Announcement

Collapse
No announcement yet.

الدب والقرد والرجل الغريب - قصة - حسنة محمود

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الدب والقرد والرجل الغريب - قصة - حسنة محمود

    الدب والقرد والرجل الغريب
    قصة
    حسنة محمود


    كان يأتي من مكان بعيد ؛ لا يعرفه أحد من أهل القرية، و لا أحد يهمه أن يعرف ذلك، المهم أنه يأتي في الوقت المحدّد من كل عام.
    يرافقه صديقاه الودودان
    القرد ذو الشعر المرسل، والعينين البراقتين، والذيل المرفوع دائماً بحركات مثيرة.
    عيناه تراقبان المشاهدين ومدى إعجابهم بحركاته، وخفة ظله. والدب الضخم بلونه الرمادي وعينيه الثاقبتين، ويديه الضخمتين القويتين، يحط رحاله في ساحة القرية، حيث يعلن عن وصوله من خلال البوق المرافق له.
    ويبدأ الناس بالتقاطر حتى يكتمل الحشد قبل بدء

    العرض .

    يبدأ الرجل باستعراض حركات القرد الذي علمه إياها سابقاً، حيث يأمره بتقليد العجوز، وهي تبذل جهداً كبيراً في عجن الطحين وتعلو وجهه إمارات الجهد والتعب ثم يتثاقل بتنفيذ الحركة.
    ولكنه يبدو مختلفاً كلّ الاختلاف عندما يطلب منه أن يقلّد الصبية الحسناء في أعمال البيت من كنس وعجين وغيرها حيث ينتصب على قائمتيه ويشتعل حيوية ونشاطاً، وجهه مبتسم، حركاته رشيقة، خفيفة، ينجز العمل بسرعة وإتقان.
    ثم ينتظر مكافأة الجمهور، ليصفقوا له بحرارة، فيزداد نشوة، وإقبالاً على التقليد.
    ويستمر العرض وسط إعجاب المشاهدين، وتصفيقهم، وتعليقاتهم الظريفة، إلى أن يطلب منه صاحبه أن يقلّد الأرملة البائسة الغلبانة، كيف تنام ؟ فيرسم مباشرة علامات الحيرة والقلق على وجهه، ثم يجوب ما تبقى من ساحة القرية، وسط الجمهور وهو يتقلب ذات اليمين، وذات الشّمال، يرافق ذلك زفرات حزينة، وتأوهات، يخالطها البكاء، فيرق قلب الجمهور ويتعاطف معها، فيتعالى صياحهم، حرام عليكم … ساعدوها، ابحثوا لها عن ابن الحلال، الذي يؤنس وحدتها، ويكسر وحشة الظلام، وطوله، ويلتفتون إلى أحد الرجال الأرامل قائلين : هيا يا أبو سعد: تقدّم، مالها غيرك،أنت خيالها، ويرن صدى الضحكات حتى آخر القرية، وخاصة عندما تُزيّن الساحة بوجود الصبايا الفاتنات، اللواتي يخلبن الألباب، وحتى عقل القرد الخبيث وبصره.
    انتهى عرض القرد المتعدد المواهب، من رقصٍ وتقليدٍ وعروضٍ بهلوانية.
    وجاء دور الصديق الأكبر ذو الفرو الرمادي الذي بهره إعجاب الجمهور بصديقه الصغير " القرد" فكاد أن ينفذ صبره وهو ينتظر انتزاع إعجاب الجمهور بقوة وحماس. له حضور متميز، مهيوب بطلته كأمبراطور عظيم وصل لتوه لتفقد الرعية، كما تصوره الروايات القديمة، عيناه تتفحصان المشاهدين وكأنه يبحث عن شيء ما.
    وقف الرجل مرفوع الرأس، تعلو وجهه ابتسامة المتحدي، رفع يديه ودار بين الحشود دورة كاملة، وكأنه يبحث عن مقدمة مناسبة تليق بالضيف الجديد، يفتتح بها عرضه.
    قال: أحبائي، أعزائي أيها المشاهدون الكرام، أتيتكم بضيف متميز في صفاته، متميز في ذكائه متميز في أدائه، يتمتع بقوة خارقة، لا يستطيع أحد الوقوف بوجهه فهو الجبار العظيم في كل شيء، ولو صادفه عنترة أو شمشون لخر صريعاً من خوفه.
    أصغى الجمهور بانتباه شديد إلى هذه المقدمة الهامة، منتظرين ما يعقبها من عمل، متسائلين : من هو هذا الضيف الكريم ؟ الذي يمتلك كل هذه المواصفات، حتى ظنوه آت من كوكب آخر. فسادَ الصمت الحذر على المكان كله.
    نظر الرجل بإعجاب إلى دهشة الحشود، وصمتهم، وتراجع خطوتين، ورفع يديه على صديقه الكبير، وضيف القرية الكريم وقبله على جبينه وطلب منه أن يحيي الجماهير.
    وقف الدب على قائمتيه مزهواً، ورفع يديه، فبدا كجذع شجرة معمرة، عمرها من عمر هذه القرية الوادعة الهانئة التي انتشرت بيوتها على سفح ذلك الجبل، وكأنها تحتمي به من عاديات الزمن، وتستمد قوتها وعظمتها من رسوخه، الذي لم تزده الرياح والعواصف والثلوج إلا قوة ومنعة.
    كسته الخضرة، وزينت سفحه الينابيع العذبة، التي انبلجت من أحشائه، لذلك نشأ شبابها ورجالها ونساؤها أقوياء، أشداء، كرماء، لا يعرفون الخوف، ولا التردد، متحابين، متعاونين. نادى الرجل بأعلى صوته : أيها الرجال الأشداء من يريد أن يصارع هذا البطل المقدام..!؟
    كان كل منهم ينظر إلى الآخر ويبتسم بسخرية، من كلام الرجل المغرور هل يريدنا أن نصارع هذا الحيوان … ! ؟ظنوه يمزح معهم فتساءلوا :لماذا لا يجرب هو بنفسه..!؟ صمت الجميع باستغراب في البداية، ثم تقدّم رجل من الحاضرين قائلاً !.. أنا أتحداه..!
    استهجن الجميع مبادرته، لكنهم احترموا موقفه الشجاع.
    أخذ الاثنان وضعية المتصارعين ثم بدأ الجذب والدفش والمعاناة إلى أن سقط الرجل على الأرض، فاطلق الدب ضحكة رنانة تعبيراً عن انتصاره.
    تحمس رجل آخر، لعله يثأر لجاره ولاقى المصير نفسه.
    فوقف الرجل مع صديقه مزهواً، مختالاً، وكأنهما يبحثان في عيون الحاضرين عن متطوع آخر للخسارة.
    وقف الجميع مذهولين، صامتين، من قوة هذا الحيوان، الذي استخفوا به، وطال الصمت المخيف،هيمن الرعب على الساحة،همس هنا ،واستنكار هناك، إلى أن خرج من بين الجموع رجل، ليس له شاربان قويان، ولا ساعدان مفتولان ولكن إمارات الحزم، والاستنكار، التي ظهرت على وجهه حملت معانٍ، كثيرة. استغرب الجميع وحدّقوا به والدهشة تعلو وجوههم قائلين : هل يعقل أن يبادر فارس، (الذي لم يغالب أحداً من قبل، ولو على سبيل المزاح)، ويصارع هذا الحيوان الغبي؟ الذي لو رفع رجله لحطم رأس فارس.!
    وكانت نظراتهم ترجو فارس، أن يعود عن قراره، فهو رجل عادي، لا يملك شجاعة من سبقه، في مصارعة الدب.
    تقدّم فارس عابس الوجه، قاضب الجبين بخطوات متزنة، وثابتة وقال : أنا من سيصرع حيوانك الغبي هذا !.؟
    اضطرب الرجل، وغضب من سخرية فارس، وإهانته للدب ، وبدت عليه علامات الغضب، والاستنكار، فتظاهر بالقوة، وعدم المبالاة قائلاً : أنت..؟!
    أرجو أن تتأكد من نفسك، وقوتك أولاً، قبل أن تكشف الدقائق القادمة مالا تّحمد عقباه.
    فصرخ فارس : هيا ادفعه إليَّ : تقدّم الدب يريد الانتقام لنفسه، رفع يديه فكان كغيمة تمرّ بمحاذاة فارس.
    وقف الاثنان وجهاً لوجه، والشّرر يتطاير من عيونهما. وبعد جولاتٍ قصيرةٍ حامية، وكأن الناس في حلبة مصارعة رومانية. حُبست الأنفاس فيها وكأن الجميع وقف الطير على رؤوسهم، بل عشش فوقها.
    وبحركة ذكية ورشيقة، تمكن فارس من صرع الدب، وطرحه أرضاً، فذهل الجميع وصفقوا له بحرارة، وزغردت بعض الصبايا، وهلّل الجميع، وهم بين مذهول وحالم. وقف صاحب الدب مشدوهاً، والحزن يخّيم عليه، ثم انحنى على صديقه يقبله، ويتحسسه، لعله يخفف عنه مأساةً لم يعشها من قبل.
    ودارت عشرات الأسئلة في رأسه. هل سيغادر القرية مهزوماً إلى غير رجعة ؟ وهو الذي جاب الريف بمعظمه منتصراً على الجميع.. أم يطلب جولة أخرى؟ حيث يرد اعتباره ويحتفظ بماء وجهه.
    زمجر الدب وانتفض، وأرغى، وأزبد، والشرر يتطاير من عينيه، متوعداً الحشود بمصير أسود، لا رحمة فيه. ذعر الجميع، وتراجعوا قليلاً، بعد أن دب الرعب، والخوف بينهم، وجمد كل منهم مكانه، خشية أن يهرب، فيمسكه الدب من ظهره. مترقبين ما ينتج عن ثورة الدب من عواقب سيئة.
    أخذ الرجل يرجو فارساً، الذي أصبح البطل الذي لا يشق له غبار( حيث امتلك قلوب أهل القرية جميعاً )، أن يسمح للدب أن ينتصر عليه، ولو بجولة قصيرة.
    خاف الجميع، وضمّوا صوتهم إلى صوت الرجل في البداية، يرجون فارس بالعدول عن رأيه. تردد فارس في البداية، وأسئلة كثيرة تراوده، هل يخشى أهل القرية هذا الحيوان الأبله..؟ أو أنهم يسايرون صاحبه من أجل عروضه الممتعة؟ أم ماذا يريدون..!؟ ولكنه حسمها عندما صرخ بهم لا … لا… إذا أردتم جولة ثانية، فسأصرعه فوراً. وتوجه إلى صاحب الدب بالكلام : هيا خذ حيوانك الغبي وأرحل من هنا وإلا حطمت لك رأسه.
    وأعجب معظم الناس بشجاعة فارس وجرأته وصفقوا له طويلاً بحرارة. عندها انسحب الرجل مهزوماً مع أصدقائه.
    = - = - =
    الدب والقرد والرجل الغريب - قصة - حسنة محمود
Working...
X