رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
العرب والتهديدات التركية تركيا والمشاعر العدوانية
ظاهرة لافتة للنظر تستدعي التوقف عندها ومناقشتها بمسؤولية وعمق، برزت معالمها في الأزمة التي افتعلها وما زال يفتعلها التحالف التركي الإسرائيلي الأميركي، بين تركيا وسورية، انطلاقاً من أطرافه المسيطرة في الساحة التركية؛ ليصل إلى أهداف عدة من أبرزها : إضعاف موقف سورية وتشتيت قوتها العسكرية وتركيزها السياسي وإرهابها لزعزعة صمودها وثوابتها وإرباكها قُبَيْل الإعلان عن توقيع المرحلة الثالثة من استحقاقات " أوسلو " في " واي بلانتيشن "، وجعل تلك المرحلة هي المرحلة النهاية عملياً بتسليم الإرهابي " ارئيل شارون "، سفاح صبرا وشاتيلا، حقيبة وزارة الخارجية في الكيان الصهيوني وملف المرحلة النهائية من اتفاق " أوسلو "؛ والانتقال بعد ذلك إلى المسار السوري اللبناني ـ الإسرائيلي، الذي تتطلع إدارة كلنتون إلى تحقيق تحرك محسوب جيداً فيه، لتتمكن من إحراز نجاح سياسي، في المسارات المتبقية، يضاف إلى النجاح الاقتصادي الذي حققته تلك الإدارة/ 70 مليار دولار وفر الموازنة الأميركية لعام 1998 وذلك لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً/ تغطي بهما الفضائح الخلُقية للرئيس، وتخلق مناخاً عاماً أكثر ملاءمة للحزب الحاكم يدخل من خلاله الانتخابات القادمة مع منافسه، بعد أن اقترب موعد الاستحقاقات في هذا المجال.
والظاهرة التي أشير إليها تستدعي منا التوقف الواعي المسؤول عندها بوصفها ظاهرة متنامية، يفاقم خطرها وضعٌ عربي ضعيف يزيدها شدَّة وحدَّة، ووضعٌ دولي لا يساعد الحق على الوقوف بثبات؛ كما تستحق الدراسة والتمحيص للحد من مخاطرها الراهنة، التي ستكمن مؤقتاً بتقديري، إذا ما نجحت الدبلوماسية في نزع فتيل هذه الأزمة ـ وأظن أنها ستنجح ـ ولكنَّ كمونها لا يعني زوالها أو ضمور فعلها والتغاضي عن ازدياد تورمها، فهي ستبقى الجمر تحت الرماد يزيد من احتمالات اضطرامه تغذية مقوماتها الرئيسة العميقة، وهو ما تعمل عليه قوى صهيونية وأميركية خاصة. وعلينا أن نستعيد شيئاً من التاريخ في هذا الوقت ونتذكر العناصر اليهودية التي دخلت في الجسم العثماني من مدخلين : مدخل اليهود الدونما الذين استلموا زمام الحكم في الإمبراطورية لاحقاً، ومدخل المستشرقين اليهود، بتسميات وجنسيات غربية " ألمانية على الخصوص "، الذين عملوا على التنظير للطورانية وتغذيتها وشحنها بالحقد على العرب والقوميات الأخرى، وبالتعالي العنصري البغيض، ذلك الذي أسفر عن ممارسات مؤسفة ومؤسية، دمَّرت الإمبراطورية بعد أن أضعفتها، وزرعت حقداً وفجَّرت دماً بين شعوبها ما زلنا من أسراهما على نحو ما.
والظاهرة التي أشير إليها تجلت في الأزمة الحالية من خلال :
أولاً ـ لغة التهديد المفرط في عنجهيته وغطرسته وتعاليه، التي استخدمها العسكريون الأتراك ضد سورية : " سندخل دمشق بعد أربع وعشرين ساعة " من إعلان الحرب، وهي عبارة تذكرنا بالصهيوني الإرهابي موشيه دايان الذي استخدمها حرفياً في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كما استخدمها الساسة المدنيون الأتراك بصيغ أخرى!؟
ثانياً ـ الإنذارات والتحذيرات المتكررة على ألسنة مسؤولين عسكريين ومدنيين في تركيا، المشفوعة بسلسلة مطالب " مستحقة التنفيذ قبل أي حوار " حسب قولهم؟! وهي التي قدِّمت بوصفها شروطاً تركية تسبق كل حوار تدعو إليه سورية لحل الأزمة، وعددها اثنا عشر مطلباً، ورَدَت في الملف الذي سلمه المسؤولون الأتراك للرئيس حسني مبارك في أنقرة؛ وهي شروط ومطالب تعيد إلى الأذهان إنذار غورو لسورية عام 1920 وهو يزحف لاحتلالها حتى لو نفذت ما يريد؛ مع إغفال المسؤولين الأتراك لفارق كبير هو أن سورية اليوم ليست سورية العشرينات بأي مقياس من المقاييس !؟!.
ثالثاً ـ الفجاجة السياسية والدبلوماسية المنطوية على استهانة بالآخرين، حتى لا نقول " على احتقار لهم "، تلك التي تمثلت في توجيه تهديد شامل لكل دولة عربية تناصر سورية وتقف إلى جانبها في هذه الأزمة؛ وحسب منطوق تهديد المسؤول التركي الكبير : " على من يقف إلى جانب سورية ويؤيدها أن ينتظر عواقب وخيمة " ؟!.
رابعاً ـ استخدام الإعلام التركي استخداماً مفرطاً في عدائه لسورية خاصة وللعرب عامة، وتوظيف طاقته الكبيرة لإعداد الناس للحرب، وتعميق الكره والحقد في نفوسهم، وتحشيد جهودهم وجموعهم على أرضية " عداء تاريخي للعرب "؛ وهو فعل مدروس وراءه جهد صهيوني شرير يهدف إلى غرس عداوة وإيقاظ بغضاء كان قد عمل على تكوينهما وتغذيتهما طويلاً؛ كما يهدف إلى إعداد لتعبئة نفسية شاملة تبدأ الآن ولا تنتهي بانتهاء الأزمة وإنما تكوِّن رصيداً للحقد والكراهية والعداوة توظفه الصهيونية وفق برامجها وأهدافها؟! وقد وظِّفت جهود إعلامية تركية كبيرة ومتنوعة لتحقيق هذا الغرض منها : الإعلام المسموع ـ المرئي/ 18 محطة وطنية و320 محطة محلية/ والمسموع/ 1000 محطة إذاعة/ والمقروء/ 15 صحيفة وطنية و800 صحيفة محلية/ وظِّفت كلها تحت ذرائع وأسباب مختلفة لخلق مناخ ملائم لعمل عدواني ولبث العداء والحقد وترسيخهما. وقد استخدم الإعلام التركي بشكل عام في هذه الأزمة لغة هابطة واستفزازية بشكل ملحوظ، ومعروف الأهداف، وكأنه يعمل في مجال التجارة والدعاوة بعيداً عن مسؤولية الكلمة وتأثيراتها البعيدة المدى. وتقف وراء ذلك من دون شك الصهيونية العنصرية والطورانية المريضة، وعوامل الربح المادي الرخيص التي تشد رجال الإعلام هناك؛ لتحقيق حالة إثارة ترمي إلى جعل المنطقة تنزلق نحو الحرب، من دون أن تسمح بتوقف للتفكير الجاد بما ستقود إليه الحرب أو تسفر عنه من نتائج، أو بعودة صحية إلى المنطق السليم واستقرائه واستنتاجاته؛ حالة وصفتها جريدة " المحرر نيوز " التركية في عدد يوم 12/ 10/ 1998 " ـ وهي من الاستثناءات النادرة في عدم الانزلاق الكلي وراء التهويش ـ وصفتها بقولها : " منذ أسبوع والمرء يسمع من قِبَل بارونات الصحافة بأن الأزمة بلغت نقطة اللاعودة.. وكان الهدف خلق الانطباع بأن تركيا مستعدة لإطلاق السهم.. فقد ولَّدت الصحف الانطباع بأن هناك حرباً وشيكة، وتم نشر الخطط الحربية، وأصبح من في السلطة يركضون بجنون للحاق بالسهم والإمساك به، لأن الأتراك لم يقصدوا فعلاً الدخول في صراع مسلح مع سورية؛ ولكن المشكلة الآن هي كيف يمكن لتركيا التراجع خطوة إلى الوراء من دون أن تؤذي مصداقيتها وهيبتها " ؟!. فمن الذي أطلق هذه الحالة الإعلامية إذا كانت تركية الرسمية لا تريد إطلاقها يا ترى؟! ومن هو صاحب المصلحة من الرسميين، عسكريين ومدنيين، في سَوْق الناس أو انسياقهم في هذا الاتجاه، بفعل الإعلام المنطلق من كل عقال والمتحلل من أي مسؤولية، إذا كان ذلك ليس هو الهدف المختار أو الهدف المطلوب اختياره؟! وإلى أي شيء ترمي تلك التعبئة بالمقت والشر لشعب مسلم، شريك في الجوار والتاريخ والثقافة والمصير، لشعب مسلم آخر !؟. من هو صاحب المصلحة الحقيقية من اقتتال الأتراك والسوريين، الأتراك والعرب، المسلمين والمسلمين؛ أليس هم الصهاينة والأميركيون والمرتبطون من الأتراك معهم بمصالح وتجارة و" كمسيونات " ومراكز سلطة ومناطق نفوذ؛ والذين يريدون حماية أنفسهم من انكشاف أمر ارتباطهم بالمافيا التركية وسواها قبيل الانتخابات التركية، التي يحل موعدها بعد سبعة أشهر تقريباً؟! من صاحب المصلحة في جعل الشعبين الجارين يدفعان ثمن الاستقرار الصهيوني واستمراره في الاحتلال والتوسع والتهويد لكل فلسطين ـ من القرى حتى القدس ـ وثمن الحملات الانتخابية الرامية إلى تزوير الإرادة الحقيقية للجماهير التركية؟! من صاحب المصلحة في أن يدفع الشعبان ثمن ذلك دماً ودموعاً وتخلفاً وقهراً، غير الصهاينة والمرتبطة مصالحهم بالصهاينة والأميركيين من الأتراك، الذين يريدون تصدير مشاكلهم إلى الجوار، ليشغلوا الشعب التركي عن الواقع والوقائع وحقائق الأمور ويشوهوا رؤيته للحاضر والمستقبل معاً، في زمن الاستحقاقات الصعبة والأزمات الخانقة والاقتتال الداخلي الذي امتد سنوات طويلة؟! أليسوا هم أعداء كل من الشعبين التركي والعربي وأعداء المسلمين والمسيحيين المشرقيين، وهم الطامعون بخيرات المنطقة وثرواتها وأسواقها وطاقتها ؟!
خامساً ـ الاستهانة المطلقة بالآخرين، والفوقية الاستعلائية المفرطة في تعبيرها عن ذاتها وفي ثقتها بالنفس، المتنامية على أرضية من التعصب البغيض، وما يتسبب به كل ذلك وما يرشح منه وعنه من استعلاء ووهم، وما ينميه من روح عنصري بغيض، وما يجره من كوارث وويلات على الأبرياء. وهو وضع دخل فيه بعض المسؤولين الأتراك أو أُدخلوا فيه، وهو يعيد إلى الأذهان الوضع الذي كان عليه الكيان الصهيوني ومسؤولوه قُبَيْل حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وضع الجيش الأسطورة الذي لا يُقهر و " الدولة " التي يطول ذراعها كل من تريد أن تطوله، والتي تملك " حقاً إلهياً " لا تجوز مناقشته؟!! .
وهذه الظاهرة، بمعطياتها وتجلياتها واستهدافاتها المستقبلية، التي خلقها التحالف التركي الإسرائيلي ـ الأميركي بخوافيه الأخرى، المعروفة والمكشوفة، هي ما يستدعي منَّا التوقف عنده الآن بجدية مطلقة، والتأمل فيه، والبحث الجاد عن مخارج منه؛ وتلك مسؤولية العناصر الواعية والمسؤولة في الشعبين العربي والتركي؛ بعد أن أخذ منطق الأحداث يميل بشكل ملموس إلى الاختيارات السياسية والدبلوماسية الحكيمة، التي نادت بها سورية منذ بداية هذه الأزمة ولجأت إليها، وحققت بواسطتها كسباً دولياً، وكشفاً فعلياً لحقيقة مواقفها ونواياها واستراتيجياتها، وتعريةً لأطراف المؤامرة التي تستهدف الدور العربي لسورية وصمودها ومبدئيتها في الصراع العربي الصهيوني وكل ما يتعلق به وينتج عنه، وتعريةً أيضاً لمخططات الغير ونواياهم وأهدافهم واستراتيجياتهم!؟.
نحن أمام تحالف شرير بكل ما لهذه الكلمة من معان، تحالف يريد أن يبسط هيمنة شاملة على المنطقة/ سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً/ بقوة السلاح ومنطق القهر، وأن يعيدها إلى عهد الأحلاف والصراعات الفرعية التي وسمت فترة الخمسينيات من هذا القرن، ليقوم بإعادة ترتيبها بما يحقق الهيمنة الشاملة والمصالح الكاملة التي يسعى إلى تحقيقها، وبما يكفل لأطرافه دوراً حيوياً، وبعداً إقليمياً، ومشروعاً حضارياً، بقيادة أميركية ـ صهيونية؛ على حساب ما للعرب والمسلمين من وجود ومصالح وقيم ومقومات وتطلعات في فضاء المكان والزمان ؟!
والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتوجهه الحركة الصهيونية، المتحكمة بالقرار الأميركي على نحو واضح ومستمر منذ عقود، هو البيئة التي تنمو فيها تلك الروح العدوانية الكريهة وتتجدد، روح الكراهية والهيمنة العنصرية، ومن ثمة فهو العدو الأول لسورية وللعرب والمسلمين والإنسانية بمعناها الصحيح، والخطر الأكبر على المنطقة ومصالح أهلها ومستقبلهم ومشاريعهم ودورهم الحيوي وحضارتهم؛ وعلينا أن نجعل مقاومته وتفكيك بناه الهدف المرحلي الأهم الذي نعمل على تحقيقه، في إطار الهدف الاستراتيجي الشامل الذي نذرنا أنفسنا وكرسنا قوانا لتحقيقه : وهو تحرير الأرض وحسم الصراع مع العدو الصهيوني لصالح الأمة العربية وحقها التاريخي في أرضها وخيراتها ومقدساتها .
لقد ظهر الآن بجلاء لمؤتمر القمة العربية وجامعة الدول العربية وأعضائها ومنظمة القمة الإسلامية، ولكل من ينشد الحقيقة ويتعلق بها في العالم، أن ما قالت به سورية وأعلنته وتخوَّفت منه جراء قيام التحالف التركي الإسرائيلي ومخاطره على أمن المنطقة، هو حقيقة أخذت تتجسد تهديداً ووعيداً ومناورات وحشوداً عسكرية لممارسة العدوان وفرض وقائع جديدة على الأرض تجبر الآخرين على الخضوع لقوتها. وأياً كانت الذرائع والمسوِّغات التي تقدمها تركيا العسكرية المتحالفة مع الصهيونية العنصرية فلن تقنع أحداً بأن ما تقوم به بعيد عن أهداف الحلف الشرير، الذي أعلن أطرافُه أنهم يريدون إقامة قوة عسكرية بالدرجة الأولى تكون أساساً لقوة إقليمية تصوغ نظاماً أمنياً للمنطقة وتفرضه؛ وعلينا أن نقرأ جيداً ما يعنيه ذلك وما يمكن أن يتمخَّض عنه.
ومن حقنا، بل من واجبنا أن نتساءل : ما هو هذا النظام الأمني الذي يريد تحالف الكيان الصهيوني وتركيا والولايات المتحدة الأميركية وأتباعهما إقامته في المنطقة وفرض رؤيته وسيطرته على الآخرين؟! ولصالح من سيكون، وضد من سيعمل ؟!
إنه بصريح العبارة تحالف موجه أولاً ضد سورية ودورها العربي والإقليمي، ضد موقفها الرافض لاستسلام مذل للعدو الصهيوني تحت صفة " السلام " ومواصفاته " الإسرائيلية "، استسلام تفرضه اتفاقيةٌ على نمط اتفاقية " أوسلو " والمعاهدة الأردنية ـ"الإسرائيلية "؛ وهو تحالف موجه من ثمة إلى لبنان وتلازم المسارين السوري واللبناني اللذين بقيا بعد فوضى مؤتمر مدريد وما نشأ عنه من مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، أسفرت عن استسلام عربي لـ " إسرائيل " وهرولة إلى أعتابها، واستفراد صهيوني ـ أميركي بمن يرفض من العرب السير في تلك الطريق، طريق الاستسلام. وهو تحالف موجه من بعد ضد العراق الذي يراد له أن يُقسَّم وأن يستمر الحصار المفروض عليه لإلحاق مزيد من الضعف والهزال به؛ وهو تحالف ضد إيران الدولة المسلمة التي تتخذ موقفاً مبدئياً شجاعاً من الصراع العربي الصهيوني وتناصره بوصفه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وتؤيد حق الفلسطينيين في وطنهم، وتدعم المقاومة ضد الاحتلال، وتؤيد سورية في مواقفها الصلبة من الصراع مع الصهاينة، وفي نظرتها الداعية إلى التفريق بين الإرهاب والمقاومة ليستمر رفض الإرهاب ودعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بكل الصور والقوى حتى التحرير، من دون خلط للأوراق وتقديم المقاومة المشروعة على أنها إرهاب مرفوض؛ إنه ضد إيران التي تحاول أن تمتلك قوة حقيقية تدافع بها عن نفسها، وضد كل من يحاول أن يمتلك قوة على أرضية الإيمان والعلم والتَّقَانَة، من العرب والمسلمين، وضد كل من يقول لا للظلم والظلام الأميركيين الصهيونيين.
وهو تحالف موجه ضد الصحوة القومية والإسلامية الواعية معاً، تلك التي أخذت تعي مخاطر وأهداف المخططات الرامية إلى وضع العروبة في مقابل الإسلام، والإسلام في مقابل العروبة، وضرب العرب بالمسلمين، والمسلمين بالمسلمين؛ وصولاً إلى استنزاف كل تلك القوى وتشويه صورتها وحضورها وعقيدتها السامية السمحة، وتقديمها للعالم قوى متخلفة وعاجزة عجزاً شاملاً، ومن ثم الانقضاض عليها للقضاء على كل من العروبة والإسلام معاً وما يمثلانه حضارياً، وإقامة حوض صهيوني ومتصهين، على حساب الحضور التاريخي لحضارة العرب والمسلمين !؟!.
إن التحالف البغيض، الذي قدَّم لنا ظاهرة الحقد البائس والكراهية والعداوة العمياء، وأراد وما زال يريد لنا : عرباً وأتراكاً، أتراكاً وأكراداً، عرباً ومسلمين ... مسلمين ومسلمين.. سنة وشيعة.. طوائف ومذاهب.. إلخ أن ندخل حمامات الدم ولا نخرج منها إلا جثثاً وأشباح أمم وحضارات وعقائد؛ إنه هو الذي ينبغي أن نقاومه بكل ما أوتينا من علم ووعي وقوة وشجاعة وإيمان. ولن يكون لمنطقتنا مستقبل ما لم تقض على مستقبله فيها، لكي تتخلص من الأحلاف والهيمنة الاستعمارية والحقد العنصري ومن المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني، الذي يرى أن أمنه واستمراره واستقراره في وطن الغير لا يمكن أن يكون إلا على حساب أوطانهم وكرامتهم وأمنهم واستقرارهم، ولا يمكن أن يدوم إلا في تهديد أمن أولئك الغير وتفاهمهم وتعاونهم ووحدة صفهم وموقفهم ورؤيتهم للأمور.
فهل ترانا ندرك أمورنا قبل فوات الأوان، ونتعاون على درء الشر والعدوان وغائلة الدم والبؤس عن أوطاننا وأجيالنا قبل أن تقع الواقعة؟!
إن ذلك ممكن، وذلك مطلوب؛ وهو واجب الساسة والعلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء والمسؤولين، المخلصين لانتمائهم للجذر الحضاري والعقيدي والثقافي الذي يربط شعوب هذه المنطقة وبلدانها بأربطة أقوى من الحقد والشر والمؤامرة !!
ألا فلنكشف العدو الحقيقي لأخوَّتنا وجوارنا وثقافتنا ومصالحنا، ولنوجه حرابنا إلى صدره !! ألا فلنقم، نحن المدركين لمخاطره علينا وعلى علاقاتنا التاريخية ومصالحنا الحيوية وجذورنا الثقافية، من سوريين وأتراك أولاً، وعرب وأتراك ثانياً ومسلمين من كل القوميات ثالثاً، وأبناء ديانات سماوية يعرفون حق الله وحق الناس ثالثاً؛ ألا فلنقم ببذل جهد علمي ومعرفي وكفاحي مخلص لكي ينتصر العقل والحق والعدل، ولكي تسود علاقاتنا وبلدننا حالةٌ من الأمن والاستقرار تطمئن فيها قلوبنا، ونستعيد في ظلالها حدود الرؤية الواعية لما أصابنا ويصيبنا يومياً على أيدي أولئك الذين حولوا الرب والقيم والروح والإنسان إلى سلع وتجارة ومنافع مادية ونزوع سلطوي وعنصري تسلطي، أزرى بالإنسان ووجوده، وشوه قيمه وصورته وحقوقه وحرياته، وجعل سماسرة لحمه ودمه وروحه يتقدمون مدافعين " بزهو " عن تلك الحقوق والحريات ليسلبوه كل شيء من دون أن يحفظوا له فعلياً أي شيء؟! فهل ترانا فاعلين؟!
إنني أدعو بكل الوضوح إلى تواصل مباشر، وحوار معمَّق صريح وجريء بين معنيين بهذه الأزمة وبسواها من الأزمات التي تذكي نارها الصهيونيةُ والإمبريالية الأميركية، يقودنا إلى تشخيص موضوعي دقيق للواقع وتحليل أدق لمعطياته ومشكلاته وأزمات الناس فيه، وإلى تحمل مسؤوليات تاريخية حياله، وتكوين دائرة من التفاهم والتعاون يوسِّعها الحوار شيئاً فشيئاً ليسود تعاون وتفاهم أعمق وأوثق فيما بيننا من جهة، ونبذ للعدو الذي ينفث سموم العداوة فينا من بين صفوفنا من جهة أخرى. وإنَّا على ذلك قادرون، إذا ما سرنا على هدي العقل وأعلينا شأن المنطق وَسَمت منا الرؤية وسلمت العقيدة وصح العزم وصدقت النيات وأسرجنا مصباح العقل والقلب، وأعملنا فينا الحق والإيمان الحق، اللذين يقودان إلى رؤية كفَلَق الصبح أو أشد وضوحاً، ليسود ويتقدم ما هو في صالح كل فرد وكل شعب وكل بلد في العالم الذي يعنينا جميعاً، ويشكل مسؤوليتنا جميعاً؛ بوصفنا شركاء في الشرط الإنساني والمصير الإنساني .
وقل : (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))
صدق الله العظيم.
الأسبوع الأدبي/ع630//10/10/1998
الأسبوع الأدبي/ع631//17/10/1998
والظاهرة التي أشير إليها تستدعي منا التوقف الواعي المسؤول عندها بوصفها ظاهرة متنامية، يفاقم خطرها وضعٌ عربي ضعيف يزيدها شدَّة وحدَّة، ووضعٌ دولي لا يساعد الحق على الوقوف بثبات؛ كما تستحق الدراسة والتمحيص للحد من مخاطرها الراهنة، التي ستكمن مؤقتاً بتقديري، إذا ما نجحت الدبلوماسية في نزع فتيل هذه الأزمة ـ وأظن أنها ستنجح ـ ولكنَّ كمونها لا يعني زوالها أو ضمور فعلها والتغاضي عن ازدياد تورمها، فهي ستبقى الجمر تحت الرماد يزيد من احتمالات اضطرامه تغذية مقوماتها الرئيسة العميقة، وهو ما تعمل عليه قوى صهيونية وأميركية خاصة. وعلينا أن نستعيد شيئاً من التاريخ في هذا الوقت ونتذكر العناصر اليهودية التي دخلت في الجسم العثماني من مدخلين : مدخل اليهود الدونما الذين استلموا زمام الحكم في الإمبراطورية لاحقاً، ومدخل المستشرقين اليهود، بتسميات وجنسيات غربية " ألمانية على الخصوص "، الذين عملوا على التنظير للطورانية وتغذيتها وشحنها بالحقد على العرب والقوميات الأخرى، وبالتعالي العنصري البغيض، ذلك الذي أسفر عن ممارسات مؤسفة ومؤسية، دمَّرت الإمبراطورية بعد أن أضعفتها، وزرعت حقداً وفجَّرت دماً بين شعوبها ما زلنا من أسراهما على نحو ما.
والظاهرة التي أشير إليها تجلت في الأزمة الحالية من خلال :
أولاً ـ لغة التهديد المفرط في عنجهيته وغطرسته وتعاليه، التي استخدمها العسكريون الأتراك ضد سورية : " سندخل دمشق بعد أربع وعشرين ساعة " من إعلان الحرب، وهي عبارة تذكرنا بالصهيوني الإرهابي موشيه دايان الذي استخدمها حرفياً في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كما استخدمها الساسة المدنيون الأتراك بصيغ أخرى!؟
ثانياً ـ الإنذارات والتحذيرات المتكررة على ألسنة مسؤولين عسكريين ومدنيين في تركيا، المشفوعة بسلسلة مطالب " مستحقة التنفيذ قبل أي حوار " حسب قولهم؟! وهي التي قدِّمت بوصفها شروطاً تركية تسبق كل حوار تدعو إليه سورية لحل الأزمة، وعددها اثنا عشر مطلباً، ورَدَت في الملف الذي سلمه المسؤولون الأتراك للرئيس حسني مبارك في أنقرة؛ وهي شروط ومطالب تعيد إلى الأذهان إنذار غورو لسورية عام 1920 وهو يزحف لاحتلالها حتى لو نفذت ما يريد؛ مع إغفال المسؤولين الأتراك لفارق كبير هو أن سورية اليوم ليست سورية العشرينات بأي مقياس من المقاييس !؟!.
ثالثاً ـ الفجاجة السياسية والدبلوماسية المنطوية على استهانة بالآخرين، حتى لا نقول " على احتقار لهم "، تلك التي تمثلت في توجيه تهديد شامل لكل دولة عربية تناصر سورية وتقف إلى جانبها في هذه الأزمة؛ وحسب منطوق تهديد المسؤول التركي الكبير : " على من يقف إلى جانب سورية ويؤيدها أن ينتظر عواقب وخيمة " ؟!.
رابعاً ـ استخدام الإعلام التركي استخداماً مفرطاً في عدائه لسورية خاصة وللعرب عامة، وتوظيف طاقته الكبيرة لإعداد الناس للحرب، وتعميق الكره والحقد في نفوسهم، وتحشيد جهودهم وجموعهم على أرضية " عداء تاريخي للعرب "؛ وهو فعل مدروس وراءه جهد صهيوني شرير يهدف إلى غرس عداوة وإيقاظ بغضاء كان قد عمل على تكوينهما وتغذيتهما طويلاً؛ كما يهدف إلى إعداد لتعبئة نفسية شاملة تبدأ الآن ولا تنتهي بانتهاء الأزمة وإنما تكوِّن رصيداً للحقد والكراهية والعداوة توظفه الصهيونية وفق برامجها وأهدافها؟! وقد وظِّفت جهود إعلامية تركية كبيرة ومتنوعة لتحقيق هذا الغرض منها : الإعلام المسموع ـ المرئي/ 18 محطة وطنية و320 محطة محلية/ والمسموع/ 1000 محطة إذاعة/ والمقروء/ 15 صحيفة وطنية و800 صحيفة محلية/ وظِّفت كلها تحت ذرائع وأسباب مختلفة لخلق مناخ ملائم لعمل عدواني ولبث العداء والحقد وترسيخهما. وقد استخدم الإعلام التركي بشكل عام في هذه الأزمة لغة هابطة واستفزازية بشكل ملحوظ، ومعروف الأهداف، وكأنه يعمل في مجال التجارة والدعاوة بعيداً عن مسؤولية الكلمة وتأثيراتها البعيدة المدى. وتقف وراء ذلك من دون شك الصهيونية العنصرية والطورانية المريضة، وعوامل الربح المادي الرخيص التي تشد رجال الإعلام هناك؛ لتحقيق حالة إثارة ترمي إلى جعل المنطقة تنزلق نحو الحرب، من دون أن تسمح بتوقف للتفكير الجاد بما ستقود إليه الحرب أو تسفر عنه من نتائج، أو بعودة صحية إلى المنطق السليم واستقرائه واستنتاجاته؛ حالة وصفتها جريدة " المحرر نيوز " التركية في عدد يوم 12/ 10/ 1998 " ـ وهي من الاستثناءات النادرة في عدم الانزلاق الكلي وراء التهويش ـ وصفتها بقولها : " منذ أسبوع والمرء يسمع من قِبَل بارونات الصحافة بأن الأزمة بلغت نقطة اللاعودة.. وكان الهدف خلق الانطباع بأن تركيا مستعدة لإطلاق السهم.. فقد ولَّدت الصحف الانطباع بأن هناك حرباً وشيكة، وتم نشر الخطط الحربية، وأصبح من في السلطة يركضون بجنون للحاق بالسهم والإمساك به، لأن الأتراك لم يقصدوا فعلاً الدخول في صراع مسلح مع سورية؛ ولكن المشكلة الآن هي كيف يمكن لتركيا التراجع خطوة إلى الوراء من دون أن تؤذي مصداقيتها وهيبتها " ؟!. فمن الذي أطلق هذه الحالة الإعلامية إذا كانت تركية الرسمية لا تريد إطلاقها يا ترى؟! ومن هو صاحب المصلحة من الرسميين، عسكريين ومدنيين، في سَوْق الناس أو انسياقهم في هذا الاتجاه، بفعل الإعلام المنطلق من كل عقال والمتحلل من أي مسؤولية، إذا كان ذلك ليس هو الهدف المختار أو الهدف المطلوب اختياره؟! وإلى أي شيء ترمي تلك التعبئة بالمقت والشر لشعب مسلم، شريك في الجوار والتاريخ والثقافة والمصير، لشعب مسلم آخر !؟. من هو صاحب المصلحة الحقيقية من اقتتال الأتراك والسوريين، الأتراك والعرب، المسلمين والمسلمين؛ أليس هم الصهاينة والأميركيون والمرتبطون من الأتراك معهم بمصالح وتجارة و" كمسيونات " ومراكز سلطة ومناطق نفوذ؛ والذين يريدون حماية أنفسهم من انكشاف أمر ارتباطهم بالمافيا التركية وسواها قبيل الانتخابات التركية، التي يحل موعدها بعد سبعة أشهر تقريباً؟! من صاحب المصلحة في جعل الشعبين الجارين يدفعان ثمن الاستقرار الصهيوني واستمراره في الاحتلال والتوسع والتهويد لكل فلسطين ـ من القرى حتى القدس ـ وثمن الحملات الانتخابية الرامية إلى تزوير الإرادة الحقيقية للجماهير التركية؟! من صاحب المصلحة في أن يدفع الشعبان ثمن ذلك دماً ودموعاً وتخلفاً وقهراً، غير الصهاينة والمرتبطة مصالحهم بالصهاينة والأميركيين من الأتراك، الذين يريدون تصدير مشاكلهم إلى الجوار، ليشغلوا الشعب التركي عن الواقع والوقائع وحقائق الأمور ويشوهوا رؤيته للحاضر والمستقبل معاً، في زمن الاستحقاقات الصعبة والأزمات الخانقة والاقتتال الداخلي الذي امتد سنوات طويلة؟! أليسوا هم أعداء كل من الشعبين التركي والعربي وأعداء المسلمين والمسيحيين المشرقيين، وهم الطامعون بخيرات المنطقة وثرواتها وأسواقها وطاقتها ؟!
خامساً ـ الاستهانة المطلقة بالآخرين، والفوقية الاستعلائية المفرطة في تعبيرها عن ذاتها وفي ثقتها بالنفس، المتنامية على أرضية من التعصب البغيض، وما يتسبب به كل ذلك وما يرشح منه وعنه من استعلاء ووهم، وما ينميه من روح عنصري بغيض، وما يجره من كوارث وويلات على الأبرياء. وهو وضع دخل فيه بعض المسؤولين الأتراك أو أُدخلوا فيه، وهو يعيد إلى الأذهان الوضع الذي كان عليه الكيان الصهيوني ومسؤولوه قُبَيْل حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وضع الجيش الأسطورة الذي لا يُقهر و " الدولة " التي يطول ذراعها كل من تريد أن تطوله، والتي تملك " حقاً إلهياً " لا تجوز مناقشته؟!! .
وهذه الظاهرة، بمعطياتها وتجلياتها واستهدافاتها المستقبلية، التي خلقها التحالف التركي الإسرائيلي ـ الأميركي بخوافيه الأخرى، المعروفة والمكشوفة، هي ما يستدعي منَّا التوقف عنده الآن بجدية مطلقة، والتأمل فيه، والبحث الجاد عن مخارج منه؛ وتلك مسؤولية العناصر الواعية والمسؤولة في الشعبين العربي والتركي؛ بعد أن أخذ منطق الأحداث يميل بشكل ملموس إلى الاختيارات السياسية والدبلوماسية الحكيمة، التي نادت بها سورية منذ بداية هذه الأزمة ولجأت إليها، وحققت بواسطتها كسباً دولياً، وكشفاً فعلياً لحقيقة مواقفها ونواياها واستراتيجياتها، وتعريةً لأطراف المؤامرة التي تستهدف الدور العربي لسورية وصمودها ومبدئيتها في الصراع العربي الصهيوني وكل ما يتعلق به وينتج عنه، وتعريةً أيضاً لمخططات الغير ونواياهم وأهدافهم واستراتيجياتهم!؟.
نحن أمام تحالف شرير بكل ما لهذه الكلمة من معان، تحالف يريد أن يبسط هيمنة شاملة على المنطقة/ سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً/ بقوة السلاح ومنطق القهر، وأن يعيدها إلى عهد الأحلاف والصراعات الفرعية التي وسمت فترة الخمسينيات من هذا القرن، ليقوم بإعادة ترتيبها بما يحقق الهيمنة الشاملة والمصالح الكاملة التي يسعى إلى تحقيقها، وبما يكفل لأطرافه دوراً حيوياً، وبعداً إقليمياً، ومشروعاً حضارياً، بقيادة أميركية ـ صهيونية؛ على حساب ما للعرب والمسلمين من وجود ومصالح وقيم ومقومات وتطلعات في فضاء المكان والزمان ؟!
والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتوجهه الحركة الصهيونية، المتحكمة بالقرار الأميركي على نحو واضح ومستمر منذ عقود، هو البيئة التي تنمو فيها تلك الروح العدوانية الكريهة وتتجدد، روح الكراهية والهيمنة العنصرية، ومن ثمة فهو العدو الأول لسورية وللعرب والمسلمين والإنسانية بمعناها الصحيح، والخطر الأكبر على المنطقة ومصالح أهلها ومستقبلهم ومشاريعهم ودورهم الحيوي وحضارتهم؛ وعلينا أن نجعل مقاومته وتفكيك بناه الهدف المرحلي الأهم الذي نعمل على تحقيقه، في إطار الهدف الاستراتيجي الشامل الذي نذرنا أنفسنا وكرسنا قوانا لتحقيقه : وهو تحرير الأرض وحسم الصراع مع العدو الصهيوني لصالح الأمة العربية وحقها التاريخي في أرضها وخيراتها ومقدساتها .
لقد ظهر الآن بجلاء لمؤتمر القمة العربية وجامعة الدول العربية وأعضائها ومنظمة القمة الإسلامية، ولكل من ينشد الحقيقة ويتعلق بها في العالم، أن ما قالت به سورية وأعلنته وتخوَّفت منه جراء قيام التحالف التركي الإسرائيلي ومخاطره على أمن المنطقة، هو حقيقة أخذت تتجسد تهديداً ووعيداً ومناورات وحشوداً عسكرية لممارسة العدوان وفرض وقائع جديدة على الأرض تجبر الآخرين على الخضوع لقوتها. وأياً كانت الذرائع والمسوِّغات التي تقدمها تركيا العسكرية المتحالفة مع الصهيونية العنصرية فلن تقنع أحداً بأن ما تقوم به بعيد عن أهداف الحلف الشرير، الذي أعلن أطرافُه أنهم يريدون إقامة قوة عسكرية بالدرجة الأولى تكون أساساً لقوة إقليمية تصوغ نظاماً أمنياً للمنطقة وتفرضه؛ وعلينا أن نقرأ جيداً ما يعنيه ذلك وما يمكن أن يتمخَّض عنه.
ومن حقنا، بل من واجبنا أن نتساءل : ما هو هذا النظام الأمني الذي يريد تحالف الكيان الصهيوني وتركيا والولايات المتحدة الأميركية وأتباعهما إقامته في المنطقة وفرض رؤيته وسيطرته على الآخرين؟! ولصالح من سيكون، وضد من سيعمل ؟!
إنه بصريح العبارة تحالف موجه أولاً ضد سورية ودورها العربي والإقليمي، ضد موقفها الرافض لاستسلام مذل للعدو الصهيوني تحت صفة " السلام " ومواصفاته " الإسرائيلية "، استسلام تفرضه اتفاقيةٌ على نمط اتفاقية " أوسلو " والمعاهدة الأردنية ـ"الإسرائيلية "؛ وهو تحالف موجه من ثمة إلى لبنان وتلازم المسارين السوري واللبناني اللذين بقيا بعد فوضى مؤتمر مدريد وما نشأ عنه من مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، أسفرت عن استسلام عربي لـ " إسرائيل " وهرولة إلى أعتابها، واستفراد صهيوني ـ أميركي بمن يرفض من العرب السير في تلك الطريق، طريق الاستسلام. وهو تحالف موجه من بعد ضد العراق الذي يراد له أن يُقسَّم وأن يستمر الحصار المفروض عليه لإلحاق مزيد من الضعف والهزال به؛ وهو تحالف ضد إيران الدولة المسلمة التي تتخذ موقفاً مبدئياً شجاعاً من الصراع العربي الصهيوني وتناصره بوصفه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وتؤيد حق الفلسطينيين في وطنهم، وتدعم المقاومة ضد الاحتلال، وتؤيد سورية في مواقفها الصلبة من الصراع مع الصهاينة، وفي نظرتها الداعية إلى التفريق بين الإرهاب والمقاومة ليستمر رفض الإرهاب ودعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بكل الصور والقوى حتى التحرير، من دون خلط للأوراق وتقديم المقاومة المشروعة على أنها إرهاب مرفوض؛ إنه ضد إيران التي تحاول أن تمتلك قوة حقيقية تدافع بها عن نفسها، وضد كل من يحاول أن يمتلك قوة على أرضية الإيمان والعلم والتَّقَانَة، من العرب والمسلمين، وضد كل من يقول لا للظلم والظلام الأميركيين الصهيونيين.
وهو تحالف موجه ضد الصحوة القومية والإسلامية الواعية معاً، تلك التي أخذت تعي مخاطر وأهداف المخططات الرامية إلى وضع العروبة في مقابل الإسلام، والإسلام في مقابل العروبة، وضرب العرب بالمسلمين، والمسلمين بالمسلمين؛ وصولاً إلى استنزاف كل تلك القوى وتشويه صورتها وحضورها وعقيدتها السامية السمحة، وتقديمها للعالم قوى متخلفة وعاجزة عجزاً شاملاً، ومن ثم الانقضاض عليها للقضاء على كل من العروبة والإسلام معاً وما يمثلانه حضارياً، وإقامة حوض صهيوني ومتصهين، على حساب الحضور التاريخي لحضارة العرب والمسلمين !؟!.
إن التحالف البغيض، الذي قدَّم لنا ظاهرة الحقد البائس والكراهية والعداوة العمياء، وأراد وما زال يريد لنا : عرباً وأتراكاً، أتراكاً وأكراداً، عرباً ومسلمين ... مسلمين ومسلمين.. سنة وشيعة.. طوائف ومذاهب.. إلخ أن ندخل حمامات الدم ولا نخرج منها إلا جثثاً وأشباح أمم وحضارات وعقائد؛ إنه هو الذي ينبغي أن نقاومه بكل ما أوتينا من علم ووعي وقوة وشجاعة وإيمان. ولن يكون لمنطقتنا مستقبل ما لم تقض على مستقبله فيها، لكي تتخلص من الأحلاف والهيمنة الاستعمارية والحقد العنصري ومن المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني، الذي يرى أن أمنه واستمراره واستقراره في وطن الغير لا يمكن أن يكون إلا على حساب أوطانهم وكرامتهم وأمنهم واستقرارهم، ولا يمكن أن يدوم إلا في تهديد أمن أولئك الغير وتفاهمهم وتعاونهم ووحدة صفهم وموقفهم ورؤيتهم للأمور.
فهل ترانا ندرك أمورنا قبل فوات الأوان، ونتعاون على درء الشر والعدوان وغائلة الدم والبؤس عن أوطاننا وأجيالنا قبل أن تقع الواقعة؟!
إن ذلك ممكن، وذلك مطلوب؛ وهو واجب الساسة والعلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء والمسؤولين، المخلصين لانتمائهم للجذر الحضاري والعقيدي والثقافي الذي يربط شعوب هذه المنطقة وبلدانها بأربطة أقوى من الحقد والشر والمؤامرة !!
ألا فلنكشف العدو الحقيقي لأخوَّتنا وجوارنا وثقافتنا ومصالحنا، ولنوجه حرابنا إلى صدره !! ألا فلنقم، نحن المدركين لمخاطره علينا وعلى علاقاتنا التاريخية ومصالحنا الحيوية وجذورنا الثقافية، من سوريين وأتراك أولاً، وعرب وأتراك ثانياً ومسلمين من كل القوميات ثالثاً، وأبناء ديانات سماوية يعرفون حق الله وحق الناس ثالثاً؛ ألا فلنقم ببذل جهد علمي ومعرفي وكفاحي مخلص لكي ينتصر العقل والحق والعدل، ولكي تسود علاقاتنا وبلدننا حالةٌ من الأمن والاستقرار تطمئن فيها قلوبنا، ونستعيد في ظلالها حدود الرؤية الواعية لما أصابنا ويصيبنا يومياً على أيدي أولئك الذين حولوا الرب والقيم والروح والإنسان إلى سلع وتجارة ومنافع مادية ونزوع سلطوي وعنصري تسلطي، أزرى بالإنسان ووجوده، وشوه قيمه وصورته وحقوقه وحرياته، وجعل سماسرة لحمه ودمه وروحه يتقدمون مدافعين " بزهو " عن تلك الحقوق والحريات ليسلبوه كل شيء من دون أن يحفظوا له فعلياً أي شيء؟! فهل ترانا فاعلين؟!
إنني أدعو بكل الوضوح إلى تواصل مباشر، وحوار معمَّق صريح وجريء بين معنيين بهذه الأزمة وبسواها من الأزمات التي تذكي نارها الصهيونيةُ والإمبريالية الأميركية، يقودنا إلى تشخيص موضوعي دقيق للواقع وتحليل أدق لمعطياته ومشكلاته وأزمات الناس فيه، وإلى تحمل مسؤوليات تاريخية حياله، وتكوين دائرة من التفاهم والتعاون يوسِّعها الحوار شيئاً فشيئاً ليسود تعاون وتفاهم أعمق وأوثق فيما بيننا من جهة، ونبذ للعدو الذي ينفث سموم العداوة فينا من بين صفوفنا من جهة أخرى. وإنَّا على ذلك قادرون، إذا ما سرنا على هدي العقل وأعلينا شأن المنطق وَسَمت منا الرؤية وسلمت العقيدة وصح العزم وصدقت النيات وأسرجنا مصباح العقل والقلب، وأعملنا فينا الحق والإيمان الحق، اللذين يقودان إلى رؤية كفَلَق الصبح أو أشد وضوحاً، ليسود ويتقدم ما هو في صالح كل فرد وكل شعب وكل بلد في العالم الذي يعنينا جميعاً، ويشكل مسؤوليتنا جميعاً؛ بوصفنا شركاء في الشرط الإنساني والمصير الإنساني .
وقل : (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))
صدق الله العظيم.
الأسبوع الأدبي/ع630//10/10/1998
الأسبوع الأدبي/ع631//17/10/1998
Comment