنان النسبي على الأقل والمسوغ الفاعل لمد المقاوم بالزاد المادي والمعنوي، فضلاً عن مدها بتكاليف التجهيزات والمعدات والعدد.
وتلك المسؤولية بوجهيها المادي والمعنوي من أهم ما يمكن أن يوظف المثقف جهده لخلقها وإنعاشها وتوفير قيمها ومقوماتها.
ولا يكون ذلك بالخطاب "البرجعاجي" ولا برفع الشعار، ولا بالكلام من بعيد عبر أجهزة الاتصال ومجالات النشر، على أهمية ذلك، وإنما يكون بالتواصل الحي مع المقاومة في مواقعها من جهة، ومع الأوساط الاجتماعية التي يخرج منها المقاومون من جهة أخرى. ويعزِّز ذلك تبنى الثقافة المشكلات والقضايا الخاصة والنوعية التي لتلك الفئات والعمل على حلها وإيصال صوت أصحابها إلى حيث ينبغي أن يصل.
8- تعزيز موقف المقاوم واختياره بكل ما في الكلمة من طاقة على الأداء بإقناع وإمتاع وإبداع، والعمل على خلق ذلك الفضاء الذي يمتد عبر تاريخ الأمة بين نماذج أبطالها وقادتها ووطنييها الحقيقيين وبناة مجدها وبين هؤلاء الذين يقاومون اليوم؛ والوسائل إلى ذلك كثيرة وما يبدعه التصميم من تلك الوسائل أكثر بكثير.
فاستقرار التاريخ واستذكار مواقعه ومواقف صَنَعَتِهِ سبيل، وإظهار الحق التاريخي في الأرض سبيل، وحماية المقدس والعقيدة سبيل، والدفاع عن قيم الأمة ووجودها سبيل، وحماية الأهل والأطفال والمستقبل سبيل، والوطنية بجلاء معانيها وقيمها المشرقة مجسدة في فعل منقذ سبيل. ومن يؤمن بقضية يبدع في إيجاد سبل خدمتها ونصرتها وتخليدها.
ولا أريد أن أغفل حقيقةً وواجباً على الثقافة حيال الوطن والإنسان من جهة وحيال المقاومة في وضع يعاني منه الوطن والإنسان معاً من جهة أخرى؛ وسبيلاً من سبل تحويل المقاومة إلى إرادة تحرير شعبية شاملة، وقرار سياسي وجماهيري يتحمل عبء ذلك التحرير وينهض به. وأعني بذلك العمل في جبهة الوطن الداخلية لتحرير المواطن من الجهل، وتخفيف معاناته، ومقاومة من يلغي حريته وينتهك حقوقه وحرياته، ويمنعه من ممارسة دوره في المشاركة في صنع القرار بممارسته الحرة والمسؤولية الواعية لمحيطها وظرفها وأدواتها وغاياتها، ممارسته لديمقراطية نظيفة وسليمة أو أقرب ما تكون إلى النظافة والسلامة. فالثقافة التي تصنع مواطناً حراً تهيئ عملياً لوطن حر، وتقيم من كل مواطن حصناً للحرية ومقاوماً في سبيلها، سواء تعرضت الحرية للانتقاص بفعل عدوان خارجي على الوطن، أم بفعل يقع على المواطن جراء ممارسة سلبية داخلية.
فالوطن الحر يقيمه الأحرار ويدافعون عنه، والحرية لا تتجزأ، وتتكامل مع واجبات وحقوق اجتماعية وتكتمل بها وبالوعي التام بالحق والعدل وصلاح الغاية والوسيلة. وللحرية شرطها البشري والاقتصادي والسياسي والحقوقي، وكل ميدان من تلك الميادين هو مجال عمل مثقف يبدع في خدمة المقاومين على الجبهات جميعاً، جبهات البناء الداخلي وجبهات الدفاع والتحرير.
إن محاربة الفساد نوع من تعزيز المواطنة الصالحة ومن ثم المقاومة الناجحة، وبالتالي التحرير والحرية والبناء السليم: تربوياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يساهم في بناء وضع وطني وقومي سليم هو الآخر يمكن من استشعار الواجب والمسؤولية في الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، ويدفع باتجاه المقاومة:
- مقاومة الانهزام وعوامله في الأعماق الفردية والآفاق الاجتماعية والوطنية والقومية.
- ومقاومة فعل القوة الغازية: عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.
- ومقاومة الاحتلال والاستيطان والمشروع العنصري النقيض لمشروع الأمة النهضوي.
إن المقاومة روح /معنوية ووطنية وعقيدية وخلقية وإنسانية/ تحكم الجسد وتسوقه في طريقها، وبمقدار ما ينتشر الوعي المعرفي ويتجذّر، تنمو هي وتتعمق وتتجذر في الذات والمجتمع بنمو الوعي المعرفي وتعمقه وتجذره واستشرافه. والمثقف هو حامل الوعي أو هكذا يفترض به أن يكون، ولذا تقع عليه مسؤولية خلق مناخ المقاومة وحمايتها والدفاع عنها؛ فالعلاقة بينهما علاقة عضوية بالمعنى الدقيق والشامل والوسع للكلمة.
فهل يبقى، وحالنا ما نرى ونعرف جميعاً، مبرر لتساؤل يقول: ما الذي يصنعه المثقف للمقاومة؛ وهولا يملك أمر نفسه ولا حريته ولا أمر الوطن وقراره؟!
هنا نتوقف عند حالة لابد من التوقف عندها، ومسؤولية، لابد من مواجهتها:
الحالة هي: وطن منتهك ويفتك به المرض والفساد، وتفترع أقطاره عصي سلطة لا تقيم للآخرين وزناً.
والمسؤولية هي: من يخرجنا من هذا الوضع أو يدفع باتجاه الخروج منه، وينير شمعة على طريق ذلك؟!
وهنا تبرز مسؤولية المثقف بحكم الوعي والموقع والاختيار.
فهل يقع عبء الريادة والكشف والقيادة في عصر العلم والمعلوماتية والمعرفة المتنامية على العامل والفلاح والحرفي؟! أم تراه يقع على الشرائح الأكثر وعياً واقتداراً على الصدور بفعلها ومواقفها عن وعي، واستخداماً للطاقات والإمكانات والأدوات بوحي من ذلك الوعي؟!
السُّلَط العربية قد تكون غارقة في تفاصيل الأداء على أرضية الهزيمة أو الإحباط أو بؤس الرؤية المستقبلية فمن يقدم لها روح الشعب عبر رؤية تستمد مقوماتها من واقع الشعب وتطلعه واستقراء تاريخه؟!
إنها الثقافة، وإنه التعلق بحب للأمة والوطن والعدل والحرية والناس معاً، يجعل أداء المثقف أداء شبه نبوي في الاستشراف، وفدائي في تحمل المسؤولية، وعقلاني بمواجهة الأوضاع القائمة، وعملاقاً في التضحية على أرضية التمسك بالحق وإضاءة طريق الناس إلى غدها بتقديم أنموذج الشمعة التي تحترق ليمشي الشعب إلى غد فيه الكرامة والسعادة والحرية.
إنها ضريبة المعرفة وضريبة الانتماء معاً، وهي نوع من صعق البرق لأرض تستنبت فيها روح الخصب وتلقن كلمات الحق بصرخات الرعد، على مطر الوعي أن يسقي عطش الروح ويستنبت في النفس زرعها وثمرها الطيب، وأهل الكلمة، من بين أهل الثقافة، مسؤولون عن الريادة وتحمل مسؤولية الأداء في العتمة بمواجهة سطوة الجهل والسوط، وعليهم أن يدخلوها صفاً، حزمة عيدان لا يسهل الاستفراد بها عوداً عوداً، ولهم من بعد على الناس ألا يقولوا لهم ما قالت اليهود لموسى :"اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون".
وإذا نجحت المقاومة في تقديم نماذج من القيادة والأداء، ترى نفسها في حالة أبوة مسؤولية عن كل مقاوم، واستثمرت الثقافة هذه الحالة، فإن مناخاً إيجابياً يمكن أن ينتشر ليشكل حالة استقطاب شاملة وراء هذا النوع من الأداء الذي نحتاج إليه في وضعنا الراهن.
وتشير سلسلة أداء المقاومة التي ننادي بتآخي الثقافة معها، بل بتداخلهما وتواصلهما عضوياً، إلى تقدم مؤثر في الأداء النوعي الذي يكلف العدو كثيراً، كما تشير المعطيات والاستنتاجات إلى أن التحامنا بالعدو على هذه الصورة الغريبة المؤثرة في مرحلية نضالية "تكتيك" على الهدف الاستراتيجي البعيد، هو من الأمور المطلوبة لأنها:
- تحد من استخدام أسلحته الفتاكة في ساحة المواجهة التلاحمية.
- وتبقيه في حالة استنزاف وعدم استقرار لا تمكنه من الراحة والبناء على أرضية أمن وأمان يمكنانه من استقدام ملايين المجلوبين لأغراض الاستعمار- الاستيطاني- العنصري وطرد شعبنا وتصفيته بأساليب مغطاة بزركشة قانونية وإعلامية.
- وتبقى قضيتنا في الضمائر والذواكر وأمام الأمم، تلح في استنجاز حسمها لمصلحة الأمة؛ وتدفعنا في طرق عمل مبدع على طريق التضامن أو الاتحاد أو التوحد في إطار من النهضة الشاملة يستدعيها فعل التحرير والتطلع نحو وجود حي حضاري في عالم لا يحترم إلا الأقوياء بالعلم والمعرفة، بالقوة المادية والمعنوية.
إن الثقافة وأهلها مندوبون لفعل مسؤول يكون للمقاومة عماداً وسنداً، ويحيطها بمد شعبي شامل، إلى أن تصبح المقاومة مسؤولية شعبية وأداء عربياً شاملاً حتى التحرير والنصر.
وليس ذلك على أمتنا ومثقفينا ومقاومتنا بعزيز.
الأسبوع الأدبي/ع581//11/ت1/1997
Comment