Announcement

Collapse
No announcement yet.

قصة رقصات الأسى - للقاص الطاهر وطّار

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصة رقصات الأسى - للقاص الطاهر وطّار

    وطّار

    قصص
    الشهداء يعودون
    الطاحونة
    ممر الأيام
    رقصات الأسى


    قصة رقصات الأسى - للقاص الطاهر وطّار


    رقصات الأسى
    هدير من التصفيقات, والهتافات, والصفير, يعصف وأنظار الآلاف مصوبة نحو مصب شلال النور, المتدفق من الأعمدة الدائرة بالملعب, بعد أن أعلن مقدم الحفل عن الفرقة الراقصة التي اكتسحت مساء أمس شوارع العاصمة, في رقصة الفرس, وكأنها فرس حقيقية, يركبها فارس ولهان.
    مرت لحظات, والحلبة المقامة في شكل طبل كبير خالية إلاَّ من النور المستقر فوقها وحدها.
    صفر الجمهور, وهتف, وعندما تمركز النور أكثر على الحلبة, ساد الصمت المطبق.
    - لن ندعها تغادر الحلبة.
    قال شاب فرد عنه جاره:
    - يجب ألاَّ تغادرنا حتى نموت جميعاً ها هنا.
    - ما دامت راقصة فلترقص حتى يوم القيامة.
    أضاف آخر, وقال رابع لنفسه:
    - تبعتها من قريتنا, وقضيت أسبوعاً في قسنطينة ألاحقها بعيني, وها أنني بالعاصمة منذ أربعة أيام, أراها عن بعد, دقيقة ثم تختفي عني يوماً كاملاً. لم يمنعني امتلاء النزل, من الإقامة بالعاصمة, بت ليلة باصطبل في (الحراش) وثلاث ليالى بالحمام. لا يهم.
    هذه الفتاة أحبها. أحبها وأعبدها. لم يبق أمامي إلاَّ أن أغرس خنجراً في صدرها.
    علا التصفيق من كل جانب عندما دبت الحركة في مدخل السراديب, ثم اشرأبت الأعناق.
    برز (القصاب) من المدخل, أجال بصره في الملعب, فلم يقابله سوى أشباح تتحرك في الظل, وسط سحب الدخان الكثيف.
    ارتد بصره إلى شلال النور واستقر هناك.
    تقدم إلى الأمام خطوات ثابتة, ثم صعد درجة فثانية فثالثة فرابعة وخامسة, ووجد نفسه في قلب النور, على حافة الحلبة.
    كان طويل القامة, عليه جبة بيضاء, وبرنس صوفي أبيض, على رأسه عمامة حرير صفراء, عليها عدة دوائر متقطعة من خيط وبري أسود, طويل الوجه, معقوف الأنف. في جبهته وشم.
    فلتت موجة من التصفيق, ثم سرعان ما انقطعت.
    - الحمودي الفحل.
    قال فتى القرية العاشق بصوت منخفض ثم هتف بأعلى صوته:
    - تعيش يا الحمودي الفحل.
    انتصب الحمودي هنيهة, كتمثال روماني, ثم أخرج من تحت جُبّته قصبته الطويلة. مرر يده على فمه وذقنه, بلل شفتيه, بلسانه, وأمسك القصبة بكلتا يديه, وانطلق اللحن, في حين انحسر النور فوقه.
    كان المفروض أن يكون اللحن الاستهلالى مديحياً خفيفاً, ولكن الحمودي خالف العادة وما اتفق عليه, بوازع باطني لا يدري كنهه. وراح يرسل أنغاماً, لا تعزف في الأعراس والحفلات, إلاَّ مع منتصف الليل, عندما ترتفع حرارة العواطف, وتنحدر العقول, ويتمنى كل واحد الذوبان في ليل طويل.
    - الله. الله.
    ارتفع صوت فتى القرية يشق الصمت, مع أنغام القصبة, التي كانت تنوح.
    تقدم لحمودي خطوة, وتبعته هالة النور المحيطة به, فأغمض عينيه, واستسلم كلياً للانسياب الذي يخرج من صدره, في أنغام تشكل نداء ظامئاً موجهاً إلى شيء مجهول في بعد سحيق:
    ***

    (الكامل مسكين. أول من عزفت معه. في الثلاثين. عملاق, له وجه ملاك, كل راقصة تقف أمامه, تلف حوله لفتين أو ثلاثاً, ثم تمد يدها لتنزع عنه اللثام, وتظلُّ ترقص له, وعيناها معلقتان به, إلى أن يأخذوها عنوة من أمامه.
    صوته قوي صاف, مؤثر, لا يغني أشعار وألحان غيره, إنما يقول بالسليقة في كل عرس, من أول الليل إلى مطلع الفجر. يشرع في الغناء قبل أن أعزف, مسطراً لي اللحن ثم ينطلق غير مبالي بي.
    في العرس الأول وجهت إلى رأسه رصاصة, مزّقت أذنه, ومرّت لتستقر في قلب عذراء كانت ترقص, تحول العرس إلى مأتم, وظل الجندرمة أسبوعاً يبحثون ويستنطقون, دون أن يكتشفوا الجاني.
    في العرس الثاني. مزقت راقصة عذراء, ثيابها أمامه, جاء أخوها مشهراً خنجره. هربنا تحت الأقبية وانطلقنا نركض في الظلمة, وفي الغد سمعنا أن العروس الجميلة طعنت, وأن أخاها سيق إلى السجن, ليرسل بعد ذلك إلى (كيان).
    فى العرس الثالث, خرجت زوجة شابة سافرة الوجه طويلة نحيفة, بيضاء لم يخلق الله ما يماثلها في الجمال كانت ترقص وتبتسم, مدت أصابعها اللطيفة, وأزالت لثام الكامل, انجذب إليها, وتملكه السحر, فلم يدرِ ما يفعل, سوى أن يغني:
    أنت رقيقة والحرير لباسك
    الشمس خدك والقمر عساسك
    الروح بيتك والقلب فراشك
    ثم تناول خصرها بذراعه, وراح يرقص معها, يحف بهما كل عذاري وفتيان العرس, وتحلقوا حولهما, واستمرت الرقصة حتى بزغت الشمس.
    بعد يومين, جاءه زوج المرأة على ظهر حمار وبين ذراعيه طفلة في الشهر السادس تبكي جافة الحلق:
    - رد لي زوجتي, أو خذ حتى هذه.
    عاد الكامل إلى كوخه, ثم خرج وفي يده عصا, وعلى كتفه حزمة.



    - ابقوا بالسلامة, أنا قاصد بيت ربي.
    تمتم الكامل وعيناه مغرورقتان, ثم أمّ الشرق. ظللنا نتبعه. انحدر مع الشعبة, ثم صعد السفح, ينفخ الريح جبته على رأس الربوة, قبل أن ينحدر بدون أن يلتفت, ويغيب عنا إلى اليوم.
    منذ عشرين سنة وأنا أسأل عنه كل حاج, فلم يبلغني خبر.
    ***

    عندما انسكبت دمعتان من عينيه فتحهما, ليجد نفسه وسط دائرة النور, في قلب الحلبة, والهتافات والتصفيقات تهز الملعب.
    - هذا اللحن هتاف آت من خلف الأفق.
    قال واحد فأضاف آخر:
    - بل من خلف أعلى نجمة.
    - بل من سويداء قلب عذراء حزينة.
    قال فتى القرية العاشق وهو يتفقد الخنجر في جيب سترته.
    راحت دائرة النور تتسع شيئًا فشيئًا حول الحمودي, حتى عمّت الحلبة كلها, وعندما سمع دقات خفيفة على (البندير), استعاد وعيه, وتذكر موقعه والهدف من عمله هذا:
    - في المهرجان, نتبارى على الجوائز. لم أعزف لأحد منهم. عزفت له وحده. الكامل.
    انحسر النور, ولفّته الظلمة, بينما تمركزت دائرة مشعة على حافة الحلبة, عند الدرجات الخمس. ارتفعت دقات البندير, حتى ظهر مصدرها:
    - إيه خويا الخميس إيه.
    هتف فتى القرية العاشق.
    صعد المغني الدرجات بسرعة, يلفّه لباس يماثل لباس الحمودي, ولو أن قامته, أقصر بقليل. تخطى دائرة النور, وسط الهتاف والصفير والتصفيق, انضم إلى زميله في الظلمة. انسحبا إلى الخلف حتى حافة الحلبة.
    انطلقت القصبة تعزف مع دقات البندير, لحن الرقصة في إيقاع فرحة مشوبة باسى رقيق, كأنها صادرة عن فرس تخبّ بمحارب منتصر, أو قادمة بفارس شاب, خرج من خلف الضباب, ليستنفر القبيلة, ويوقظ فرسانها.
    - ستخرج. المرجل يغلي.
    قال فتي القرية العاشق لنفسه, وقلبه يهتز في عنف, وسط الهتافات والتصفيقات, والصفير الحاد, وعيناه مُعلّقتان بشلال النور المنحدر مع الدرجات الخمس, عند مدخل السراديب. وإن هي إلاَّ لحظات, حتى برزت بقامتها الفارغة وثوبها الأحمر السابري المشرشف بالأبيض, العريض في الأسفل, المشقوق من الأمام. على رأسها منديل أبيض مشدود بآخر هبط على أذنيها, وعُقد تحت ذقنها.
    كانت برأسها بمنديلها الأحمر الجميل, بركبتها الصاعدة النازلة, وبصدرها المنتصب وذراعها الممدودة, تبدو كمهر حقيقي.
    - آه. آه. هي ذى.
    قال فتى القرية العاشق وقد ساءه أن تكون محط أنظار الآلاف, ومبعث آهاتهم, وقالت الراقصة وقد صممت أن تسرع أكثر, لتسبق شلال النور المنصب عليها, في دائرة تتبعها كلما خطت على الأنغام المنبعثة من الظلمة:
    - الألم يشتدّ عليّ الليلة. كليتي توجعنى الليلة أكثر. قال الطبيب في انتظار إجراء العملية, ينبغي ألا ترهقي نفسك.
    بلغت مركز الحلبة واستقرت في دائرة النور, ترقد وتستدير في بطء, لتواجه بركبتيها المهتزتين, وبخصرها الملتوي, وصدرها المنتفض في انتصاب, وذراعها اليمنى الممتدة باليد المنقبضة ويدها اليسرى الماسكة بطرف ثوبها ترفعه قليلاً لينسجم وحركة ركبتيها. وعندما تصاعدت النغمات وكأنها نداء استغاثة صادر من مطعون, وثبت إلى حافة الحلبة وراحت تدور معها بسرعة, لتجسم نغمات, استجابة الفارس إلى استغاثة المطعون.
    ظلت دائرة النور تتبعها, وظلت الهتافات والتصفيقات والزفرات تتجاوب, بلغت مصدر النغم, فلامست دائماً النور, لحمودي ولخميسي.
    كان لحمودي ينحني وينتصب, مسايراً لنغمات قصبته, بينما صدره يعلو وينخفض, وعيناه تتبعان ساقي الراقصة. في حين انحنى لخميسي إلى الخلف قليلاً, ذراعاه ظلتا ممدودتين, وأصابعه تنقر على البندير في إيقاع يشتد ويلين, يغلظ ويرقّ.
    كانت عيناه مغمضتين, وكان ذهنه شارداً مشتتاً:
    ***

    (تسعة عشر سنة, وأنا أعلّم كلام الله, مرّ على يدي, وبعصاتي الزيتونية الطويلة جيل برمته, بعضهم صاروا أطباء. وبعضهم أساتذة في المعاهد والكليات وبعضهم ضباطاً سامين. وبعضهم محامين وبعضهم فقهاء وعلماء. بقيت في وضعي أرقب تدافع الأجيال وأرتل كلام الله. نمت بين يدي صبيّة أبدع الرحمان في صنعها. كان والداها فقيرين, فلم يدخلاها المدرسة الفرنسية. ظلت تترعرع كالغصن الطري بين ناظريّ, وتتفتح كالقرنفلة أمام أنفي. في التاسعة حفظت الستين. في الثانية عشر وهبها أبوها لي, تلونا الفاتحة, وذبحنا ديكاً, وآوينا إلى الكوخ. ظلت مخلصة لي وفيه. لم يؤثر فيها لا الجوع ولا العري, لا إغراء أبناء الأغنياء. كانت تقصّ عليّ كل ما يحدث لها أو يخطر ببالها, وكلما صادفتنا مضايقة, ارتحلنا مع الفجر, وبدلنا الدوار أو القرية.
    بدأت المسكينة تسعل, وبدأ وجهها الناضر يذبل ويصفرّ, ولم تكد تمضي ثلاث سنوات حتى نزفت كل ما في صدرها. عدت ذات مساء إلى الكوخ, لأجدها قد تزينت, وقد احمرت وجنتاها, وعاد الدم إلى شفتيها والإشعاع إلى عينيها. أمسكت بيدي, وظلت تقبّلها ودمعتان في مآقيها, بينما تتراقص بسمة ودود على شفتيها. حاولت إيقاد القنديل فمانعت.
    - لا يا حبيبى لا. هكذا نسرح بخيالنا أكثر.
    لثمت يدى, وقدمت رجاء غريباً:
    - هذه سبع سنوات تمرّ على زواجنا. وهذه ثمانية عشر سنة تمرّ على حبنا. منذ كنت في الرابعة, كان صوتك يسحرني, لم أكن أفقه ما كنت ترتل. ولكني كنت أتذاوب لنبرات صوتك. الذي يتفجر من حنجرتك نبرات مؤثرة, ويسيل في أرواح مستمعيك نغماً ساحراً. ودعني الليلة بالغناء يا حبيب روحي. غنّ لي غنّ.
    - ماذا تقولين يا عزيزتي?
    - صوتك تسبيح للرب, أكان بالذكر أم بالغناء فغنّ لي. هذا آخر رجائي. غن لي في الظلمة.
    - وماذا تريدين أن أغني لك يا حبيبتي?
    - غن لي أغنية تعبر عن الأسى والفرح في الآن الواحد.
    - تعرفين أنني لا أعرف لا الكثير ولا القليل من الأغاني.
    - أريد أن أسمع حكاية الجازية وذياب الهلايلي وفرسهما في أغنية, في لحن منبعث من حنجرتك. ألا تتصور الجازية وقد اشتدت عليها مضايقات خليفة الزناتي, تبكي وتتطلع إلى الأفق, ثم خروج ذياب من هنالك على فرسه البيضاء يسابق الريح. أريد خلجات قلوبهم جميعاً في تلك اللحظة. أن صوتك الجميل يستطيع أن يؤدي ذلك, فهيا غنّ لي يا حبيبتي, ودعني. أنني لا أستطيع أن انهض لأرقص, ولكن ها هو قلبي شرع يرقص بعد, فهيا غنّ.
    - نعم أغني لحبيبتي. أغني لها أغاني الشوق والفرح, والأسى والتطلع. دعيني أتذكر اللحن جيداً.
    وقبل أن أرفع عقيرتي, شهقت, وسقطت يدها التي كانت تتشبث بيدي. كانت محبوبتي لفظت النفس الأخير, لم أستطع أن ألبي لها حتى أبسط رغبة ).
    ***

    مرت الراقصة ترفل, وهي تدير رأسها يمنة ويسرة مع إيقاع قدميها وصدرها ويديها, وتبعتها دائرة النور. شعرت بالألم يشتد عليها, فقررت أن تقطع جولتها, على حافة الحلبة الكبيرة, وراحت تتجه في بطء وتثاقل نحو مركزها.
    - ما بها?
    تساءل لحمودي في سره وهو يضرب بمرفقه كتف لخميسي, الذي فتح عينه وراح يتأملها.
    - الألم يشتد عليها ينبغي مساعدتها.
    رفع البندير إلى أعلى, وراح ينقر بقوة أكثر, نقرات متباطئة, فهمه لحمودي لحينه, فرفع النغم, ليلفت انتباه الراقصة, ثم جعل اللحن يثقل شيئاً فشيئاً.
    - لو يطفئون هذه النار, لو يوقفون حركة هذه الدائرة المطاردة لي. همهمت الراقصة, التي رغم تجاوبها مع نداء لخميسي ولحمودي ما زالت تشعر بألم مبرح.
    جسّ فتى القرية العاشق الخنجر في جيبه, ثم قرر أن يغير مكانه.
    - يجب أن لا أكون بعيداً عنها, حتى لا أعرقَل في هجومي من طرف الشرطة, أحبها وأعبدها.
    بلغت الراقصة مركز الحلبة المستديرة, وراحت تؤدي حركة الفرس الراقصة, لكن في بطء وفي نقطة واحدة. كان الألم المبرح يشتد أكثر.
    لاحظ لحمودي اختلالاً في بعض حركات الرجل اليسرى التي هي أساس الرقصة, فتقدم إلى الأمام بعد أن لكز زميله بمرفقه.
    اقتربا منها. وراحا يرقصان حولها, محاولين تغطيتها بقدر الإمكان بأجنحة برنسيهما.
    - لا تزال بضع دقائق, عليها أن تتماسك فيها.
    قال لخميسي في سره, وأضاف لحمودي لنفسه:
    - إذا لم يسقطها الألم نلنا الجائزة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة. الجمهور متحمس لها.
    اتسعت حلقة النور حتى حوت الثلاثة وتواصلت الرقصة.
    ***

    (بعد أول رقصة أمامه, في العرس الأول الذي غنى فيه, بعد أن أقسم ألاَّ ينقطع عن الغناء حتى يعيدها إلى الحياة. تقدم إلى أمي يطلب يدي. في الغد تزوجنا. غنّ لي.. كان يقول وهو يتأملني: لقد عُدتِ إلى الحياة يا حبيبة روحي, سأشبعك غناء, وسترقصين لا بقلبك الطيب فقط, ولكن بكامل جسدك الجميل. لم يكن ينفكّ على الغناء ليلاً ونهارًا, ولم يكن يفارقني لحظة. نحيي أعراس الناس ليلة وليلتين في الأسبوع, لنتفرغ إلى الانهماك في عرسنا الكبير.
    عندما قال الطبيب أن إجراء العملية ضروري, بكى كالطفل, العملية تتطلب اختصاصياً لا يتوفر في المستشفى. كل ما نملكه من نقود انفقناه في الفحوص والتنقل إلى المدن بحثًا عن الطبيب الاختصاصي وفي شراء الأدوية. لم أشتغل شهرين, فرفض أن يغنّي لغيري. نفد مدخرنا وتراكمت علينا الديون.
    أقنعته بضرورة المغامرة, من أجل نيل الجائزة. أقنعته بعد جهد. في مباراة التصفية الجهوية حازت المرتبة الثالثة. المهم أن أرقص أمام الآلاف في العاصمة.
    - أغلب المسؤولين عن المهرجان يريدونك أنت لا رقصك فيها نعود إلى قريتنا. ذلك مستحيل, ولن أتسامح فيه, وأن اقتضى الأمر أن نصب البنزين على أنفسنا ونضرم النار.
    كان لخميسي المسكين يؤكد لي طيلة المهرجان, وكنت أحاول باستمرار إقناعه بضرورة المحاولة.
    - ربنا كريم رحيم. وهنالك في العاصمة, المسألة تتعداهم جميعاً, تصفق لنا الآلاف, وسيشاهدنا وزراء ومسؤولون كبار. يصورنا التلفزيون, ويكتب عنا الصحافيون. يجب أن نكافح حتى آخر لحظة من أجل العملية, ومن أجل الشرف, وسننجح. قلبي يحدثنى بذلك يا عزيزى.
    - أغامر معك من أجل تلبية رغبتك لا غير. أخشي أن تغادرينى بعد أن عدت إلى الحياة, وفي قلبك غصة: لخميسي حبيبى لم يلبّ لي آخر رغبة. آخر رجاء.
    يرد عليَّ ويبكي, البارحة, جاءت سيارة أحدهم, وطلبتني:
    - إذا كنتم تريدون نيل الجائزة الثالثة.
    قال المبعوث يهدد, فانبرى له لخميسي:
    - قل لمن أرسلك أن يحضر بنفسه. سأشرب دمه. لقد جئنا إلى هنا لنشتغل أفهمت?
    التحقت بالخميسي والمبعوث عند باب الغرفة قائلة:
    - لا نريد الجائزة. عندنا نقود كثيرة, تغنينا عن الطمع في الجائزة. جئنا من أجل أن نرقص لا غير. هل فهمت? هو زوجي وحبيبي في نفس الوقت. لو لم تجهدني رقصة الأمس في شوارع المدينة لتحملت الليلة الألم. آه. أنه يشتد عليَّ. أدركني لخميسي فإنني أوشك أن أقع. قل لهم أن يطفئوا لي النور اللعين الذي يحاصرني. هذه النار التي تأكلني).
    ***

    - لا. لن أقتلها الليلة. المسكينة يجب أن لا تغادر الحياة. قد أقتل غدًا نفسي. قرر فتى القرية العاشق, ثم عاد إلى مكانه ليهلل من أعماقه مع الآلاف للراقصة الجميلة. وما أن جلس وركز نظره فيها, حتى راعه المنظر.
    - أنها تتلوى ولا ترقص.
    تلوت الراقصة وتمايلت تماسكت, وتماسكت ولكنها لم تقو على منع نفسها من السقوط إلى الخلف على قدمي لخميسي.
    أمسك لحمودي لخميسي من ذراعه بعد أن توقف عن العزف, والتفت به إلى الجمهور, جاراه لخميسي فراح يحيّي مثله منحينا في حين راحت دائرة النور تتسع وتتسع لتشمل الملعب كله.
    - لقد أغمى عليها.
    قال أحدهم, فأضاف آخر:
    - لعلها ماتت يجب أن نطالبها بمواصلة الرقص, هذا أجمل ما قدم لنا في المهرجان.
    - طُعنت الفرس. لا شك أن فارسها نجا, ما أجملها من خاتمة للرقصة.
    ***

    سارع رجال الإسعاف بنقالة, وظل لخميسي يلاحقهم متسائلاً:
    - ألا تزال على قيد الحياة?. سأذهب معكم. لن أبقي مرة أخرى وحدي.
    في حين وقف لحمودي في مركز الدائرة, كتمثال روماني, وأرسل النغم الذي استهل به العرض, في لحن يشكل نداء ظامئًا إلى شيء مجهول في بعد سحيق, وهتافاً آتيًا من خلف الأفق, ووراء أعلى نجمة, ومن سويداء قلب عذراء حزينة. وانحسرت دائرة النور لتشمله وحده.
Working...
X