Announcement

Collapse
No announcement yet.

قصة الطاحونة - للقاص الطاهر وطّار

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصة الطاحونة - للقاص الطاهر وطّار



    الطاهر وطّار

    قصص
    الشهداء يعودون
    الطاحونة
    ممر الأيام
    رقصات الأسى


    قصة الطاحونة - للقاص الطاهر وطّار



    بالرغم من حرارة الشمس الشديدة, شمس الظهيرة وشمس جوان (حزيران), لم أهدأ في مكان, ولم يستقر لي قرار. لم أكن قلقاً أو مضطرب البال, لا بالعكس, بحثت في أعماق نفسي عن أثر للقلق والاضطراب, فلم أعثر. كنت هادئا هدوء غابات الجبال المحيطة بنا, بعد أن توقفت الحرب الطويلة, المريرة, ومع ذلك لا يقر لي قرار.
    طفت بعدة مكاتب, لكنها كانت خالية, الجنود نيام, أو على الأصح مبعثرون, في الخيام وفي البنايات الخشبية والحديدية, وتحت الأشجار هنا وهناك. بعد صبيحة مرت ساعاتها ثقيلة, ثقل الفقر, والاضطهاد والعسف, لأنه ما من أحد يعرف بالضبط, ما هو عمله, وما هي فائدته إن عرفه. المساكين يحيون, نحيا, كما لو كنا في معتقل رهيب, لا في مركز من أهم مراكز جيش التحرير, اليوم, وأهم قلعة للعدو في قلب الأوراس, بالأمس القريب.
    هذه المكاتب الخالية من كل أثر للحياة, تعبر عن نفسياتنا. الغبار ينتثر على كل شيء, الجدران, المقاعد, آلات الرقن, المناضد, حتى أقلام الرصاص. والأوراق مبعثرة في كل مكان: الأرض, الرفوف, المناضد, كان بعضها أبيض يليق للكتابة, أو لم تلوثه أقدام. يبدو أنها حائرة, وكان بعضها قد كتب عليه سطر أو اثنان, استطعت أن أحزر بكل بساطة, أن كلماتها لا تتجاوز ما حفظناه منذ السنوات الأولى لاندلاع ثورتنا (الجمهورية الجزائرية) (جيش وجبهة التحرير الوطني) وبعض كلمات أخرى أحفظها عن ظهر قلب.
    مسكينة هذه المكاتب, لا تستطيع أن تنظم نفسها بنفسها. أول مهمة تنجزها الثورة هي تحطيم الشكل القديم للمكاتب. خطر ببالي, مساكين أيضاً أصحاب هذه المكاتب, أبناء الفلاحين الفقراء والعمال الكادحين ومعلمو القرآن, الذين تحولوا إلى جنود وإلى ضباط بحكم البذلة العسكرية, لا تستطيع نفسياتهم أن تنتظم عفوياً ومن تلقاء نفسها. الثورة ليست عاصفة هوجاء تقتلع الأشجار وتخرب السدود وتحطم القرميد, إنما غيث سحساح, يجرف الطحالب والأغصان الهشيمة ويغذي العروق الحية, لتزهر الحياة وتخصب وتثمر.
    آه. لو كلفت بمهمة لحققت... تفكر في المسؤولية? الناس كلهم متعطشون للمسؤولية; فحين يفقد العمل الثوري محتواه وتبقي المسؤولية شرفاً وأوسمة, يتسابق إليها كل خامل. لكنني فقط أريد أن أعمل. أن أنجز شيئاً, شيئاً يشبه المعجزة في هذا الوسط, أنا لا أريد المسؤولية لذاتها ولا أريدها لنفسي, إنما أريدها لإمكانيات الإنجاز التي تسمح بها..
    (...)
    خطر ببالي, وقلت في نفسي:
    - الطاحونة تدور, والجعجعة تملأ الآذان.. وما من أحد ها هنا في حاجة إلى الطحين, ولا إلى الحجة.
    لم تؤثر فيَّ هذه الخواطر, فقد ألفتها وألفتني, وظللت هادئاً تاركا الحرية لقدميّ تجرانني حيث شاءتا, وليديّ تسويان القبعة على رأسي, وتحجبان بها الشمس عن عيني... لا. الحق أقول الشمس ليست هي السبب في عبث يدي بالقبعة, فمن عادتهما أن تضعاها على جبيني حتى في الليل. وقد كان ذلك يحلو لي باستمرار, ربما لأنه يخفي عيني, أو يميزني عن سائر الجنود ولربما لأنه يستفز المسؤولين ويحرجهم, فيتحاشون الحديث معي, وهذا ما أريد... لا لشيء إلا لأنني سئمت الجعجعة.
    بينما كانت قدماي منهمكتين في عملهما, ويداي كذلك, انطلق بصري متخلصاً من باطني... العلم يرفرف, متحدياً ثقل الجو, كأنما هو بدوره يريد إنجاز معجزة ما, أو كأنما يريد أن يلفت الأنظار إلى أن العلم المثلث اختفى من الأوراس إلى أبد الآبدين. لا. لن يفهمك أحد أيها العلم, وكفاك أن تحيَّى في الصباح وفي المساء, فإن الطاحونة تدور, والناس منشغلون بالجعجعة, ولن تكون حجة أنت أيضا...
    انتقل بصري دون أن أدري للجبال, كانت تشكل دائرة تحيط بالمركز, ترتفع تارة, وتنخفض أخرى, بيد أن قممها كلها تتصل مباشرة بالسماء. في الليل تمكر بالقمر فلا يطل علينا إلا حين نكون في غنى عنه, وفي الصباح تؤخر عنا الشمس فلا تداعبنا أشعتها إلا حين نكون قد بدأنا نسترخي, وفي المساء تسارع بإخفائها فيداهمنا الليل قبل الأوان. هذه الجبال أشبه ما تكون بالمسؤولين, سالت في كل شبر منها دماء شهداء, وانطلقت من وراء كل صخرة بها, رصاصة من بندقية رجل, وعصفت بكل شجرة فيها قنبلة, أو زفرة حرّى. لكنها مع ذلك تمكر بالقمر وبالشمس فلا يطلان إلا بعد فوات الوقت...
    بدأت تهذي, وتكفر, هذه معنوياتك تهوي, إلى القعر... لمت نفسي.
    وانخفض بصري, رويداً, رويداً, حتى استقر قرب المطبخ... كان هناك صبيان نحيفان, حافيان قذران تغطي جسميهما أسمال بالية لا هي بالمدنيّة, ولا هي بالعسكرية, تتدلّى شعورهما على عيونهما, في يد كل منهما علبة طماطم كبيرة, من مخلفات جيش العدو, ثقبت وألصق فيها خيط قذر, فصارت سطلا لا يفارق أيدي الأطفال إلا حين يتمددون ليداهمهم القمل والنوم, والأحلام اللذيذة...
    اقتربت منهما, فبادرني أحدهما:
    - عم. أعندك خبز..?
    هذا الصغير الذكي, ينظر إلى يدي الفارغتين وإلى جيوبي الشاحبة ويعرف أنني في الخلاء مثله, ويرى أنني ككل مَن ها هنا أدخن العرعار, بينما جنود (القوات المحلية) يدخنون التبغ الأمريكي.. يسألني هذا السؤال?
    هذه تحية. لا. كلمة السر. لا . تبرير لوجوده داخل المركز... بطاقة تعريف وهوية.. المسكين خائف.
    هذه الأنوف الدقيقة المستقيمة, وهذه العيون الزرق, وهذه الذقون الحادة, والوجوه المستطيلة.. هذه السيماء البربرية الخالصة, هؤلاء أحفاد الكاهنة (...) البشر حين يجوعون يُذَلّون ولو كانوا أحفاد الكاهنة...
    - من أين يأتيني الخبز يا عزيزي? لكن سأعطيكما بعض الدراهم فانتظرا حتى نتعارف...
    تهالكت قرب الصبيين في ظل جدار المطبخ, وخيل لي أنني أسمعهما يهتفان":
    - ما أطيب هذا الجندي.
    كان أحدهما يحدق فيّ بعينين طروبتين, وابتسامة عذبة بريئة تترقرق على شفتيه. أما الآخر, فبدا لي منقبضًا, متضايقًا, حرجًا لايرفع بصره عن الأرض, تجثم على محياه عبسة خجول.
    آه. يا صغيري العزيز, ألا يسرك وجودي? لو تعلم كم أنا أحبك.
    تأملته برهة ثم قلت محاولا إزالة الكلفة بيننا:
    - ألا تقرآن?
    - نقرأ في (الجامع) القرآن عند (الطالب) ونقرأ في المدرسة أيضًا.
    - في المدرسة أيضًا?
    - في مدرسة جيش التحرير.. لا نقرأ كثيراً.. وسيدي يعرف الفرنسية.. والبنات أيضاً يقرأن معنا.. وحتى الأطفال الكبار.
    - شيء حسن جداً.. بداية طيبة هذه, ستتحسن الأمور المستقبل القريب.
    - ويكثر الخبز أيضاً... أليس كذلك ?
    - نعم. نعم. ستتبدل الحياة تماماً.
    - لكن يقولون إنكم سترتحلون? بالأمس ارتحل الجيش الفرنسي.. واليوم...
    غمغم الصبي, ثم أطرق يفكر كالمنكوب, وفهمت دون أن تتكلم أنه يقول متألماً:
    - ترتحلون أنتم أيضًا.. ومع ذلك تظن أن الحياة ستتبدل تمامًا, أي أن الخبز سينقطع?
    - سيكثر الخبز.. لن يتصدق عليكم به أحد, لكن ستنالونه باستحقاق. انظر إلى هذه الأراضي الشاسعة, إنها ملكنا جميعاً, وهي لنا, تعطينا إلى الأبد ما يكفينا خبزاً وخضروات وغلالا. كان الاستعمار يشغلنا عن أرضنا, لكننا اليوم...
    - أبي استشهد...
    وتوقفت الكلمات في حلقه.
    قيل لي إن كل الأطفال الذين أراهم يتهافتون على المطبخ, صباح مساء في انتظار ما يتبقي من فضلات في صحون الجنود, أبناء شهداء.
    - وأنا لا أقدر على حراثة الأرض... أريد الخبز, والقراءة.
    - ما اسمك يا عزيزي?
    - (بسعو).
    - اسم جميل جداً. وأنت يا ولدي, لماذا تسكت كثيراً? ما بك?
    - (قاقا).
    لفظ اسمه بصوت لا يكاد يسمع.. إنه خجل لست أدري لِم?
    حاولت تناسيهما والخبز معهما, لكن (زوجة وزير في حكومتنا أَنفَقَتْ بتونس في ظرف يومين قرابة المليونين). و(مصالح القادة الجاسوسية تنفق يومياً عشرات الملايين...). و(القوات المحلية تعوم في الذهب). و(العالم كله يتبرع علينا) و(الخيرات مخزونة عند الأغنياء), و(أبناء الشهداء يتضورون جوعًا).
    الطاحونة تدور, الجعجعة تملأ الآذان.. ولا أحد يسأل عن الطحين, والحجة ينبغي أن لا تقوم.. والجبال تمكر بالقمر والشمس فلا يطلان إلا بعد الفوات... آه. لو كلفت بمهمة.. تفكر في المسؤولية? تطمح إليها? لو يسمعك أحد يقهقه.
    - (قاقا) ما بك ? ألا يسرك وجودي قربك? وأبوك, أين استشهد?
    احمرت وجنتاه, وتندّى جبينه عرقاً, اضطرب السطل في يده.. وكادت عيناه تغوران وفجأة بادرني:
    - ليس لي أب, لا أب لي, لا أعرف أباً.. أبداً أقسم لك.
    واعتراه الخجل.. هذا الصوت... (قاقا) ماذا يخفي وراء كلماته?
    لو كنت ابن شهيد لأنكرت ذلك, وأقسمت على أنني لا أعرف لي أبا.. ما أحكم (قاقا).. أما (بسعو)...
    ألقيت عليه نظرة, فوجدته يبتسم في خبث.. (بسعو), عمّ تنطوي بسمته ونظرته.
    التقت عيون الصبيين ففهمت أن هذا الحوار يدور بينهما:
    - أَأَطلعه على الحقيقة?
    - (بسعو) كن عاقلا.. إياك, سأقاطعك منذ اللحظة.
    - لكن. إنه طيب.. وسيعطينا النقود...
    - سأترككما إذن يا (بسعو).
    قال (قاقا) وطأطأ رأسه مرة أخرى, واعتراه الخجل أكثر...
    هل كان أبوه قائداً بطلا?
    بالأمس سمعتهم يتحدثون عما تقاسيه زوج ابن بولعيد وابنها من فاقة وعوز, اقتسمت الثورة والاستعمار أموال ابن بولعيد الطائلة. الاستعمار ارتحل, وابناء الشهداء يتضورون جوعاً, والطاحونة...
    شعرت بالدوار ورفعت بصري إلى العلَم, يرفرف وتشخص لي (كافكا) يوقع على المسخ... لا. (هوغو) الأيدي القذرة, يطلق الرصاص. لا (جوبيتر) الذباب. منهوشاً. كلا (بابلو) لمن تدق الأجراس يصارع السقوط.. لا. الأمير عبد القادر يوقع وثائق الاستسلام. لا. وبدا لي أن قدمي تغوصان في الوحل وأنني انجذب فأنجذب إلى أعماق هاوية سحيقة.
    لست أدري كم من لحظات مرت حين استفقت على (قاقا) يسترق ربع نظرة إلي, خفض بصره فربت على كتفه.. كانت عظامه ناتئة حادة.
    - (قاقا) إنني أخوك. أنظر إلى (بسعو) كيف هو مرح. تأكد أن كل شيء سيتبدل عما قريب.
    وتساءلت في نفسي هل أومن بما أقول, ثم أضفت:
    - أصحيح أنك لا تعرف أباك?
    - أبوه حركي, وهو الذي قتل أبي !
    قال بسعو, هازئاً, فخوراً, متشفياً, ضاغطاً على الكلمتين الأخيرتين: قتل أبي.
    انتفض (قاقا) كما لو أن قنبلة غير متوقعة انفجرت. ونهض واقفاً يحاول الهروب.. تشبثتُ بذراعه الصغيرة, وأجلسته بعد لأي, فارتمي عليّ, وانفجر باكيًا.
    ليس من حق (بسعو) أن يفضحه أبداً.. لكن حين نظرت قرأت في عينيه:
    - قتل أبي.
    - لكن ىا (بسعو) ما ذنب (قاقا)? ليس هو الذي قتل وليس هو الحركي, ولو كان كبيرًا لالتحق بالثورة, ولتغيرت حياته رأساً على عقب.. أكنت تقتل الحركيين ياقاقا لو كنت في الغابة مجاهدًا?
    استعنت بكل ما أملك من خبرة, وبكل اللهجات, لأقنع الصبيين بما يبدو لي أنه الحقيقة.. وبعد جهد احتضنني (قاقا) وطبع على جبيني قبلة حارة هامساً:
    - أنت طيب.
    تذكرت قصة الرفيق (ماكرنكو): قصيدة تربوية. منذ أن أحببت الأطفال, وبتّ أحلم لو تتاح لي فرصة فأطلق نظريات (ماكرنكو) في التربية.
    قد تتاح لي فرصة ذات يوم... هذه الجبال المحيطة بنا في شكل دائرة, تمكر بالشمس والقمر, فلا يطلان إلا حين نكون في غنى عنهما.
    - غداء اليوم لذيذ فلم يبق منه شيء نأخذه, لم يخلف أي جندي شيئا في صحنه.
    قال (بسعو) ضاحكا, فتبسم (قاقا), ونقر سطله:
    - خاو كما ترى.
    - أمهاتنا ينتظرن, وأخوتنا يبكون.
    أضاف (بسعو).
    انطلق بصري نحو السماء.. العلَم يعربد.. مع ذلك ضحكت.
    تأملت مركز التجمع حيث يقطن الصبيان وكل أهالى الجهة. أكواخ قاتمة يغطيها الدبس والتراب, بعض ثياب منثورة على الأشجار والصخور تجف. كانت ألوانها رغم التعاسة ناصعة مزهوة, لا أثر للدخان أو للكلاب. بعض أحمرة مطأطئة قرب أكداس أعواد جافة. هدوء شامل يخيم على المركز, فبدا لي مقبرة مهجورة, سكون عميق يشمل المنطقة باستثناء صوت طائر ينبعث من الصخور البعيدة:
    - طيكوك. طيكوك.
    فى الماضي, كان هذا الصوت يبعث الحيوية في الحياة, إن يستفز الخيول فتهج راكضة وذيولها تصفع الذباب في مرح, لتتبعها البقرات, والأطفال نحو الوديان الرقراقة. أما الآن فما أثقل هذا الصوت الحزين, إنه لا يثير إلا الذكريات البعيدة.. لا. قد يثير الهمم لمواصلة المهام الثورية.. قد يكون صوت شهداء الأوراس.
    - عم. ما بك ? إنك توشك أن تبكي.
    - لا شيء. لكن الجندي كما تعلمان, فقير أيضاً, ليس معي سوى دورو (دورو تعني فلساً باللهجة الجزائرية الدارجة). ها هى, اقتسماها.. سلبتما كل ثروتى أيها الشيطانان.
    - أنت طيب جداً.
    رد قاقا, أما (بسعو) فقال مقهقهاً:
    - ينبغي أن نحذر اللصوص ونحن في طريقنا بهذه الثروة ياقاقا. وقبل أن نفترق سألني (بسعو) في حذر القططة:
    - لم أرك في مطبخ الجنود, أتأكل هناك?
    وأشار بأصبعه الوسخة, مضيفاً:
    - الأخرون يسألوننا, هل لنا أخوات.. البارحة أمي وأختي ضربتا بالعصى ضابطاً اقتحم كوخنا.
    - نعم, آكل في مطبخ الضباط.. مع أنني لست ضابطا.
    - لا يتركوننا أبداً نقترب من هذا المطبخ.
    قال قاقا.
    خيل لي وهما يبتعدان, أنهما يسيران في بركة دم متشبثين بالخبز, وعلى ظهريهما أكياس يحملانها إلى الطاحونة على الضفة الأخرى, ليبعثا جعجعة جديدة, ولكن بالطحين هذه المرة .



Working...
X