Announcement

Collapse
No announcement yet.

الحبيبة ورسالة القمر - قصة - حسنة محمود

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الحبيبة ورسالة القمر - قصة - حسنة محمود

    الحبيبة ورسالة القمر
    قصة
    حسنة محمود


    جلست على طرف الشرفة المطلة على الشارع.. كانت تنظر إلى البعيد .. تبحث في كل الجهات عن شيء ما .. ربما فقدته .. ربما تنتظره منذ وقت طويل.
    كانت حزينةً .. شاردةً، مضطربةً .. مشغولة البال .. لا أحد يعرف ما بها أو يحس بألمها.. إنها دائمة الانتظار في ذلك المكان حتى أصبح جزءاً من حياتها اليومية ومن مستلزمات صمودها . هناك من يراقبها بإشفاقٍ .. بحزنٍ .. تضامن معها دون أن يعرف ما بها . ويتساءل دائماً .. ماذا بها ؟ ممَ تعاني؟ هل ودعها حبيبها وقال انتظري عودتي..؟ كيف أستطيع أن أساعدها ؟ وأُفرح قلبها .. هو لا يكلمها وهي لا تكلم أحداً.. لا يستطيع الاقتراب منها . يخشى أن تنتبه إليه فتداري سرها وتخفي مأساتها تحت رماد قلبها.. فهي رقيقة شفافة . عيناها مرج أخضر، شعرها قطعة من الليل منسدل على ظهرها، فإن تكلمت همست، وإن تنهدت اهتزت تويجات الزهرة في شرفتها، وإن ابتسمت وهذا نادر، فهي كشمس أشرقت بعد ليلٍ طويل .
    قرر أن يسهر معها .. يُؤنس وحدتَها .. يمنحها الدفء، والحنان، الأمل والصبر .
    كم تمنت أن تجد صديقاً مخلصاً، تبوح له بمكنون صدرها، وما يشغل بالها ويحزن قلبها .. غير أنها لم تنتبه لتضامنه وحيرته معها ..إذ كان يرعاها حتى يغلبها النعاس فتنام .
    ذات مساء ابتعد واختبأ فوق سطح البيت وراح يرقبها باهتمام .. سمعها تبكي بصمت .. أحس بدموعها الحارقة تكوي وجنتيها اللتين خط الزمن آثاره فوقهما ، حتى بدتا كصحراء خطتها أودية شتائية .
    لا تحب أن يراها الناس باكيةً .. حزينةً . تكويها نار الشوق . الحب يكبر بقلبها والشوق يزداد.. والخوف يكبر مع الحب فضّلت أن تحتفظ بمشاعرها الجياشة .. وعواطفها الملتهبة لذاتها .
    كان يرقبها بشغفٍ وهي تبكي بصمتٍ جارحٍ فتزداد جمالاً ،وتغدو كملكة تودع حبيبها إلى ساحات القتال .
    من سواد الليل وصمت الطبيعة سمعها تناجي حبيبها البعيد عنها .. الحاضر في حياتها .. تكلمه .. تبثه لواعج نفسها، حنينها الذي يكبر مع بعد المسافات، وعدد سنوات العذاب والغربة التي تفصل بينهما .
    عرف أنها عاشقة .. متيمة والحبيب بعيد .. لم يعرف أكان غيابه طوعاً أوقسراً..؟ كل ما فكر به هو مساعدتها في تقصي أخباره .. حاول أن يتعرف على بعض ملامحه واسمه .. لكن كيف .. ؟
    سمعها يوماً تشبَّهُ حبيبها بجمال القمر، وحسنه، هو رقيقٌ كنسمات الربيع التي تلامس وجنتيها وتداعب خصلات شعرها المسترسل . قامته كشجرة باسقة.. أخلاقه كعطر تلك الوردة الفواحة في حديقة بيتها .
    كان في دفئه وحنانه كشعاع قمر في ليلٍ طالت ساعاته.عندها تنفس صديقها بعمق فزعزع بعضاً من سواد الليل . ومن يومها قرر أن يبحث عنه طويلاً .. صمم أن يجوب البلاد طولاً وعرضاً حتى يعثر عليه.. واستغرقت رحلته أياماً وأيام .. كان يرسل شعاعه في كل مكان.. وفي أوقاتٍ مختلفةٍ من الليل .. لعله يجده في مكان ما بعد أن تهدأ حركة الناس والكون .وذات ليلةٍ .. مرّ فوق برج كبير متميز في بنائه، معالمه تدل على السعادة والفرح.. فقال في نفسه : ما أسعد نزلاء هذا البرج ..! لكن عندما حدّق به أكثر وجد نوافذه صغيره وأبوابه سوداء ، وحراسهُ كثر، فشعر بقشعريرة تسري في جسده وأحس بكآبة أظلمت المكان برهة ثم استعاد رباطة جأشه وأدرك أن المكان يختلف عن البيوت السعيدة وملتقى العشاق ..
    خاف منه ورغم ذلك قرر زيارته ، غرفة، غرفة وجناحاً ، جناحاً .
    تجول فيه شرقا .. وغرباً ..صعوداً .. ونزولاً.. ماذا وجد ؟ وجد أناساً كثراً ، لكنهم ليسوا سعداء .. ملامحهم تعبر عن مأساةٍ كبيرةٍ يعيشها كل منهم .. كانت خليطاً من الحب والشوق.. من الغربة والقهر .. صار أكثر لهفةً لمعرفة كل منهم . قرر أن يزورهم كل مساء بعد أن ينام حراسهم . ويدخل خلسةً غرفة كل منهم ،بغية التعرف على قصة كل منهم .. تكررت زيارته لهم .. إلى أن دخل ذات ليلة في وقت متأخرٍ إحدى الغرف ذات النوافذ الصغيرة، والقضبان الحديدية الغليظة، والباب الأسود الواسع المغلق دائماً..
    وجد مجموعة أصدقاء يتحدثون .. يتحاورون.. يبثون لوعتهم لبعضهم ، شدّه حديثهم .. استمع إليهم باهتمام .. حدّق فيهم ، تعرّف على بعضهم وقارن بين صفاته وبين ما أختزن في ذاكرته من صفات .. تعرّف عليه حالاً وأرسل عليه شعاعاً مميزاً .. توقف لحظات أمامه فبهر نوره وجوه الساهرين. نظر أحدهم وصرخ مندهشاً .. يا الله ... انظروا .. ! هل لاحظتم شيئاً على وجه القمر .. ؟ حدّق الجميع أكثر وقالوا نعم .. تنعكس عليه ملامح امرأة لكننا لا نعرفها ..
    هنا قفز الشاب من مكانه وصرخ ، محاولاً أن يقترب من القمر،متجاهلاً تلك القضبان اللعينة التي رسمت زمناً من القهر والعذاب والغربة بينهما .
    قال أنا أعرفها جيداً إنها حبيبتي .. انظروا إلى عينيها المشتاقتين .. استمعوا إلى قلبها الذي يفيض حناناً وشوقاً ولوعةً .
    تمنى لو يستطيع أن يحتفظ بالقمر بين يديه محتضناً وجه حبيبته .. لم يدر أن لهفته وشوقه.. ملامحه طُبعت أيضاً على وجه القمر إلى جانب ملامحها ..
    حاول الحبيب أن يُحمّله كل أشواق العشاق وحنين التائهين وصبر المعذبين لعله يستطيع نقلها إلى تلك المنتظرة قدومه ..
    ودّعه القمر متمنياً له عودة قريبة ..
    عاد من رحلته التي استمرت فترةً ليست قصيرة فوجدها في المكان ذاته .. لكنَّ شوقها صار أكبر انتظر حتى نامت عيون الجيران ،وتسلل ضوءه إلى ركنها المظلم،فأضاء المكان، انتفضت مذعورةً خشية أن يعلم بوجودها أحد . لكنها فوجئت بصديقها المخلص يقابلها وجهاً لوجه وللمرة الأولى .. أحست بوجوده .. شعرت بدفئه .. وأحست بشيء غير عادي يعتريها .. نظرت إليه ملياً فأصابها الذهول ثم شهقت بصوت مخنوق ماذا أرى .. وجه حبيبي ولكن ماذا فعلت به الأيام ؟
    كانت تريد أن تسأله عشرات الأسئلة .. أين وجدته ؟ كيف تعرفت عليه .. أين ومتى وكيف..؟ وأرجو … لكن صوتها بقي حبيساً في صدرها ..
    قرأت في وجهه شقاء سنواتٍ عديدةٍ ولهفةً للقاءٍ طال انتظاره، وأدركت أنه يسهر معها الليالي الطويلة في الطرف الآخر من البلاد . ومن يومها تنتظر قدوم صديقها المخلص حين ينام الجميع فتبثه شوقها وحنينها.. حلمها باللقاء القريب وهي على ثقةٍ بأن رسالتها ستصل بكل ما تحمله من حب وأمل ومعاناة ..

    = - = - =

    الحبيبة ورسالة القمر - قصة - حسنة محمود
Working...
X