رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-
فــي صنعاء ضد الاستسلام والتطبيع
شهدت صنعاء مؤتمراً حاشداً ضد الاستسلام والتطبيع بين /9 و 12/ كانون الأول - ديسمبر 1996، صادف الذكرى التاسعة لانتفاضة أهلنا في فلسطين المحتلة؛ ومن الأهمية بمكان أن ينعقد مثل هذا المؤتمر في هذه الظروف بالذات، وبعد مد الهرولة العربية المخزي نحو الكيان الصهيوني وما نتج عن تلك الهرولة التي تدمي قلوبنا وتؤذى أبصارنا وأسماعنا منذ سنوات: تطبيعاً مع العدو وتلويعاً لنا.
ومن كان في صنعاء وسمع كلمات المتدخلين وتدقيقهم في الكلمات والأفكار والمواقف، وحرصهم على الوضوح، وشهد صخبهم واندفاع بعضهم بحماسة واضحة بلغت حدوداً غير مقبولة في بعض الأحيان؛ يدرك جيداً أن ما تم لم يكن من قبيل رفع العتب وتبرئة الذمة، وأن من حضر لم يكن قادماً لاستعراض حضوره أو لغايات تختفي وراء ضباب الحضور؛ -إلا من كانت تلك سنَّته في الحياة وباب رزقه وأسلوب عمله- وأن ما جرى في ذلك المؤتمر هو فعل يعنى بتفاصيل ما يتم على أرضنا وما يمكن أن يبنى على ذلك الذي تم ويتم، إذا صدقت النوايا وصحت العزائم وصفت القلوب وتآلفت على الخير والعدل ونصرة حق الأمة.
في صنعاء مبادرة تستند إلى تاريخ كدنا ننساه: ننكره، أو نتنكر له، وما أظن أن تلك المبادرة التي أتت بعد سنوات مريرة عجاف هي من دون معنى أو من دون تأثير، ولكن ينبغي، ونحن نقف على عتبة انطلاقة جديدة في هذا الميدان، ينبغي أن نواجه، بنوع من الجدية والمسؤولية والحزم، بعض الظواهر التي برزت في ذلك المؤتمر ونناقشها وندقق في منطقها، حرصاً منا على سلامة التوجه ووضوح الرؤية، وجدية الاختيار وعلى نظافة المسيرة وخلوها من الألغام وبلوغها الغاية المرجوة.
فمن أتى إلى صنعاء أتى وهو يعرف أنه ينضم إلى جبهة تؤسس لمقاومة الاستسلام والتطبيع وصولاً إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان؛ ومن الواضح جداً أن مفهوم الاستسلام ينطوي على ما هو أبشع من الهزيمة وأكثر من التفريط بالحق؛ والحق في مثل قضيتنا وموقفنا وموضوعنا هو فلسطين: الأرض والشعب والسيادة والتاريخ والانتماء والمقدسات، وما تعنيه قضية فلسطين للأمة العربية منذ عشرات السنين؛ ومن الواضح أيضاً أن يكون سلام الاستسلام مرفوضاً وأن يكون ما يتم في مناخه من تسويات موضوع رفض وإدانة هو الآخر!! والاستسلام للعدو يعني، فيما يعني، القبول بما تفرضه القوة المحتلة من أمر واقع وما تمليه من تسوية وحلول تكون في نهاية المطاف ظالمة ومُذلة، تتم على حساب المحتلة أرضه والمقهورة إرادته والمغلوب على أمره، حتى لو انحصر ترديه في حدود عدم امتلاكه للقوة التي تمكنه من الوقوف بصلابة واقتدار في أثناء المفاوضات مع عدوه.
المؤتمر العربي الشعبي الأول لمقاومة الاستسلام والتطبيع يستند على أرضية المشترك الذي يُفترض أنه يجمع بين المشاركين فيه، ومن البديهي أن يكون احتلال الأرض وما نتج عن ذلك الاحتلال وعن توسعه وتجذره وتطلعه واستمراره في مقدمة ما يرفضه المؤتمر ويعمل على وضع حد له بكل السبل والوسائل؛ وعلى ذلك فإن النظر إلى الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأن فلسطين عربية وينبغي أن تبقى عربية وأن تعود إلى أهلها الشرعيين هو من أبسط ما يمكن أن يتجه المؤتمر إلى تأكيده والانطلاق منه: ولكن... وبكل أسف، حتى في تلك الواحة الصغيرة المحاصرة من صحراء الهزيمة العربية الممتدة، حتى في تلك الواحة المحاصرة بكل ما للكلمة من معنى، وجد من ينطق كفراً ويضعف صفاً ويلغم أرضاً، ومن يمارس ازدواجية الوجه واللسان،ومن يضع قناع الحرب ويهرول نحو استسلام لا يتورع عن تسميته سلاماً ويقبل به ويُقبل عليه؟!؟
ووجد من لم يستفد من دروس الماضي القريب ومازال قادراً على الأداء المتعنت في ظل الوهم المكشوف له ولسواه، ممن يراه ومن لا يراه!! ووجد من لم يستفد على الإطلاق من الدروس القريبة المستفادة من كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة؛ بل وجد من يدعم كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة ويعتقد أنه قادر على الدخول بين جلد من يرفضونها ولحمهم، وأن يسافر في مركبهم ومن ثم يستولي على دفة القيادة ويجبر الربان على التخلي عن مهمته بحجة أن الربان لا يملك الفضائل السياسية التي يملكها ولا يتقن اللعب على حبال الموج في محيط متلاطم من حوله!!؟.
في صنعاء وجدنا من يقول لنا: إنه معنا في مقاومة التطبيع ولكنه ليس معنا في أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، ووجدنا من يؤمن بأن "لإسرائيل الحق في البقاء من خلال تمسكه بالقرار/ 242/ وإقراره بأن تبقى على أرض فلسطين بديلاً لفلسطين، ويرى اعتماداً على هذه المقدمات واستنتاجاً منها: أن على الفلسطينيين أن يبحثوا عن وطن بديل أو أن يستمر تشردهم في الأرض، أو أن يتم توطينهم في الأرض العربية، وحجته في ذلك أن الأمر الواقع لا يمكن تغييره والسياسة الدولية تسير في هذا الاتجاه ولا جدوى من مقاومتها، وأن من لا يأخذ بما هو قائم على أرض الواقع اليوم يكون مخطئاً واهماً.
وتلك هي الواقعية الانهزامية التي نبهنا إليها وحذرنا منها؛ إنها الهزيمة الروحية والفكرية التي تحاول أن تنشب مخالبها في قلوبنا وعقولنا وتمنعنا من رؤية أي نور في نهاية النفق المظلم الذي نمُر به.
الحق أقول لكم: إنني واجهتُ مثل هذا المنطق سابقاً وتصديت له، ولم أذهل لوجوده ولا لقيام أفراد من أبناء أمتنا بحمل رايته وخوض معارك شرسة تحت ظلها، وتنظيم حملات في كل الاتجاهات لإلحاق الأذى بمن لا يخاف من حشد "ميليشياتهم المهولة وقواها الضاربة" ضده، لا سيما في المجال الثقافي الذي تتمترس فيه؛ فهي قوى مدربة على أفضل أنواع الأداء الغوغائي الذي تتقنه الصهيونية وتربي أنصاراً عليه.
والحق أقول لكم أيضاً: أنني لم أفاجأ بموقف من وقف في صنعاء موقفاً مزدوجاً، فكان ضد التطبيع، مرحلياً، "ومع الاعتراف بالكيان الصهيوني "أبدياً"، لم أفاجأ بذلك ربما لأنني شهدت في صنعاء ذاتها قبل سنوات ثمان وبمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى للانتفاضة المباركة موقفاً يقول بالاعتراف بالكيان الصهيوني على استحياء، ويتبرقع بالنضج ويتهم الآخرين بعدم الوصول إليه، إلى أن أعلن اعترافه بذلك الكيان ودعا إلى تطبيع العلاقات معه عندما سنحت أول فرصة له ليقوم بذلك. لم أفاجأ بمن دخل في موقف "عصري واقعي" مزدوج تمارسه الدولة الأعظم في العالم اليوم ويمارسه مجلس الأمن الدولي؛ ما فاجأني هو إصرار تلك الحفنة الصغيرة من الأشخاص في مؤتمر صنعاء على استغفالنا ومحاولتها فرض رأيها علينا جميعاً بغوغائية، وتصميمها المكشوف على أن تكون اللغم الذي يدمرنا من الداخل بعد حين، من دون أن يكون لنا، ونحن في مواقعنا تلك، حق الرؤية والاعتراض والتنبيه والتعبير والنقض في إطار الديمقراطية التي ارتضيناها جميعاً ونحن الأكثرية الساحقة!؟!
وكان مدخل أهل ذلك التيار والمدافعين عن منطقه يقول: نحن تنوُّع في وحدة، وعلينا أن نقبل كل الآراء، وألا نفرض على أحد موقفنا أو توجهنا وهذا بالله جميل وعادل ونظيف إلى حد مذهل؛ نحن مع حرية الرأي، ومع حق الآخر في الاختلاف، ونعرف أننا تنوُّع في وحدة تغتني بذلك التنوع، بل نحن من قال ذلك وأكد عليه، ونعرف أننا نجتمع على المشترك الهش الذي يجمعنا؛ ولكننا لا نتفهم كيف يمكن أن يكون حق الاختلاف مشروعاً إذا كان المختلف عليه هو الحق التاريخي الذي لنا، والوطن الذي يجمعنا ووجودنا المهدد، وموقع الاحتلال منا وموقفنا منه؛ وهو الموضوع الذي نجتمع بعد إجماعنا المفترض على أسس رئيسه لمواجهة ما يتم على ساحته؟! ولا نعرف كيف يكون حق الاختلاف مصوناً عندما يكون المختلف عليه يزري بالمصلحة العليا للأمة كلها وبتضحيات الشهداء وبالكرامة العامة التي لأبنائها، ويضع مصالحها ومصيرها موضع مساومة مع أعدائها!؟! ولا نعرف كيف يكون أساس هذا المشترك الهش الذي دعونا إليه ونحرص على تقويته وتثبيته، كيف يمكن أن يكون متناقضاً إلى حد التضاد ومتفجراً إلى حد التدمير، ويطلب منا أن نقبله ونبني عليه، وأن نتغافل عن المخاطر التي ينطوي عليها وضع كذلك الوضع، ونغض الطرف عن كل الدروس المستقاة من التجارب الماضية، التي بنيت على نوع من الغش في مجالات متعددة من حياتنا وأدت إلى تآكل الثقة والإرادة فينا، وإلى كوارث جمة ما زلنا نحصد نتائجها ونكتوي بنارها حتى اليوم، وقد دار معظمها حول مثل هذه المحاور والمواقف والأفكار فأفسد وبدد وما زال يفسد ويبدد!؟!
الذي يكون معك في خطوة ضد التطبيع وليس معك في طريق تحرير الأرض من الاحتلال، هو في خلاصة الاستنتاج المنطقي يريد أن يؤخر التطبيع مؤقتاً لهدف معين يحققه على مسار التطبيع ذاته، ذاك الذي يبنى أصلاً على الاعتراف؛ إنه يعرقل فقط بهدف الوصول إلى تحقيق أغراض معينة يعود بعد تحقيقها إلى ممارسة التطبيع، الذي لا يرفضه، على أرضية ذلك الاعتراف الذي يعلنه؛ فهو إذن صاحب سياسة مرحلية ترمي إلى تحريك موضوع جزئي وليس إلى تحرير أرض وحسم قضية بصورة كلية؟! إنه السادات في حرب تشرين وعلى ضفة السويس، وهو أكثر خطورة من محايد ويرغب في التوصل إلى حل لما يسمونه "مشكلة الشرق الأوسط" لأن مصالحه تصبح مؤمنة بشكل أفضل إذا ما حُلّت بأي شكل من أشكال الحل، ولكنه ليس معنياً بالعدل ولا بالتوصل إلى تبني قضية المقهورين المغلوبين على أمرهم والمشردين في الأرض في هذه القضية، والذين يتعلقون بالحق والعدل والوطن لاعتبارات تاريخية وخلقية ووطنية وقومية ودينية وإنسانية... الخ.
لقد طلع علينا في مؤتمر شعبي يضم القوى الرافضة للحلول الاستسلامية وللتطبيع بكل صوره وأشكاله -والتطبيع ابن الاعتراف- على أرضية تمسك تلك القوى بعروبة فلسطين وحقوق أهلها الثابتة والمشروعة فيها؛ طلع علينا من يقول بتطبيق القرار/242/ وبتأييد أوسلو إذا ما التزم بها نتنياهو، وكأنه لم يسمع بالمسيرة السياسية العربية المحبطة والمستمرة منذ عشرين سنة لتطبيق ذلك القرار المجحف بحق الشعب العربي الفلسطيني وما آلت إليه الجهود الرامية إلى تطبيق ذلك القرار على الرغم من كونه مجحفاً، ولا بما بذله عرفات من جهد وما قدمه من تنازلات وخدمات، أمنية وغير أمنية، ليحظى بالرضا الصهيوني ولم يفز إلا بترشيحه موالياً محتملاً؟! وهو إذ يطلع علينا بتمسكه بالقرار المشار إليه ينسى أن مكانه، في هذه الحالة، هو مع الذين يتلمسون السبل ويلتمسون الوسائل للوصول إلى إقناع الكيان الصهيوني بقبول اتفاقيات الإذعان/ كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة/ ولكن ذلك الكيان، الذي يطمع بالمزيد من أرض العرب وركوعهم يرفض حتى ذلك ويتابع سياسة الضم والقضم والهضم للأرض العربية والحق العربي؛ إنه ينسى أن موقعه هناك وليس في مؤتمر شعبي يختار طريقاً أخرى؛ طريقاً مستقبلية طويلة وشاقة، طريق أمل وحلم واندفاع على أرضية الإيمان والحق، ويحتاج السير فيها إلى زاد مغاير ورواد مغايرين وخطاب مغاير وعمل مغاير!؟!...
نحن منذ سنوات حيال عملية فرز حقيقية، عانينا كثيراً من عدم القيام من عدم القيام بها في السابق ودفعنا الثمن غالياً، وقد جعلتنا القوى الحربائية المتسلحة بالغوغائية نحبو على أجفاننا سنوات وسنوات من دون أن نحقق الوصول حتى إلى رؤية سليمة للعدو الذي ينهش قلوبنا من داخل أجسامنا ويتحكم بقرارنا من خلال تحكمه بمصدر تسلحنا، وبمقومات الثقة والإرادة والقرار.. قرارنا، تلك التي توضع جميعاً بين يديه بأشكال عدة ويسيطر عليها بوسائل عدة؛ ويبدو أن المطلوب -على الرغم من أن التغير الكبير الذي لحق بالعالم كله من حولنا- أن نبقى في القبضة بأشكال مختلفة، وأن يقودنا من يوهمنا بأنه يذهب بنا إلى أهدافنا، ولكن عبر تل أبيب، وحقوق اليهود، والديمقراطية المزيفة، التي نرى أنها للاستهلاك الغوغائي وسوق المزاد: فهي مرفوضة بوصفها صيغة تجعل الأقلية تخضع لرأي الأكثرية، إذا لم يكن القرار المتخذ عبرها موافقاً لهوى تلك الأقلية ومصالحها والمطلوب منها القيام به، وهي مقبولة في كل حالة مناقضة لذلك؟! الأكثرية في مثل هذه الحالة تصبح أكثرية مرفوضة لأنها لم تحقق وصاية الفئة "المتنورة تاريخياً" و"المتقدمة تاريخياً" و"المؤهلة للقيادة الموحى ببرامجها وتحركاتها واستراتيجياتها وأساليبها من الخارج تاريخياً أيضاً؟!
بعد مؤتمر صنعاء، وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أوضاع ومعاناة في وطننا العربي الذبيح، ولا أقول الجريح، وبعد كل ما تراكم لدينا من خبرات واستنتاجات وإحباط، بعد كل ذلك يبدو لي أنه آن الأوان لكي نقول لأصحاب المصالح الذين يريدون بيع قرارنا ورقابنا في السوق: إننا لسنا للبيع، وإننا لن نقبل الألغام الموقوتة بين صفوفنا، وعلى من يختار اختياراً غير التحرير، وحسم صراع الوجود مع العدو الصهيوني لغير مصلحة الأمة العربية وعروبة فلسطين، عليه أن يبحث عن ساحة أخرى يلتحق بها، "ويناضل" فيها؛ فلم يكتب علينا إلى الأبد أن نبقي ساحتنا منتهكة عارية مكشوفة الخواصر مقطعة الأواصر، ولنا الحق كل الحق في أن نقول لمن يقاتل معنا أو يريد أن يقاتل معنا: نحن نقاتل من أجل تحقيق حرية الأرض والشعب: أرض فلسطين والشعب العربي: المستلبة إرادته وحقوقه وحرياته والملغمة دروبه ومسيرته وبرامجه وخططه بكثير من الألغام، وعلينا أن نخلصه من ذلك؛ ولن تجدي المناورات التي يقعقع في ميدانها ما يشبه الرعد وتنثر برقاً خُلَّبِيَّاً في الآفاق، لن تجدي في إقناع الناس بأنها البديل المنقذ، فالغيث يهمي من عيون السحاب بصمت ويروي عطش الأرض المزمن من دون أن يسبب سيول الطمي الجارفة لروح الخصب ومنابته في الأرض.
أيها الناس لقد شبعنا وهماً، واكتشفنا حقيقة العقائد التي تريد أن تقودنا تحت مظلة شعار لتوصلنا إلى تسليم كرامتنا والتنازل عن كل هوية وعقيدة وشعار، وسئمنا الموت يغزونا كل يوم على قرع طبول مجلوبة ترهب، ولا تطرب، وكفرنا بعدل يأتي من واشنطن على يدي نبي من أنبياء يهود، وآمنا بأصالة أنفسنا وقوميتنا وعقيدتنا منقذاً وهادياً وحادياً في ظلام هذا الليل الذي طال، ولم نعد مؤهلين لأن يمارَس علينا الخداع كلما مشينا في دربنا باعاً أو ذراعاً؟!
فكونوا معنا أو كونوا ضدنا أو كونوا محايدين، أما أن تدخلوا صدورنا وجماجمنا لكي تدمروا قوانا وإراداتنا وتبذروا فينا بذور الفتنة واليأس وتبيعونا في السوق وتقبضوا الثمن مرتين: مرة منا ومرة ممن تبيعوننا لهم؛ فتلك والله قسمة لن نرضاها، وذلك محشر لن ندخله معاً؛ وقد آن للقلب أن يرى بنور البصيرة، وآن للعقل أن يبصر نور القلب وهدى الرب، أمّا أن نرى بعيونكم الخزرية، ونتحرك على واقع ألغامكم الصهيونية فتلك والله دروس اكتوينا بنارها عشرات من سنين، وأفقدتنا الأرض والولد والكرامة والتآخي والألفة، وجرّت علينا الويلات وسببت لنا كل المعاناة المرة التي نرزح تحت نيرها منذ نصف قرن ونيف.
لقد كان مؤتمر صنعاء مناسبة طيبة لاستعادة بعض الثقة والمبادرة وللتبصر بأمور شائكة كثيرة، ولكشف بعض الشرائح الاجتماعية في الجسم العربي لم تجد حتى الآن كل اكتشافاتنا لها وكشفنا إياها، ولتبيُّن بعض الحقائق المادية وبعض القوى الروحية التي يهمنا أمرها؛ كما كان مناسبة تحثنا على أن نبحث جيداً عن سلالات فكرية تقول بلغة عربية: إن "إسرائيل" وجدت لتبقى، وصراعنا معها ليس صراع وجود، ولنتمكن من مواجهة العدو داخل أجسادنا وخارجها، داخل حدودنا وخارجها، ولنواجه بنجاح دعاة الواقعية والانهزامية بواقعية عربية واعية لأهدافها وأغراضها ووسائلها، مالكة لقرارها وأدواتها ورؤيتها.
والله من وراء القصد.
دمشق في 18/12/1996
الأسبوع الأدبي/ع542//22/ك1/1996.
ومن كان في صنعاء وسمع كلمات المتدخلين وتدقيقهم في الكلمات والأفكار والمواقف، وحرصهم على الوضوح، وشهد صخبهم واندفاع بعضهم بحماسة واضحة بلغت حدوداً غير مقبولة في بعض الأحيان؛ يدرك جيداً أن ما تم لم يكن من قبيل رفع العتب وتبرئة الذمة، وأن من حضر لم يكن قادماً لاستعراض حضوره أو لغايات تختفي وراء ضباب الحضور؛ -إلا من كانت تلك سنَّته في الحياة وباب رزقه وأسلوب عمله- وأن ما جرى في ذلك المؤتمر هو فعل يعنى بتفاصيل ما يتم على أرضنا وما يمكن أن يبنى على ذلك الذي تم ويتم، إذا صدقت النوايا وصحت العزائم وصفت القلوب وتآلفت على الخير والعدل ونصرة حق الأمة.
في صنعاء مبادرة تستند إلى تاريخ كدنا ننساه: ننكره، أو نتنكر له، وما أظن أن تلك المبادرة التي أتت بعد سنوات مريرة عجاف هي من دون معنى أو من دون تأثير، ولكن ينبغي، ونحن نقف على عتبة انطلاقة جديدة في هذا الميدان، ينبغي أن نواجه، بنوع من الجدية والمسؤولية والحزم، بعض الظواهر التي برزت في ذلك المؤتمر ونناقشها وندقق في منطقها، حرصاً منا على سلامة التوجه ووضوح الرؤية، وجدية الاختيار وعلى نظافة المسيرة وخلوها من الألغام وبلوغها الغاية المرجوة.
فمن أتى إلى صنعاء أتى وهو يعرف أنه ينضم إلى جبهة تؤسس لمقاومة الاستسلام والتطبيع وصولاً إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان؛ ومن الواضح جداً أن مفهوم الاستسلام ينطوي على ما هو أبشع من الهزيمة وأكثر من التفريط بالحق؛ والحق في مثل قضيتنا وموقفنا وموضوعنا هو فلسطين: الأرض والشعب والسيادة والتاريخ والانتماء والمقدسات، وما تعنيه قضية فلسطين للأمة العربية منذ عشرات السنين؛ ومن الواضح أيضاً أن يكون سلام الاستسلام مرفوضاً وأن يكون ما يتم في مناخه من تسويات موضوع رفض وإدانة هو الآخر!! والاستسلام للعدو يعني، فيما يعني، القبول بما تفرضه القوة المحتلة من أمر واقع وما تمليه من تسوية وحلول تكون في نهاية المطاف ظالمة ومُذلة، تتم على حساب المحتلة أرضه والمقهورة إرادته والمغلوب على أمره، حتى لو انحصر ترديه في حدود عدم امتلاكه للقوة التي تمكنه من الوقوف بصلابة واقتدار في أثناء المفاوضات مع عدوه.
المؤتمر العربي الشعبي الأول لمقاومة الاستسلام والتطبيع يستند على أرضية المشترك الذي يُفترض أنه يجمع بين المشاركين فيه، ومن البديهي أن يكون احتلال الأرض وما نتج عن ذلك الاحتلال وعن توسعه وتجذره وتطلعه واستمراره في مقدمة ما يرفضه المؤتمر ويعمل على وضع حد له بكل السبل والوسائل؛ وعلى ذلك فإن النظر إلى الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأن فلسطين عربية وينبغي أن تبقى عربية وأن تعود إلى أهلها الشرعيين هو من أبسط ما يمكن أن يتجه المؤتمر إلى تأكيده والانطلاق منه: ولكن... وبكل أسف، حتى في تلك الواحة الصغيرة المحاصرة من صحراء الهزيمة العربية الممتدة، حتى في تلك الواحة المحاصرة بكل ما للكلمة من معنى، وجد من ينطق كفراً ويضعف صفاً ويلغم أرضاً، ومن يمارس ازدواجية الوجه واللسان،ومن يضع قناع الحرب ويهرول نحو استسلام لا يتورع عن تسميته سلاماً ويقبل به ويُقبل عليه؟!؟
ووجد من لم يستفد من دروس الماضي القريب ومازال قادراً على الأداء المتعنت في ظل الوهم المكشوف له ولسواه، ممن يراه ومن لا يراه!! ووجد من لم يستفد على الإطلاق من الدروس القريبة المستفادة من كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة؛ بل وجد من يدعم كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة ويعتقد أنه قادر على الدخول بين جلد من يرفضونها ولحمهم، وأن يسافر في مركبهم ومن ثم يستولي على دفة القيادة ويجبر الربان على التخلي عن مهمته بحجة أن الربان لا يملك الفضائل السياسية التي يملكها ولا يتقن اللعب على حبال الموج في محيط متلاطم من حوله!!؟.
في صنعاء وجدنا من يقول لنا: إنه معنا في مقاومة التطبيع ولكنه ليس معنا في أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، ووجدنا من يؤمن بأن "لإسرائيل الحق في البقاء من خلال تمسكه بالقرار/ 242/ وإقراره بأن تبقى على أرض فلسطين بديلاً لفلسطين، ويرى اعتماداً على هذه المقدمات واستنتاجاً منها: أن على الفلسطينيين أن يبحثوا عن وطن بديل أو أن يستمر تشردهم في الأرض، أو أن يتم توطينهم في الأرض العربية، وحجته في ذلك أن الأمر الواقع لا يمكن تغييره والسياسة الدولية تسير في هذا الاتجاه ولا جدوى من مقاومتها، وأن من لا يأخذ بما هو قائم على أرض الواقع اليوم يكون مخطئاً واهماً.
وتلك هي الواقعية الانهزامية التي نبهنا إليها وحذرنا منها؛ إنها الهزيمة الروحية والفكرية التي تحاول أن تنشب مخالبها في قلوبنا وعقولنا وتمنعنا من رؤية أي نور في نهاية النفق المظلم الذي نمُر به.
الحق أقول لكم: إنني واجهتُ مثل هذا المنطق سابقاً وتصديت له، ولم أذهل لوجوده ولا لقيام أفراد من أبناء أمتنا بحمل رايته وخوض معارك شرسة تحت ظلها، وتنظيم حملات في كل الاتجاهات لإلحاق الأذى بمن لا يخاف من حشد "ميليشياتهم المهولة وقواها الضاربة" ضده، لا سيما في المجال الثقافي الذي تتمترس فيه؛ فهي قوى مدربة على أفضل أنواع الأداء الغوغائي الذي تتقنه الصهيونية وتربي أنصاراً عليه.
والحق أقول لكم أيضاً: أنني لم أفاجأ بموقف من وقف في صنعاء موقفاً مزدوجاً، فكان ضد التطبيع، مرحلياً، "ومع الاعتراف بالكيان الصهيوني "أبدياً"، لم أفاجأ بذلك ربما لأنني شهدت في صنعاء ذاتها قبل سنوات ثمان وبمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى للانتفاضة المباركة موقفاً يقول بالاعتراف بالكيان الصهيوني على استحياء، ويتبرقع بالنضج ويتهم الآخرين بعدم الوصول إليه، إلى أن أعلن اعترافه بذلك الكيان ودعا إلى تطبيع العلاقات معه عندما سنحت أول فرصة له ليقوم بذلك. لم أفاجأ بمن دخل في موقف "عصري واقعي" مزدوج تمارسه الدولة الأعظم في العالم اليوم ويمارسه مجلس الأمن الدولي؛ ما فاجأني هو إصرار تلك الحفنة الصغيرة من الأشخاص في مؤتمر صنعاء على استغفالنا ومحاولتها فرض رأيها علينا جميعاً بغوغائية، وتصميمها المكشوف على أن تكون اللغم الذي يدمرنا من الداخل بعد حين، من دون أن يكون لنا، ونحن في مواقعنا تلك، حق الرؤية والاعتراض والتنبيه والتعبير والنقض في إطار الديمقراطية التي ارتضيناها جميعاً ونحن الأكثرية الساحقة!؟!
وكان مدخل أهل ذلك التيار والمدافعين عن منطقه يقول: نحن تنوُّع في وحدة، وعلينا أن نقبل كل الآراء، وألا نفرض على أحد موقفنا أو توجهنا وهذا بالله جميل وعادل ونظيف إلى حد مذهل؛ نحن مع حرية الرأي، ومع حق الآخر في الاختلاف، ونعرف أننا تنوُّع في وحدة تغتني بذلك التنوع، بل نحن من قال ذلك وأكد عليه، ونعرف أننا نجتمع على المشترك الهش الذي يجمعنا؛ ولكننا لا نتفهم كيف يمكن أن يكون حق الاختلاف مشروعاً إذا كان المختلف عليه هو الحق التاريخي الذي لنا، والوطن الذي يجمعنا ووجودنا المهدد، وموقع الاحتلال منا وموقفنا منه؛ وهو الموضوع الذي نجتمع بعد إجماعنا المفترض على أسس رئيسه لمواجهة ما يتم على ساحته؟! ولا نعرف كيف يكون حق الاختلاف مصوناً عندما يكون المختلف عليه يزري بالمصلحة العليا للأمة كلها وبتضحيات الشهداء وبالكرامة العامة التي لأبنائها، ويضع مصالحها ومصيرها موضع مساومة مع أعدائها!؟! ولا نعرف كيف يكون أساس هذا المشترك الهش الذي دعونا إليه ونحرص على تقويته وتثبيته، كيف يمكن أن يكون متناقضاً إلى حد التضاد ومتفجراً إلى حد التدمير، ويطلب منا أن نقبله ونبني عليه، وأن نتغافل عن المخاطر التي ينطوي عليها وضع كذلك الوضع، ونغض الطرف عن كل الدروس المستقاة من التجارب الماضية، التي بنيت على نوع من الغش في مجالات متعددة من حياتنا وأدت إلى تآكل الثقة والإرادة فينا، وإلى كوارث جمة ما زلنا نحصد نتائجها ونكتوي بنارها حتى اليوم، وقد دار معظمها حول مثل هذه المحاور والمواقف والأفكار فأفسد وبدد وما زال يفسد ويبدد!؟!
الذي يكون معك في خطوة ضد التطبيع وليس معك في طريق تحرير الأرض من الاحتلال، هو في خلاصة الاستنتاج المنطقي يريد أن يؤخر التطبيع مؤقتاً لهدف معين يحققه على مسار التطبيع ذاته، ذاك الذي يبنى أصلاً على الاعتراف؛ إنه يعرقل فقط بهدف الوصول إلى تحقيق أغراض معينة يعود بعد تحقيقها إلى ممارسة التطبيع، الذي لا يرفضه، على أرضية ذلك الاعتراف الذي يعلنه؛ فهو إذن صاحب سياسة مرحلية ترمي إلى تحريك موضوع جزئي وليس إلى تحرير أرض وحسم قضية بصورة كلية؟! إنه السادات في حرب تشرين وعلى ضفة السويس، وهو أكثر خطورة من محايد ويرغب في التوصل إلى حل لما يسمونه "مشكلة الشرق الأوسط" لأن مصالحه تصبح مؤمنة بشكل أفضل إذا ما حُلّت بأي شكل من أشكال الحل، ولكنه ليس معنياً بالعدل ولا بالتوصل إلى تبني قضية المقهورين المغلوبين على أمرهم والمشردين في الأرض في هذه القضية، والذين يتعلقون بالحق والعدل والوطن لاعتبارات تاريخية وخلقية ووطنية وقومية ودينية وإنسانية... الخ.
لقد طلع علينا في مؤتمر شعبي يضم القوى الرافضة للحلول الاستسلامية وللتطبيع بكل صوره وأشكاله -والتطبيع ابن الاعتراف- على أرضية تمسك تلك القوى بعروبة فلسطين وحقوق أهلها الثابتة والمشروعة فيها؛ طلع علينا من يقول بتطبيق القرار/242/ وبتأييد أوسلو إذا ما التزم بها نتنياهو، وكأنه لم يسمع بالمسيرة السياسية العربية المحبطة والمستمرة منذ عشرين سنة لتطبيق ذلك القرار المجحف بحق الشعب العربي الفلسطيني وما آلت إليه الجهود الرامية إلى تطبيق ذلك القرار على الرغم من كونه مجحفاً، ولا بما بذله عرفات من جهد وما قدمه من تنازلات وخدمات، أمنية وغير أمنية، ليحظى بالرضا الصهيوني ولم يفز إلا بترشيحه موالياً محتملاً؟! وهو إذ يطلع علينا بتمسكه بالقرار المشار إليه ينسى أن مكانه، في هذه الحالة، هو مع الذين يتلمسون السبل ويلتمسون الوسائل للوصول إلى إقناع الكيان الصهيوني بقبول اتفاقيات الإذعان/ كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة/ ولكن ذلك الكيان، الذي يطمع بالمزيد من أرض العرب وركوعهم يرفض حتى ذلك ويتابع سياسة الضم والقضم والهضم للأرض العربية والحق العربي؛ إنه ينسى أن موقعه هناك وليس في مؤتمر شعبي يختار طريقاً أخرى؛ طريقاً مستقبلية طويلة وشاقة، طريق أمل وحلم واندفاع على أرضية الإيمان والحق، ويحتاج السير فيها إلى زاد مغاير ورواد مغايرين وخطاب مغاير وعمل مغاير!؟!...
نحن منذ سنوات حيال عملية فرز حقيقية، عانينا كثيراً من عدم القيام من عدم القيام بها في السابق ودفعنا الثمن غالياً، وقد جعلتنا القوى الحربائية المتسلحة بالغوغائية نحبو على أجفاننا سنوات وسنوات من دون أن نحقق الوصول حتى إلى رؤية سليمة للعدو الذي ينهش قلوبنا من داخل أجسامنا ويتحكم بقرارنا من خلال تحكمه بمصدر تسلحنا، وبمقومات الثقة والإرادة والقرار.. قرارنا، تلك التي توضع جميعاً بين يديه بأشكال عدة ويسيطر عليها بوسائل عدة؛ ويبدو أن المطلوب -على الرغم من أن التغير الكبير الذي لحق بالعالم كله من حولنا- أن نبقى في القبضة بأشكال مختلفة، وأن يقودنا من يوهمنا بأنه يذهب بنا إلى أهدافنا، ولكن عبر تل أبيب، وحقوق اليهود، والديمقراطية المزيفة، التي نرى أنها للاستهلاك الغوغائي وسوق المزاد: فهي مرفوضة بوصفها صيغة تجعل الأقلية تخضع لرأي الأكثرية، إذا لم يكن القرار المتخذ عبرها موافقاً لهوى تلك الأقلية ومصالحها والمطلوب منها القيام به، وهي مقبولة في كل حالة مناقضة لذلك؟! الأكثرية في مثل هذه الحالة تصبح أكثرية مرفوضة لأنها لم تحقق وصاية الفئة "المتنورة تاريخياً" و"المتقدمة تاريخياً" و"المؤهلة للقيادة الموحى ببرامجها وتحركاتها واستراتيجياتها وأساليبها من الخارج تاريخياً أيضاً؟!
بعد مؤتمر صنعاء، وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أوضاع ومعاناة في وطننا العربي الذبيح، ولا أقول الجريح، وبعد كل ما تراكم لدينا من خبرات واستنتاجات وإحباط، بعد كل ذلك يبدو لي أنه آن الأوان لكي نقول لأصحاب المصالح الذين يريدون بيع قرارنا ورقابنا في السوق: إننا لسنا للبيع، وإننا لن نقبل الألغام الموقوتة بين صفوفنا، وعلى من يختار اختياراً غير التحرير، وحسم صراع الوجود مع العدو الصهيوني لغير مصلحة الأمة العربية وعروبة فلسطين، عليه أن يبحث عن ساحة أخرى يلتحق بها، "ويناضل" فيها؛ فلم يكتب علينا إلى الأبد أن نبقي ساحتنا منتهكة عارية مكشوفة الخواصر مقطعة الأواصر، ولنا الحق كل الحق في أن نقول لمن يقاتل معنا أو يريد أن يقاتل معنا: نحن نقاتل من أجل تحقيق حرية الأرض والشعب: أرض فلسطين والشعب العربي: المستلبة إرادته وحقوقه وحرياته والملغمة دروبه ومسيرته وبرامجه وخططه بكثير من الألغام، وعلينا أن نخلصه من ذلك؛ ولن تجدي المناورات التي يقعقع في ميدانها ما يشبه الرعد وتنثر برقاً خُلَّبِيَّاً في الآفاق، لن تجدي في إقناع الناس بأنها البديل المنقذ، فالغيث يهمي من عيون السحاب بصمت ويروي عطش الأرض المزمن من دون أن يسبب سيول الطمي الجارفة لروح الخصب ومنابته في الأرض.
أيها الناس لقد شبعنا وهماً، واكتشفنا حقيقة العقائد التي تريد أن تقودنا تحت مظلة شعار لتوصلنا إلى تسليم كرامتنا والتنازل عن كل هوية وعقيدة وشعار، وسئمنا الموت يغزونا كل يوم على قرع طبول مجلوبة ترهب، ولا تطرب، وكفرنا بعدل يأتي من واشنطن على يدي نبي من أنبياء يهود، وآمنا بأصالة أنفسنا وقوميتنا وعقيدتنا منقذاً وهادياً وحادياً في ظلام هذا الليل الذي طال، ولم نعد مؤهلين لأن يمارَس علينا الخداع كلما مشينا في دربنا باعاً أو ذراعاً؟!
فكونوا معنا أو كونوا ضدنا أو كونوا محايدين، أما أن تدخلوا صدورنا وجماجمنا لكي تدمروا قوانا وإراداتنا وتبذروا فينا بذور الفتنة واليأس وتبيعونا في السوق وتقبضوا الثمن مرتين: مرة منا ومرة ممن تبيعوننا لهم؛ فتلك والله قسمة لن نرضاها، وذلك محشر لن ندخله معاً؛ وقد آن للقلب أن يرى بنور البصيرة، وآن للعقل أن يبصر نور القلب وهدى الرب، أمّا أن نرى بعيونكم الخزرية، ونتحرك على واقع ألغامكم الصهيونية فتلك والله دروس اكتوينا بنارها عشرات من سنين، وأفقدتنا الأرض والولد والكرامة والتآخي والألفة، وجرّت علينا الويلات وسببت لنا كل المعاناة المرة التي نرزح تحت نيرها منذ نصف قرن ونيف.
لقد كان مؤتمر صنعاء مناسبة طيبة لاستعادة بعض الثقة والمبادرة وللتبصر بأمور شائكة كثيرة، ولكشف بعض الشرائح الاجتماعية في الجسم العربي لم تجد حتى الآن كل اكتشافاتنا لها وكشفنا إياها، ولتبيُّن بعض الحقائق المادية وبعض القوى الروحية التي يهمنا أمرها؛ كما كان مناسبة تحثنا على أن نبحث جيداً عن سلالات فكرية تقول بلغة عربية: إن "إسرائيل" وجدت لتبقى، وصراعنا معها ليس صراع وجود، ولنتمكن من مواجهة العدو داخل أجسادنا وخارجها، داخل حدودنا وخارجها، ولنواجه بنجاح دعاة الواقعية والانهزامية بواقعية عربية واعية لأهدافها وأغراضها ووسائلها، مالكة لقرارها وأدواتها ورؤيتها.
والله من وراء القصد.
دمشق في 18/12/1996
الأسبوع الأدبي/ع542//22/ك1/1996.
Comment