Announcement

Collapse
No announcement yet.

الرجل الذي ضاعت معالمه - قصة - حسنة محمود

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الرجل الذي ضاعت معالمه - قصة - حسنة محمود


    الرجل الذي ضاعت معالمه

    قصة
    حسنة محمود

    كان كلّ شيء يسير حسب طبيعته ووفقاً لقانون نظم الحياة. لم تشعر بها بل لم يلفت انتباهها ما تقوم به من عملها اليومي، فهو عادي ، ما دام لا يخالف أو يخرق قوانين الطبيعة.
    ارتجفت يداها بقوة فآلمها ذلك وقالت : لا حول ولا قوة إلا بالله ما أقسى الشتاء ! وما أشدّ برده ! وما أعظم معاناته! آه إنه ألم المفاصل، يؤرق الناس جميعاً،وكأنه ألم العصر، يشتكي منه الصغير قبل الكبير. وتابعت عملها كالمعتاد، بعد أن حصنت نفسها ضد البرد بجواربها السميكة، وكنزتها المعهودة، ثم تساءلت : يا إلهي من أين يأتي البرد، وأنا أكاد التصق بالمدفأة المتوهّجة، النوافذ مغلقة، والستائر مسدلة، ولا يمكن للريح، أو البرد أن يتسللا خلسة إلى الداخل. فوسائل الدفاع جاهزة.
    ثم ضحكت وقالت : سبحان الله ، ما أكثر الشكوى والأوجاع، عندما يدخل الإنسان سن الأربعين! إنها فعلاً سن محرجة، وكأنها اختبار لصحة الإنسان وهمته.
    تكررت رجفة يدها وبقوة أشد، كهزة أرضية ضربت حياً للفقراء، بالكاد يقي ساكنيه برد الشتاء، وفضول المارة .
    توقفت للحظات، ونظرت حولها تتفحص أغراض البيت، هل تهتز أيضاً ؟ هل تحرك شيء من مكانه ؟ كان كل شيء مرتباً في مكانه كما وضعته منذ فترة ليست قصيرة.
    ازداد قلقها من هذا الوضع وبدأت تتفحص اليد اليمنى فكانت من حيث الظاهر طبيعية لا تتألم إلا من الندبات التي تركتها السنون، شرايينها بارزة تفصح عن عدد السنين التي شهدت شقاءها، أصابعها أخشن من حائط فشل المليّس في تلييسه. أظافرها كبقايا أغصان يبست على شجرة قديمة. كفّها كحفرة تجمعت فيها مياه المطر.
    نظرت إلى اليسرى، يا للمفاجأة قالت : بصوت مرتجف ربّاه أكاد أشك بقواي العقلية، ماذا أرى ؟ تسمرت عيناها على عقارب الساعة التي تسير بعكس الاتجاه وكأنها تصطدم بنبضات القلب، فترتد مخالفة الاتجاه، ومحدثة ضجة غير عادية.
    دهشت للأمر، أمعنت النظر أكثر في حركتها، في البداية لم تصدق عينيها، حسبت أن الشيخوخة زارتها باكراً، فأضعفت بصرها، فكرت بزيارة طبيب العيون، ليصف لها نظارة، تساعدها في رؤية حقيقية.
    واستغرقت في التفكير وغاصت في خضم بحرٍ من الحيرة والتساؤل، ما الذي حدث لي؟ ما الذي أربكني؟ فأنا أجهل ما يحدث معي.
    حدثت نفسها، ماذا جرى ؟ هل تعطلت الساعة؟ خسارة لا تزال جديدة ؟ أم انتهت البطارية؟ لكانت توقفت نهائياً عن العمل ؟! أم أن عقاربها أخذت استراحة مؤقتة.. ؟ !
    لم تستطيع الوصول إلى تفسير مقنع … قارنتها مع الساعة المعلقة بالجدار، فبدا عليها التجهم.
    ولأول مرة تنتبه لصوت تكتكاتها. فهي تسير بانتظام، ولكن بعكس الاتجاه.
    نهضت مذعورة وهي تقرأ (قل أعوذ برب الناس) وكأنه مسّها جنٌ أو صعقها تيار كهربائي. واتجهت نحو الشرفة..، وكانت دهشتها أشد وأعظم، حينها صرخت.. لا.. لا.. لقد انهارت قواي العقلية..! اضطرب جسمها كاملاً..، ماذا رأت ؟! رحمتك يارب قالت : هل تغيرت قوانين الطبيعة.. ؟ ! أم قوانين البشر؟! هل أصبحت أقدام الناس باتجاه الخلف بدلاً من الأمام.. ؟ ساعدني يا رب..!
    كانت صدمتها كبيرة حين شاهدت الناس يسيرون نحو الخلف دون أن ينظروا إلى ما قد يصطدمون به، أجسامهم مستقيمة، رؤوسهم محنية إلى الأمام قليلاً، وجوههم مبتسمة، تعلوها مسحة حزن
    دفين .

    قالت في نفسها : لعل الوضع طبيعي، فقد كانت هذه الأمور تحدث لي عندما أركب السيارة وأسافر من القرية إلى المدينة..، كنت أرى الأشجار الباسقة على جانبي الطريق تركض مسرعة نحو الخلف، بينما السيارة تغزّ السّير مسرعة نحو الأمام غير مبالية بما يجري خلفها. كذلك الفلاحون الذين تمرّ السيارة بمحاذاتهم سواء كانوا يعملون في أرضهم أو يقفون لرد التحية، كان المنظر حينذاك يشدني لأنني لم أجد له تفسيراً.
    لكنني الآن أقف على الشرفة وليس هناك سيارة أو أشجار أو ما شابه ذلك. إنما هناك ناس يسيرون في الشارع بعكس الاتجاه.
    تأملت المشهد بعمق أكثر، فقالت : ربما يصوّرن مشهداً لأغنية عصرية لتكون أكثر رواجاً في السوق.. ؟!
    وربما يصورون مسلسلاً عن عصور ما قبل التاريخ.. لم ينجح المخرج أن يستحضر الماضي إلا عندما أجبر الناس على السير إلى الوراء.
    أخذها المشهد وشعرت بالخوف يتسلل إلى داخلها، وزادت ضربات قلبها حتى أحست بأنها تصطدم بجدار الشرفة. كان صوتها قوياً، كأنه انعكاس لحدث مهيب خشيت وقوعه.
    خيّم صمت رهيب على المكان، للحظات خُيّل إليها إنها في مقبرة موحشة، حين قطع الصمت وقع أقدام تزلزل الأرض، وكذلك كان صرير الأبواب، والنوافذ المطلة على الشارع حيث تفتح وتغلق بقوّة وكأنها أسنان طفل تصطك من الهلع.
    فقد غطى الصوت الحدث، كانت مختلفة عن أقدام المارة من قبل ولا تشبه حتى الأصوات التي تصدر عن مشية أبي جاسم على الرغم من ضخامته المثيرة للدهشة.
    توقف تفكيرها للحظة، تملكتها رغبة قوية في الصراخ، في الاستنجاد وطلب المساعدة. وفي غفلة مما هي فيه تنبهت وقالت : رباه.. ! هل عدنا إلى زمن الديناصورات.. ؟ أم إن شمشون جاء في زيارة خاطفة، ليبلّغ خبراً هاماً، أم إن زمن العمالقة عاد ؟.. وانشقّت الأرض عمّا خبأت سابقاً. نظرت في كل الاتجاهات.. ماذا رأت.. ؟ لا تدري لم ترَ شيئاً، لكن الخوف يزداد مع اقتراب صدى وقع الأقدام، فجأة رأت كل شيء.. كانت مشوشة، مضطربة، حزينة، خائفة . . لماذا.. ؟ لا تعرف . . !
    رأت شخصاً كبيراً في حجمه، مخيفاً في منظره، يشبه مستطيلاً رسمه طالب كسول، يداه قصيرتان بالنسبة لجسمه، لكنهما قادرتان على الوصول إلى كل شيء يريده. عيناه واسعتان تشعان خوفاً ورعباً، فمه كأنبوب ظهرت بدايته واختفت النهاية. يحمل ملامح تشبه الناس جميعاً ولا تشبه أحداً في الواقع..! يعرف النّاس ولا يعرفه أحد، ينشر الرعب في كل مكان يمر به، وكأن هولاكو عاد للغزو ثانية. وعند مروره في مكان ما يسير كل شيء بعكس الطبيعة، وحسب مشيئته.. وحده يستطيع السير دائماً إلى الأمام، فهو لا يتكلم، ولا يصرخ.. لكن نظراته تقول بل يسبق فعلها القول.
    حاولت النظر إليه مليِّاً، تملّكتها رعشة سرت في جسدها كالبرق، خوفٌ اضطراب – تحدّ، رغبة في اكتشاف المجهول. خشيت أن يصيبها ما أصاب الجميع، تراجعت خطوتين إلى الوراء، وراحت ترمقه… مشيته،.. غروره.. جيوبه المنتفخة.. شعره الأشعث المثبت في رأسه كزرع خاصمه المطر.
    كان يرى الجميع دون أن يراه أحد.. كان شبحاً، امتلك قوة سحرية في نشر الرعب والهلع. جيوبه ملأى بدبابير مخيفة، يطلقها بين الفينة والأخرى في وجه المارة، فيضطرون للتراجع أمامه، دون أن يروا شيئاً إلا إحساسهم بالخوف،.
    حاولت أن تصرخ بهم..، أن تحثهم على السير نحو الأمام وعلى مقاومة الخوف والوهم..، أن تشرح لهم إنه مجرد شبح لوهم.. لكنهم ابتعدوا عنها وبقي صوتها محبوساً.. مخنوقاً دون أن يترك صدى يصل إلى أسماعهم..
    = - = - =
    الرجل الذي ضاعت معالمه - قصة - حسنة محمود
Working...
X