Announcement

Collapse
No announcement yet.

ماذا تعلمت من البحر - قصة - حسنة محمود

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • ماذا تعلمت من البحر - قصة - حسنة محمود


    ماذا تعلمت من البحر
    قصة
    حسنة محمود


    جلست بائسة حزينة منطوية .. تحبس نفسها ضمن همومها، ومأساتها.. كما تحبسها ضمن جدران البيت خشية أن يعرف الناس ما بداخله من أسرار ومآسي. ابتعدت عن الناس تحاشت أن يروا عينيها وما تخفيان، وما يثقل جفنيها من هموم.
    خافت سؤال الناس عن الشيخوخة، التي داهمتها باكراً ،وفي غفلة، منها فقد اختلط الليل مع الصباح في شعرها، وخبت ابتسامتها، ومرحها، اللذان عرفت بهما سابقاً.
    هربت من نفسها داخل نفسها وبيتها.. كما هرب الناس منها، وأقسى اللحظات التي عانتها هروب الأقرباء منها.وجوه عابسة،كلمات جارحة،مشاعر مبهمة باردة.
    أحست بالغربة بين أهلها، وداخل بيتها، شعرت أن البيت أصبح بدون جدران..!!؟
    كم تمنت لو أنها تستطيع أن تسحق الأيام، أو تدمج السنين، فهي تسابق الزمن، تصارع الريح، ترى في مولد كل يوم هماً كبيراً، وغربة أكبر،غابت ألوان الفرح ،وغطى اللون الرمادي معظم حياتها، فقررت أن تسافر بعيداً. أخذت إجازة من نفسها، إلى مكان ترى فيه الناس، وجوههم أشكالهم – ألوانهم..حياتهم ، هل عندهم ظروف مشابهة ؟أم أن لكل منهم اهتماماته الخاصة ؟لا تشغله إلا اللحظة التي يعيشها. ؟!
    اختلطت بالكثير.. زارتهم في بيوتهم.. في مراكز عملهم.. في قراهم أدهشها موقفهم.. سلوكهم..استيقظ شيء ما فيها، وجدت الغالبية يعيشون الحياة بالطول والعرض.. دون الاكتراث بالهموم اليومية لا يشغلهم الغد.. (على مبدأ أضحك تضحك لك الدنيا..) يرمون الهموم والمآسي وراء ظهورهم.الحياة عندهم ملونة بكل الألوان،فيها الفصول الأربعة.تشجعت ،زارت ملك السواحل والبلدان.. زارت البحر، خافت في البداية أن يحتقر ضعفها، وينظر إليها شذراً إن هي لامست مياهه الدافئة وربما لفظها على الشاطئ ، فهو لا يحب الجبناء.
    وقفت على ساحل البحر، تأملت صفحات الماء الواسعة، سحرها هذا المنظر.. رأت فيه امتداد الأجيال والعصور، رأت فيه الصمود والإصرار،.. رأت عظمة الخالق، وفخر الإنسـانية.تأملته بعين مسحورة، وهي تسأل نفسها.. : لماذا لا أتخذ من البحر قدوة عظيمة؟ استمد منه شعاع الأمل لمستقبل ضاع مني.. وإصراراً اضمحل مع تلاشي قوتي.راقبت الشروق،الغروب،النوارس،السفن،أسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها.. إجاباتها صور متنوعة لمراحل حياتها الماضية بحلوها ومرها، بنجاحها وإخفاقها. قالت :
    ما أعظم هذا البحر..! كم من الغزاة واللصوص مروا عبره ! كم هي الحروب التي دارت رحاها على صفحات مياهه..! كم من القرون والدهور مرت عليه ولم تزده إلا بهاء وروعة.
    يتعرض يومياً للمد والجزر والعواصف والاضطرابات.. دون أن تنقص من جبروته وعظمته.. دون أن تزعزع كبرياءه يستمد من العواصف القوة ومن الهدوء غموضاً ورهبةً.
    تأملت الشمس وهي تلوّح مودّعة ثم تنسل إلى أحضان البحر دون خوف. تأملت موجات البحر، وهي تأتي من بعيد متتالية، حتى تصل الشاطئ ، فتضربه بعنف ولا تزال تضربه منذ آلاف السنين دون كلل مصرّة على الوصول دائماً.
    سألت نفسها.. لماذا أنا ضعيفة.؟ كيف عشش الضعف والخيبة في داخلي..؟كيف هزمت مع أول اختبار في حياتي؟هل حقيقة إن العالم الجميل الذي رسمته يوماً انهار من حولي..؟ دون أن أتمكن من الاحتفاظ برسم مميز له .
    عشرات الأسئلة راودتها.. وهي تنظر إلى البحر لعلها تصطاد منه أو تستخرج إجابات تروق لها.. قالت : لماذا لا أتخذ من إصرار الموجات، وصمود البحر مثالاً ؟ ومن الحب زورق نجاة؟ . ما أجمله وهو يحتضن الشمس بخجل.. يسحبها رويداً رويداً وفي غفلة من عيون الناس. يخفيها في أعماقه .
    سألت نفسها: لماذا لا تتوقف الموجات عن لطم الشّاطئ رغم صموده عبر آلاف السنين..؟ لم تتعب، ولم تتذمر، بل تعتبره عملها اليومي. دون أن تستطيع تغيير موضع الشاطئ أو تيأس من المحاولة وإنما جل ما فعلته أنها أخرجت بعضاً مما يخبأه هذا البحر العظيم لتلقي به على الشاطئ لتقول أن هذا ليس إلا عينّةً مما يزخر به هذا العملاق ، فهو يضم الكثير، الكثير من الكائنات، الأشياء الثمينة.. الحطام.. دون أن يشتكي
    أو يتأوه.. يضمها بصمت.

    كل ذلك بعث إشراقه أمل لمعت في حياتها عكس ذلك ابتسامه خجلى على شفتيها إعجابها بالبحر، واستغلاله للعواصف العاتية للوصول إلى ما يريد.
    أحسّتْ بشيء غريب يسري في جسدها لأول مرة شعرت بالدم يجري في عروقها بارتياح.. شعرت أن لها جسداً كباقي النساء يمتلك مفاتناً لا بأس بها.
    كانت تلك الزيارة أول مواجهة لها مع نفسها، ومع الناس، والواقع، وكأنها خلقت من جديد ،وقررت ألا تلتفت إلى الماضي بما فيه.. ,أن تعيش الحاضر بين أطفالها وأصدقائها، وتسمع تغريد العصافير في الصباح، وتودع الشمس عند الغروب، لتستقبلها باكراً.
    شعرت بمحبة الناس وتعاطفهم معها، بعد أن كان ذلك لا يعنيها شيئاً، بل كان يزيد في مأسـاتها.
    رأت وجوههم مختلفة، أكثر إشراقاً.. أحبّتهم فتحت قلبها للجميع وقرّرت ألا تترك لحظة سعادة تفرّ منها بعد الآن. وجدت نفسها في أمور جميلة حولها لم ترها في السابق إنه اللقاء الحقيقي بين الإنسان وذاتها.. بين ما يريد وما يمكن أن يكون.. ؟!!.

    = - = - =
    ماذا تعلمت من البحر - قصة - حسنة محمود
Working...
X