رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
هل يكون هذا بداية التغيير الكبير ؟!
اخترق نجم الدين أربكان، " آل باقان "، الحصارَ المفروض على السياسة التركية، من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ووقَّع، رغم غضب الأخيرة واستنكارها، وقَّع يوم الاثنين 12 آب 1996 اتفاقية تاريخية مع إيران، بقيمة ثلاثة وعشرين مليار دولار أميركي، يشتري بموجبها غازاً طبيعياً إيرانياً لمدة اثنتين وعشرين سنة، وينشئ خطاً استراتيجياً للطاقة بين البلدين؛ ويأتي توقيع هذه الاتفاقية بعد أسبوع واحد فقط من توقيع الرئيس الأميركي بيل كلنتون لما عُرف بقانون " داماتو ـ نسبة إلى السناتور الأميركي الذي اقترحه ـ لمكافحة الإرهاب " ذلك القانون الذي قررت " حكومة كل العالم؟! " بموجبه، أن تعزز ممارستها المستمرة للقرصنة في التجارة والسياسة الدوليتين، بفرضها عقوبات على الشركات العالمية والمستثمرين الذين يوظفون أكثر من أربعين مليون دولار أميركي في استثمارات الطاقة ـ النفط على الخصوص ـ في أي من إيران والجماهيرية الليبية، وبتهديدها بفرض العقوبات على الدول التي لا تلتزم بالقوانين التي تصدرها هي، بذرائع شتى، للنهب والابتزاز ولحماية مصالحها وتنفيذ سياساتها في العالم.
وجاءت خطوة رئيس الوزراء التركي في هذا الوقت، وبعد أن تسلَّم حزبه، حزب الرفاه الإسلامي، رئاسة الحكومة في تركيا لأول مرة في تاريخ الجمهورية، جاءت لتقدم جملة من المؤشرات والاحتمالات، ولتفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية لهذا البلد، الذي طالما عانى من التمزق بين:
ـ ولاء للغرب، أو ولاء يفرضه عليه الغرب، وتمليه رغبات بعض الساسة والمستفيدين من ربط مصالحهم الخاصة بمصالح الغرب في بلادهم، ومن تعميق ولاء تركيا وتبعيتها للغرب، وتكريس ذينك الولاء والتبعية، ولو تم ذلك على حساب الشخصية الثقافية للشعب وأصالته وعقيدته وحرية قراره السياسي ومصالحه الحيوية.
ـ وجود راسخ للشعب التركي ووطنه في الإطار الحيوي ـ الإستراتيجي، الجغرافي والسياسي والتاريخي والاجتماعي في قارة آسيا؛ وانتماء ذلك الشعب تاريخياً للشرق وثقافته، وللعالم الإسلامي وحضارته وعقيدته وتاريخه، وحضوره الدائم في ذلك الانتماء، وتحمّله مسؤولية قيادية في ذلك العالم مدة أربعة قرون تقريباً؛ ووجود روابط وثيقة، يحكمها الجوار الجغرافي، مع بلدان عربية وإسلامية، لا يمكن مجاوزة تأثيرها وصلاتها الراسخة وكل ما يقيمه ويفرضه ذلك من مصالح وعلاقات.
ونجم الدين أربكان، الذي أعلن حزبه على لسان الناطق باسم لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب كرم الله أوغلو: " إن الحكومة التركية لم توجد لخدمة المصالح الأميركية بل لخدمة المصالح التركية، دعا من طهران إلى إقامة سوق اقتصادية مشتركة بين بلدان العالم الإسلامي، وإلى إقامة صلات طيبة بين تلك البلدان، مقدِّماً تركيا وإيران أنموذجاً، كما دعا إلى عقد قمة للدول المعنية بما هو دائر من صراع وما هو قائم من توتر، في المربَّع الذي يعني كلاً من تركيا وإيران والعراق وسورية؛ سواء ما يقع من ذلك الصراع والتوتر في تركيا بين الحكومة والأكراد، أو في شمال العراق، من أجل وضع حد للتدخل الأجنبي ولإراقة الدماء والبؤس، وللصراعات العقيمة التي لا يستفيد منها إلا أولئك الذين أدمنوا الراحة على حساب شقاء الآخرين، والغنى على حساب نهب ثرواتهم وإرهابهم وفرض التخلف والتبعية عليهم؛
نجم الدين أربكان هذا يبشر بعلاقات جديدة في المنطقة وبرؤية جديدة فيها، يبشر بتفكير ونهج سياسيين إيجابيين يمكن أن يضعا حداً لعبث الإدارة الأميركية والصهيونية و" " إسرائيل " " بتركي، ويمهد لوضع حد لذلك العبث بالأنظمة والشعوب والمصالح والقضايا التي تمس جوهر حياة الناس وتقدمهم ومستقبلهم في هذه المنطقة من العالم؛ ومن شأن النهج والتفكير السياسيين المستشرَفين، إذا ما تحققا ونجحا، أن يحفزا شعوباً وحكومات على فعل شيء من شأنه أن يخفف إلى حد كبير من تأثير الإدارة الأميركية الطاغي على الأحداث والمصالح والقرارات السياسية؛ ومن هيمنتها على المستقبل ذاته الذي للشعوب وقضاياها بشكل عام.
ومبادرة أربكان تجاه إيران، في هذا الوقت هي انتصار له وانتصار لإيران في آن معاً، لأنها وجهت ضربة للقرصان الأميركي الذي يريد أن يفرض قوانينه الداخلية على بلدان العالم، ويقمعها ويرهبها بسيطرته على مقومات القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى مجلس الأمن الدولي، ويحاصر الشعوب التي ترفض أن تخضع لسلطانه وتأتمر بأوامره، ويعمل على خنقها وتجويعها وفرض عقوبات ظالمة واتهامات عليها، مثلما فعل ويفعل مع الشعب العربي في كل من العراق وليبيا، ومع كل من إيران وسورية وكوبا وكوريا الشمالية ـ الديمقراطية ـ؛ ويقوم بدور قاطع الطريق العالمي إرضاء لجشع احتكاراته، وتنفيذاً لمخططات الصهاينة الذين يسيطرون على سياسته الخارجية، لا سيما في هذه المنطقة من العالم، ويريدون فرض تحالفات عليها، وتمزيق دول ومجتمعات، وتشويه قضايا وعقائد وثقافات، فيما يسمونه الشرق الأوسط، ليفرضوا عليه حلولاً وهيمنة، وليجعلوا منه سوقاً لهم، وليضعوا شعوبه وحكوماته وحكامه في حالة تبعية مطلقة لوجودهم ونفوذهم، بتأثير من شدة الرغبة أو سطوة الرهبة.
وإذا ما حقق أربكان برنامجه السياسي، ونجح في حل الخلافات القائمة مع دول الجوار التركي، وحل المشاكل العالقة مع كل من سورية والعراق، لا سيما مشكلة المياه، وألغى أو جمَّد المعاهدة ـ التحالف، التركية الإسرائيلية، فإنه يكون قد خطا بالمنطقة كلها نحو مرحلة جديدة من العلاقات والاحتمالات الإيجابية. لكن أربكان وحزبه ليسا مطلقي العنان في فعل ما يريانه في صالح تركا والمنطقة، فالكل يعرف ثقل المعارضة وتوجهاتها هناك، والكل يعرف أين يتجه هوى الجيش، أو عدد لا يستهان به من ضباطه وقياداته على الأقل، ومعروف أيضاً الضغط الهائل الذي يمكن أن تمارسه الولايات المتحدة الأميركية هناك على حليف قديم لها وعضو في حلف الأطلسي،يخوض تنافساً بل صراعاً مع أضاء آخرين في الحلف ويحتاج إلى السلاح وإلى تحديث السلاح الذي يملكه، ويخوض حرباً داخلية منذ سنوات، لا سيما بعد أن أعلنت عن استنكارها للاتفاق التركي ـ الإيراني الجديد، واستعدادها للتصدي له.
والأسئلة المطروحة، بعد هذه الخطوة الجريئة الواضحة الدلالة هي :
1 ـ هل تستطيع الدول المعنية بتحرير قرارها وإرادتها واقتصادها ومصالحها، وبتحرير السياسة العالمية من السطوة والسيطرة الأميركيتين، أن تفعل شيئاً إيجابياً لحماية القرار التركي ـ الإيراني الجريء؟! وإلى أي مدى يمكن أن تمضي في ذلك؟!
2 ـ هل تستطيع دول عربية وإسلامية، أو دول في بلدان ما يسمى العالم الثالث، أن تتخذ خطوات مشابهة أو أكثر جرأة في هذا الاتجاه، لكسر القيود التي فرضتها وتفرضها الولايات المتحدة الأميركية، سواء تحت ستار قرارات مجلس الأمن الدولي، أو بقوة التدخل والضغط المباشرين لها ولحلفائها والمستفيدين من ممارساتها الظالمة ضد الآخرين؟!
3 ـ هل تستطيع الدول العربية مثلاً، المقتنعة بأن الحصار المفروض على الشعب العربي في كلٍٍ من القطرين الليبي والعراقي هو حصار ظالم، قد تجاوز كل مدى وحد إنساني أو أخلاقي، هل تستطيع خرق هذا الحصار داخلياً، بأي شكل من أشكال الخرق، أو على الأقل التهديد بفعل ذلك؟! لا سيما وأن هناك أكثر من قرار للجامعة العربية، وقرار للقمة العربية الأخيرة في القاهرة، تطالب كلها برفع ذلك الحصار الذي تصفه هي ذاتها بالظالم؟! وتعرف هي كما يعرف العالم أهداف ذلك الحصار السياسة وغير السياسية جيداً، وأغراضه البعيدة على الصعيد القومي، ودوره في خدمة المشروع الصهيوني حاضراً ومستقبلاً؟! هل تتعاون دول عربية، رفضت الحصار كلياً أو جزئياً، هل تتعاون مع دول أخرى، إسلامية أو غير إسلامية، تعاني من حالات مشابهة، على كسر القيود والأغلال الأميركية التي تغوص بعيداً في المعاصم والأعناق؛ وتتنقَّل من معصم إلى معصم ومن عنق إلى عنق، في ظل التفرُّج والتخاذل والشماتة والتواطؤ؟؟ أم أنها ستخاف إلى حد التجمد، وتُجري حسابات إلى حد الشلل، وتترك الوحش الأميركي ـ الصهيوني يتفرد بكل من يخالفه في الوقت الملائم، وينفذ كل ما يهدد الآخرين به ؟!
4- هل تستطيع الدول العربية أن تستفيد من الوضع والتوجه الجديدين في تركيا وتدفع باتجاه إلغاء الاتفاق العسكري التركي ـ الإسرائيلي، الذي يستهدف سورية بالدرجة الأولى، ويرمي إلى تهديدها وإجبارها على تقديم تنازلات مذلة " لإسرائيل " في أثناء مفاوضات فرض " السلام " الأميركي الإسرائيلي عليها حسب المفهوم الصهيوني لذلك السلام، ويجعلها في ظل " السلام " المحتمل " عاجزة عن القيام بأي دور قومي، أو بأي إنجاز نهضوي؛ كما يستهدف إيران والعراق، ويؤسس للهيمنة " الإسرائيلية " العسكرية والأمنية على المنطقة كلها؟! هل تقف الدول العربية صفاً واحداً وموقفاً واحداً ومصلحة واحدة وصوتاً واحداً، لتحقق مع تركيا أربكان اتفاقاً وتقدماً في العلاقات يضع حداً للتهديد الصهيوني القادم عبر اتفاقيات وتحالفات مع تركيا الغرب.. تركيا المتصهينة، التي يريد أربكان أن يغيِّر وجهها وتوجهها وتحالفاتها، إن أمكنه ذلك؟؟ إن هذا مطلب حيوي، ومصلحة قومية وإسلامية، وليس مصلحة سورية ـ قطرية أو عربية فقط، وهو بتقديري يشكل مصلحة لمن يقاوم الاستعمار والهيمنة والإرهاب والقرصنة وتهديد الشعوب والحكومات، في كل أرجاء العالم؛ فهل يفعل العرب شيئاً إيجابياً في هذا المجال أم أنهم، أو دول معينة من دولهم على الأقل، سترى في إضعاف التحالف التركي ـ الإسرائيلي إضعافاً لها وتهديدا لمصالحها ولمصالح حليفيها الأميركي والإسرائيلي، فتبادر إلى أكل أخيها في العروبة الإسلام قبل أن يتحرر ويأمن ويكبر؛ لأن أمنها وكبرها يكونان ـ كما تراه تلك الدولة أو الدول ـ بضعف أخوتها وقوة حلفائها من غير أبناء الأمة والعقيدة والوطن؟! ـ هل تستطيع الدول الإسلامية أن تستجيب لدعوة كل من تركيا وإيران فتتعاون فيما بينها وتقيم لها سوقاً اقتصادية مشتركة؟ أم أنها سترى في ذلك تكتلاً يعاب عليها، تكتلاً خارجاً على تكتل الذئاب، على الإرادة الغربية ـ الصهيونية ـ الاحتكارية، ولا يليق بها أن تفعله، محافظة منها على تقاليد التبعية الراسخة وأخلاقها، وخضوعاً للخوف الذي عشش في الضلوع وسيطر على الإرادات والعقول؟!
* وأخيراً هل يمكن أن ترتفع أصوات، على الأقل، تناصر من يدعو لرفض الخضوع للقوانين الأميركية التي تريد أن تحكم العالم وتخضعه للقرار والمصلحة الأميركيتين ؟!؟
إن كل تلك أسئلة مشروعة يطرحها الوضع السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن ينشأ على أرضية الاتفاق التركي ـ الإيراني الأخير، وعلى أرضية الدعوات والاقتراحات التي انطلقت في أثناء توقيعه؛ وهو اتفاق يؤسس لخلق وضع جديد يوحي باحتمالات تغيير كثيرٍ مما استقر في المنطقة من وقائع " وحقائق "، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية.
ويبقى سؤال الأسئلة: ما هو موقفنا الفعلي العام من كل ما يجري الآن في المنطقة؟ وهل نستطيع القيام بمبادرات شجاعة وبناءة تخترق جدار الصمت وتتجاوز محيط الخوف، لننعش حلماً وأملاً بالخلاص مما أصبنا به من إحباط وما ابتلينا به من استعمار: مباشر وغير مباشر، ومن تبعية: سياسية واقتصادية وثقافية، ومن تمزق وتردد وانعدام ثقة، وغياب رؤية وغيبوبة أو سبات، في العقود الماضية، لا سيما منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يوم الناس هذا ؟!؟
إننا لا نفقد الأمل أبداً، ولا نتوقف عن العمل من أجل تحقيق ذلك، والله من وراء القصد.
دمشق في 13 / 8 / 1996
الأسبوع الأدبي/ع524//15/آب/1996.
وجاءت خطوة رئيس الوزراء التركي في هذا الوقت، وبعد أن تسلَّم حزبه، حزب الرفاه الإسلامي، رئاسة الحكومة في تركيا لأول مرة في تاريخ الجمهورية، جاءت لتقدم جملة من المؤشرات والاحتمالات، ولتفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية لهذا البلد، الذي طالما عانى من التمزق بين:
ـ ولاء للغرب، أو ولاء يفرضه عليه الغرب، وتمليه رغبات بعض الساسة والمستفيدين من ربط مصالحهم الخاصة بمصالح الغرب في بلادهم، ومن تعميق ولاء تركيا وتبعيتها للغرب، وتكريس ذينك الولاء والتبعية، ولو تم ذلك على حساب الشخصية الثقافية للشعب وأصالته وعقيدته وحرية قراره السياسي ومصالحه الحيوية.
ـ وجود راسخ للشعب التركي ووطنه في الإطار الحيوي ـ الإستراتيجي، الجغرافي والسياسي والتاريخي والاجتماعي في قارة آسيا؛ وانتماء ذلك الشعب تاريخياً للشرق وثقافته، وللعالم الإسلامي وحضارته وعقيدته وتاريخه، وحضوره الدائم في ذلك الانتماء، وتحمّله مسؤولية قيادية في ذلك العالم مدة أربعة قرون تقريباً؛ ووجود روابط وثيقة، يحكمها الجوار الجغرافي، مع بلدان عربية وإسلامية، لا يمكن مجاوزة تأثيرها وصلاتها الراسخة وكل ما يقيمه ويفرضه ذلك من مصالح وعلاقات.
ونجم الدين أربكان، الذي أعلن حزبه على لسان الناطق باسم لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب كرم الله أوغلو: " إن الحكومة التركية لم توجد لخدمة المصالح الأميركية بل لخدمة المصالح التركية، دعا من طهران إلى إقامة سوق اقتصادية مشتركة بين بلدان العالم الإسلامي، وإلى إقامة صلات طيبة بين تلك البلدان، مقدِّماً تركيا وإيران أنموذجاً، كما دعا إلى عقد قمة للدول المعنية بما هو دائر من صراع وما هو قائم من توتر، في المربَّع الذي يعني كلاً من تركيا وإيران والعراق وسورية؛ سواء ما يقع من ذلك الصراع والتوتر في تركيا بين الحكومة والأكراد، أو في شمال العراق، من أجل وضع حد للتدخل الأجنبي ولإراقة الدماء والبؤس، وللصراعات العقيمة التي لا يستفيد منها إلا أولئك الذين أدمنوا الراحة على حساب شقاء الآخرين، والغنى على حساب نهب ثرواتهم وإرهابهم وفرض التخلف والتبعية عليهم؛
نجم الدين أربكان هذا يبشر بعلاقات جديدة في المنطقة وبرؤية جديدة فيها، يبشر بتفكير ونهج سياسيين إيجابيين يمكن أن يضعا حداً لعبث الإدارة الأميركية والصهيونية و" " إسرائيل " " بتركي، ويمهد لوضع حد لذلك العبث بالأنظمة والشعوب والمصالح والقضايا التي تمس جوهر حياة الناس وتقدمهم ومستقبلهم في هذه المنطقة من العالم؛ ومن شأن النهج والتفكير السياسيين المستشرَفين، إذا ما تحققا ونجحا، أن يحفزا شعوباً وحكومات على فعل شيء من شأنه أن يخفف إلى حد كبير من تأثير الإدارة الأميركية الطاغي على الأحداث والمصالح والقرارات السياسية؛ ومن هيمنتها على المستقبل ذاته الذي للشعوب وقضاياها بشكل عام.
ومبادرة أربكان تجاه إيران، في هذا الوقت هي انتصار له وانتصار لإيران في آن معاً، لأنها وجهت ضربة للقرصان الأميركي الذي يريد أن يفرض قوانينه الداخلية على بلدان العالم، ويقمعها ويرهبها بسيطرته على مقومات القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وعلى مجلس الأمن الدولي، ويحاصر الشعوب التي ترفض أن تخضع لسلطانه وتأتمر بأوامره، ويعمل على خنقها وتجويعها وفرض عقوبات ظالمة واتهامات عليها، مثلما فعل ويفعل مع الشعب العربي في كل من العراق وليبيا، ومع كل من إيران وسورية وكوبا وكوريا الشمالية ـ الديمقراطية ـ؛ ويقوم بدور قاطع الطريق العالمي إرضاء لجشع احتكاراته، وتنفيذاً لمخططات الصهاينة الذين يسيطرون على سياسته الخارجية، لا سيما في هذه المنطقة من العالم، ويريدون فرض تحالفات عليها، وتمزيق دول ومجتمعات، وتشويه قضايا وعقائد وثقافات، فيما يسمونه الشرق الأوسط، ليفرضوا عليه حلولاً وهيمنة، وليجعلوا منه سوقاً لهم، وليضعوا شعوبه وحكوماته وحكامه في حالة تبعية مطلقة لوجودهم ونفوذهم، بتأثير من شدة الرغبة أو سطوة الرهبة.
وإذا ما حقق أربكان برنامجه السياسي، ونجح في حل الخلافات القائمة مع دول الجوار التركي، وحل المشاكل العالقة مع كل من سورية والعراق، لا سيما مشكلة المياه، وألغى أو جمَّد المعاهدة ـ التحالف، التركية الإسرائيلية، فإنه يكون قد خطا بالمنطقة كلها نحو مرحلة جديدة من العلاقات والاحتمالات الإيجابية. لكن أربكان وحزبه ليسا مطلقي العنان في فعل ما يريانه في صالح تركا والمنطقة، فالكل يعرف ثقل المعارضة وتوجهاتها هناك، والكل يعرف أين يتجه هوى الجيش، أو عدد لا يستهان به من ضباطه وقياداته على الأقل، ومعروف أيضاً الضغط الهائل الذي يمكن أن تمارسه الولايات المتحدة الأميركية هناك على حليف قديم لها وعضو في حلف الأطلسي،يخوض تنافساً بل صراعاً مع أضاء آخرين في الحلف ويحتاج إلى السلاح وإلى تحديث السلاح الذي يملكه، ويخوض حرباً داخلية منذ سنوات، لا سيما بعد أن أعلنت عن استنكارها للاتفاق التركي ـ الإيراني الجديد، واستعدادها للتصدي له.
والأسئلة المطروحة، بعد هذه الخطوة الجريئة الواضحة الدلالة هي :
1 ـ هل تستطيع الدول المعنية بتحرير قرارها وإرادتها واقتصادها ومصالحها، وبتحرير السياسة العالمية من السطوة والسيطرة الأميركيتين، أن تفعل شيئاً إيجابياً لحماية القرار التركي ـ الإيراني الجريء؟! وإلى أي مدى يمكن أن تمضي في ذلك؟!
2 ـ هل تستطيع دول عربية وإسلامية، أو دول في بلدان ما يسمى العالم الثالث، أن تتخذ خطوات مشابهة أو أكثر جرأة في هذا الاتجاه، لكسر القيود التي فرضتها وتفرضها الولايات المتحدة الأميركية، سواء تحت ستار قرارات مجلس الأمن الدولي، أو بقوة التدخل والضغط المباشرين لها ولحلفائها والمستفيدين من ممارساتها الظالمة ضد الآخرين؟!
3 ـ هل تستطيع الدول العربية مثلاً، المقتنعة بأن الحصار المفروض على الشعب العربي في كلٍٍ من القطرين الليبي والعراقي هو حصار ظالم، قد تجاوز كل مدى وحد إنساني أو أخلاقي، هل تستطيع خرق هذا الحصار داخلياً، بأي شكل من أشكال الخرق، أو على الأقل التهديد بفعل ذلك؟! لا سيما وأن هناك أكثر من قرار للجامعة العربية، وقرار للقمة العربية الأخيرة في القاهرة، تطالب كلها برفع ذلك الحصار الذي تصفه هي ذاتها بالظالم؟! وتعرف هي كما يعرف العالم أهداف ذلك الحصار السياسة وغير السياسية جيداً، وأغراضه البعيدة على الصعيد القومي، ودوره في خدمة المشروع الصهيوني حاضراً ومستقبلاً؟! هل تتعاون دول عربية، رفضت الحصار كلياً أو جزئياً، هل تتعاون مع دول أخرى، إسلامية أو غير إسلامية، تعاني من حالات مشابهة، على كسر القيود والأغلال الأميركية التي تغوص بعيداً في المعاصم والأعناق؛ وتتنقَّل من معصم إلى معصم ومن عنق إلى عنق، في ظل التفرُّج والتخاذل والشماتة والتواطؤ؟؟ أم أنها ستخاف إلى حد التجمد، وتُجري حسابات إلى حد الشلل، وتترك الوحش الأميركي ـ الصهيوني يتفرد بكل من يخالفه في الوقت الملائم، وينفذ كل ما يهدد الآخرين به ؟!
4- هل تستطيع الدول العربية أن تستفيد من الوضع والتوجه الجديدين في تركيا وتدفع باتجاه إلغاء الاتفاق العسكري التركي ـ الإسرائيلي، الذي يستهدف سورية بالدرجة الأولى، ويرمي إلى تهديدها وإجبارها على تقديم تنازلات مذلة " لإسرائيل " في أثناء مفاوضات فرض " السلام " الأميركي الإسرائيلي عليها حسب المفهوم الصهيوني لذلك السلام، ويجعلها في ظل " السلام " المحتمل " عاجزة عن القيام بأي دور قومي، أو بأي إنجاز نهضوي؛ كما يستهدف إيران والعراق، ويؤسس للهيمنة " الإسرائيلية " العسكرية والأمنية على المنطقة كلها؟! هل تقف الدول العربية صفاً واحداً وموقفاً واحداً ومصلحة واحدة وصوتاً واحداً، لتحقق مع تركيا أربكان اتفاقاً وتقدماً في العلاقات يضع حداً للتهديد الصهيوني القادم عبر اتفاقيات وتحالفات مع تركيا الغرب.. تركيا المتصهينة، التي يريد أربكان أن يغيِّر وجهها وتوجهها وتحالفاتها، إن أمكنه ذلك؟؟ إن هذا مطلب حيوي، ومصلحة قومية وإسلامية، وليس مصلحة سورية ـ قطرية أو عربية فقط، وهو بتقديري يشكل مصلحة لمن يقاوم الاستعمار والهيمنة والإرهاب والقرصنة وتهديد الشعوب والحكومات، في كل أرجاء العالم؛ فهل يفعل العرب شيئاً إيجابياً في هذا المجال أم أنهم، أو دول معينة من دولهم على الأقل، سترى في إضعاف التحالف التركي ـ الإسرائيلي إضعافاً لها وتهديدا لمصالحها ولمصالح حليفيها الأميركي والإسرائيلي، فتبادر إلى أكل أخيها في العروبة الإسلام قبل أن يتحرر ويأمن ويكبر؛ لأن أمنها وكبرها يكونان ـ كما تراه تلك الدولة أو الدول ـ بضعف أخوتها وقوة حلفائها من غير أبناء الأمة والعقيدة والوطن؟! ـ هل تستطيع الدول الإسلامية أن تستجيب لدعوة كل من تركيا وإيران فتتعاون فيما بينها وتقيم لها سوقاً اقتصادية مشتركة؟ أم أنها سترى في ذلك تكتلاً يعاب عليها، تكتلاً خارجاً على تكتل الذئاب، على الإرادة الغربية ـ الصهيونية ـ الاحتكارية، ولا يليق بها أن تفعله، محافظة منها على تقاليد التبعية الراسخة وأخلاقها، وخضوعاً للخوف الذي عشش في الضلوع وسيطر على الإرادات والعقول؟!
* وأخيراً هل يمكن أن ترتفع أصوات، على الأقل، تناصر من يدعو لرفض الخضوع للقوانين الأميركية التي تريد أن تحكم العالم وتخضعه للقرار والمصلحة الأميركيتين ؟!؟
إن كل تلك أسئلة مشروعة يطرحها الوضع السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن ينشأ على أرضية الاتفاق التركي ـ الإيراني الأخير، وعلى أرضية الدعوات والاقتراحات التي انطلقت في أثناء توقيعه؛ وهو اتفاق يؤسس لخلق وضع جديد يوحي باحتمالات تغيير كثيرٍ مما استقر في المنطقة من وقائع " وحقائق "، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية.
ويبقى سؤال الأسئلة: ما هو موقفنا الفعلي العام من كل ما يجري الآن في المنطقة؟ وهل نستطيع القيام بمبادرات شجاعة وبناءة تخترق جدار الصمت وتتجاوز محيط الخوف، لننعش حلماً وأملاً بالخلاص مما أصبنا به من إحباط وما ابتلينا به من استعمار: مباشر وغير مباشر، ومن تبعية: سياسية واقتصادية وثقافية، ومن تمزق وتردد وانعدام ثقة، وغياب رؤية وغيبوبة أو سبات، في العقود الماضية، لا سيما منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يوم الناس هذا ؟!؟
إننا لا نفقد الأمل أبداً، ولا نتوقف عن العمل من أجل تحقيق ذلك، والله من وراء القصد.
دمشق في 13 / 8 / 1996
الأسبوع الأدبي/ع524//15/آب/1996.
Comment