Announcement

Collapse
No announcement yet.

مذكرات النساي (( الشامية ))..!

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • مذكرات النساي (( الشامية ))..!

    مذكرات النساي (( الشامية ))..!

    - محمد بلقاسم خمار -

    قصص - من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997
    قصص من واقع الحياة (1)- من الاغتراب الى الغربة..
    (2)- الرسالة النسيانية...
    (3)- دون كيشوت.الحسكة ..!
    (4)- الفلاّحة ..
    (5)- مسألة " الشقة "!
    ( 6 )- الذاكرة الآلية -
    (8)- لعنة " الدير "!
    (7)- التشابه ..!
    (9)- حوار مع قزم ..
    (10)- يومية مرعوب
    (11)- يوم .. وليلة...؟
    (12)- احذروا...الحيتان...؟
    (13)-" العزيز ميكي" -
    (14)- " مزاح ثقيل " -
    (15)- الأوتاد ... والمقبرة
    (16)- الفصاد بالقلم ..!؟
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

    قصص من واقع الحياة (1)- من الاغتراب الى الغربة..
    فجأة.. وبعد ثلاثين سنة من الاغتراب.. وجدت نفسي في بهو مطار دمشق..‍‏
    -من أين أتيت..؟ ولماذا أنا هنا..؟‏
    -سألني الرجل الطويل الذي استقبلني: هل أنت فلان...؟‏
    -أجبته: أظن ذلك..نعم .. وتذكرته على الفور.. إنه صديقي القديم.. محمود‏
    فعانقني بشوق... ثم اختطف من يدي جواز السفر وأجال نظره في مرفقاته .. وقال لي: لقد تغيرت كثيراً حتى كدت لا أعرفك.. اهلا وسهلاً بك في بلدك سورية.. وافتك من يدي الأخرى حقيبة السفر، وقادني نحو اقرب سيارة أجرة، فامتطيناها وهو يقول إلى السائق: اوصلنا من فضلك إلى فندق /الفراديس/ بساحة المرجة.‏
    عندما انطلقت السيارة بنا، احسست انني احتضن الهواء، وأطير في حلم صاروخي عجول..‏
    كانت الأرصفة، والمباني، والاشجار الباسقة، ولوحات الإعلانات- على حافتي الطريق- تتراجع متراصّة مندمجة بسرعة مذهلة، فترسم شريطاً متداخلا ملونا للوحة جميلة فاتنة ، لا اذكر انني شاهدتها من قبل..‍‏
    أدخل محمود يده في جيبه، واخرج رسالة، تفحص بعض اسطرها، ثم أدار راسه نحوي وقال لي:‏
    -إذن .. لقد فقدت ذاكرتك منذ ثلاثين سنة..؟‏
    -نعم.. ولكنني لم أفقد كل شىء فيها.. إنني فقط، مصاب بنوع من النسيان، يستحوذ على ذاكرتي في بعض الظروف وفي حالات، ومواقف خاصة..‏
    -لقد أخبرني ولدك في هذه الرسالة( وأشار إلى الأوراق التي كان يحملها) عن كل شىء يتعلق بمرضك النسياني.. وقد قال لي إنك تتذكر جيداً كل الأحداث التي عشتها قبل ثلاثين سنة.‍‏
    - بالفعل.. فانا ما زلت أذكر-مثلا- عندما جئت اول مرة إلى دمشق سنة 1953- ونزلت في مطار المزة/ .. واذكر حتى جوانب الطريق ، كيف كانت خالية من العمران إلى حدود الجامعة بمنطقة/ البرامكة/.. أما الآن فإن الصورة تختلف تماما.. هل نحن الآن في منطقة / المزة/؟.‏
    -ابتسم صديقي محمود، وهو يجيب: لا.. لا.. نحن الآن في طريق جديدة.. وقد انطلقنا من مطار جديد أيضاً.. اما منطقة / المزة/ فقد اصبحت مدينة حديثة كبيرة، تضم مئات الآلاف من السكان.. وتعد من أجمل احياء دمشق..‏
    بدأت أفكاركثيرة، ومشاهد، وأشكال ، تتراقص متزاحمة في مشاعري، ممزوجة بأصوات والوان، وإضاءات مجهولة المصدر، تتناوب بين اللمعان والتلاشي، بين الصخب والصمت .. بين الحركة والسكون.. وأحسست بأن ذاكرتي تتشابك مع النسيان في مصارعة عنيفة وكأنهما كومة من خيوط الحرير الناعم. تحاول بمعجزة ذاتية أن تتحرر من حقل مليء بالحسك والنباتات الشائكة..‍‏
    -سألني محمود: هل تذكر لماذا جئت إلى دمشق..؟..‏
    لقد ذكرلي ولدك في رسالته سبب ذلك.. إلا أنني اريد أن سمعه منك أنت ..؟‏
    -في الحقيقة..لا أذكر بالضبط سبب وجودي الان ، هنا.. المواضيع متداخلة..ربما جئت لأعيد دراستي الثانوية والجامعية..فقد نسيت كل المعلومات التي كنت قد حصلت عليها، خاصة في قواعد اللغة. والمنطق، وعلم النفس.. ولم انسها بسبب المرض، وانما لعدم الاستعمال.. لقد نسيت حتى القرآن الكريم الذي كنت احفظه عن ظهر قلب منذ طفولتي.. بسبب عدم "الإستعمال " كذلك..‏
    وربما جئت لرؤية زملاء الدراسة، إنني اذكرهم دائما، وانا في أشد الشوق إليهم ... ولا ادري هل هم كما عرفتهم، مازالوا يطفحون حيوية ، ومرحاً وحماساً.. ام تغيّروا مثلي..!؟‏
    كانت السيارة تخترق وتلف ساحة مستديرة شاسعة، تتوسطها نافورة ضخمة تتصاعد أعمدة مياهها البيضاء نحو السماء، وكأنها تحاول أن تطول برج المعرض التذكاري الذي يواجهها منتصبا برشاقة وارتفاع شاهق.‏
    " اعادني منظر ذلك البرج الموشى بكل الوان اعلام العالم إلى بداية الخمسينات ، فتذكرت.. إنها ساحة الامويين..‏
    وهالني منظر الجبل الشامخ الذي يضم مدينة دمشق إلى صدره العريض ، فتحتضنه هي، وتتعلق باكتافه .. لاريب أنه جبل / قاسيون/ ولكن، من كساه كل هذه الحلل والحلي الزاهية، ومن نثر فوقه كل تلك اللآليء والنجوم..!؟‏
    سألت محمود.. ولكنه اشار بيده نحو بناية عالية وهو يقول لي..ها ..لقد وصلنا.../ الفراديس)..‏
    التف حولنا موظفو وعمال الفندق، يرحبون بكلمات حلوة، مهذبة، لم اسمع مثلها منذ زمن بعيد.. وكانت بسماتهم لاتفارق وجوههم.. فأحببت أن أعبر لهم عن شكري وامتناني لحفاوتهم بي.. فلم أجد في ذاكرتي أية عبارة صالحة للتحية.. واردت ان ابتسم في وجوههم، فامتنعت شفتاي عن الإنفراج.. فأجهشت بالبكاء..!‏
    -قال لهم صديقي محمود- في شبه اعتذار_:‏
    اشكركم..من فضلكم دعوه..إنه مرهق..وهو في حاجة إلى قليل من الراحة والهدوء..‏
    وقال لي : هل تصعد إلى غرفتك لتستريح بعض الوقت..؟‏
    -أجبته..نعم.. ولكن هل الحراسة متوفرة هنا .. تأكد من فضلك يامحمود..إنني- بصراحة- اشعر دائماً بالرعب..؟‏
    ضحك محمود بصوت مرتفع، وهو يربت على كتفي، ويدفعني إلى المصعد، ويقول! بالفعل إنك نسّاى..! ياأخي..! اطمئن تماماً..إنك الآن في دمشق.‏
    -ودّعني صديقي القديم امام باب الغرفة وانصرف.. بينما كنت اهمس في نفسي: لماذا أنا هنا..؟‏
    ولماذا في دمشق بالذات..؟ هل سأتذكر السبب!؟‏
    ****‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    Comment


    • #3
      رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

      (2)- الرسالة النسيانية...
      رن جرس الهاتف بعنف، فاستيقظت مذعوراً ولم أدر أين أنا.. رميت يدي لأحمل السماعة، فاصطدمت بنظارتي السميكة، الموضوعة فوق الطاولة المجاورة، فتطايرت بعيداً.. بحثت مرتعشا عن مكان الهاتف،.. حملت السماعة بالمقلوب، صرخت: الو..الو..!- لم اسمع سوى وشوشة مبهمة،لم افهم منها شيئا ، اعدت الصراخ: الو ..من أنت ..ارفع صوتك، لم اسمعك ..! انتبهت إلى وضع السماعة فعدلته..الو..! وجاء الصوت واضحا.:‏
      -صباح الخير..هل مازلت نائما..؟ إنها العاشرة صباحاً،‏
      -الو.. عفواً ..من أنت من فضلك..؟‏
      -الم تعرفني،. هل نسيتني، انا صديقك محمود..قم وارتد ثيابك، سأصعد اليك بعد عشر دقائق..‏
      أمضيت خمس دقائق في البحث عن نظارتي، وقد وجدتها بعد أن مسحت أرضية الغرفة كلها بكفي .. وجدتها مختبئة داخل فردة حذائي..! فلعنتها..‏
      وعندما طرق الباب، كنت داخل الحمام. فرفعت صوتي عاليا: دقيقة من فضلك.. وجففت وجهي بسرعة وفتحت الباب، ناسيا حذري واحتياطي..ومن حسن الحظ كان الطارق هو صديقي محمود..إلا أنني سرعان ما انتبهت إلى خطئي الجسيم في فتح الباب ، دون التأكد من هوية الزائر، وأحسست بموجة كدبيب النمل تكتسح جسدي، وبجفاف مرّ في حلقي ..ماذا لو كان الطارق شخصاً مجهولاً..!؟‏
      رفع محمود سماعة الهاتف، وقال لي: سأطلب لك الفطور هنا في الغرفة، وسألني ماذا تريد ان تأكل..؟‏
      -أجبته- بدون شهية للأكل - أي شىء خفيف..فنحن كما تعلم. لا نأكل صباحاً.. وتكلم قليلاً بالهاتف,, وسألني وهو يضع السماعة: والآن.. قل لي..هل تذكرت سبب مجيئك إلى دمشق..؟‏
      -أطرقت..وضعت جبهتي بين اناملي، وضغطت عصرت فكري..ولكن دون نتيجة..كانت كل الاحتمالات تبدو لي ممكنة، وفي الوقت نفسه غامضة، وغير مقنعة..‏
      -قلت له: الحقيقة أنني نسيت التفكير في هذا الموضوع ، ويبدو لي ، أنني لن استطيع الآن تذكر أي شىء..!‏
      أخرج محمود من محفظته مجموعة من الاوراق، مرتّبة على شكل كراسة مدرسية ، وقال:‏
      -استمع إذن..سأقرأ عليك، ما كتبه لي ولدك. عن أسباب مغادرتك بلدك، ومجيئك إلى سورية..‏
      يقول ولدك الاكبر: " لقد كنا جميعاً نعلم بأن والدنا مريض بداء النسيان، وذلك منذ سنين طويلة.. وكنا نخشى أن يحدث له مكروه بسبب نسيانه، لذلك كنت وإخوتي وأحياناً الاقارب والاصدقاء، نقوم بمراقبته من بعيد ، ونتناوب على حراسته كلما خرج من المنزل.. وقد تدخلنا في الوقت المناسب ، وانقذناه من ورطات كثيرة.لا تعدّ، ولا تحصى.. ! إلا أنه منذ ثلاث سنوات تقريباً، اشتدّ عليه داء النسيان، وأصبحت ذاكرته شبه غائبة، لا تسعفه إلاّ لماماً...! ومما ازعجنا أكثر، وبعث في نفوسنا الرعب..أنه اصبح يقوم بأعمال خطيرة ويتصرف مع نفسه، ومع الناس، تصرفات غريبة، ومحيرة، الأمر الذي ضاعف من خوفنا عليه ، وجعلنا نتوقع أنه سيتعرض في يوم ما إلى أبشع العواقب..‏
      لم نستطع حبسه في الدار ، لأنه يتمتع بكامل قواه العقلية، كما أكد كل الأطباء الذين فحصوه..ومع ذلك نراه من حين لآخر ، ينسى موقع نفسه من وضعية الظروف الاجتماعية المحيطة به، ويقوم بارتكاب أخطاء عجيبة تتنافى مع الجو العام" واليك ياعم محمود صوراً عن بعض تصرفات والدي..!‏
      -قطعت قراءة محمود، اثر سهوة اختطفتني كالاغفاءة وسألته: ماذا تقرأ ..؟ وعمن تتحدث..؟‏
      -أجابني بتذمر..انصت يأخي، إنني اقرأ لك ، ما كتبه ولدك عنك، وعن افعالك العجيبة .. استمع لي جيداً من فضلك، وركّز معي. وتابع تلاوة الاوراق...‏
      " تسللت يوماً وراء أبي، فرأيته يدخل المسجد، فتبعته.. توضأ، ودخل قاعة الصلاة، وكانت ممتلئة بالمصلين، فتخطى رقابهم وجلس إلى جانب الإمام؛ الذي كان يقدم حديثا في الوعظ حول عذاب القبر، وذلك قبل صلاة العصر...رأيت أبي يرمق الإمام بنظرة مؤذية.‏
      فتوجست خيفة من ان يقدم على فعل شائن...ثم تنفست الصعداء، عندما أبصرته يقوم. ويباشر في أداء ركعتين لله..! وبعد أن انهى صلاته..أخذ يتململ يمنة ويسرة..ويبحث داخل جيوبه..ثم تفاجأنا جميعا عندما رأيناه يخرج علبة التبغ والقداحة، ويسحب سيجارة فيشعلها، ويأخذ في مصّها بلهفة، وسحائب دخانها تملأ المحراب...!‏
      وقف الامام غاضبا ، وهو يلعن ويحوقل، وشدّ أبي من خناقه.. بينما هرول المصلون نحوه وهم يزمجرون! اطردوا الكافر..اقتلوه..ولا ادري كيف وجدت نفسي مرتمياً فوقه .احميه بجسدي. واتلقى عنه بعض اللكمات والرفسات..‏
      وأنا اصيح..إنه مريض ياناس..إنه غير طبيعي..وكنت اجرّه بصعوبة إلى أن أخرجته من الجامع تحت وابل من التهديدات واللعنات والشتم المقذع..!‏
      عندما عدت به إلى المنزل" سألته: لماذا ياأبي اقدمت على تلك الفعلة الشنعاء، داخل بيت الله ؟‏
      -أجابني وهو يتألم ويتأوه: لقد نسيت ياولدي أنني كنت في حرم المسجد.. ويشهد الله أنني لم اقم بذلك عن قصد لقد تخيلت أنني داخل مقهى. وتصورتُ الإمام الذي كان بجانبي أنه فنان ، او شيء من هذا القبيل.. استغفر الله..استغفر الله...وأخذ يبكي بتشنج..!‏
      -مرة..كنا نتمشى فوق أحد الارصفة بشارع مزدحم من شوارع العاصمة..ولم انتبه كيف فلت مني إذ لمحته يقف وسط الطريق، إلى جانب سيارة مسؤول مهم ، متوقفة أمام الإشارة الحمراء..وسمعته يقهقه بطريقة استفزازية، وهو يشير بذراعه إلى ذلك المسؤول ويقول له: إنني معجب بادوارك المضحكة..إنك ممثل بارع..وركضت نحوه_ وكان حارس المسؤول قد سبقني إليه، فدفعه بقوة شديدة حتى وقع على الارض. فانتشلته وكان مايزال يضحك مع الدهشة. وأنا اجره نحو الرصيف..!؟ قلت له: إنه بالفعل يشبه ذلك الممثل الفكاهي ( فلان) الذي نشاهده في التلفزة، ولكنه ليس هو..الم تنتبه إلى لون سيارته الأسود، ويافطتها الحمراء_ ومظهرها الرسمي الواضح..الم تر السلاح الذي كان يحمله الحارس الجالس إلى جانب السائق..إن الفنان الذي تتحدث عنه أنت لا يملك حتى دراجة..!؟‏
      واكتفى والدي بقوله..إنني آسف..لقد نسيت..!‏
      -ماذا احكي لك ياعم محمود عن قصص أبي المفزعة..؟‏
      إنه اصبح يختطف ما يجمعه المتسولون العميان ، في صحونهم من دراهم، ويقول: إنهم لايستحقون الصدقة..إنهم موظفون لصوص، يرتدون نظارات سوداء للتمويه..!‏
      ويقتحم مكاتب بعض المؤسسات. ويوزع مالديه من اوراق نقدية على المستخدمين، وهو يقول لهم: انكم مساكين..طيبون، تستحقون الحسنة..! وطبعا يتخاطفون نقوده بشراهة- وهم يتغامزون..‏
      اخيراً.. صار عندما يزوره أصدقاؤه، في المنزل للإطمئنان عنه، يعاملهم بخشونة وجفاء.. ويوجه اليهم بعض الشتائم، مثل: جبناء..منافقون..متقلبون.. انتهازيون، مما يجعلنا نكاد نذوب خجلاً، وقد اصبح الآن لايزوره أحد..ومن رآه من أصدقائه القدامى من بعيد ، يبتعد عن طريقه..!‏
      لقد لمناه كثيراً على معاملته السيئة لرفاق عمره.. وكان يبرر تصرفاته تلك بأنه نسي معرفته لهم، وعلاقاته الماضية بهم، ولم يعد يذكر منها أي شىء، لذلك عندما يراهم يعتقد أنه امام غرباء.. ويظن انهم مجرد متطفلين جاء وا للتشفي منه.. او للتجسس عليه .!؟‏
      منذ مدة قريبة، أخذ يزاول عادة جديدة، وهي أنه كل صباح، يرسل اخي الصغير ، فيشتري له مجموعة كبيرة من الصحف اليومية، فيقرأ جريدة او اثنتين منها، ثم يكومها على شكل هرم، ويشعل النار فيها.. وعندما عبرّنا له عن استنكارنا لتلك الحرائق اليومية ، علل ذلك بقوله : يطلع على الاخبار الساخنة، يشعر بالبرودة تسري في اوصاله... وينسى قراءة الجرائد كلها، فيحرقها ليتدفأ بلهيبها المتصاعد..!‏
      وباختصار..لقد اضحى والدنا ، منبوذاً من معارفه. مهدداً ممن مسهم بمشاكل نسيانه ، مغضوبا عليه من طرف جيرانه، لذلك أجبرناه على مغادرة البلاد والسفر إلى أي مكان.. وهو الذي فضل الذهاب إلى دمشق ولم يذكر لنا السبب الذي دفعه إلى ذلك الاختيار..؟‏
      طرق باب الغرفة ، ودخل عامل الفندق يحمل طبق الفطور..فوضعه فوق الطاولة وانصرف..‏
      وسألني محمود..: لاريب أنك تذكر الآن الاسباب التي جعلتك تغادر بلدك وتأتي إلى سورية . لقد أصبح كل شىء معروفا بعد قراءة رسالة ولدك..ولكن هل تتفضل، وتقول لي: لماذا اخترت دمشق بالذات..؟‏
      ***‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      Comment


      • #4
        رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

        3)- دون كيشوت.الحسكة ..!
        منذ ثلاثين سنة مضت.. وذاكرتي محرومة من دفء أشعتها ، من جمال الوانها، من شذى ورودها، من زقزقة عصافيرها، من نعومة اطيافها. وحلاوة مذاق أحلامها..!‏
        منذ ثلاثين سنة، وذاكرتي عقيم لاتلد..كنز ضائع، نبع غائر المياه..شمعة تنطفئ كلما اضاءت.. عاشقة يسكنها الظلام ، كلما فتح لها حبيبها نافذة للنور...!؟‏
        لم تعد لذاكرتي طفولة، ولا فتوة.. ولا شباب.. ادراج أما سيها شاغرة.. مغبّرة.. موحشة... وما تكتنزه قبل ثلاثين سنة، لاأدري كيف اصبحت صورته اليوم..(ربما اشلاء من الموميات، وانقاض من الخرائب.. والهشيم الذي تذروه الرياح..! وربما مازالت فيها بعض الملامح النابضة. التي قد تجمعنى بذاتي تقربني من نفسي، وتفتح لي أفقا مغريا ، للتحاور مع الأمل..!؟‏
        -قاطعني محمود متحمسا: واصل ..واصل تداعياتك، ومناجاة خواطرك.. يبدو أنني سأكتشف من خلال هذيانك هذا سبب إختيارك المجئ إلى دمشق..‏
        انقطع تيار افكاري، بمجرد أن تكلّم محمود.. وفي اللحظة نفسها لمحت سربا من العصافير، ينفض اجنحته بضجيج، وينفصل عن شجرة قريبة منا . ويبدأ بالدوران تحت سماء حديقة / السبكي / ثم يعود باستعجال ليستقر فوق شجرة أخرى بعيدة.._ قلت لمحمود: هل رأيت تلك الطيور الصغيرة المرحة ..؟ إنها تلعب كالأطفال ..! لقد تخيّلت عندما كانت تحوّم..كأنني احلق في الفضاء معها.. ولما غادرت الافق، واختفت بين اغصان الشجرة ، أحسست كأنني ريشة وحيدة، تتهاوى ببطء نحو فراغ رهيب..!‏
        -قال محمود: أليس من الأحسن ان تواصل الحديث في ما كنت تقوله عن ذاكرتك ..؟‏
        سألته: أي حديث ..؟ وأية ذاكرة ..؟‏
        - قال لي : احك لي بعضا من ذكرياتك في سورية، قبل ثلاثين سنة... إنك ولا شك - مازلت تذكرها..‏
        -طبعا- اذكرها ، بل وأحفظها عن ظهر قلب ،... إنها الشىء الوحيد الذي ظلت ذاكرتي متشبثة به، طيلة هذه السنين التافهة التي مرت بي.. إنها شريط طويل ، واضح سليم مليء بالأحداث ، حلوها ومرّها ، فيه عزة ، وجلال، وجمال وحب .. وفيه الم ، وحزن ، وشوق ، وشقاء .. ولا اعتقد أنني نمت يوما قبل ان استعرضه وأشاهده من اوله إلى آخره .. على شاشة ذاكرتي ، إلى درجة أنني اصبحت الآن خائفا ، أن يصدمني الواقع بتشويه بعض اجزائه او فصوله ..!‏
        إن فرحتي بقيام الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . مازالت ذكراها منتعشة بين جوانحي ،.. وإنها لحدث خالد ، لا يمكن للأيام ان تمحو روعته ، مهما تقلبت..‏
        وحزني يوم نزلت كارثة الانفصال ، ظل يتأجج ، ويلهب كياني ، إلى أن وجدت نفسي داخل سجن / المزة / سنة1961.. حيث امضيت اياما للضيم ، والغيظ، والإرتخاء ..‏
        وعندما انطلقت زغاريد آذار ، زارني الفرح مرة أخرى،... وغادرت دمشق وأنا مرفوع الهامة ، سعيد النفس.. ثم .. شيئا .. فشيئا .. فشيئا .. غرقت في ليل كالح موحش ..!‏
        يوم تم اعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1958 - كتبت موالا ، ورفعت صوتي بالغناء .. وساعة اشراق شمس الإستقلال في الجزائر، تحوّل الحلم إلى جناحين في قلبي ..‏
        ومن شدة الخفقان ، عانقت الفضاء وطرت .. وصرخت ، وبكيت ، وصدحت بالأناشيد ،.. ثم شيئا .. فشيئا .. تهاويت من قمة الحلم الحقيقة ، كريشة وحيدة ، تتأرجح ببطء نحو فراغ رهيب ...!؟ ومن يومها انسدت بعض منافذ ذاكرتي أمام مسلسلاتها الجديدة ..!؟‏
        وإنني مازلت اذكر أعوام إقامتي في حلب الشهباء ، ورأس العين ، والقامشلي ، والحسكة ، ودمشق الفيحاء .. وسقى الله عقد الخمسينات بعطر شذي من نقاء المجاهدين ومن جنان الشهداء ..‏
        في حلب .. كنت بطلا في ركض المسافات القصيرة . وفي خبب المظاهرات ، وسرعة الإفلات من اعشاب الربيع ، ومع ذلك لم اكن أعر قدمي أنتباهاً أو عناية ..‏
        إلى أن استوقفني مرة فاعل خير ، وطلب مني أن اخفض راسي قليلا .. وعندما فعلت ، وجدتني ارتدي فردتين لحذائين مختلفين ، اليمنى سوداء ،.. واليسرى حمراء .. فاندهشت حياءً .. وضحك الرجل ، وانصرف..‏
        وفي رأس العين .. تسلقت شجرة عالية ، وفتحت ذراعي ، وأخذت نفسا عميقاً حتى إمتلأ بطني بالهواء ، ثم القيت بنفسي في الجو .. محاولا الطيران كأبن فرناس .. ومن حسن حظي ان / رأس العين / مليئة بالبحيرات الصغيرة العميقة ، فاستقبلتني إحداهن في حضنها الرقراق، كما تستقبل الام طفلها فوق حجرها .. ونجوت باعجوبة من السقوط..‏
        وفي القامشلي كنت فدائيا ، عاشقاً ، متصوفا .. أحياناً احمل مسدساً لأحرس به حبيبتي من شراهة العيون، وأحياناً احمل رشاشاً لأذود به عن حدود المدينة من خطر المتسللين .. وكنت معلما .. وشاعراً ، ومناضلاً ، وزبونا محبوبا في فندق / هدايا/ ..!‏
        ومن القامشلي اتجهنا نحو دمشق .. كنا ثمانية من المعلمين والمعلمات ، داخل سيارة أجرة ، لا تتسع إلاّ لخمسة ركاب مع السائق ، .. كان الهدف هو حضور حفل اعلان الوحدة ورؤية القائد العربي المرحوم ، جمال عبد الناصر ،.. وفي الطريق الطويل ، كنا إذا صادفنا حاجزاً أمنيا ، لشرطة المرور ، نرفع عقائرنا بنشيد / قسماً / فكان رجال الشرطة عوض تسجيل المخالفة على تلك الزحمة الجنونية .. يلوحون لنا بايديهم باسمين ، وهم يهتفون : تحيا الجزائر ..! أما الحسكة .. فجل ذكرياتي معها يعرفها نهر / الخابور / بضفافه الوارفة .. ويشهد على بعض لوحاتها الزاهية ، صديقاي: ابو يوسف، وأبن أبينا هكذا كنا نسميه ، لأن والده كان قساً..‏
        أطرف مشهد مرّ بي فيها ، يوم فتحت باب غرفتي الضيقة صباحاً ، ودلفت خارجاً ، فإذا بي لم استطع رؤية أي شىء أمامي .. كان الفضاء كله غارقاً في بحر من الهباب الاصفر الكثيف ، وكان الغموض الضبابي يغمر كل منافذ النظر..والحبيبات الدقيقة الناعمة ، تتساقط بهدوء، كالعهن الكثيف والسكون يملأ كل شىء ، لاهبوب ولا دبيب .. ولا يستطيع البصر أن ينفذ لاكثر من خطوة..!‏
        كنت وحيداً في الشارع الصامت .. وواصلت كالأعمى طريقي ، بحي / غويراة / إلى ان وصلت المدرسة ، وكانت / حاسة الاتجاه / هي دليلي في مسيري ..! كان بابها مغلقا على غير العادة ، فطرقته .. ثم طرقت بشدة .. وصاح الحارس من مكان خفي بعيد ..: من هناك ..؟ أجبته : أنا فلان .. افتح الباب ..‏
        -احسست ببسمته الساخرة ، وهو يقول لي بصوت مرتفع : ارجع يا استاذ إلى بيتك ، فيوم / الطوز / لايخرج فيه أحد من داره ..‏
        لم افهم معنى / الطوز / ولكنني عدت مسرعاً أتعثر إلى غرفتي .. وكان جيراني ، وهم من الفلاحين ، كأنهم قد انتقلو إلى عالم آخر .. لاحركة ، ولا صوت .. ويظهر أنهم ما زالوا نائمين وهم الذين كانوا يستيقظون منذ الفجر، ويحرمونني بضجيجهم من ألذّ لحظات الغفوة ، في تلك الدقائق الفجرية ..!؟‏
        فتحت باب غرفتي ، واقتحمته ، واغلقته بسرعة وحذر ، حتى لا يلاحقني ذلك الغبار السحري الناعم ... وكم كانت مفاجأتي شديدة مدهشة ، عندما ابصرت جو غرفتي في اصفراره ، وكثافته ، وغموضه .. كالجوّ الذي يخيم خارجها ..!؟ ياإلهي .. هل هذا الغبار ، يستطيع اختراق الجدران ..؟ لاريب ان كلمة / الطوز / تعني أشياء غريبة ...!‏
        خلعت مئزري ، وشمرت عن ساعدي ، وبدأت معركتي مع هذه / الظاهرة الطوزية / وكان سلاحي هو سكب مالدي من مياه مخزّنة للشرب ، والطبخ ، والغسيل، بواسطة طاسة مفلطحة ، كنت استعملها عندما آخذ حمّاما داخل الغرفة .. اما الآن فهي صالحة لتحميم الغرفة كلها .. وبها أخذت ارش المياه ، باتجاه السقف .. من فوق إلى تحت .. وفي كل الاتجاهات ، وبصورة عشوائية مقصودة ، على نية ان تعلق قطرات المياه المتناثرة ، بذرات الغبار المتماسكة ، فتذيبها وتحللها ، وتسقط مع رذاذ الماء .. وبذلك يعود النقاء والصفاء إلى الغرفة ..‏
        استمرت معركتي مع الماء والهواء اكثر من نصف ساعة ، وقد أدى ذلك المطر الاصطناعي الذي اخترعته ، إلى جعل ارضية الغرفة كأنها مستنقع قذر .. واخذ العرق يتصبب من جبيني وارهقني الاعياء ، فجلست على حافة السرير المبتل ، لاستريح ، ورفعت نظري ،.. كانت الغرفة ما تزال على حالتها الضبابية القاتمة .. لم يتغير فيها أي شىء ..! وتعجبت من أمر هذا / الطوز / البليد .! وهنا سقطت قطرة ماء من السقف ، أو قطرة عرق من جبيني على باطن نظارتي السميكة المقعرّة .. فخلعتها لأمسحها ، واستأنف معركتي مع الماء والهواء .. وكانت المفجأة المذهلة ، لقد رأيت غرفتي ، تنعم بصفاء رائق كالمرآة الصقيل ، لا شائبة فيها ،.. وانتبهت إلى نظارتي التي في يدي ، ان غلافا كثيفا من الهباب الاصفر الدقيق يفترش عدساتها المقعرة ..!‏
        ابتسمت بمرارة ، وقلت في سري : يالي من مغفل مهبول .. إنني الآن جدير بأن احمل اسم دون كيشوت الحسكة !‏
        ***‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        Comment


        • #5
          رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

          (4)- الفلاّحة ..
          -سألت محمود : ألا تحس بأن جو مقهى ( الهافانا) يرتدي غلالة شفافة من الحزن الباهت ..؟‏
          -نعم - أجاب محمود - احس ذلك ..‏
          ولكن هذا الحزن لايجده كل الجالسين هنا - وإنما جيلنا فقط ، هو الذي يشعر به.‏
          لقد كانت مقهى ( الهافانا ) ملتقى عامراً بأناس نحبهم ونحمل لهم كل التقدير .. من أساتذتنا الأجلاء، وأصدقائنا ، أمثال : المفكر العربي الكبير زكي الأرسوزي ؛ والفنان الرسام نعيم اسماعيل ، والأديب والشاعر الساخر صدقي اسماعيل ، صاحب مجلة / الكلب/ والشاعر سليمان الخش ... وغيرهم .. لقد فارقوا الحياة جميعا - رحمهم الله ولا ريب أن رؤيتنا لأماكنهم الشاغرة، تذكرنا بهم ، وتبعث في نفوسنا الكثير من مشاعر الكآبة والأسى ..؟‏
          -صدقت ..إن الزمن هو ، هو .. لا يتغير في مواقيته المعتادة ، ولا في تعاقب فصوله المعروفة .. والمكان أيضا ، هو ، هو .. لا يتحول عن موقعه ، ولا في ما وظف له .. إذا حافظ على شكله ومهمته .. ولكن الذي يتغير هو الانسان .. يتغير حسب مراحل حياته ، أو عبر أجياله المتعاقبة .. ومن هنا تختلف المشاعر ، ووجهات النظر بالنسبة لظروف الزمن ، وبالنسبة لما توحي الامكنة من انطباعات وأحاسيس ، وذكريات ..‏
          إنني عندما عدت الى بلدي سنة 1964 ، وذهبت إلى قريتي بدت لي كل شوارعها ضيقة ، وبساتينها صغيرة ، وجدران منازلها منخفضة تكاد أن تكون أقصر من قامتي، مما بعث في نفسي الرعب ، وتساءلت هل تغيرت .. ثم اكتشفت أن الذي تغير هو أنا ، وليست الأمكنة !‏
          ومنذ ذلك الحين ، بدأت نوبات النسيان تنتابني على فترات متباعدة .. -سألني محمود : هل تذكر ماذا قلت لي أمس ، عندما كنا جالسين في حديقة جامعة دمشق ..؟‏
          -ماذا قلت لك ..؟ إنني لا أذكر ..!‏
          -قلت لي : في هذا المكان ، بدأت قصة حبك الفاشل ، عندما التقيت ب / الفلاّحة / لأول مرة .. وقلت لي : إن ما توحيه إليك ، حديقة جامعة دمشق ، قد لا يخطر ابداً على بال أحد من أبناء الجيل الجديد ..‏
          - لم استرح لكلمة / الفاشل / فقلت لمحمود محتجا: اعتقد أنني لم أقل لك إن حبي كان فاشلا ، لأن الحب عندما يستحوذ على القلب ، ويملأ اعماقه بعواطفه النبيلة الممتعة الى درجة الهيام .. الحب عندما يسيطر على الروح ، ويستولي على الفكر . يكون حباً حقيقياً عظيماً .. ولا يجوز أبداً أن يوصف بالفاشل ..!‏
          -أنت لم تفهمني ،. إن ما أقصده هو أن حبك ذاك لم ينته بالزواج مع من كنت تحب .. أي أن الفاشل هو مشروع الزواج ..‏
          .. واضاف محمود - في شبه اعتذار - هيا .. دعنا من هذه الحساسية المرهفة .. واحك لي قصة حبك مع / الفلاحة / فقد تجد بعض المتعة في سرد الذكريات التي لم يطلها نسيانك ..‏
          وبالفعل احسست برغبة ضاغطة في إعادة ذكريات تلك القصة .. وربما لكي أختبر ذاكرتي الماضية ، إن كانت ماتزال سليمة ..؟‏
          -قلت لمحمود : إن فشل زواج المحب بمن يحب ، يكون أحيانا سببا في طول عمر الحب .. وقد كاد حب / الفلاحة / أن يستعمرني نهائياً .. لولا ثورة أم البنين التي حررتني ، فخرجت منه منتصراً ، مستقلاً..‏
          ومع ذلك ، لابأس من مراجعة شريطه:قصة الحب، بدأت مع أول نظرة -كما يقولون - حيث غمرتني نشوة عارمة ، وارتياح عميق ، وسعادة غامضة بمجرد أن لمحت ذلك الوجه الريفي الفاتن في نظري ، والعادي في نظر الزملاء الذين اسموها / الفلاّحة / استخفافا بذوقي/ .‏
          تعلق قلبي بها .. واصبحت لا أمل من ممارسة ، سرقة التطلعات الخفية نحوها .. وعندما تغيب عن بصري يعذبني الشوق اليها ، ويكفيني أن أراها أمامي .. دون طمع في أي شىء آخر ولو نظرة خاطفة منها .. وقد استمرت تلك الحالة القنوع ، أكثر من سنة ، مع أننا كنا نزاول دراستنا في قسم واحد ..‏
          ولا أذكر بعدها .. متى بدأت تبادلني النظرات ..!؟‏
          في زمن الخمسينات ، وقبل / النكسة / كانت العلاقة بين طلاب وطالبات الجامعة ، لا تتجاوز حدود التحية المحتشمة . أو تبادل بعض الجمل القصيرة والمنتقاة من أجل استعارة كتاب أو استفسار عن محاضرة ..! أما عندما يلتقي طالب بطالبة خارج حرم الجامعة فمن النادر ان يتبادلا حتى النظرات ، ويمران ، وكأن أحدهما لا يعرف الآخر ..!‏
          كانت عظمة شخصية الطالب . تفهم من جديته واجتهاده ، ومن احترامه لغيره وتعففه .. وتبدو في سلوكه الأخوي المستقيم مع كل الزملاء والزميلات .. أما بعض الحالات النادرة ، والمتسمة بالجرأة أو بنوع من الاستهتار من طرف بعض اللامبالين من الجنسين فإنها تثير لدى الأغلبية ردوداً قاسية من الاستهجان ، وتعد خروجاً وقحا عن المألوف ..‏
          -قال محمود : وربما تثير عند بعض المعقدين من / المستقيمين / مشاعر الغيرة والحسد .. فيكون استنكارهم أشد قسوة ..!؟‏
          يظهر انك ابتعدت عن صلب الموضوع .. فلا تنس أننا مع قصة / الفلاحة /.. كيف تم التعارف بينكما ..؟‏
          -واصلت حديثي..!‏
          صدفة.. وبدون تخطيط ، تم التعارف بيننا ، ثم ترعرت صداقتنا بسرعة ..وصرنا نعبر عن مشاعرنا بارتياح كلما التقينا ..وقد ظلت تلك الصداقة / الثقافية/ المتينة تربط بيننا حتى تخرجنا من الجامعة .. وافترقنا بدون حذر ، وكنا ، لا أحد منا يعرف عنوان الآخر ..!؟‏
          في إحدى أمسيات معرض دمشق الدولي ، كنت جالساً في غرفتي افكر في وسيلة تجعل من جناح الجزائر في المعرض أكثر جاذبية في استقطاب الزوار.. وخطرت لي صورة غريبة .. فتساءلت ..لو أننا جندنا بعض طلابنا المكتنزين والخاملين .ووضعناهم في أحد اركان المعرض على شكل جثث مشوهة .. وكتبنا أمامهم : ( هؤلاء مجموعة من اخوانكم ضحايا الغدر الاستعماري ) الا يكون لذلك المنظر ابلغ التأثير في كسب تعاطف الزوار..!؟‏
          وبذلك أيضا نكون قد اتحنا لأولئك المكتنزين فرصةً للاعتزاز بالمشاركة في الثورة .. وتداعت الأفكار وتخيلت اعلام الاستقلال ترفرف وأحسست كأن المكتنزين ، يتقدمون صفوف المحررين والجماهير تهلل لهم ، وتنثر الزهور فوق اكتافهم .. وتوهمت كأن يداً خفية تدفعني من كتفي .. وهاتفاً يهمس في أذني :‏
          دع عنك حي / المزرعة / واركض نحو فضاءات المعرض فإن / الفلاحة / تنتظرك هناك ..!‏
          كنت كاليائس من رؤيتها مرة أخرى .. فارتديت ثيابي على عجل ، واسرعت كالملهوف .. وكانت المعجزة .. لقد وجدتها مع قريبة لها ، تكاد تتخطى عتبة الباب الخارجي ، منصرفة الى منزلها ..‏
          صافحتها بحرارة .. وشوق .. وحييتها ، فردت على تحيتي بطريقتها المحتشمة، المحببة لدي .. وصمتنا لحظة ..‏
          ثم جمعت كل أطراف شجاعتي ، المتعودة على التشتت أمامها .. جمعتها بصعوبة وقلت لها:‏
          بصراحة أود أن أزوركم في منزلكم لأطلب يدك .. فإذا لم يكن لديك مانع ، فارجو أن تحددي لي موعداً ، وتزوديني بعنوانكم ..؟‏
          بينما اطرقت ( هي ) ابتسمت قريبتها وقالت لي :‏
          لقد حدثتنا عنك ..، وهي تكن لك كل التقدير ..!‏
          تملكتني في اللحظة نفسها عدة رغبات .. في الطيران .. في الصراخ ، في تقبيل الناس في الضحك .. في البكاء.. في القفز داخل نهر بردى .. ولم يبق في جعبتي أي كلام ..‏
          قالت / الفلاحة / وهي مطرقة باستحياء ... يمكنك زيارتنا مساء الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم ، والأحسن أن يكون زميلنا (فلان) معك ..فهو جارنا ، ويعرف دارنا..‏
          لم أصدق نفسي .. أنني خطوت كل هذه الخطوة الجبارة الظافرة ..‏
          ودعتهما .. وانصرفت كالمجنون ..‏
          عزيزي محمود .. اسمح لي أن أتوقف عن سرد هذه الحكاية الآن .. بهذا الاسلوب التفصيلي ، إذ ليس في ما تبقى من أحداثها ما يستحق الافاضة أو يوحي بالاستمتاع ، لهذا سأختصر كلامي ، ضمن نقاط محدّدة قد تصلح في المستقبل لأن تشكل عناصر اساسية لكتابة رواية مؤثرة..‏
          -عندما ذهبت إلى منزلها مع الزميل ، رحبوا بنا ، وقابلنا اخوها بوجه متردد ..‏
          -قال لي أن البنت تريدك .. ولكن نحن لانريد لها أن تعيش خارج سورية ، بعيدة عنا .. كفانا تشرداً ..‏
          -قلت له : وأنا لا أريد أن أعيش خارج قريتي ، كفاني غربة ..!‏
          -وقف الأخ ..فوقفت معه ..فطلب مني أن أجلس قليلا ..‏
          واختفى لحظة داخل احدى الغرف ..ثم عاد وقال لي :‏
          - على كل حال ، تفضل ، وزرنا بعد اسبوع في مثل هذا الوقت ..‏
          - توهمت أنني أسمع نشيج بكاء - صافحناه ، وخرجنا ..ولم أعد اليهم حتى اليوم ..‏
          وبعد خمس عشرة سنة - كنت في اسوأ مراحل مرضي النسياني ..وقد كتب ولدي في / مذكراتي / يقول:‏
          اليوم .. أغمي على والدي ، وهو في مكتبه ، بعد أن دخلت عليه سيدة ، معينة للعمل معه كمساعدة ، ولم يفق إلا بعد أن صفعه زميل له بكف ..! فقام وغادر مقر عمله شاحباً!؟‏
          وتقول تلك السيدة التي زارته .. إنها تفاجأت عندما رأت والدي ، وهي متزوجة من استاذ مصري ، وأهلها في سورية : وقد جاءت مع زوجها للعمل هنا .. ولكنها الآن ترفض ذلك ..قالت إن أبي كان زميلاً لها وكان أحياناً يناديها مازحاً باسم الفلاحة / ولكن عهد المزاح قد انتهى .‏
          دمشق 20/7/1995‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          Comment


          • #6
            رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

            (5)- مسألة " الشقة "!
            مر أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن بدأت إقامتي الجديدة بدمشق ،.. كان من المفروض - عندما وصلت المطار - أن أذهب مباشرة داخل سيارة إسعاف الى مستشفى / المواساة / لأن حالتي الذاكرية كانت متدهورة الى حد التوهان ..ولكن صديقي محمود - سامحه الله - أخذني مباشرة الى فندق / الفراديس /..‏
            لقد تصور صديقي ، أن ذاكرتي التي تخلخلت منذ ثلاثين سنة يمكن أن تعود ببساطة الى حيويتها المعهودة بمجرد أن اشرب من ماء / الفيجة /، واتنفس هواء حديقة / السبكي / واتمتع بمشاهدة شموخ / قاسيون / وأصلي في الجامع الأموي ..!‏
            لم يخطر ببال محمود أن مرضي قد يكون معديا ، ويهدد كل من يحتك بي ..أو أنه في منأى عن الشفاء العاجل ..‏
            وعاملني كانني إنسان طبيعي لايستحق الاحتراز منه ..؟‏
            ذاكرتي .. بالفعل - أخذت في التحسن .. وقد أصبحت أتكلم دون / رأرأة / أو تردد .. واقرأ الجريدة العربية أمام الناس بدون خجل ، وافهم مناجاة العشاق ، ولا أكثر من الالتفات المتوجس عندما أسير . واتسكع في الطرقات حتى آخر الليل دون عائق ..‏
            واشترى من / سوق الجمعة / ماأشاء بأبخس الأثمان ، وأقرأ ما أريد ، واكتب ما أريد ، وآكل ما أشتهي .. وحتى التحية صرت استقبلها يومياً بكل طراوة ووضوح .. يقول لي المحيي : صباح النور ..؟‏
            فأرد عليه بكل فصاحة وزهو: ما أطيب قهوة زرزور .. ويضحك السامع إعجاباً بسرعة تلاؤمي ، وبداهتي .. امور كثيرة .. وكثيرة لم أكن أذكر شيئاً عنها، قبل وصولي الى دمشق ، عادت الى ذاكرتي ، وأضحيت أعيشها كواقع جميل ، يهزني سعادة وحبورا .. ولكن هذا لا يعني أنني شفيت تماما ..‏
            فمازلت أعاني من بعض المخلفات المرضية ..ومن بينها .. نسياني لمجموعة كبيرة من أعز الأصدقاء .. ما هي أسماؤهم ..؟‏
            أين هم ..؟ عناوينهم ..؟ لا أذكر شيئاً ..!‏
            كما نسيت أجزاء هامة من خريطة دمشق القديمة،.. لقد بهرني التغيير العمراني وانتشاره المذهل ، فأنساني ما كان قبله .. ووقع لي ما يحدث لأي محدق في عين الشمس ، ثم يدير نظره عنها ، فلا يرى إلا ضباباً مبقعا ، يتراقص كسحب صيفية متلاشية ..!‏
            حاولت في جولة أن استرجع أفياء رياض الغوطتين وسرحت كالفراش ، شمالاً وجنوباً ، وكاد الاسمنت أن يمزق جناحي ، لولا أن عثرت على موقع حدائق / ورد الشام / فحومت بين دفاتها ، مأخوذا بروعة جمالها وسحر بيانها ، ورونق الوانها . فقبلت جبين التاريخ الحي .. وانتعشت ذاكرتي قليلا ..‏
            واهدتني صديقة حكايات عن حنيني / يامال الشام / فعادت بي إلى منابع الاحساس بفتنة الماضي ونشوة الذكريات .. وشعرت كأن وعياً يستيقظ بين ناظري ، وينبثق كالنور .. فتذكرت محموداً إنه لم يزرني منذ أيام..! وادركت أنني أصبته بعدوى مرضي النسياني .. وربما تكون هذه العدوى قد مست بعض أصدقائي الآخرين ايضاً ..؟‏
            ولكن كيف لم تصب عدواي النسيانية ، جاري الذي كرى لي / شقة / في عمارته .. مع أنني أتلاقى معه ، واحادثه ، واعطس في وجهه يومياً ..؟ كيف لم تسر عدوى النسيان اليه ..!؟‏
            مع أنه كان دائما ينسى أن يصلح لي جهاز التلفزة ، وينسى أن يركب لي المدفأة .. وينسى حتى أن يأتي بمسمار لتثبيت مغلاق الباب ..!‏
            لقد نبهني اليوم بترصد ، إن موعد انتهاء الايجار سيحل بعد غد ، وعلي أن أبحث عن شقة أخرى ، لأن هذه تنتظر ارتفاعا صاروخيا في قيمة الكراء تبعا لارتفاع درجات الحرارة في الصيف ..!‏
            يعلم الله أنني كنت ناسيا وضعي كمستأجر ، ويظهر أنني كنت اعتقد بان المنزل الذي اشغله ، منزل منسي ، أو لا صاحب له ..!‏
            ياإلهي .. كم هو مزعج ، تسارع الأيام ، في هذا الزمن البطيء بهمومه .. الثقيل بمشاكله ..‏
            وبدأت بالبحث عن شقة على غير هدى .. انتقل من مكتب عقاري الى آخر .. من / الجسر الأبيض / إلى / البرامكة / إلى حي / اليرموك / إلى برزة/ .. وكانت الشقق الشاغرة كثيرة ..ولكن الاسعار ، نار على نار ، لا يطيقها الا سادة المارك والدولار ..!‏
            - يبدو أن اسم الشقة ، مشتق من الشقاء كالمشقة .. وهذه مجرد شقشقة وردت من ذاكرتي المتشققة ..!‏
            اكتشفت أن سعر كل شىء في دمشق زاد بنسب معقولة منذ الخمسينات حتى اليوم .. الألبان ، الأجبان لحم الخرفان .. البسه الصبيان .. الفواكه والخضر ، وعصير الرمان .. / الريان / كل شيء زاد عن سعره القديم بصورة معقولة ، إلا ليرة الايجار فقد أصبحت تساوي خمسمائة ليرة أو تزيد ، عن ايام زمان وهذا مالم يكن في الحسبان ..!؟‏
            من المؤكد أن الحقائق القاسية تؤذي ذاكرتي فتسبب لها بعض الانتكاسات البهلوانية ، وأنا الآن في حيرة من أمري ..؟ لقد اعجبت ب / ملحق / شاهدته في مرتفعات / المهاجرين / ولكنني لا أذكر المكتب الذي دلني عليه ..!‏
            دخلت مكتبا في / المالكي / وقلت لصاحبه :‏
            أنا مستعد لكراء الملحق الذي اريتني إياه في منطقة / باب مصلى / فتأملني السمسار جيداً ..ثم ابتسم بأدب وقال لي : اله يشفيك ياحجي ..‏
            -سألته : الست انت أبو حسان ، صاحب مكتب / المزرعة /..؟‏
            -أجابني .. لا ياحج .. مع السلامة .. وخرجت غاضبا من مكتبه .. إن ابغض شىء عندي ، هو أن يناديني أحدهم بياحجي أو ياحاج .. خاصة وأنني إلى حد الآن لم أقم بأداء فريضة الحج حتى لو أديتها ، فهل لأحد الحق أن يطلق علي اسمها .. لماذا لايسمى أبو بكر الصديق بالحاج أبو بكر ..؟‏
            ولو نادوا عمراً لضربهم بدرته .. ثم إنني أؤدي كل عام فريضة الصوم ، فلماذا لاينادونني بيا صايم .. ولو نادوني بها لرفضت ..!؟‏
            ماذا كنت اقول .. ذهبت إلى مكاتب / ركن الدين / وانحدرت مع الأرصفة .. كان المسجد بطوابقه الأربعة يعج بالمصلين ، فقطعت صفوف الراكعين ، والساجدين ، والجالسين وتقدمت من الامام ، وهمست في أذنه : سيدي الفاضل هل بإمكانكم أن تعلنوا في خطبة الجمعة ، (ان هناك مسلماً بدون سكن ، يبحث عن شقة جيدة ورخيصة، للايجار) ..‏
            ومن قضى حاجته فله أجر الدنيا المحتوم ، وإجر الآخرة المعلوم‏
            وربت الامام على كتفي ، وقال لي بجدية فصيحة:‏
            وفقك الله يا أخي ، فنحن لانشغل بال المسلمين بالقضايا الجزئية البسيطة .. لقد دخلت المسجد لأداء فريضة الجمعة . ولا أدري كيف نسيت .. وغادرت قبل قيام الصلاة .. أظن أنني نسيت سبب وجودي في الجامع ، وحسبت أن دخولي اليه ، كان فقط من أجل طرح سؤال الشقة على الامام .‏
            في المساء التقيت بصديق مهندس ، فأصر على دعوتي لتناول العشاء معه ، فامتنعت .. وبعد الحاح واصرار امتطينا سيارته الفخمة وانطلقنا ..‏
            جال بخاطري سؤال رهيب : اين أنام الليلة ..؟‏
            وهممت بعرض مشكلتي السكنية على هذا الصديق .. نعم .. سأخبره بمجرد وصولنا إلى المطعم .. وشردت قليلا حيث شعرت بنوع من الذعر ، عندما توقفت السيارة فجأة وسمعت الرفيق يقول لي:‏
            .. لقد وصلنا .. استيقظ ..! فاجبته بعفوية .. أين نحن ..؟‏
            - طبعا .. أمام المطعم .. وبهرتني الأضواء اللامعة، وغمرتني الروائح الشهية ، فجلسنا ، وأكلنا ، وتكلمنا ، وضحكنا ثم تودعنا .. وانصرفت .. ناسيا تماماً مسألة الشقة ...!؟‏
            دمشق 27 / 7/ 1995‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            Comment


            • #7
              رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

              ( 6 )- الذاكرة الآلية -
              أخيراً اكتشفت أنني عبقري .. وأنني قد سبقت عصري بمرحلة كبيرة ، ووجدت في هذا الزمن المتقدم في تأخره ، وكان من المفروض أن أظهر بعد عشرات السنين من هذا الوقت ..!‏
              أما مضمون هذا الاكتشاف ، فهو ببساطة ، كوني خلقت . بعد مرحلة الشباب . نسايا ..! لماذا ..! ذلك . حسب ما يبدو لي . ان قوة الذاكرة .. هي دليل . في بعض توجهاتها . على البدائية ، والتأخر ، وعهود الانحطاط .. وأن الفيل يعتبر من أكثر الحيوانات سذاجة، وانصياعاً ، وطيبة.. لا لشيء.. إلا لذاكرته القوية، كما يقولون ..‏
              في المجتمعات القديمة الأوّلية .. كانت ذاكرة الفرد هي التي تحدد دائرة معارفه . هي آلة تصويره ، وساعته، ودفتره ، ومسجلته ، وحاسوبه ، وسينماؤه، ودليله،وبوصلته، وتيلفونه، وفاكسه ... وسكرتيرته الجميلة الملازمة، كانت الذاكرة هي كل شىء بالنسبة للإنسان القديم، وكانت تشتغل بصفة دائمة ، دون انقطاع ، لذلك كانت قوية ، نشطة ، لا تعرف الخمول، أو التحول ، أو النسيان ..‏
              ومن جراء قوة الذاكرة البدائية تطورت وازدهرت علوم الفلك ، ومواقع النجوم ، ورصد العواصف، والقيافة، وتتبع الأثر، ومعرفة الانساب، والقبائل، ومتابعة الثارات، وتسلسل انتقاماتها، خاصة إذا كانت تمس العرض والشرف ،... وكانت الذاكرة هي العصبة .. وهي التاريخ بكل أفراحه أو مآسيه .. لم يكن الإنسان القديم ينسى حتى الموتى .. وكان يعيش بحاضره المليء بالأحداث ، لتلبية وصايا ماضية المقدس . من أجل تاسيس مستقبله المعلوم..!‏
              وبمجرد أن أخذت حياة الإنسان في التطور ، بفضل تقدم العلوم، وفتوحات التكنولوجيا ، بدأت الذاكرة البشرية تتخلى شيئاً فشيئاً عن مهامها ، لتفسح المجال أمام المخترعات الحديثة ، لتحل محلها ، وتقوم مقامها،.. وقد يأتي يوم ينتهي فيه دور الذاكرة البشرية بصورة شاملة، ويصبح الإنسان / نسايا / بديمومة وإطلاق وساعتها يكون كل مخلوق آدمي ، مزوداً بذاكرة آلية ، مزروعة في مناطق دماغه الحسية، بحيث لا يتذكر تاريخاً أو شكلاً ، أو لوناً ، أو طعماً أو رائحة إلا بواسطة إيحاءات تلك الآلة الذاكرة العجيبة ..!‏
              بالنسبة لي ، ولاعتبار أنني أعيش / نسايا / في عصر غير عصري ، فقد أنقذني الله من حمل الذاكرة الآلية المستقبلية، وعوضني باستخدام ذاكرة أبنائي وأقاربي، وأصدقائي، ومحفظتي الجلدية، وفي هذا خير كبير، ونعمة لا تقدر ..‏
              عندما قلت . أن الذاكرة القوية، دليل على البدائية ، والتأخر .. و.. و.." فأنا بالطبع لا أقصد أن أنفي الخير والسعادة ، أو أمس مظاهر العزة والشهامة والمروءة عند أجيالنا القديمة جداً ، بل بالعكس فإن عهود الذاكرة القوية، مفعمة بملاحم البطولة والكرامة.. بينما قد نجد / مستقبلاً / عهد الذاكرة الآلية، مليئاً بالمذلة والاحتقار .‏
              وبعد.. أرى من الواجب علي، أن أكرر حمدي لله، لأنه جعلني نسايا/ في غير زمني / ولم يجعل لي ذاكرة آلية، خاصة وأنني من مواطني العالم الثالث.. ومن الجزائر بالذات.. ولكي أشرح أسباب هذه / الحمدلة / أقول:‏
              إن الذين يعيشون معي الآن / في زمنهم/ مذبذبون في ذاكرتهم، وفي نسيانهم فهم غالباً ما يتذكرون أشياء كان من المفروض أن تكون منسية لديهم.. وينسون أموراً لا يجوز نسيانها ..!‏
              يتذكرون بسرعة من يتبوّأ منصباً سامياً، ولو كان منسياً عندهم منذ سنين .. وينسون من عاكستهم الحظوظ في الجاه أو في المال ، وان كانوا من قبل يسبحون بحمدهم، ليل نهار ..! ومثل هؤلاء ، تكون في الغالب ذاكرتهم بصرية، لا بصيرية .. يوقظها اللمعان الخاطف، ولو كان حارقاً، ويخمدها منظر الظلال، ولو كانت موئلاّ للعزة والأنفة والشرف ..‏
              فمثلاّ ..هل بالإمكان نسيان الأرض، والشهداء والشعر، وحقد، الصهاينة. ومأساة الشتات .. أي ذاكرة مسلوبة منبهرة هذه ..!؟‏
              ان اغلب الذين بدأت تظهر عليهم أثار الذاكرة الآلية، من سكان العالم الثالث، وبدأت ذاكرتهم البشرية في الضمور والانحلال، هؤلاء الناس مع الأسف ، يمكن اعتبارهم من بين ابشع ضّحايا عصر التيكنولوجيا. ونستطيع عدهم من بين معطوبي الإرادة والشخصية ومعوقي الوعي ..!ولا فرق بينهم، وبين ضحايا العبودية في العصور القديمة ، إلا في المظهر فقط ..!؟‏
              إن الذاكرة الآلية هي من صنع الدول القوية المتفوقة، وهي ( مفبركة ) ، ومكيفة، ومبرمجة بقصد ، لتتلاءم وتتناسب مع مناخ اصحابها، وميولهم، وافكارهم، وسلوكهم، وطموحاتهم الشخصية ..‏
              ونظراً لمواقفنا الانعزالية ضد التوحد والتضامن والتعاون فإننا لا نستطيع . في حالة التمزق هذه أن نصنع أية ذاكرة أو نتمكن من استعمالها .. لذلك .. فالأقوياء المتحدون هم الذين يصنعون لنا ذاكرتنا الآلية ، بما ينسجم مع طاقاتنا المحدودة، وهم الذين يركبونها لنا ، ويكيفونها، ويبرمجونها حسب مايريدون، وكما يحلو، لهم،.. ومن جراء ذلك، فإننا لن نستطيع أن نتذكر إلاّ مايريدون هم منا أن نتذكره ، وننسى كل مايريدون منا نسيانه ..!؟‏
              إنهم- اليوم - يوجهون نحونا أقمارهم الصناعية، ويبيعون لنا / الهوائيات المقعرة/ ويبثون بيننا البرامج التي يختارونها لمقاسنا .. يطبعون الجرائد اليومية والمجلات، ويخصوننا بنسخ خاصة .. الكتب، والألعاب، والألبسة، والرسوم .. حتى المصانع والأسلحة، والأغذية.. كل شىء يبيعونه في أسواقنا، حسب مقاييس محددة، وصلاحيات محسوبة .. تتناسب مع التمهيد / لترويض/ ذاكرتنا الحالية، حتى تكون على استعداد للتلاشي واحلال الذاكرة الآلية محلها ..!‏
              وكم هو رهيب ذلك اليوم الذي تبدأ فيه عمليات تصدير الذاكرات الآلية..‏
              إنه بالفعل سيكون يوم نهاية التاريخ ..!؟‏
              كم أتمنى أن نحافظ على تأخرنا، بحكمة ووعي وان نبعد مواقع ضعفنا الحضاري عن عبث المتطورين ..! وأن نحمي ذاكرتنا البشرية العربية من غزو الذاكرة الأجنبية، وان نتخبط في وحلنا، دون مساعدة أي يد تمد لنا من الضفاف الأخرى للبحر، ثم نمسك بأيدي بعضنا كما يفعل / الرحابة/ أو أصحاب / الدبكة/ ونتقدم خطوة خطوة إلى أن نصل بأنفسنا، ماوصل إليه غيرنا بنفسه ، وبذلك فقط، نستطيع أن نعتمد على ذاكرتنا، حتى ولو جعلناها آلية لأنها ستكون من ابتكارنا وصنعنا وسنكون نحن من يركبها ويكيّفها حسب مقتضى الحال.‏
              احسست بشيء مكهرب، يوضع فوق كتفي الأيمن، فقفزت واقفاً كالملسوع، واستدرت بسرعة فائقة ، وانا أرتعش لأواجه، بلا وعي، هذا الرعب الداهم.. وانطفأت كشعلة عود كبريت، داهمتها نسمة عابرة وهي في عنف توهجها ..!‏
              -عزيزي محمود.. لقد افزعتني كثيراً، وأنت تضع يدك بغتة على كتفي..! كان من الممكن أن تقتلني بمثل هذه الحركة .. أرجوك لاتكرر معي هذه المباغتة مرة أخرى.. إنني مازلت أعيش كابوس الارهاب ..!؟ وعلى كل حال ، الحمد الله على السلامة .‏
              -شكراً .. ومعذرة .. لم يكن قصدي أن ارعبك .. ويبدو أنك قد تحسنت كثيراً ، عما تركتك عليه منذ شهرين..‏
              -نعم .. تحسنت فكرياً، أما نفسيتي فمتدهورة.. ربما بسبب العزلة التي عانيتها منذ سفرك، ومما يضاعف قلقي أنني إلى حد ألان ، لم أجد لنفسي مبرراً مقنعاً عن سبب أختياري المجيء إلى هنا .. إنني متأكد من وجوده.. ولكن متى اتذكره .. متى ..!؟‏
              دمشق 10/8/1995‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              Comment


              • #8
                رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                (8)- لعنة " الدير "!
                كم أتمنى أن أنسى نسياني لأستريح .. ولكن يبدو أن الجرح أعمق من أن يستوعب جرحاً أخر فيه ..!‏
                إنها أكبر من مأساة أن يتمزق هذا القلب (الوحدوي) إلى أشطار ...‏
                شرق .. وشرق.. وغرب، وغرب...‏
                ولا أدري كيف يكون النبض إذن ..؟!‏
                ربما _ من حسن الحظ- أن مساري كان دائماً مستطيلاً في معابره، بلا شمال أو جنوب... ولو كان مربعاً ، لكانت ماساتي أكبر من أكبر ..!‏
                المغرب العربي والمشرق العربي، هما جسدان من جسم واحد ، وقد يبدوان للعين المجردة ، أنهما يدوران في فلك واحد .. لكن من خلال النظرة المجهرية المدققة، يظهر أن كل واحد منهما أخذ يلف حول محور خاص- وقد جرى كل ذلك ، بسبب هذا القلب المشطور ..! فهل يأتي يوم يلتئم فيه البطينان ..؟!‏
                إنني أبحث عن سبب أختياري المجيء إلى دمشق، دون غيرها من العواصم العربية ..؟ ولقد أرهق ذاكرتي المريضة، الصديق محمود .. بهذا السؤال ..‏
                ربما هو حدس تفتق عن إرهاصات دفينة جعلني أحس بقرب معجزة، ستحدث حول ضفاف بردى يحققها قائد عبقري وجئت هنا كي اشاهد المعجزة عندما يلتئم القلب الكبير .. وتندمل الكلوم .‏
                وربما لكي أطمئن تاكدي، من أن لغة " البدو هي أيضاً _ في محافل التقنيات _ بليغة ، وقادرة ، ورائدة وإن إطلاق كلمة ( البدو) من بعضهم هو أدعاء ملغوم.! وافتراء عرقي حاقد ...‏
                وربما لكي أحصر يأسي ، وأخنقه وهو في المهد - وأبرهن لأشباح التشاؤم التي تهافتت أمامي ، أنه ما زال في ديار العرب من يذكرنا بعمر، وعلي، وخالد.. ببيانه وبنائه، يبدع الهيبة والاستقرار، ويزرع البسمة والأمان، ويجني غلال الازهار.‏
                الأمير عبد القادر بن محي الدين ، جاهد مدة سبع عشرة سنة بالسيف، والبندقية والقلم.. وعندما ضاقت حوله الدوائر ، وخانه ذوو القربى، اختار دمشق، ومثله فعل مئات الآلاف من الأحرار... الأنصار ..‏
                لماذا أختار الأمير دمشق بالذات، وهي أبعد العواصم العربية _ تقريباً- عن عاصمته ..؟‏
                -يبدو أن سورية والجزائر- كانتا في الأزل بقعة جغرافية واحدة، بترابها وشبابها، باخلاقها وارزاقها، بطباعها وصراعها.. فحملها الله بيديه الكريمتين ساعة توزيع الحياة، وتوظيف الكائنات- على هذا الكوكب العامر- ثم وضع ما باركته يمناه في المشرق وماباركته يسراه في المغرب، وقال لهما .عز وجل _ كونا شوقا واحداً يتأجج بين قطرين .. دمشق .. الجزائر‏
                وإلاّ .. ما معنى حنين الأمير ..ووجود ما يقرب من سبعمائة ألف مواطن سوري، من جذور جزائرية هم حالياً يتحركون بكرامة وسعادة وكبرياء .. من رأس العين إلى درعا ..؟‏
                كان الأمير يبحث عن الحرية، وقد وجدها في جنبه الأيمن .. سورية.‏
                وربما ما حدث للأمير ، وانصاره ..‏
                هو ماحدث لي بالضبط، مع فارق في مهام الزمن، وفي نوع الحرية التي كنت أبحث عنها طيلة ثلاثين سنة..؟‏
                لقد كان الأمير يبحث عن حرية الوطن .. بينما كنت أبحث عن وطن الحرية، لذلك كان عظيماً خالداً، وصرت أنا متسكعاً شارداً.. مع أننا وجدنا ضالتنا، في مكان واحد.. هو دمشق ..‏
                -لماذا أخترتها ..؟‏
                ربما لأنني فيها، كنت قد أكتشفت ذاتي .. وتعرفت على مسارب جذوري، الضاربة في أعماق التاريخ المجيد..‏
                وربما لأنني بين ربوعها أخذت أول درس في المنطق ، وعلوم النفس، والقيمة الأخلاقية، وعلم الجمال..!‏
                وربما لأنني، فوق مروجها الزكية الندية، زرعت- لأول مرة. وردة للحب، وعندما نمت وازهرت، غادرتها بغتة، وكتبت قصيدة شجية، من ( ربيعي الجريح) !‏
                وفي سورية.. ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، كنت لأول مرة ، أقود مظاهرة، وأعزف على / الكمان / وأذيع .. واكتب في الصحف .. وآكل الكوسا باللبن، واعلم، والعب الشطرنج وامتطي/ ترامواي/ السكة نحو حي الميدان، وادير قرص الهاتف، وأشرب وأطلق الرصاص في العرس ، واشارك في رحلات الجامعة ، وامسياتها الشعرية، وأترأس منظمة للطلاب، وأتدرب على استعمال الرشاش، وأقود دورية، وأشتري ورقة/ يانصيب / خاسرة، وأدخل السجن، وأخطب ، وأنسج طاقية بسنارة واحدة، وأطرز عليها صورة العلم الجزائري بألوانه الثلاثة.. ثم تضيع مني تلك الطاقية، دون أن أضعها فوق راسي . ولو مرة واحدة ..!؟‏
                ربما... وربما لأن ذكرياتي قبل ثلاثين سنة لم تزل كما هي .. ساخنة منتعشة.. واضحة جلية بكل تفاصيلها حتى لكأنني أعيش أحداثها الآن !.‏
                إنني أستطيع أن أطلق على كل صورة منها، كلمة (لا تنسى ). أما بعد ذلك فجل ذكرياتي قد طالها النسيان ..وفي ذلك خسارة لا تعوض، وعمر من المواقف ، ضاع وتلاشى بلا أثر أو إحساس مني .. أو من الآخرين الذين هم نحن ..؟!‏
                ليلة ( لا تنسى ) مرت بي عندما كنت معلماً في مدينة الحسكة ..‏
                كنت عندما تتجمع لديَّ بقايا راتبي، لثلاثة أو أربعة أشهر، اضعها في جيب البنطلون، واتجه مباشرة بالحافلة نحو دمشق ، فيستقبلني الأصدقاء، وطلاب المغرب العربي كما يستقبل الأثرياء الكرماء، وخلال أسبوع من الغيث أكون قد نظفت جيوبي من درن المادة، وأعود سعيداً إلى الجزيرة، وأنا لاأملك سوى أجرة الحافلة ، وطيب الذكريات .‏
                مرة.. كنت عائداً إلى مقر عملي ..فدفعت كالعادة أجرة الحافلة من دمشق إلى الحسكة، ولم يبق في حوزتي أي قرش ..!‏
                انطلقنا صباحاً .. وقبل الغروب، وصلنا محطة الحافلات في مدينة دير الزور .. وإذا بالسائق يعلمنا بأن محول السرعة في حافلته قد تعطل، وأننا مجبرون على قضاء الليلة كلها في المحطة . لمن أراد _ حتى يتم إصلاح العطب، وسنواصل السفر غداً .. إن شاء الله ..!‏
                تعالت بعض الاحتجاجات . ثم استسلم الجميع للأمر الواقع .. وهنا بدأت حكايتي ..‏
                كنت ارتدي بدلة أنيقة مع ربطة عنق،( نسيت الألوان ).. وأحمل محفظة منتفخة، تضم بيجامتي، ولكن من يراها في يدي ، يتخيل أنني محام ثري، يحمل قضايا دسمة ,..!‏
                اشتقت إلى شرب كأس شاي، ومنعتني كرامتي أن اتسوله من صاحب المقهى ، بل امتنعت حتى عن الجلوس فوق أحد المقاعد . خشية من أن يواجهني الجرسون بعرض خدماته، وأرده دون حياء ... إنه حينئذ سيتهمني بالشح ، وهي صفة أمقتها ..‏
                وعندما غابت الشمس قمتُ على غير هدى - وتلوت فاتحة الرحلة ..‏
                وبخطى ثابتة، اقتحمت شوارع المدينة، وكنت أوهم كل من يراني أنني أقصد مكاناً معيناً ومعلوماً، حتى لا أثير أي شك بأنني متشرد، مفلس أجهل مسارب المدينة، ولا أملك غير أنفي.. وساقي المتسارعتين، ومخلفات عائلية من عقدة الحشمة .‏
                قبل انتصاف الليل ، كنت أحياناً أصادف شخصاً ما، في زقاق ما ، يتسلل باستعجال وحذر نحو مقصده، فيرمقني بنظرة إعجاب وغبطة .. كنت أتصوره يقول في نفسه: لا ريب أن هذا الرجل الثري المحظوظ قد وصل الآن من السفر، وهو في طريقه نحو منزل أحد الأغنياء.. إن الطيور على أمثالها تقع..!‏
                كنت أرمق المارة القلائل بنظرة فيها اعتزاز وكبرياء مع تظاهر بقرب الوصول ...! وبسمة طيفية توحي بسعادتي، فيحيونني بأدب . وأرد بإشارة خفيفة، وأنا أحسدهم، لأنهم يعلمون أين هم ذاهبون..؟‏
                لو كنت في مكان آخر، زمن أنهيار الذاكرة لجردت من ثيابي، بسبب محفظتي وربطة العنق ، ولأشبعت ضرباً، ولرميت بين الموت والحياة، خلف أي رصيف ..!؟ وبعد منتصف الليل، كان صدى قدمي، فوق أزقة المدينة الهادئة المقفرة، هو الصوت الوحيد الذي يردد أن هناك إنساناً وحيداً يمشي.!‏
                لم أشعر بالتعب أو بالجوع أو العطش ، ولكنني كنت منزعجاً من طقطقات وقع حذائي على الأرض .. لم أكن أدرك من قبل أنه يصدر ذلك الضجيج الكريه ...!‏
                لقد دنس حرمة السكينة الخاشعة، ولم يكن باستطاعتي أن أسير حافياً، إن ذلك سيفسد مظهري .. وإلا كنت فعلت فللمدينة اسم محفوف بالقداسة .‏
                حوالي الساعة الثالثة صباحاً، وجدت نفسي خارج العمران ..فتراجعت مع قليل من الذعر، وتوغلت داخل أزقة، كنت أحس بأنني أطول من قامات أسوارها ..‏
                كنت أفكر في النائمين .. أليس بينهم أحد يراني الآن في حلمه ، فيغادر فراشه راكضاً، ويقدم لي كأساً من الشاي ..؟‏
                مجموعة كبيرة من سكان دير الزور، هم من أعز أصدقائي .. ولكن لم تكن معي عناوينهم ، واستحيت أن أسأل عنهم .. هكذا .. بلا إخطار ، مع احتمالات الليل ..!‏
                ومشيت .. حتى طلع الفجر علي .. ثم أشرقت الشمس ..‏
                وأحسست بالأرهاق .. فأنطفأت فوق مقعد الحافلة .‏
                وعندما حكيت قصتي هذه ، لأصدقاء من الدير ، ابتسموا .. ولعنوني بأسم كل صديق لي في مدينتهم البريئة: الدير ..!‏
                دمشق 20/11/1995‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                Comment


                • #9
                  رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                  (7)- التشابه ..!
                  من الأمور العادية ، أن ينسى الإنسان حادثة، أو إسماً، أو وصية ، أو أي شىء آخر، كان يذكره ، ثم فجأة يختفي من ذاكرته ، ولا يعود إليها إلا بعد تركيز واعتصار إلى حد الكزاز .. وقد يتلاشى نهائياً، ولا يظهر أبداً ..‏
                  ولكن هل من المعقول أن ينسى الإنسان شيئاً معيّناً ثم ينسى أنه ناسيه ، فيعوضه بشىء آخر، ظاناً أنه هو المطلوب بعينه .. وأن ذاكرته سليمة، ولا غبار عليها ..!؟‏
                  منذ سنين ، كانت زميلتي تتمشى أمامي، فناديتها بصوت مرتفع، جاكيت.. جاكيت ..! وتعجبت كيف لم تدر راسها نحوي .. ألم تسمعني..!؟ وكررت النداء بصوت مرتفع أكثر .‏
                  -جاكيت .. ألا تسمعينني..؟‏
                  التفتت نحوي غاضبة، وهي تقول، ماهذا المزاح الثقيل ..! هل اسم جاكيت عندك أصلح من اسم جانيت ..!‏
                  طبعاَ الجمني الإحراج والحياء، فلم أنبس بكلمة واحدة عفواً يا جانيت .. وكانت أصداء نبراتي الداوية بمفردة / جاكيت / مازالت ترن في أذني كالهاجس الوقح ..!‏
                  ما علاقة اسم جانيت، بهذا الاسم الدخيل، جاكيت؟ ربما لأنها دائماً ترتدي جاكيتاً فضفاضاً فوق تنورتها؟ أو ربما لأن شكل هذه الزميلة، يشبه إلى حد كبير ، شكل الجاكيت. فهي ضامرة، ونحيفة، وخفيفة الحركة، وتبدو وكأنها بدون صدر ..!‏
                  وربما مجرد زلة لسان، سببها تشابه حروف الاسمين .. مثل التطبيع ، والتبطيع والتنطيع والتطويع.. فهذه الكلمات كلها متشابهة في بعض حروفها، ويمكن للإنسان أن يخلط في النطق بها نتيجة النسيان ، وعدم التركيز ..‏
                  وبمناسبة ذكر موضوع تشابه الاسماء بالحروف، أذكر أنني كنت قد سجلت مجموعة من الأخطاء/ المطبعية/ الطريفة، كانت قد وقعت في بعض الصحف الجزائرية اليومية ،.. وكانت مثاراً للكثير من الاغتباط أو الاغتياظ .. وكان سبب حدوثها - في رأيي- يعود إلى سهو/ المصحح / ونسيانه ، نتيجة تشابه الحروف .. وليس لشيء آخر ..!‏
                  وعلماء النفس، يعرفون جيداً أسباب هذه الأخطاء البريئة، ودوافعها العفوية..‏
                  - فمثلاً- نقرأ : / قصر المؤامرات/ .. والمقصود - طبعاً _ قصر المؤتمرات ..‏
                  - ونقرأ: سنفتح الأبواب أمام الاستعمار الخارجي.. وفي الغد .. تعتذر الجريدة، بأن المقصود من كلمة / الاستعمار / هو الاستثمار .. وأنها مجرد غلطة فمعذرة.‏
                  العجيب في الأمر- حسبما أذكر - أننا خلال أعوام الخمسينات، كانت أغلب أخطائنا/ المطبعية/ تنصب نحو مقاصد، ومعان، وأشياء.. كريمة، ومحبوبة، فمثلاً ، نخطىء في كتابة/ الثروة/ فتكون / الثورة/ .. وبدل/ الوخذة/ نكتب / الوحدة/... وقد نسجل كلمة/ التحرير/ بدل التحجر أو التأخير ... كانت أخطاؤنا/ المطبعية/ تعبر ببداهة، عن مطامحنا، ونوايانا، لذلك كانت تنزع - بتلقائية نحو الأفضل والأجمل ... بينما في هذه العهود / الاستسلامية / الرديئة .. تحولت كل أخطائنا إلى كل ماهو نقيض، وسيّئ، وكريه.‏
                  -سمعت مسؤولاً يخطب أمام مجموعة من مسؤولي الشباب في المغرب العربي، فقال لهم : " إنني أرحب بكم أيها / الأشقياء/ في بلدكم هذا .." وكان يقصد: أيها الأشقاء..!‏
                  وكانت مذيعة التيلفزيون، تكرر يومياً، إعلانها عن تقديم حصة للأطفال بعنوان/ العبقري الصغير / فتقول :" والآن إليكم أيها الأطفال حصة العبرقي الصغير "! ولم تنتبه أبداً لتصحيح غلطتها..!وفي إحدى حملات التبرع الخيرية، قال مواطن متبرع ، أمام ميكرفون الإذاعة:" إنني قد تبعّرت في قريتي، وجئت هنا لأتبعّر في العاصمة"..!‏
                  كل هذه الأخطاء لا ريب أن لها علاقة بتشابه الحروف.. كما لها أيضاً علاقة وطيدة بآفة النسيان، حيث ينسى الكاتب أو المتكلم وجهة الصواب، ويقع في الخطأ ، وهو يعتقد أنه لم يحد عن جادة المنطق المقصود.. وتلك هي مشكلتنا في زمن انتشار الأخطاء ..!؟‏
                  بالنسبة لي كمريض أصيل في داء النسيان ، فقد يحق لي أن أحمد الله، على أخطائي النسيانية . نظراً لكونها في الغالب لا تتجاوز حدود الشفهيات البسيطة، وهذا يعود إلى ما يتمتع به مرضى النسيان من براءة، وعفوية، وشهامة.. ومن نزوع مستمر نحو الصراحة ، والحق والخير ..!‏
                  أما تلك الأخطاء النسيانية الأخرى، والبعيدة عن محيطي الأخلاقي، فإنها تستحق كلمة/ أعوذ بالله / .. لأنها تتجاوز حدود القول إلى الفعل، وتتعدى مرحلة البساطة إلى درجة التعقيد،..‏
                  وعوض أن تثير بسمة الرحمة والإشفاق، أو نظرة العتاب الرقيق.. فإنها تكون مصدراً خطيراً لإحداث الكوارث، والآلام، والأحزان ...!؟‏
                  أحدهم يسافر نحو الغرب بذاكرة مشوهة، أو منحرفة.. يحمل معه جهله، وفقره، وحرمانه ، فتلفظه الموانئ في عرض الطريق،.. وتبتسم له فضلات الأرصفة ببعض مافيها من بقايا قوت مسموم.. وركام مكانس.. وشوارد شقراوات.. وتتوالى أيام الهزال، فينسى ذلك المسكين نفسه، وينغمس حتى العنق في أحد أكياس الفضلات .. وينخطف بصره لشدة لمعان الشعر الأصفر، ويتمطط الكيس، ويبدأ، يغرق،.. يغرق فتأكل رطوبة البحر قدميه وتنهش ملوحة العيون الزرق حروف بطاقته الشخصية، فيصبح دون رقم، وبلا صورة أو هوية.. وشيئاً فشيئاً.. يبتلعه جوف الكيس، ويتعفن، وتحمله شاحنة البلدية لترمي به كأي قمامة في مكان منسي سحيق ..!؟‏
                  في الزمن الماضي، كان التشرد خارج الوطن، يتطلب جهداً، وشجاعة، ومعاناة، وتضحية، أما اليوم فقد صار التشرد سلوكاً مجانياً تافهاً حقيراً .. وأحياناً لا يستدعي حتى الرحيل والمغادرة، يكفي المرء أن يتنكر لذاكرته، ويتناسى روح المغامرة ، ويجحد هويته ويعتنق بانبهار تعاليم / البارابول/ الدش، فينسلخ عن جلده..‏
                  اليوم ..ما أكثر المشردين بلا هوية ، في اعالي الجزائر، وشوارع غزة وأريحة.. وأزقة المغرب وتونس.. مااكثر ضحايا النسيان / المستورد/ وما أكثر الذين يقتلون.. ويقتلون نتيجة للأخطاء النسيانية بسبب تشابه الحروف بين الأسماء.. وبسبب تشابك الأشكال واختلاط المفاهيم، وانتشار ظاهرة التعدد في الأذواق السقيمة ..‏
                  اليوم.. تجاوزت أمراض النسيان مرحلة الشفهية.. إلى مراحل الحفر، والهدم ، والتدمير..‏
                  التشرد اليوم اصبح داخل الوطن الأم، والوطن أصبح مزكوماً بالأكياس المتعفنة، والأم أرملة، وكل الذين يسيرون على أقدامهم كالأيتام، مهددون بالتبني من طرف العم : سوبرمان : ليجعل منهم في المستقبل القريب ، مواطنين صالحين، لتأهيل كوكب المريخ .!؟‏
                  دمشق 31/8/1995‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  Comment


                  • #10
                    رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                    (9)- حوار مع قزم ..
                    لم أعد أتعذب.. ذاكرتي القديمة خمدت، انطفأت شعلتها المجنونة، وانسدت خصائص بصيصها .. اصبحت جمجمة مجوفة فارغة، كطاسة لا تحمل شيئاً، ولا يتسرب منها شىء.. ويبدو أن ذاكرة جديدة، بدأت تتبرعم، وتنمو داخل تلافيف دماغي. وإلا.. فما معنى هذه الصور الغريبة التي أخذت تتراقص أمام مخيلتي، وكأنها من بنات ذكرياتي، مع أني لا أشعر نحوها بأية ثقة أو اعتراف أو أطمئنان ...؟!‏
                    أصبحت لا أعرف من أكون .. وفي الوقت ذاته أحس كأنني أنا هو الآخر..‏
                    ورغم أن هذا الآخر مجهول عندي، وغير واضح، فإنني أشعر نحوه بنوع من الطرافة والاعجاب ..!‏
                    صرت أشعر برغبة جامحة في تلاوة التوراة. واهتم باصحاحاته وفصوله.. ولا أعير التفاتاً لمن يقول لي: إنه (مفبرك ):‏
                    -سمعت أحدهم يقول. إن أصل اليهود من منطقة(عسير) بالجزيرة العربية، ولا علاقة لهم بأرض فلسطين، وهذا فتح في التاريخ !‏
                    -وقال آخر : من منطقة عسير، هذا ( صعب ) ..؟‏
                    -وقال آخر: إنهم بلا أصل .. وقد أخذوا فلسطين ، وهم الآن فيها ، ولسنا مخولين لنبحث لهم عن مكان آخر للاستيطان ..!‏
                    كنت أستمع إلى هذا الحديث، وأنا أحفر في ذاكرتي المنهارة، وأتساءل : من أكون ..؟ لقد نسيت هويتي ..!‏
                    ولدي يؤكد لي بانني عربي مسلم، ولكنني أشك في ذلك ! الشيء الوحيد الذي أصبح لا يفارق بالي، هو عشقي المدله في الوحدة الأوربية ..!؟-والافريقية .. والمتوسطية والأوسطية .. هذه الكلمات أصبح لمعانيها رنين جذاب، له فعل السحر في تذوقي .. أما كلمة الوحدة العربية ، فقد كدت أنساها ، لم يعد ذكرها متداولاً، وقد امسى نطقي بها يسبب لي الحرج والخجل، إنني أخشى أن أهمس بها فيتهمني ( التقدميون) من أبناء وطني بالرجعية والتأخر .. جلّ أهتمامي تركز حول مسارات ومساعي تحقيق الوحدة الأوربية، وكلما بلغني خبر عن اقترابها من هدفها المنشود هزتني نشوة السعادة، والاعتزاز .‏
                    حتى كوارث وطني لم تعد تشغلني كثيراً، وانساها بمجرد سماع أنبائها ، إنني بكل مالدي من عواطف جياشة أعيش خارج حدود وطني ..! كمتشرد بلا حدود ...!؟‏
                    أنا هو الآخر في غرامي، وأنبهاري، وتشبثي بأذياله.. والأخر هو أنا بكل ذلي، ومسكنتي، وأحباطي، وأحس كأن (الأنت ) يقول في أعماقي: الأخر هو الآخر، وأنت (أنا ) لاشيء.. ولكنني لا أصدق ..!‏
                    وقفت صدفة أمام مرآة مستطيلة في منزلي، فتفاجأت بشكل ولون الصورة البشرية التي تواجهني.. صرخت بأعلى صوتي، من أنت أيها الرجل الغريب ..؟ ماذا تفعل في داري ..؟ ورفعت يدي ، ففعل مثلي ..‏
                    صرخت مرة ثانية.. ماذا تريد يا رجل ..!؟ فركض ولدي نحوي، وهو يقول لي: أهدأ .. أهدأ .. ياأبي .. لا يوجد في دارنا أي رجل ..! وصاحت زوجتي وهي قادمة: استحي ياولد..‏
                    أليس أبوك رجلاً .. واقتربت مني. وأشارت إلى الصورة في المرآة ، وهي تقول برقة تهكمية: هذا أنت يازوجي العزيز .. أنت رجل الدار، ولا أحد غيرك . وهذه صورتك منعكسة على قلوبنا .. وداخل مقلنا .. (القرد في عين أمه غزال ).‏
                    تأملت الوجه المنعكس، واحسست بموجة من الغثيان تداهمني " هل هذه صورتي .. أعوذ بالله ..! وسألت : هل أنا أسمر، وبشع إلى هذه الدرجة ..".‏
                    -قالت زوجتي: إنك تبدو في عيوننا أجمل من كل الرجال.. قلت : ألم أكن أبيض البشرة كالثلج، وشعري أشقر، وعيني كلون البحر الأبيض المتوسط ..!؟‏
                    -قالت: لم تكن أبداً أشقر يا محمد .. إنك نسخة من أبيك عبد الله، ولكن يبدو أن نسيانك قد أنساك حتى نفسك، وأصلك :‏
                    -قلت : لم أنس اصلي الأبيض المتوسطي، فأنا مثل الطليان والأسبان والفرنسيين، كلنا من شاطئ دائري واحد‏
                    -قالت: لماذا لاتقول انك مثل المصريين، والسوريين واللبنانيين الذين تنحدر من سلالاتهم القديمة، وكلنا من شاطئ واحد..؟‏
                    -قلت : لا تنسي بأن مرض ذاكرتي قد خلق لي شخصية جديدة، وانساني كل قديم.. إنني الآن ابن يومي وغدي القريب أما أمسي، وغدي البعيدين، فلا طاقة لي على تصورهما.. وإن القصور الذي تعاني منه ذاكرتي الزمنية، هو نفسه القصور الذي تعاني منه ذاكرتي المكانية، لهذا، فالبلد الأقرب لي مسافة ، هو الأقرب إلى قلبي .. ومالطا ، أقرب لي من لبنان ..‏
                    -قالت: يظهر أن ذاكرتك القلبية أتعس من ذاكرتك المكانية، وأنك بالفعل مريض، ولكن لا تستحق الشفقة ..وإلاّ فلماذا كل العاقلين في مختلف الأزمنة والأمكنة ، يعتزون بشساعة أراضيهم واتساع مجالات تحركهم القومي ، وبعد مسافات ممتلكات أجدادهم، وعظمةالانتشار المكاني لأمتهم.. وأنت في عصر المواصلات السريعة، تبحث وتفكر في البقعة الأصغر والأقرب. .!؟ لماذا تتنازل عن عملقتك العربية يازوجي الحبيب أبحث عنها في نفسك تجدها ..!‏
                    -قلت بمرارة غريبة : هل يستطيع قزم مثلي، أن يكتشف في نفسه، وجود عملاق..؟‏
                    إن ذاكرتي في الواقع، ليست معدومة، وإنما هي مريضة فقط، ومنحرفة بعض الشيء .. إنني أحياناً أنسى أموراً كثيرة، مثل هويتي، ولغتي، وثقافتي، وحجمي، ولوني، وماضي ومستقبلي البعيدين، وأنساك حتى أنت ، وأبناءك .. ولكنني أحياناً اخرى لا أنسى، وإنما أتذكر الأشياء وهي في حالة تشوه وتشويش .. أنها تلوح لي صغيرة، هزيلة متداعية ..ومن خلالها أتصور أوضاعنا، وأحياناً تواجه ذاكرتي وتحتلها، وهي أكبر، وأقوى وأعظم من حجمها الطبيعي حالة أجنبية ..!؟‏
                    -قالت زوجتي : إنني على علم بالفوضى الضاربة في أطناب ذاكرتك منذ أكثر من ثلاثين سنة.. وهي فوضى عامة في هذه الأيام الكسيحة، ولقد أصيب بها الكثير من / النجوميين / الذين كنا نعتقد أن عقولهم لن تقع أبداً في مطبات الانتكاس..!‏
                    إنني أذكرك يا زوجي المريض ..بأيام تشرين 1973م. الم تكن تقسم أمامنا بان اسرائيل ( غولة ) عملاقة، ولن يستطيع أحد مغالبتها .. ثم لما قهرها العرب في سورية ومصر قلت لنا - باسماً- ليس هناك رأي ثابت في مفهوم العملقة، وإنما الذاكرة القزمة ، هي الوحيدة التي تعملق الأقزام..! أتذكر ذلك ..!؟‏
                    -قلت : ربما أكون قد قلت ذلك ..!‏
                    قالت: ذكرت أنك ميال إلى الشواطئ الأبيضية القريبة والمقابلة.. وهزك الحنين إلى مالطا أكثر من لبنان..! هل نسيت بأنك قد أخبرتنا أكثر من مرة، بميولك العاطفية نحو أمريكا، وكندا، واليابان ..! هل هذه الدول النائية قريبة منك مثل مكة، ودمشق، وبغداد والقاهرة ..!؟ ألم تحاول أن تتذكر بان أجدادك جاءوا إلى هنا من أحضان الجزيرة العربية ، على ظهور الخيل والجمال، وعلى الأقدام، حيث رسموا على الأرض، خريطة هذا الوطن العربي الكبير، وأنت اليوم تفكر في رسم خريطة طفيلية جديدة على الماء ..!؟‏
                    الا تستطيع يا رجل دارنا، أن تتخلص من تقزمك هذا وتعود إلى طبيعتك الإنسانية..!؟‏
                    كنت اتحاور مع زوجتي، وأسترق النظرة إلى المرآة بين الفينة والأخرى ، وفجأة أحسست بغشاوة من الكلل المضني، تشد صدغي بقبضة حديدية وتتحول إلى صداع ضاغط، يكتسح جفوني فيثقلها، ثم يجعدها ويشرعها كعيني محتضر. ولم أعد أعي من كلام زوجتي شيئاً.. بحلقت في المرآة، وركزت نظري.. كنت كمن يعيش حلماً غريباً، أرى امرأة أمامي تتحرك شفتاها ويداها وتتسع عيناها إلى حد رهيب.. وتتضخم وتبتعد.. وتتضخم وتبتعد، بينما يقف إلى جانبها رجل قزم، اسمر.. أخذ يصغر، ويقترب مني، ويصغر ويقترب مني، إلى أن صار في حجم الفأر.. ثم فتح شدقيه، وهجم نحوي ، وابتلعني..‏
                    -قال ولدي الذي سجل هذه المذكرات: إنني جمعت أصابعي المتشنجة، في قبضة عملاقة. وهويت بها على المرآة ، فتطايرت شظاياها مع قطرات من دمي، وكنت أصرخ: لا.. لا.. لا.. ؟‏
                    دمشق25/ 12/ 1995‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    Comment


                    • #11
                      رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                      (10)- يومية مرعوب
                      أين ابنائي الآن..؟ وفي أي مكان يوجد كل واحد منهم...!. لقد تأخروا كثيراً عن موعد رجوعهم إلى/ الشاليه / ! لابد لي من شق أدغال الغابة للبحث عنهم.. إن غابات جبل/ الشريعة/(1). رغم روعتها- خطيرة وصعبة. إنها مليئة بالكلاب المتوحشة، والذئاب المسعورة، والخنازير البرية الشرسة .. إذن سأحمل معي سكين المطبخ.. وانطلق قبل أن يحين موعد الغروب..!‏
                      وبعد ساعة من المشي الحثيث أصعد جبلاً، وانزل آخر، بين أشجار الصنوبر والأرز.. وجدت نفسي داخل منطقة منخفضة كثيفة الأعشاب والنباتات الشوكية المتعرجة، سامقة الأشجار الضخمة، تنحدر المياه بين جنباتها كشلالات صغيرة، وتملأ فضاءاتها الطيور، والغربان والبوم والعصافير، بمختلف الأصوات المتباينة.‏
                      كان الوقت عصراً.. ولكن الظلال المتراكمة، جعلتني أتصور كأنني في قلب الليل، وكانت هواجس الخوف، تنتابني بين الفينة والأخرى.‏
                      سمعت أنيناً رقيقاً متقطعاً ، كأنه آت من مكان بعيد، وأحسست بأن الأنين يصدر من قلبي، فلمست جانبي الأيسر بكفي، وتألمت.. تحول الأنين إلى صراخ حاد ، ينطلق من حنجرة امرأة يائسة تطلب النجدة.‏
                      ركضت أماماً، ويميناً، وشمالاً.. صعدت اكمة ورأيت الفاجعة..‏
                      .. كانت فتاة في مقتبل العمر..منفوشة الشعر، رائعة الجمال، شاردة الملامح، فاتنة القوام، ممزقة الثياب، بيضاء البشرة، حافية القدمين،..‏
                      كانت تستند بظهرها على جذع شجرة عملاقة. وتلوح في حركات عشوئية بيديها وساقيها. وهي تصرخ، وحولها مجموعة من الذئاب المفترسة تهر مكشرة عن إنيابها، تتحفز لنهشها، وكانت إحدى ساقيها مخضّبة بالدماء...‏
                      هجمت كالليث الغضوب على الذئاب، فمزقتها إرباً، إرباً.. كنت أحسها بين قبضتي كالخراف الواهية.. اتلقفها بسرعة سحرية واضرب بها الأرض، وجذوع الأشجار، فتتحطم رؤوسها وأضلاعها فتعض ألسنتها الطويلة وتفارق الحياة، وتظل عيونها البشعة مفتوحة، كنت اعجب من نفسي كيف جاءتني كل تلك القوة الخارقة!؟‏
                      أسندت ذراع الفتاة على كتفي، وأجلستها تحت جذع شجرة بعيدة عن مكان المعركة..‏
                      -قالت لي: لقد أنقذت حياتي أيها البطل، وإنني منذ الآن أمة لك، وطوع إرادتك. وحياتي ملك يديك..‏
                      -قلت لها.. لايهمك الأمر .. لنعالج ساقك قبل كل شىء.‏
                      -قالت: إنها مجرد خدوش سطحية بسيطة.. وبصقت في كفها ومررتها فوق ساقها، ثم حسرت ثوبها، ومسحتها به فلمحت استدارة فخذها، كفلق من نور ناعم، وتحركت داخلي نوازع رغبة جامحة في احتضانها. وتقبيلها..! تذكرت زوجتي.. ثم أبنائي، فسألتها : ألم تشاهدي مجموعة من الشباب في هذه الناحية من الغابة..؟ وعاودني القلق عليهم.. قالت: لا.. وإذا بصوت كالرعد يزمجر خلفي: ابتعد.. عنها أيها الوغد..!‏
                      وقفت مجفلاٍ.. والتفت خلفي ، وإذا بي أرى رجالاً ثلاثة، ملثمين، كأنهم أموات أحياء.. يرتدون أكفاناً ناصعة البياض، وبيد كل واحد منهم خنجر يعلوه الصدأ.. قلت لهم كاذباً، وأنا أرتعد من الرعب: إنها زوجتي.. وأنتم ما دخلكم..؟‏
                      -قالت هي، في شبه توسل: نعم.. إنه زوجي.. فاتركونا بسلام من فضلكم ..!‏
                      -قهقه احدهم، وقال : يالكما من فاسقين.. إننا نعرفكما جيداً وسترون عقوبة فعلتكما الشنعاء..‏
                      -أقسم بالله أننا لم نفعل منكراً..قلت.. قال آخر: أخرس.‏
                      اقترب أحدهم من الفتاة، فطوقها بذراعيه حتى لاتهرب، كما بدا لي.. بينما قام إثنان بتقييدي من يدي ورجلي وربطاني إلى جذع شجرة.‏
                      كانت الفتاة تقاوم بشجاعة، وتدافع للتخلص من قبضتي الرجل، وكانت تحتج وتصرخ بأعلى صوتها..‏
                      وكنت في أشد حالات الرعب والغضب والهيجان، وقد استطعت أن أسدد أكثر من رفسة لهما، إلا أنهما كانا أقوى مني، فتمكنا من شد وثاقي..‏
                      شعرت بأن صراخ الفتاة، تحول إلى أنين متحشرج مكتوم.. فرميت بنظرة شاردة نحوها.. وإذ بي أرى ذلك النذل الذي كان يطوقها بذراعيه.. يقوم بأغتصابها ويبدو أن المسكينة كانت غائبة عن الوعي. حيث كانت ساكنة كالأموات، لاتظهر عليها أية حركة.‏
                      دب الوهن في أطرافي، ثم أحسست بموجة من اللهب تجتاح كياني..‏
                      صرخت..: دعها أيها الكلب.. ضحك الأثنان مني بأستهزاء.. حاولت تمزيق القيود، بلعت ريقي بصعوبة، لم أتحمل مواصلة النظر إلى ذلك المنظر المقزز.. البشع.. أدرت راسي، وأغمضت عينيّ..تخيلت أنني في حلم مزعج ..سمعت أحدهم يقول للآخر هيا..لقد جاء دورك الآن.. وبعد برهة، جاءت الدعوة للثالث ليقوم بنفس الفعلة الشنعاء. فتحت عيني فرأيته يرتمي فوقها كالوحش.. كانت الفتاة تبدو وكأنها ميتة.. اكتسحني تيار عنيف من الهيستيريا.. تشنجت، صرخت: أيها المجرمون.. الأنذال.. أتركوها، لقد فقدت الحياة.. حرام.. حرام.. ! وأغمضت عيني، وأنا أرتعد..‏
                      عاودني الإحساس بأنني أعيش حلماً مرعباً.. لم أصدق أنني مستيقظ.. تذكرت شقيقتي.. لقد كانت مريضة تشكو من آلام الروماتيزم يوم تركتها في زيارتي الأخيرة لها .. ثم تذكرت زوجتي.. توهمت أن هذه الضحية المغتصبة هي زوجتي نفسها، احسست بشواظ من نار ، يندفع من عمق امعائي إلى حنجرتي.. وكان كل شىء حولي ظلام في ظلام..!‏
                      ربما أصابتني إغفاءة كالأغماء..فانتبهت أنني أسمع شخيراً قوياً متواصلاً، وضربات أقدام تحفر الأرض..!‏
                      حملقت بعيني في اتجاه الفتاة الضحية.. ويالهول ما رأيت..!؟‏
                      كانت على بعد خطوات مني ، تتخبط داخل بركة من الدماء الفائرة، وهي بلا رأس.. وكان إلى جانبها احدهم، وهو يحمل بيمناه خنجراً نازفاً بقطرات حمراء.. وبيسراه جدائل من الشعر الكثيف القاني، يتدلى منه وجه مضمخ مشوه.. وكان الثلاثة ينظرون نحوي والشر يتطاير منهم..‏
                      أوقفت تنفسي.. ضغطت عضلاتي عصرت نفسي.. انتفخت كالفيل، تحولت إلى عملاق جبار.. نهضت بعنف ، قلعت الشجرة من جذورها، مزقت قيودي، وهجمت نحوهم..‏
                      سفاحون قتلة.. سفاحون قتلة ..‏
                      فتحت ذراعي لألتقطهم مرة واحدة.. وأرمي بهم خارج هذا الكون.. ولكن..‏
                      قبل أن المسهم، أفقت.. أبصرت زوجتي تقف أمامي فوق السرير، ملتصقة بي، ترتجف مثلي، تحضنني وهي تردد بصوت مضطرب: بسم الله .. بسم الله .. بسم الله.. استيقظ.. لاباس عليك.. لقد كان كابوساً مزعجاً.. بسم الله الرحمن الرحيم..!؟‏
                      كانت أضواء الفجر، قد أخذت في التسرب بين خصائص نافذة غرفة النوم.. اتجهت نحو الحمام، وذهبت زوجتي لتعد لي كأساً من الشاي، كانت الدموع تبلل جفني.. وكنت أردد في سري: ياله من حلم عجيب.. إن مشاهد الوحشية المؤلمة. لن تزول عن ذاكرتي أبداً. إنه أمر لا يصدق..!؟‏
                      قالت لي أم البنين، وهي تناولني كأس الشاي مبتسمة: خير إن شاء الله.. إحك لي ما رأيت.. لقد كان حلماً مزعجاً ..‏
                      رويت لها بالتفاصيل ما شاهدته وأنا نائم، فاصفر وجهها، وشردت قليلاً .. ثم أعادت كلمة : خير إن شاء الله.. ورفعت وجهها نحو السماء وقالت : لطفك بنا يارب..‏
                      ***‏
                      عندما أشرقت الشمس، قام أبنائي، فتناولوا فطورهم وارتدوا ثيابهم، وهموا كعادتهم بالخروج،..‏
                      فاعترضت طريقهم وأمرتهم بعدم مغادرة المنزل خلال هذا اليوم، لأسباب هامة..! والواقع ان ذلك الحلم البشع، هو الذي زادني تشاؤما على تشاؤمي.. فاطاعوني، ورجع كل واحد إلى غرفته.. وقررت بدوري أن لا اذهب إلى عملي.. وما فائدة الذهاب، ونحن منذ سنوات لاننتج أو نستهلك غير حكايات القتل والغدر، والانفجارات والدمار ..!؟.. كل العقلاء في هذه الأيام ، أصبحوا لايغادرون منازلهم إلا مضطرين، وتحت حراسة الأهل ورغم ذلك كل فرد ينتظر بقلق ورعب، متى يحين دوره، وتنزل الكارثة على راسه..!؟‏
                      بعد ساعة.. قمت بدورية مراقبة، اتفقد غرف الأولاد.. وأرى ما يفعلون..؟ وجدت الصغيرين داخل غرفتيهما يطالعان.. أما الكبيران، فلم أعثر لهما على أثر.. ورفعت صوتي منادياً بأسميهما، ولكن دون إجابة.. صاح الولد الصغير من غرفته: لقد ذهبا إلى المدينة... قالا إن لديهما عملاً مستعجلاً.. لاتقلق ياابي..!‏
                      - لاتقلق ياابي .. كلام فارغ، كلام صبي ساذج..! كيف لا أقلق، ومنذ يومين انفجرت سيارة ملغمة، فأودت بحياة كل من كان في الشارع..عشرات.. وبالأمس فقط وقع أشتباك بالرشاشات داخل أحد الأحياء.. فقتل من قتل وجرح من جرح..! أي مدينة هذه التي صارت، لا تنام، ولا تستيقظ إلا على دوي الرصاص، وصرخات الفزع، وأخبار الموت والدمار...!؟‏
                      أين ذهب الولدان يا ترى..؟ اللهم سترك وحفظك يارب..‏
                      سمعت زوجتي تأمر أحد الصغيرين بالذهاب لشراء الخبز..فقلت لها: دعيهم يقرآن.. سأذهب أنا..‏
                      -قالت لي: كم أنت عنيد.. لماذا لا تعمل بنصائح الأصدقاء، ولا تستمع لكلامي.. لقد قلنا لك أكثر من مرة بأن تقلل من خروجك.. ألا تعلم بأنك مستهدف للخطر، ككل الصحفيين، ألا تعطي قيمة لحياتك.. أو حياتنا على الأقل..؟‏
                      لقد صممت على الخروج، خاصة بعد ان تدخلت هي في الموضوع،لقد صار تصميمي اشد.. وارتديت الثياب، وخرجت.. ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ومع ذلك كنت أتوجس خيفة من أي بشري أراه قادماً أو ذاهباً أمامي، والتفت بحذر وذعر، إلى أية خطوة أحس بوقعها خلفي.. والتصق بحائط الرصيف كلما مرت بي سيارة صغيرة.. من يدري.. فقد يهطل علي من إحدى نوافذها، وابل من الرصاص..! وذلك الذي يخطو أمامي ! لماذا وضع يده في جيبه..؟ لعله يتلمس مسدسه، أستعداداً لإفراغه في رأسي .. إنني بالفعل أشعر كأن مسماراً من الصداع، يثقب جمجمتي.. لاريب أن ذلك من تأثير حلم البارحة .. زوجتي معها الحق. كان من الأحسن أن لا أغادر المنزل..! ولكن .. هراء.. كل هذه التخيلات إنها مجرد وساوس لا معنى لها..؟ لو كان هناك من يريد قتلي، لنالني حتى وأنا في عقر داري، ألم يحدث ذلك من قبل، لقد تحصنوا خلف أبواب الحديد، فأذابوها، ودخلوا عليهم، وذبحوهم..! ومع ذلك يبقى الحذر والاحتياط لابد منهما.. لماذا خرجت في مثل هذا الجو المشحون بالرعب..!؟‏
                      لم تكن المخبزة بعيدة عن منزلي، كانت تقع داخل سوق الحي الذي أقطنه.. ووقفت في آخر الطابور المستطيل أمام بابها، شغلت نفسي بإحصاء الزبائن الذين أمامي، فوجدتهم اثنين وعشرين نسمة، أو عاصفة..! جلت بطرفي في رحاب السوق المستدير، كان مزدحماًبحاملي السلال، كأن الناس يستعدون لاستقبال العيد غداً..‏
                      جاء شاب، ووقف خلفي ضمن الطابور، انزعجت منه.. تلفت ودققت النظر في وجهه حتى أحرجته فأسدل جفونه.. يبدو أنه شاب طيب وخجول..‏
                      بدأ الطابور الذي أمامي يتناقص تدريجياً، بينما يزداد طوله خلفي.خرج شيخ من المخبزة يحمل عشرين خبزة ، وقع منها رغيف على الأرض، فانحنيت لأعيده إلى يديه. وهنا _ وفجأة هزنا جميعاً، دوي أنفجار هائل آت من بعيد.. إلا أننا أحسسنا بأن الأرض تحركت تحت أقدامنا، فارتعدت الفرائص، وأشرأبت الأعناق، ثم دبت البلبلة والفوضى بين الناس فأخذوا يتراكضون عائدين إلى منازلهم، في مختلف الاتجاهات..!‏
                      تساءلت بصوت مسموع: اين يكون ولداي الآن..؟ لطفك يارب..‏
                      وعدت مستعجلاً إلى منزلي وكانت خبزة الشيخ مازالت في يدي..!؟‏
                      وجدت أم الأولاد مع صغيريها أمام الباب الخارجي، وهم في أشد حالات الهلع والاضطراب.. سألتني بلهفة، ماذا حدث.. أين وقع الانفجار؟ فأجبتها: الله أعلم.. ودفعتهم.. ودخلنا..!‏
                      لم يعد في فمي ريق.. كنت أبتلع الهواء الجاف، فيحدث قرقعة في حلقي، ويتوقف . كانت تحبسه مرارة كالحنظل تتصاعد من معدتي.. وفي كل حالة بلع كنت أشهق .. طلبت كأس ماء.. كان المغص المتناوب يطحن أمعائي..ووخزت باردة كالثلج تدغدغ قدمي، فلم أتمكن من إيقافها.. ولم أقو على مواصلة الوقوف. جلست .. ولم أستطع صبراً على الجلوس فوقفت.‏
                      اتجهت نحو الباب الخارجي..وغصت في دوامة انتظار الولدين، وتسمرت مقلتاي في آخر الشارع الذي يقدمان منه..؟‏
                      كانت الساعة تقترب من الواحدة زوالاً.. وكان فصل شتاء ، والجو قارس البرودة، والسماء ملبدة بالغيوم، كأنها تريد أن تمطر..وكانت الرعشة ما زالت متحكمة في مفاصلي، متشبثة بارجوحتها في ساقي، وجبهتي تتصبب عرقاً ندياً.. وتفور كالجحيم.‏
                      اقبلت زوجتي.. وترجتني أن أدخل فأفرغت بعض ما أكظم من غيظ عليها، وشتمتها، وكدت أضربها لولا انها أنصرفت بسرعة..‏
                      كانت كل الاحتمالات والصور الكريهة البشعة تتراقص كالأشباح أمام رؤى خواطري.. تخيلت الولدين قرب مكان الانفجار.. قبل .. وبعد حدوثه..! فكرت في سيارات الاسعاف، والمستشفيات، واهمال الممرضات..!وحالات. وأشكال الضحايا..! تصورت مناظر الموتى.. أخذت الدموع تنهمر من عيني.. كانت ركبتاي ترتعشان أفقياً.. وصرت من زحمة البكاء اهتز عمودياً.. بدأ الشارع يلف ويدور حولي، واجتاحتني نوبة غثيان.. فانحنيت لأتقيأ أو أقع على الأرض .. لولا ولدي الصغير، الذي جذبني من الخلف وهو يبتسم، ويقول لي بابا.. بابا.. لقد تلفن أخي، وهما بخير، وفي طريقهما إلى الدار..!‏
                      -لك الحمد يارب. وواصلت البكاء الصامت.. ولكن بكيفية غريبة،ولأسباب غامضة.. لقد كنت في أشد الحاجة إلى أن أضحك وأنا أبكي!‏
                      بعد وقت قصير، وصل الشابان يمرحان ويضحكان، وكأنهما قادمان من كوكب آخر لا علاقة له بعالمنا المتدهور.. لعنتهما، وعانقتهما وشتمتهما بأقذع السباب.. وعندما أحتجت أمهما شتمتها هي أيضاً.. مرة أخرى .. ثم قبلتها من خدها .. وظل الأولاد يضحكون. غمرتني سعادة لا توصف.. كنت أشبه بذلك البريء الذي حكم عليه ظلماً.بالإعدام.. وقبل تنفيذ الحكم بدقائق، عانقته البراءة بوجهها المشرق الجميل.‏
                      ولم تدم الفرحة.. فعلى الساعة الرابعة مساء جاءني معاوني في مكتبي بالإدارة، شاحب الوجه، متوتر الأعصاب وأخبرني بعد تردد_أنه تلقى مكالمة هاتفية - منذ ساعة - في مكتبي، من طرف سيدة مجهولة، تقول إنها صديقة قديمة لي، وأكدت عليه ضرورة تبليغي اليوم بأنني ضمن قائمة الذي سيصفون جسدياً أخر هذا الشهر،... وتقترح. حفاظاً على سلامتي. ان أغادر الوطن في أقرب وقت ممكن.‏
                      كانت زوجتي والأولاد حاضرين عندما تلقيت الخبر. فلمحتُ علامات الحيرة بادية على الجميع.. إلا أنني شخصياً. لم أتاثر كثيراً بالموضوع.. قلت لهم، إنها مجرد مزحة ثقلية.. أو مؤامرة من حاقد يسعى إلى تشريدي.. ثم.. لماذا يقتلونني.. إنني من مجاهدي الجزائر، ومن المدافعين عن العروبة والاسلام، وليس بيني وبين السلطة أي صراع، وقد أمضيت عمري كله وأنا أكتب من أجل نصرة العدل والحق، وتثبيت المبادئ السامية والقيم، وحب الوطن، والارتفاع بمستوى الشعب..‏
                      -قال ولدي الأكبر، من أجل هذه الأفكار، هذه الأعمال سيقتلونك.. لا تتهاون ياأبي فالأمر جاد. وخطير..!‏
                      - قالت زوجتي، يجب أن تغادر البلاد حالاً..‏
                      وأمضينا بقية اليوم والليل في جو كله ذعر، ورعب. وحزن وأسى... وحملتني الطائرة خارج حدود المتوقع.. وبعد.. أين أولادي الآن؟. وفي أي مكان يقف كل واحد منهم..؟ وهل عادوا إلى المنزل قبل الغروب؟. الحقيقية. أن مأساتي في الغربة أعمق. ويومية الرعب لم تنته بعد.‏
                      (1) الشريعة، اسم لمصيف جميل يقع قرب مدينة البليدة.‏
                      دمشق 28/9/1995‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      Comment


                      • #12
                        رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                        (11)- يوم .. وليلة...؟
                        كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف. عندما بدأت تناول فطور الصباح،.. وكان ابن أخي، يجلس مقابلا لي، يدخن سجارته بلهفة، ويحتسي بين الحين والآخر، رشفة قهوة من فنجانه الصغير..‏
                        -قلت له: تعال.. جرّب، تناول معي قليلاً من الطعام، إن الأكل في الصباح، مفيد جداً..!‏
                        -أجابني- باسماً- لا. -شكراً ياعمي- انت تعرف أنني لاأستطيع الأكل صباحاً- ككل جزائري-يكفي فنجان قهوة فقط ، كي استيقظ جيداً.. وبصراحة. فإنني احسّ بالغثيان. عندما أرى أحداً يبتلع طعاماً وقت الصباح..! باستثنائك أنت طبعاً، فقد تعودنا عليك..‏
                        -قلت له: على كل حال- من المؤكد ، أن بقاء المعدة خاوية حتى موعد الغداء. مضر بالصحة، وهي عادة سيئة. تضاف إلى بقية المصائب التي ورثناها عن المستعمرين الأفاقين..!‏
                        -قال لي: هذا صحيح .. ومن حسن حظك أنك عشت في المشرق العر بي مدة طويلة،.. وإلا كانت حالك كحالنا..‏
                        سحبت مذكرتي الصغيرة من جيبي، وفتحتها ككل يوم ، قبل ان اغادر المنزل،.. كان اليوم هو الخميس 16 تموز 1992- وتحت هذا التاريخ كانت مسجلاً:/ الساعة الثامنة والنصف مساء حضور حفل زفاف ابنة صديقي أحمد قدور، في نادي الصيادين ببلدة برج الكيفان..‏
                        ناديت زوجتي.. وذكّرتها بموعد العرس اليوم. حتى تبدأ في الإستعداد منذ الآن.. وكأنها تخيلت صورة تهكمية من حديثي، فاخبرتني بلهجة اعتدادية حاسمة، أنها غير ناسية. وأنها قد اكملت كل استعداداتها، بما فيها شراء الهدية،.. ثم وجهت لي تنبيها بأن شعر رأسي ، قد زاد عن حده، ومن الأحسن ان ازور الحلاق، قبل الذهاب إلى العرس..‏
                        قال ابن أخي- منافقا- وهو يوجه كلامه إلى زوجتي...:‏
                        إنك بالفعل ياإمرأة عمي- مثال رائع، للتنظيم والنشاط، وحسن التدبير.. إنك حقاً عظيمة..!‏
                        اتسعت بسمتها حتى خشيت على شفتيها من التمزق، ورشقتني برمقة انتصار،.. واختفت ، ثم جاءت تحمل فنجانا آخر من القهوة إلى ابن أخي..‏
                        خذ ياشاب، لقد أثمر نفاقك بسرعة...!..ولكن ابن أخي..لم يتناول من الفنجان الجديد سوى رشفة واحدة... ثم ابعده من أمامه، وهو يتذمرّ، ويتحسس بطنه بيمناه ..‍‍‍‍‍!؟ إنه نفس المغص الذي يشكو منه اغلب الاصدقاء، ولكنه سرعان ما ينتهي بسلام.. لقد تعودنا عليه. قال ابن أخي.‏
                        -ربما من مثل هذه المنغصات جاءت سرعة الغضب التي اشتهر بها الجزائريون..؟ قلت..‏
                        طلبت من ابن أخي ان يرافقنا اللية لحضور حفل العرس،.. ولكنه اعتذر قائلاً: ان اعراس العاصمة لاتروق لي..إنها تقام بضجيج أجوف. لاطعم له.. وبدون بارود.. وبلا رقص للخيل.. ثم إنني كلما استمعت إلى ذلك الغناء الذي يسمونه الشعبي او العاصمي اشعر بالإنقباض والكأبة..إنه شيء محزن..!‏
                        لم اعلق على كلامه. وأمسكت بيده، وخرجنا... هيا معي لأحلق شعر رأسي، ثم نقوم بجولة في مدينة الجزائر. العاصمة..‏
                        كانت الساعة الحادية عشرة، عندما غادرنا قاعة الحلاقة،.. وكان ابن أخي يتأفف، ويحمد الله إذ خرجنا، ويقول لي: لقد كدت انفجر في هذه القاعة الملعونة..!.. ساعة كاملة والجالسون صامتون كأن على رؤوسهم الطير..! والحلاق مطبق الشفاه متجهم الوجه كالجلاد، حتى تظن أنه يحلق للناس رغما عنه..!‏
                        -علقت قائلاً: تلك هي طبيعة اغلب ابناء الشمال، وخاصة العاصمة، مع العلم بأن ما يشتهر به الحلاقون في كل مكان، هو كثرة ثرثرتهم..!‏
                        سرنا مسافة قصيرة، وإذا بنا نرى مجموعة كبيرة من الناس، متجمهرة امام مدخل إحدى العمارات، وكانت تنبعث من احد طوابقها زغاريد النساء، مدوية بصورة عنيفة وحادة..‏
                        -سألني نجم الدين- وهو اسم ابن أخي- اليوم الخميس، هو يوم الاعراس أليس كذلك..؟‏
                        -أجبته: نعم، هو يوم الاعراس، ولكن ، ليس من العادة ان تشتد زغاريد النساء في مثل هذه الساعة من الهجير..!‏
                        -قال نجم: ربما تكون العروسة من مدينة بعيدة، والآن فقط وصلوا بها إلى دار العريس..؟‏
                        اقتربنا من المتجمهرين،.. كانوا واجمين... تبدو على وجوههم علامات الجد، والقلق...‏
                        تواصلت الزغاريد، فاهتز نجم الدين طربا وفتوة، وصاح : آه لو كانت معي بندقيتي، لحييت المزغردات بطلقتين من البارود كالرعد.. إن جوانبي ترتعش من شدة التأثر..!‏
                        -قلت له: هدئ نفسك. إنك لست في مدينتك الجنوبية،/ بسكرة/ إنك في العاصمة، وضرب البارود، ممنوع في اعراسها...!‏
                        دفعني الفضول، فاقتربت من شاب ، كان يقف وحيداً، فحييته.. وسألته: ماذا يحدث هنا..؟‏
                        أجابني بحزن بالغ.. لقد انتقل المجاهد / فلان/ إلى رحمة الله، وسيأخذونه الآن إلى المقبرة..‏
                        كنت اعرف المرحوم،.. كان بطلا في يوم ما، أحسست بأسى عميق..‏
                        قلت للشاب: عظم الله أجركم، وانسحبنا بخشوع، مواصلين طريقنا..‏
                        وتنهد نجم الدين، وهو يردد.. لاحول ولا قوة إلا بالله .. لقد كنت اعتقد أنه فرح بهيج. وإذا به مأتم شجي..!؟‏
                        يبدو أن عادة تشييع الموتى بالزغاريد في بلادنا قد أصبحت تقليداً سائدا،- ويبدو أننا ورثناها من أيام الثورة المسلحة. حيث كانت النساء تزغردن، كلما سقط شهيد، او ووري جسده التراب... كن يعتبرنه كأنه عريس، سيزف إلى نعيم الجنان..‏
                        -قال نجم الدين: ولكن.. الآن ياعمي.. وبعد مرور ثلاثين سنة من الحياة في نعيم الإستقلال. هل أصبحت الجنة مضمونة..؟‏
                        -قلت: لابأس ان نتفاءل،.. وان الله غفور رحيم..! ثم إن سماع الزغاريد، هو أحسن بكثير من سماع البكاء والنحيب‏
                        -علق نجم: إن الحياة في هذه الزمن الموحش، لم يعد لها أي طعم، لا للغناء، ولا للبكاء،..( واللي مات وراح، اتهنّى واستراح..)..!؟‏
                        لم يكن ابن أخي قد شاهد شوارع العاصمة من قبل، فاقترحت عليه أن نركب الحافلة العمومية/ الأوتوبيس / ونظل في مقاعدنا إلى أن نعود إلى هذا المكان الذي ننطلق منه ، وبذلك يمكن الإطلاع على جزء هام من مناظر المدينة داخل الحافلة..‏
                        عندما انطلقت بنا الحافلة كانت شبه فارغة، فاستولينا على مقعدين مناسبين. ثم أخذت تكتظ بالركاب، ويتزايد عددهم كلما توقفت في احدى محطاتها، إلى أن اصبح الناس متلاصقين ببعضهم، متراصين حتى لكأنهم جسم واحد، يتماوج بعشرات الرؤوس..!.‏
                        وكان قاطع التذاكر يصرخ باستمرار../ أفانسيو.. أفانسيو../ شوية.. مازالت/ بلا سات/ لقدام.. وعندما لايستطيع الركاب الواقفون التزحزح ..يكرر صراخه بغضب: افانسيو.. وإلا انتم ما تفهموش العربية..!؟قال نجم الدين بتعجب: هل سمعت ياعمي ما يقوله قاطع التذاكر...إنه يظن ان لفظة/افانسي/ هي مفردة عربية..!؟‏
                        -قلت له: مادام قد ادخل عليها واو الجماعة، فقد عرّبها..انسيت مثلا كلمة/ فارمي/ أي اغلق... ألم نخضعها للصرف والإشتقاق وكأنها عربية .. فنقول: فارمى الباب، فهو يفرميه وفارم الباب أي اجعله مفرميا...! ومثلها مئات المفردات الفرنسية التي عربناها، واصبحنا نجهل اصلها الفر نسي..!؟‏
                        -قال نجم الدين: هل تعرف ياعمي... مامعنى/ الروابيل:‎/ ..؟‏
                        -أجبته: لاأعرف..!‏
                        -قال ضاحكاً: إن الروابيل هي جمع بالعربية، لمفردة/رابور/ بالفرنسية، والذي يعني التقرير .كما تعلم..!‏
                        -قلت: إن الشعب الجزائري، رغم أنه كغيره من الاقطار العربية في اغلب عاداته وتقاليده، إلا أنه - نتيجة للظروف التاريخية القاسية، والمتميزة- اصبح يمتلك صفات خاصة، من النادر أن تجدها عند غيره،... ومن بينها هذه المقدرة العجيبة على التلاؤم مع المواقف الصعبة. وتوظيف الامور والاشياء الغريبة عنه، واستخدامها بدقة ونجاح. وكأنها من موارثيه او من مبتكراته..! وهذا ما ينطبق على ظاهرة تعريب الفرنسية وفرنسة العربية..!؟‏
                        أنهت جولتنا داخل الحافلة، دورتها الكاملة، ونزلنا من حيث صعدنا، واتجهنا نحو منزلنا سيراً على الأقدام .. وقد عبر نجم الدين عن سروره. بقوله لي: شكراً ياعمي.. لقد كانت طوريسة مزبّلة...!؟‏
                        فوجئت بكلمته الكريهة الغامضة، وسألته باستنكار: ماذا تعني بطوريسة مزبّلة...؟‏
                        -أجاب وهو يبتسم: هذه من الابتكارات المحلية الجديدة، التي يستعملها بعض شبابنا في تخاطبهم الخاص...إن المقصود بطوريسة هو الجولة- واتطورس، يعني أهيم في الشوارع كالطاروس أي الكلب المعروف بهذا الاسم...! أما كلمة مزبّلة‏
                        فيعبّرون بها عن كل شيء فيه إثارة، وزخم، وتنوع...!؟‏
                        هنا تذكرت جارتنا الأرملة التي كانت تعيش بصورة دائمة في حالة توتر وعصبية.. كنا نسمعها- كلما قدمت طعام الغداء لاطفالها- تصيح بهم قائلة: هيا .. تسمموا بسرعة قبل ان يفوتكم موعد المدرسة...! وكنا نضحك بشفقة واسى عندما نسمع طفلها الصغير،- بعد برهة قصيرة- ينادي ببراءة :ماما.. ماما.. لقد تسّممتّ.. انا ذاهب إلى المدرسة..!‏
                        عندما اقتربنا من باب المنزل صادفنا مشهدا طريفا.. كانت بنت الارملة جارتنا، جاثمة فوق جسم أخيها الصغير، وهي تدغدغه من إبطيه بعنف، وكان الطفل المسكين يتلوى بين يديها، ويبكي بكاءاً حاراً،.. وكانت الام تطل من نافذة دارها. وتسب وتنهر بنتها.. وعندما لمحتنا.. استنجدت بنا أن نخلّص طفلها من بين مخالب اخته الشرسة..!‏
                        اقتربت من الطفلة، وحاولت فك قبضتيها من جنبي أخيها.. ولكنها تشبثت به كما يتشبث الوحش بفريسته. فلم استطع نزعها عنه بسهولة..!‏
                        استعملت سبابتي وابهامي،.. وامسكت بعضلة كتفها بقوة. وضغطت عليها بقرصة كلاّبية قاسية..‏
                        كنت اظن انها ستجعلها تبكي وتصرخ من شدة الألم، ولكن ما أثار دهشتي واستغرابي.. هو أن الطفلة تركت أخاها يفلت هاربا، باكيا.. واستفرقت هي في قهقهة وقحة متواصلة، حتى خشيت ان يكون قد اصابها مسٌّ من الجنون..!؟‏
                        قلت لابن أخي : عجيب امر هذا الجيل.. الطفل يبكي من الدغدغة.. والطفلة تضحك من الم القرص..!؟‏
                        -قال: لاتعجب للأمر ياعمي.. قد تكون هذه الطفلة، تناولت حبوب منع الاحساس بالألم..!؟‏
                        منذ مدة.. لم نعد نسمع اية ضحكة( طبيعية)! رنّانة.. إلا من طرف المشردين، والبطالين، وبعض طلاب المدارس المدللين..! لقد غطت أحزان الحياة ،كل شىء..!؟‏
                        اقترب موعد الذهاب إلى العرس، فناديت زوجتي، وطلبت منها أن تتفضل حالا بالخروج معي لنذهب. لقد حان الموعد..‏
                        الحقيقة ان الوقت مازال مبكراً، ولكنني اعرف طبيعة النساء في مثل هذه المناسبات.. فالمرأة عندنا، بمجرد ما تحين لحظة الخروج من المنزل للإلتحاق بأي موعد هام ومحدد.. تستوقفها خواطر وانشغالات طارئة-كاكتشاف ان الفستان الذي سترتديه غير لائق.. والاجمل لو ترتدي الفستان الآخر.. وقد يكون هذه الآخر في حاجة إلى كي، او تعديل بآلة الخياطة.. وعندما يتغير لون الفستان، فمن الضروري أن تتغير توابعه من مكياج، وحلي، وحذاء. إلى آخره.. ! وفي مثل هذه الحالات الطارئة العادية.. أجدني ادعو الله، ان لا يرن جرس الهاتف من طرف احدى الصديقات.. أو ان تلجأ هي..إلى الهاتف طالبة النجدة من صديقة ما، لتدركها باحدى لوازم الزينة الناقصة.. وخلال مكالمة النجدة، يتحول الحديث إلى شجون اخرى.. ويطول ويطول..!‏
                        لقد حضرنا افراحا كثيرة..ولا اذكر مرة من المرات أننا وصلنا مكان الحفل في الوقت المحدد.. فإذا كان موعد الوصول الساعة التاسعة مساءً، مثلا فإننا نكون مبتهجين إذا وصلنا قبل منتصف الليل بقليل، حتى اصبحت عملية التأخير هذه ، صفة مميزة لنا، يتندر الاصدقاء بها..وانا اجد فيها احياناً مجالا ممتعاً لتعكير صفو زوجتي..!؟‏
                        في السابق ، كنت أكاد انفجر غيظاً وكمداً، وأنا مختنق بربطة عنقي، أتنقل من غرفة إلى أخرى . بكامل ثيابي الرسمية دون أي مبرر.. فقط لأن حضرتها تجرب هذا ، وتبحث عن ذاك... وتنسى، وتتذكر.. وتخلع وتلبس.. كل ذلك من أجل ان تبدو في نظر نفسها ، وكأنها هي التي ستزف إلى العريس..!.. لقد كان الامر مضنيا. مرهقا..‏
                        أما الآن . وبعد تلك الإنتظارات الأليمة التي كنت أعانيها- فقد تغير الوضع تماماً.. لقد اقسمت يميناً غليظاً ان لا ارتدي ثيابي..إلا بعد ان تكمل هي كافة استعداداتها وطقوسها التزينية. وتقف أمام الباب على اهبة الخروج،.. بعد ذلك اقوم أنا بارتداء ثيابي في مدة خمس دقائق، ونتوكل على الله..‏
                        لقد صارت زوجتي الآن، هي صاحبة الإنفجارات الغضبية الهائجة. من انتظارها لي، وقد يتصبب العرق منها ملونا، بين اصباغ وجهها..!‏
                        كنت اشعر بفرح باطني، وسعادة غامرة، وأنا اراها قلقة تتألم..ثم اسمعها تستعجلني بتودد متوتر، فاتصنع عدم سماعها، واحيانا اتعمد التباطؤ في ارتداء ملابسي، فاحس بتفاقم انزعاجها إلى درجة الإشراف على البكاء.. فينفجر ضحكي الداخلي . وارتعد به .. فاستريح.. وهكذا كما يدين المرء يدان، والحرّ، من لا ينسى ثاراته..!؟‏
                        داخل السيارة.. في طريقنا إلى الحفل.. غالبا ما تنشب معركة حامية الوطيس، بيني وبين ام الأولاد..؟ أما أسباب مثل هذه المعركة، فهي كثيرة، ومتنوعة.. قد تكون عائلية، او اجتماعية..وقد تكون حتى سياسية او فلسفية..او من أجل نكتة يلقيها أحدنا..‏
                        تبدأ المعركة إثر ملاحظة عابرة، وتافهة تصدر مني او منها، ثم تتطور الاحداث شيئا فشيئا.. وتتعمق.. وتتأزم وقد تصل أحياناً إلى درجة توقيف السيارة، والتلويح بالتشابك اليدوي، ثم الإضراب عن الذهاب إلى الحفل، والعودة إلى المنزل في حالة مرعبة من الشجار، وتبادل التهديدات والعبارات المؤذية..‏
                        وفي مثل هذه الحالات الخطيرة، وبعدما يوغل الليل في ظلماته.. نكون قد شفينا غليلنا من بعضنا، واستنفدنا ما عندنا من شحنات جارحة فتخفت ضوضاء المعركة.. نعلن حالة الحصار والمقاطعة بيننا، فلا اكلمها، ولا تكلمني، ولا انظر في وجهها لثلاثة او اربعة ايام.. ولاادري إذا كانت هي تسترق النظر إلى وجهي ام لا..؟ وهكذا يستمر الوضع إلى ان يرهقنا التحدي،ويأخذ النسيان في محو آثار المعركة.. وتتراكم احتياجاتنا المشتركة... وتدريجياً تبدأ الامور في العودة إلى حالتها الطبيعية الهادئة.. وغالبا ما تبادر هي. بالتكلم معي، كأن تبادرني صباحاً بكلمة: صباح الخير.. تقولها بكبرياء خجول، فارد عليها بغمغمة لامبالية.. ثم بعد لحظات اطلب منها حاجة ما.. فتستجيب نشطة مبتهجة.. وبسرعة، تنتهي حالة الطوارئ.. وكأن شيئاً لم يقع..!؟‏
                        في هذه الليلة، بدأت معركتنا هكذا:‏
                        هي: هل تعلم أن ( فلانة ) زوجة صديقك المدير، هي امرأة صلعاء، رأسها كالتيمومة، لاتوجد فيه، ولا شعرة واحدة، وانها طوال عمرها، وهي ترتدي الباروكة..؟‏
                        أنا: اعرف أنها صلعاء/فرطاسة/ وقد أخبرتني انت بذلك اكثر من مرة، وكأنك تشعرين بالمتعة، عندما تعيدين خبر صلعها..!‏
                        هي : يالطيف.. هل أخذتك الشفقة بها.. اعرف أنك معجب بها.. وبوجهها الاصفر المستدير، الذي يشبه البطيخة او ساعة حائط..!‏
                        أنا حرام عليك ياامرأة.. تغتابين الناس، وتسخرين منهم بدون مبرر..!‏
                        هي: صدقني.. انا لاأهتم بتلك المرأة، ولا أحمل لها أية ضغينة.. اردت فقط أن اخبرك بأنها قد ذهبت إلى امريكا، وقامت بزرع شعر في رأسها، زرعه الأطباء لها، شعرة بعد شعرة.. وهي الآن تتمتع بجدائل طبيعية غاية في الروعة والبهاء..‏
                        أنا: لااعتقد ان هذا الخبر صحيح .. إن عملية مثل هذه تكلف عشرات الآلاف من الدولارات.. ومن أين لواحدة مثلها بكل تلك الأموال..؟‏
                        هي: انت مازلت في عز النوم..إن المال بالنسبة للرجال/ القافزين/ أصبح من السهل الحصول عليه، وبأيسر السبل، وزوجها كما تعلم، رجل ذكي، ونشيط..!‏
                        أنا: ماذا تعنين..؟ هل تقصدين ان يسرق الإنسان..أو ينافق ويستكين، ويتملق..! ام يحترف تجارة الممنوعات..وينخرط في سلك المهربين..؟.. ثم . ما هو هدفك عندما قلت: زوجها رجل ذكي.. هل تقصدين أنني مغفل..!؟‏
                        هي: طبعا.. لا اقصد ذلك .. ولكن بالنسبة لك.. كان بإمكانك ان تكون أحسن حالاً من كل أصدقائك ومعارفك..! إنهم كلهم اصبحوا يلعبون لعباً بالأموال الضخمة ، بينما بقيت أنت دون أي تطور والعجيب أن كل المسؤولين والشخصيات الهامة، هم من معارفك، ومن أصدقائك...‏
                        انا: قاطعتها بنبرة جادة... اظن أنني نبّهتك اكثر من مرة، آه لا تتطرقي لمثل هذه المواضيع السخيفة التافهة.. انك تتكلمين كأية امرأة جاهلة.. ثم هل ينقصك شىء، يجعلك تشعرين بأنك اقل من غيرك..!؟‏
                        هي: بلى.. ينقصني كل شىء..!.. انظر إلى فلانة، اين امضت عطلتها الصيفية مع زوجها.. ؟ وانظر إلى اثاث منزل فلان، من أين أتي به..؟ وانظر إلى ( فلتانة) ونوع السيارة التي تمتلكها.. وأولاد صديقك فلان.. اين يدرسون وماذا يلبسون..؟ هل تعلم أين تزين(فلانة) شعرها إنها تذهب اسبوعيا إلى باريس لحلاقته وتصفيفه..!‏
                        .. إنني بالفعل تعسة.. وبدون حظ..!؟‏
                        أنا: الأنسب.. لو قلت أنك وجه نحس..! وعلى كل حال، لامانع لدي، إذا وجدت رجلا(قافزاً) ثريا يحقق لك أحلامك، فإنني مستعد للتنازل عنك وتزويجك إياه..! المهم أن يرضى بعجوز مثلك..!؟‏
                        هي : أنا عجوز- ياقليل الخير.. وأخذت العبرات تتقاطر من الخارج، وتخنقها في الداخل.. أتسمح لنفسك بقول هذا الكلام المسموم..!؟ واجهشت بالبكاء . وعندما رأيت دموعها تتساقط، انحرفت بسيارتي نحو اليسار.. مع أني لم اكن اقودها بسرعة كبيرة. وكادت ان تقع كارثة رهيبة.. وعدت بمعجزة إلى محجّة الطريق.. ومن بعيد، لاحت اضواء مكان الحفل، تتلألأ كالنجوم، فتداركت نفسي، وقلت لها..! جففي الدموع..لقد أنقذ الموقف، وصولنا إلى الحفل..‏
                        اعتقدت ان مصابيح العرس، ازالت باشراقها المتوهج غيمة داكنة. كانت تتهيأ لتبرق، وترعد ، وتمطر الطوفان... إن النور يقتل المؤامرات..!؟‏
                        ثم ابتسمت في وجهها قائلا: لاتصدقي ما قلته لك، إنك بالفعل عروسة، وأجمل عندي من كل العرائس والصبايا.. فاستنشقت ريقها وهي تبلع زفرة عميقة، " وابتسمت..‏
                        قلت في سري: إنني بالفعل، أحب هذه المخلوقة المشاغبة.. واوقفنا السيارة بالقرب من نادي الحفل، ودفعتها بيدي لتخرج، فقالت لي( باللهجة الدارجة) مازحة: لماذا دززتني ( دفعتني) هكذا..؟ فأجبتها بنفس اللهجة:‏
                        لم اكن بدازك وانما أقجم(أمزح) معك قجماً..!‏
                        وصدعنا بضحكة صداحة رائعة.. واتجهنا نحو مدخل العرس..‏
                        كان مكان الحفل، عبارة عن قاعة مستطيلة واسعة، تستعمل في الايام العادية كناد، ومطعم، لعائلات هواة الصيد البحري،.. اما في هذه الليلة، فقد زينت بالمصابيح الكهربائية الملونة. والمفارش الزاهية ، والكراسي والطاولات المغلفة بالاوراق المخملية الفاتحة، والستائر المزخرفة،.. وكانت تتوسط القاعة منصة كبيرة، غاية في التزويق والتنميق،.. جلس فوق مقاعدها الوثيرة، اعضاء الفرقة الموسيقية. وامامهم، وبأيديهم آلاتهم المختلفة الاشكال والاحجام، وحولهم صفت باقات الورد، وصواني الحلويات، واباريق وكؤوس الشاي،.. وفوق رؤوسهم تتراقص المصابيح والثريات الملونة، مع نغمات الموسيقى الصداحة.‏
                        في الجانب المقابل لمنصة الفرقة الفنية، صفت كذلك مجموعة من الارائك الحريرية المزركشة، شغلها بعض السيدات والآنسات من اقارب واصدقاء العروسين.. بينما كان يتوسطهم العروسان، فوق اريكتين عاليتين ، روعة في الضخامة والجمال، مما جعلهما يبدوان، وكأنهما ملكين عظيمين.. في ليلة تتويجهما على العرش..! وكانت باقات الورود والزهور تملأ كل فراغ حولهما..!‏
                        وبين منصة الفرقة الفنية، وديوان العروسين، انبسطت حلبة الرقص،.. وكانت مكتظة بالراقصين من الفتيات والنساء والشبان..‏
                        عندما دخلنا قاعة الافراح، استقبلتنا ام العروس مع مرافقاتها بترحيب وابتهاج، وقادتنا بين طاولات المدعوين، وأجلستنا حول طاولة قريبة من حلبة الرقص احتفاءاً بنا، وتكريما لنا.. فشكرناها، وبدأنا ندير رؤوسنا، لاستطلاع الجو العام..‏
                        كانت أصداء الموسيقى الصاخبة، المندفعة من مكبرات الصوت العملاقة ، تصم الآذان إلى درجة أنني لم أفهم بوضوح كلمات الترحيب التي تلقيناها من لجنة الاستقبال..! كما انني لم استطع أن ادرك معاني تلك الإشارات والتحيات التي كانت توجه إلينا من طرف الاصدقاء الجالسين مع عائلاتهم، هنا، وهناك.. كنت بالفعل كالاطرش في الزفة.. كما يقول المثل.. ارد بحركة عشوائية من رأسي، ويدي.. على كل من يتحرك في اتجاهي، حتى ولو لم يكن يقصدني.. وكانت قد تسمرت على شفتي بسمة طويلة بلهاء لم تتزحزح او تتغير منذ دخولي القاعة.. ولم أتمكن من إلغائها..!؟‏
                        لمحت رجلا يقف من بعيد.. ثم يتجه نحوي باسما فاتحا ذراعيه لمعانقتي، فقمت مستعجلاً.. وقصدته ملوحاً بذراعي المفتوحتين، كأنني في حالة طيران، وكنت اردد: أهلاً.. أهلاً.. وعندما اقتربت منه.تأكدت أنني لا اعرفه. ولم يكن يقصدني.. فواصلت طيراني الترحيبي نحو المجهول.. بينما تعانق ذلك الملعون مع رجل آخر كان يسير خلفي..! وكانت زوجتي تلاحقني بنظراتها الفضولية، وعندما اكتشفت خيبتي، كادت أن تجن من شدة الفرح، وقد اشبعتني - بعد ذلك تهكما.. وسخرية.. ومهما يكن فأنا مرتاح، لأن هذه الحادثة المزرية، انقذتني من سلطة تلك البسمة الركيكة، وجعلتها تتلاشى بسهولة من على شفتي..!‏
                        كانت العروس، تقوم بين الحين والآخر، تتأبط ذراع العريس، فيصحبها إلى غرفة جانبية، وبعد لحظات تخرج منها.. وقد غيرت كل شىء كانت ترتديه أو تحمله أو تتزين به..‏
                        ويطوف بها حول المدعوين ترافقهما الزغاريد، وآلات التصوير وتصفيقات الحاضرين..‏
                        وكانت القاعة، مفعمة بالحركة والنشاط، كأنها خلية نحل،.. الصبايا والغلمان يطوفون بصواني القهوة والشاي، والمبردات، والحلويات المختلفة الأشكال، والألوان، ومناديل الورق الناعم المزخرف..‏
                        عندما وضعوا أمامي صحنا كرتونيا مملوءاً بالحلويات قالت لي زوجتي: لاتأكل منه شيئاً.. سنأخذه إلى الأولاد..!.‏
                        وكانت قد لفَّت صحنها في المنديل، ووضعته تحت شنطتها الذهبية.. فلم اشأ أن اعكر عليها، أو اثير مشكلة جديدة معها.. فدفعت إليها بصحني، فوضعته بخفة إلى جانب صحنها وهي تقول لي: أنت لاتساعدك الحلويات كثيراً، ولا تحبها، وعندما يقدَّمون الموالح، فبإمكانك أن تأخذ عزك فيها..!‏
                        كدت أن اقول لها: إنني أحب الحلويات كما أحب الموالح... أما الحلويات التي لاأطيق طعمها فهي تلك التي تقومين أنت بصنعها..!؟ ولكنني تمالكت زمام نفسي.. خاصة وان من عادة الكثيرات من نسائنا أن يأخذن معهن نصيبهن من حلويات الاعراس، تفاؤلا بمجئ الافراح، والليالي الملاح إلى اولادهن، ومنازلهن..!‏
                        وقف شاب من أعضاء الفرقة الموسيقية، وتكلم بنبرة حماسية في مكبر الصوت، قائلا: إخواتي.. إخوتاتي..‏
                        هيّا نشطح( نرقص) كلنا مع / الراي/ . ومع أغنية: إدي.. إدي.. للشاب...: خالد.. قالها بصوت مرتفع جداً، فالتهبت الاكف بالتصفيق ، والحناجر بالصياح.. وانهمرت الموسيقى كالشلال الصاخب..‏
                        ركض أغلب المدعوين نحو حلبة الرقص.. ثم تحولت القاعة كلها إلى حلبة رقص.. النساء.. العجائز .. الفتيات الشبان.. الاطفال.. كلهم يرقصون.. وكل حسب أسلوبه في الرقص .. فهذا يرقص جيداً .. وآخر ينط ويقفز كأنه يلعب على حبل.. وذاك يدوّح بذراعيه، ويرمى بساقيه إلى الامام كأنه يتصارع مع الاشباح، وتلك تخضّ وتلوح برأسها من الامام إلى الخلف كما يفعل المجاذيب، وشعرها المنفوش يتطاير كأنه رأس نخلة تعصف بها الرياح، والاطفال ينطون كالقرود... رقصات جنونية عنيفة ، هائجة.. حتى ليظن المرء أنه امام مهرجان حربي للهنود الحمر.. أو في سهرة شعرية مع سكان الادغال الافريقية..!؟‏
                        كانت وجوه كل الراقصين، منقبضة الملامح، تدل على الجدية، والألم.. عيونهم مغمضة، وشفاههم مطبقة، وجباههم تتصبب عرقا.. وشعورهم تهتز فوق رؤوسهم، وأجسامهم التي تتلوى، وتنكسر، وترتعد..!‏
                        ياإلهي.. كم هو وحشي ، رقص / الراي/ عندنا..!؟‏
                        بالنسبة لي.. كنت باطنيا، اتحرق شوقا إلى خوض غمار المعركة مع الخائضين.. ولكن وقار شيخوختي المزعوم ، منعني.. فاكتفيت بترقيص قدمي خفية تحت الطاولة، وأنا جالس فوق مقعدي..! أما المصونة زوجتي، فقد فلتت مني منذ البداية، وكنت ارمقها من بعيد وهي تجدب، وتتهوّل وأحياناً اراها تقفز بطريقة مضحكة،.. وكنت متأكد بأنها في تلك اللحظات كانت شبه غائبة عن الوعي..!‏
                        تعب المغني من الصراخ.. فتوقف، واستمرت الموسيقى قوية مجلجلة.. إلى أن بدأ التعب والارهاق على الجميع، فأخذوا ينسحبون زرافات ووحدانا.. وعادت أم الأولاد إلى قواعدها غير سالمة.. إنها قبل أن تجلس بجواري تعثرت في لاشىء.. ووقعت جالسة على الأرض.. ثم نهضت بسرعة ثقلية ، وهي تلتفت يمنة، ويسرة، وتشير إلى أحد المقاعد، وهي تلعنه ظلما وعدوانا... كانت في حالة يرثى لها من الاضطراب والتوتر.. خائفة ان يكون قد شاهدها أحد..! فلم أشأ أن اضاعف من مأساتها، فكظمت ضحكتي ولم استطع، فالتفت خلفي ، وقهقهت على صورة سعال متواصل، اديته بصعوبة بالغة، وكان ضحكاً ديكيا.. يشبه النشيج..!؟‏
                        قلت لزوجتي مداعبا، وحتى ازيل عنها احراج الوقعة المخجلة: ستكلفنا رقصتك غالياً ياعزيزتي..‏
                        -قالت لي: ماذا تعني..؟‏
                        -اجبتها: لاريب أنك ستلازمين الفراش يومين أو ثلاثة بعد هذا الجهد الجبار الذي بذلته.. ان آلام الاجهاد تأتي متأخرة.!‏
                        -قالت منزعجة : صلي على النبي.. ودع هذه الليلة تمر بسلام..‏
                        ادركت من صوتها أنها مازالت ترتعد داخليا، فحوّلت مجرى الحديث.. وقلت منبها: انظري.. هاهي عروستنا أخيراً تخرج في ثوبها الابيض الفضفاض .. إنها حقاً، جميلة وفاتنة..‏
                        كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، وانهت العروس رفقة عريسها دورتها الاخيرة، بعد سبع او ثماني دورات متجددة الازياء.. ولاحظنا داخل الديوان حركات الاستعداد لرحلة الزفاف الميمونة، مع فارس الاحلام..‏
                        امسكت يد زوجتي.. وتقدمنا لتحية أهل العرس وتوديعهم.. وكانت المفاجأة مؤثرة ومحزنة.. رأينا العروس مرتمية فوق حضن امها، تنشج وتشهق، وأمها تبكي بمرارة وكل من حولها يئنون، ويجففون دموعهم.. حتى والد العروس الرجل القوي، كان يبكي بصمت..! وقد تأثرت زوجتي بذلك المشهد ، فأخذت هي بدورها تبكي أو تتباكى..! وكانت تشجعهم بكلمة، زادت في تهييجهم، وصارت تكررها: والله الفراق صعيب.. والله.. الفراق صعيب.. فقرصتها..!‏
                        اقتربت من صديقي والد العروس، وكدت أن اقول له: عظم الله أجركم ..! وانتبهت ، فاقتربت منه، وهمست في اذنه. مبروك.. ستكبر، وتنسى..!‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        Comment


                        • #13
                          رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                          (12)- احذروا...الحيتان...؟
                          استيقظت الساعة الثامنة صباحاً،وقمت كالعادة بأداء الروتينات الاستعدادية لمغادرة المنزل إلى مقر العمل.. وعندما رميت أول خطوة في الشارع، كانت ساعتي تشير إلى التاسعة تماماً.‏
                          احتضنني شارع ديدوش مرادحيث أقيم. كان يبدو لي كأنه مجرى مستطيل لنهر عميق، يتحرك بسرعة صامتة، وهدوء مضطرب.. سطحه طافح بما يطفو فوقه من خفائف وخشاخش، ونفايات مهترئة تتسابق في اتجاهات متعاكسة..‏
                          تصورت أن هناك بالوعة لولبية، تحتل اعماق المجرى الشارع.. تشفط المياه بنهم فتسبب بامتصاصاتها المتواصلة، حركة دائرية متهاوية في السطح، تجعل الاجسام الريشية الطافية تنتقل باهتزازات راقصة من رصيف إلى رصيف، أو تلف باستمرار حول نفسها كما يفعل العاطلون عندما تشتد عليهم ، مطاردة الملل والانتظار.‏
                          وبدافع من تداعي الأفكار، تساءلت: ماذا ترى يوجد، داخل الأغوار الأرضية السحيقة لشارع مدينتنا العريق..؟.لا ريب أنها تضم الكثير من النوادر والغرائب، كالآثار التاريخية، والكنوز الثمينة والهياكل العظيمة المتكلسة، والخفافيش المرعبة، والحيتان العملاقة الشرسة..؟.‏
                          لقد سمعت أن حفاري الأنفاق السفلية، عندما كانوا يشقون ممرات/ ميترو الجزائر/ عثروا على بعض الشواهد التاريخية تحت الأرض.. وقيل أيضاً أنهم شاهدوا انهاراً جوفية دافقة، متصلة بالبحر..‏
                          عاد إلى ذهني موضوع الحيتان العملاقة الشرسة.. هل يمكن أن تكون موجودة، داخل أعماق مدينتنا البحرية؟‏
                          ولم لا.. ان فعل الزمن، وعوامل الحت والانجراف، كفيلة بأن تصنع أخاديد غائرة، في أحشاء الطبقات السفلى جداً، فتنهمر فيها مياه البحر، وتتسرب اليها الحيتان الضخمة المفترسة، لتتخذ منها أوكاراً للقنص، والاختباء.‏
                          من حسن الحظ أن الحيتان العملاقة، لايناسبها العيش إلا في الأعماق، وهذا ما يجعل أبناء الشوارع ذات البالوعات الدوارة... والأسماك الصغيرة التي تسبح فوق سطح البحر.. يجعلهما في منأى عن مخاطر اعتداءات الحيتان العملاقة المتوحشة.‏
                          هناك شىء يثير القلق في نفسي، وهو في حالة ما إذا تزايد عدد تلك الأخاديد والأنفاق البحرية، بفعل تيارات المدّ، والجزر، واندفاع الأمواج الناتجة عن تنقل الحيتان بين كهوفها وتجويفاتها..أخشى أن يؤثر ذلك في وضعية الاستقرار بالنسبة لمدينتنا الجبلية، فيختل توازنها، فتنفصل عن قاعدتها الأرضية السحيقة، وتتحول إلى جزيرة عائمة، تغمر المياه بقايا قاعدتها الصلبة لتصبح ملكاً للبحر..!؟‏
                          عندما طرأت لي هذه الفكرة الرهيبة كنت قد وصلت في سيري أمام واجهة مقر اتحاد الكتاب الجزائريين بشارع ديدوش مراد.. قرأت لافتة الاتحاد المغبرة، وكانت أبوابه الزجاجية، مضببه بما يشبه الستائر العنكبوتية.. وفجأة أحسست بأن المبنى يهتز.. ويهتز.. وسرت في كياني رعدةٌ قاتلة، ياإلهي هل هذا زلزال..؟ هل انهارت الأنفاق الجوفية..؟ رفعت رأسي نحو السماء، فرأيت الشاعر الجزائري عمر أزراج يحطم نافذة الاتحاد، ويلقي بنفسه في الفضاء.. صرخت: احذروا..‏
                          الحيتان .. احذروا.. الحيتان.. فتحت عيني جيداً فرأيت ولدي، يهز السرير بي.. وهو يقول: بابا.. ماذا بك؟ استيقظ.. إنها الثامنة صباحاً، موعد العمل..!‏

                          الجزائر‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          Comment


                          • #14
                            رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                            (13)-" العزيز ميكي" -
                            -لماذا تستيقظ العصافير مبكرة..؟‏
                            -ربما لأنها لاتشاهد التلفزة في المساء..‏
                            أذكر أنني عندما كنت طفلا،- منذ سنين طويلة- كنت أفتح عيني يوميا لأشاهد تسلسل خيوط الفجر الفضية من نافذة غرفتي،.. وحينئذ أتمطط فاتحا ذراعي، أحتضن اليقظة البيضاء، وأقذف بقوة ساقي الصغيرتين، غطاء الفراش، وأنا أفكر بسطل الماء البارد.. ثم أذهب كالرجل مع والدي، لأداء صلاة الفجر.‏
                            - بعد غيبة طويلة، زرت قريتي التي كانت تنام ، وتستيقظ مع العصافير.. وجدتها تغيرت كثيراً عما كانت عليه أيام الطفولة الضائعة..‏
                            كان يحرسها القمر، بطلعته الصافية البريئة، فصارت مدججة باعمدة الاسمنت العملاقة، ذات القواعد المربعة الضخمة، والرؤوس النارية المضيئة... وكان يظلها جريد النخيل المتصافف، بسعفه الأخضر الرفراف، فأصبحت تملأها الهوائيات التلفزيونية الشائكة، كأنها هياكل عظمية منحوتة، فوق مقابر جبلية، أكلت تربتها الرياح... أما سواقيها التي تحيط بها من كل جانب، والتي كنا نشرب، ونستحم ، ونرش الأرض، ونسقي البساتين من مائها العذب الرقراق- فقد بقيت في أماكنها على حالها الماضي، الا أنها تحولت إلى مجار لسوائل أخرى ، قذرة موبؤة، لها وزن الزئبق، ولون القطران ورائحة الجيف المتعفنة، وطعم..؟ ربما تذوقه بعض الأطفال الضحايا، ممن ينزلقون فيها أيام هطول الأمطار، وارتفاع نسبة الوحل إلى الركبة.‏
                            قريتي تغيرت كثيرا.. وتطورت.. أصبحت تطلّ على العالم كله، من خلال نوافذها المسحورة، المنتشرة داخل بيوتها الطينية، وأكواخها الخشبية، أصبحت تعرف كل شىء خارج نطاق معرفتها لنفسها ، بعد أن كانت معزولة في واحة نائية لاتعرف من الزوار غير أقارب أهلها.‏
                            وأهل قريتي تغيروا.. انهم إلى حد الآن مازالوا مجهولين من طرف سكان العالم، بل وحتى من طرف جيرانهم في أقرب مدينة اليهم، انهم مثل قريتهم المجهولة، والتي لامكان لها في ذاكرة أي أجنبي، ولا في رسم أي خريطة جغرافية الا أنهم بحكم التطور التيكنولوجي للزمن، وبفضل أطلاعهم اليومي على مجريات الحياة في جميع المحيطات والقارات تغيروا كثيراً.. كثيرا‏
                            لم يعد في استطاعتهم أن يناموا مبكرين مثل العصافير التي هجرت واحتهم بلا عودة.‏
                            عندما يطل الفجر، لم يعد يرى كعادته سابقاً أفواج الفلاحين، يتتابعون بين صفوف النخل كالمجاهدين وهم يحملون مسحهم وفؤوسهم، ويتأبطون مناجلهم ليسمدوا الأرض بعرقهم الزكي، ويفتحوا للنور السماوي مسارب حول كل بذرة حنون.‏
                            أضحى أهل قريتي ، ينكرون صعود قمم السوامق من النخل..كبارهم أدركهم العجز المبكر، وصار الدوار يصيبهم كلما تطلعوا بعمق نحو قلب نخلة.وشبابهم يحبذون النزول باستمرار إلى ميادين المكاتب لخوض معارك الكسب.وحتى لو حاولوا صعود الأشجار العالية لما استطاعوا لأن في جيلهم ظاهرة غريبة لم تكن منتشرة من قبل، وهي طول أقدامهم المفرط، وسرعة تعرقها بغزارة.‏
                            أطعمة، ومساكن، وملابس أهل قريتي لم يتغير منها شىء... لكن عاداتهم وتقاليدهم، وأشكالهم تغيرت إلى درجة تثير الحيرة..‏
                            أنا أيضاً تغيرت بصورة جنونية، تقزّمت كل المناظر في عيني... الطرقات ضيقة،، الغابات صغيرة، المنازل منخفضة.. الوجوه شهباء.. النخيل.فقط ..أستطالت أكثر في نظري..‏
                            من بعيد لمحت سي السعيد، فبدا لي كأن جسمه قد أنكمش إلى النصف.. رأيته يجلس القرفصاء، مستنداً على عصاه أمام باب داره، فعادت بي هيئته إلى أكثر من ربع قرن حيث كنت أراه يجلس الجلسة نفسها، وفي المكان عينه.. حتى ملابسه كانت كأنما هي نفسها لم تتغير منذ ذلك العهد البعيد.‏
                            شىء واحد جديد لفت انتباهي، وهوان سي السعيد كان جالسا خلف ظل كبير لسيارة ضخمة من نوع رونو- ر- 16/ تكاد تسد باب داره ولا يسمح عرضها المستولي على الشارع الا لمرور المشاة من الآدميين والكلاب، والقطط... وكنت قد علمت بأن تلك السيارة هي ملك لولده دحمان، الذي تزوج من العاصمة، ويعمل في حاسي مسعود،.‏
                            ليس دحمان وحده الذي يملك سيارة من أبناء تلك القرية الصغيرة، بل هناك الكثيرون... أكثر من خمس عشرة سيارة تسد شارع القرية الضيق ومن بينها سيارتي الشخصية.. ولكنا نحن أصحاب السيارات نعاني مشاكل كثيرة، خاصة في الدخول إلى القرية أو الخروج منها .‏
                            كان الطريق داخل القرية يمتد دائريا أمام المنازل على شكل خلخال، ولم يكن يتسع الا لمرور سيارة واحدة، لذلك كنا نضطر جميعا أن نمتطي سياراتنا، لنقوم بدورة كاملة على القرية كلما تحركت سيارة لسبب ما، حتى نفسح لها مجال المرور.. ومغادرة خلخال القرية..!‏
                            وكان كل أطفال القرية يعرفون أصحاب السيارات لذلك لايقدمون على سرقة ما فيها، حتى لو ظلت أبوابها مفتوحة، لكنهم لايتورعون أحياناً عن تكسير نافذة، أو تنفيس عجلة أو الوشم بالمسامير فوق طلاء هياكلها..وهم انما يفعلون ذلك لمجرد اللعب، وملء أوقات الفراغ، انهم بعيدون كل البعد عن النوايا السيئة، ولم نكن نحن أصحاب السيارات المعطوبة نحمل لهم أي ضغينة..‏
                            كثيراً ما يحدث يومياً أن يحل وافد للقرية بسيارته أو يريد آخر مغادرتها، فيتراكض الأطفال متطوعين تلقائيا ويطرقون أبواب أصحاب السيارات المتوقفة، فندرك مباشرة أسباب طرقهم، ونسارع إلى تشغيل المحركات ثم ننطلق في موكب لولبي مزمجر نقود تلك العربات بدون أحذية، وبلا أوراق، وحتى بلا ملابس،- شورت فقط أيام الحر، ونتحرك على صورة قطار، وسط عشرات الأطفال، الذين كانوا يغتنمون هذه المناسبة السعيدة، فيمتطون مؤخرات السيارات، وكأنهم في نزهة، بينما ترتفع أصواتنا من وراء النوافذ المغلقة بالتحذير والشتم، وفي أغلب الأحيان كنا لانحس بتعلقهم، ولا نراهم لشدة كثافة الغبار الذي تثيره العجلات..وبعد انتهاء الدورة، يعود كل واحد منا إلى موقفه المعتاد ، ويظل الشارع للحظات يسبح مع الأطفال في موج ضبابه الأصفر الناعم.‏
                            أقتربت من سي السعيد، فبادرته بالسلام وقلت له :‏
                            أليس من حسن الحظ ياسي السعيد أن قريتنا لم يبق فيها أي حصان أو بغل أو حمار، والا لما أستطاعت تلك الحيوانات/ البهائم/ أن تجتاز الطريق، من خلال هذه السيارات التي تسدها.؟‏
                            -هذا صحيح يابني، ومع ذلك فقد خسرنا بهائمنا.. لقد كانت لنا نعم الرفيق المعين..‏
                            -وهذه السيارات.. أليست أكثر فعالية.. وقوة؟‏
                            -عندما تتهاطل الأمطار، ويتفاقم الوحل، فإن كل هذه السيارات تقف بعيدة عن القرية، ولا تجرأ على الدخول اليها خوفا من الغرق..‏
                            -هذا شىء طبيعي ياسي السعيد.. ومن يريد التهلكة لسيارته؟‏
                            -ولكن عندما كان لي حمار، كان يحملني فوق ظهره فأذهب أتسوق ، ثم يعود بي من المدينة إلى وسط الدار، فلا تطأ رجلي الأرض، ولا يلمسني وحل أو غبار..أما اليوم، ودروبنا كما كانت منذ عهد الأجداد- فكما ترى...‏
                            -اليوم تحملك سيارة فخمة..؟‏
                            -نعم تحملني عندما يكون ولدي هنا.. وأكون في حاجة إليها.. ومن المصادفات العجيبة أنني لا أحتاجها الا عندما يكون ولدي دحمان غائبا، في عمله..‏
                            ثم.. أنسيت الآخرين..؟ من يحملهم، وفي قريتنا أكثر من ألف ساكن..؟‏
                            كان من المعروف عن سي السعيد منذ القديم سرعة البديهة، وخفة الروح، كأكثرية أبناء الجنوب الجزائري، وكان يمتاز بمقدرة فائقة على الجدل، واختيار الردود المفحمة الساخرة،. فاذا ما حدث وهزمه شخص ما في النقاش، فأنه لايستسلم، ولا يؤمن بشيء اسمه الاقتناع، بل كان يستعمل المرواغة، ويلجأ بسرعة إلى تغيير مجرى الحديث، بحجة أن لافائدة في الاستمرار مع النقاش السابق، لذلك حاولت أن لا أقطع معه مجرى الكلام وقلت له:‏
                            -الأخرون ياسي السعيد.. انهم في ألف نعمة ونعمة.. أغلبهم يستعملون الدراجات ، ثم.. هناك حافلة النقل العمومي التي أصبحت تقف على مشارف القرية، في كل ساعة تنتظر الركاب لحملهم..؟‏
                            -ومع ذلك فأن الحافلة والدراجات.. لاتقي السكان من الوحل، ان الحافلة نفسها تصبح موحلة كالشارع أيام المطر.. انها لاتستطيع أبدا أن تقوم مقام/ البهيمة/ التي لاتحتاج إلى قطع غيار، والتي كانت تجوب الدروب الضيقة، وتتخطى سواقي البساتين وتحمل زنابيل التمر...‏
                            -أي بساتين تعني ياسي السعيد، وأغلب سكان القرية قد ترك الفلاحة.؟!‏
                            - صحيح ياولدي- لقد أهملنا فلاحتنا.. أهملناها منذ أن فرطنا في بهائمنا الأصيلة، واستبدلناها بهذه الناقلات الحديدية، التي لاقلب لها...‏
                            -صدقت.. ويبدو أننا - أيضا- فقدنا بسمة الفجر عندما أهملنا النوم، ساعة نوم العصافير..‏
                            -قال سي السعيد متذمرا، لسبب لم أدركه: لقد فقدنا الفجر، والعصافير، والفلاحة والحمير...‏
                            أبتسمت لهذا القول الذي يشبه الشعر وأحسست بأن سي السعيد غير مرتاح لمواصلة الكلام في مواضيع السيارات والشوارع، فأشفقت على شيبته، وغيرت مجرى الحديث بطريقة عفوية مباشرة:‏
                            -يبدو أن موعد بث التلفزيون قد أقترب.. فالساعة الآن.. الرابعة والنصف..؟‏
                            -يقترب أولا يقترب.. انني لا أميل إلى مشاهدته كثيرا..‏
                            -لاتميل إلى مشاهدته... لماذا..؟ الا يعجبك فيه شىء؟‏
                            -أنا لم أقل لايعجبني.. ولكن الحقيقة هي أنني لا أفهمه..‏
                            ان أغلب برامجه بالفرنسية، وخاصة الأفلام، وأنا لم أتعلم تلك اللغة‏
                            -ولكن ليست كل البرامج باللغة الفرنسية.. فمثلا نشرة الأخبار ، الساعة الثامنة بالعربية..؟‏
                            -نشرة الأخبار أستمع إليها الساعة السابعة صباحا، في جهاز الاذاعة، وهي لا تختلف عن غيرها من النشرات الأخرى ، لقد جربت ذلك..‏
                            -والمسلسل العربي في كل مساء، ألا تشاهده؟‏
                            -بصراحة ياسي... انني أخجل من نفسي ان أشاهد قصص الحب والغرام أمام أولادي وأحفادي، لقد كبرنا ونسأل الله التوبة والغفران..‏
                            -على كل حال ياسي السعيد، هناك برامج بالعربية مناسبة وأنا لا أتصور أن تنزوي وحيدا بحجة أنك لاتميل إلى مشاهدة التلفزة.. إنك من طباعك لاتحب العزلة كما أعرف عنك، أم هل تغيرت..؟‏
                            أطلق زفرة عميقة وهو يقول:‏
                            - ومن لم يتغير في هذا الوقت.. ؟ انني بالفعل أصبحت أفضل الانفراد والعزلة..حتى أولادي وأحفادي لم أعد أجد الوقت للحديث معهم.. ولا أطيق أن أجلس بينهم صامتا كالصخرة، أتابع ما يجري داخل ذلك الصندوق اللعين..هم أيضا أصبحوا لا يطيقونني بينهم.. لأنني لا أستطيع الصبر عن الكلام، ولاأرضى من أحد أن يأمرني بالصمت ، وكثيراً ما أتشاجر معهم لأنهم يريدونني دائماً ان أصمت كلما حاولت الكلام، وهم يتابعون شيئا ما في التلفزة،.وأريدهم أن يصمتوا خاصة في حصة الحديث الديني.. ولكن لايحلو لهم التشويش الا في تلك الحصة.. لقد أصبح التلفزيون هو الناطق الوحيد في دارنا أما نحن ، فإما صامتون وأما متشاجرون..: أتعلم أنني أكثر ما أجلس وحيدا هكذا، وأحدث نفسي كالمجانين بصوت مرتفع..؟‏
                            - بالفعل ياسي السعيد.. كلنا نعاني من هذه المشكلة، تصور أن أطفالي اصبحت حركتهم الوحيدة: هي من التلفزة إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى التلفزة.وأصبحوا يرفضون النوم مبكرين ، حتى عندما نجبرهم على ذلك.. فكثيراً ما أمر بهم بعد ساعة أو ساعتين من ذهابهم إلى الفراش ، فإذا بهم مازالوا مستيقظين، يتابعون بخيالهم ما يجري على الشاشة .. وعند الصباح نعاني أمر المصاعب في ايقاظهم، باستثناء يوم الجمعة...‏
                            قال سي السعيد- باسما- وهو يدفع قدمه إلى الأمام، كأنه يدوس حشرة بنعله المهترى- اتعني أنهم لايستيقظون مبكرين يوم الجمعة..؟‏
                            -أجبته ضاحكا، وقد فهمت مراده : بالعكس.. إنه اليوم الوحيد، الذي يقومون فيه مبكرين كالعصافير، وينغصون علينا راحتنا، ورغبتنا في التمتع بالنوم صباح يوم العطلة.‏
                            - نفس الشىء مع أحفادي،... وأظن أن أغلب الأطفال الصغار في هذا الزمن، هم كذلك- إنهم ضد راحة الكبار..‏
                            في هذه اللحظة بالذات ، شد انتباهي فراغ الشارع، واختفاء الأطفال، الذين كانوا يملأونه بصراخهم وجريهم وراء الكرات المحشية،.. وخيم سكون رهيب، كأن حالة لمنع التجول قد فرضت فجأة.. وتطلعت نحو ساعتي.. كانت تشير إلى الخامسة.. واذا بطفلة صغيرة لم تتجاوز السابعة من عمرها، تخرج من بيت سي السعيد، وتمسك بكتفه، وتجره- وهي تقول بابتهاج: هيا قم ياجدو..لقد بدأ ميكي...‏
                            تزحزح سي السعيد من مكانه، ثم أطرق خجلا مني، وقام يخفي بسمة طفلية ماكرة، وهو ينظر نحو الأرض ،.. ويقول: إنها الحصة الوحيدة التي اشاهدها مع الأولاد.. إن ميكي هذا شىء عجيب..إنني أحبه مثل أطفالي تماما.إن حياته لاتختلف كثيراً عن حياتنا..!؟‏
                            قاطعت سي السعيد بقولي: لابأس إنه على كل حال شىء مسلٍ..‏
                            وودعته .. واسرعت نحو الدار حتى لاتفوتني حصة العزيز ميكي...‏
                            إنه بالنسبة لي أيضاً الشيء الوحيد الذي أجد فيه راحة البال، ويجمعني مع أطفالي في هدوء وسلام، ان عنفه يثلج الصدر.. وياليت لي قوة ميكي البطل...‏
                            الجزائر في 13/1/1983‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            Comment


                            • #15
                              رد: مذكرات النساي (( الشامية ))..!

                              (14)- " مزاح ثقيل " -
                              ليست هناك شجاعة اعجازية مطلقة.. وما من كائن حيّ الا ويحمل في أعماق جذوره بذورا للضعف والخوف..‏
                              هذه الحقيقة الجلية، لايصدقها ولدي الصغير ولا يعترف بها.. إنه يعتقد اعتقادا جازما بأنني أقوى وأشجع مخلوق في العالم، وأنه ليس لإمكاناتي البطولية حدود، خاصة في ميادين القتال والمصارعة، ومواجهة الكوارث والأخطار...!‏
                              وعندما يغمرني ولدي بنظرات التقدير والاعجاب.. ويواجهني بسؤاله المعتاد.. بابا.. طبعا أنت تغلب هذا العملاق.. أنت تصرع تلك الطامة.. أنت تسبق ذلك الحصان.. البرق...! عندما يواجهني هكذا .. فإنني في كثير من الأحيان أوافقه في زهو، وكبرياء.. ليس لأنني مغرور، ولكن حتى لا أزعزع ثقته بي ، ولا أعرضه لعقد النقص التي قد تصيب طفلا ما، نتيجة لخيبة أمله في شىء ما...‏
                              ويظهر أن ولدي قد بالغ كثيرا في تمجيد شجاعتي، واحصاء مناقبي وبطولاتي الوهمية، والتي لاحصر لها.. فأنني مثلا أستطيع أن أتجاوز بسيارتي كل السيارات أمامي، ولو أدى الأمر إلى السير فوقها أو تحتها.. وأغلب كل ما عند الجيران من رجال، وأقهر كل أبطال/ الويستيرن/ وأصرع الفيل، وأهزم الضرغام بضربة واحدة.. وحتى / كلوندايزر/ وأمثاله.. يكفي أن أوجه له لكمة صاروخية ، فاقضي على خوارقه التافهة.‏
                              وان شجاعتي المطلقة هذه ، ليست من تصورات ولدي فقط .. بل كل أخوته كانوا قد عبروا لي ولمدة سنين طويلة ومتتالية، عن نفس الايمان والتصور، مما جعلني الآن.. وبصراحة- أشك في امكانياتي الذاتية، وأتخيل أحيانا، أنني بالفعل بطل الأبطال.. إن العادة وليدة التكرار كما يقولون.. ولذا فأنني بحكم/ التعود/ يبدو أن شجاعتي نادرة، وليس لها مثيل ..! طبعاً لم يسبق أن أختبرتها في أي موقف عملي.. ولكن ما المانع أن أكون- ولو نظريا- بطل الكون...! ان كل من هم تحت مسؤوليتي يخافون من بطشي.. وكل ما عند الجيران هم شيوخ وعجزة مسنون، وأطفال صغار.. وبالتالي لاأخافهم..‏
                              وحتى لوصادفني أسد في طريقي.. ربما .. أراوغه، وأباغته.. واشبكه فجأة بجناحي برنسي.. وأصعد بخفة فوق ظهره، فأضغط برجلي على ابطيه، وألف زندي على عنقه .. وأعصره.. هكذا.. أعصره.. أعصره بقوة- حتى أكسر عنفه.. وأكتم أنفاسه...‏
                              أحسست بالهيجان ينتابني.. وبحركات تشنجية تمتلك أصابع يدي.. تسارعت نبضات قلبي وتلاحقت أنفاسي.. كنت بكل جوارحي أعيش معركة ضارية مع أسد.. كدت أسمع عظام رقبته، وهي تطقطق بين قبضتي الفولاذيتين، وكان العرق يتصبب من جبيني عندما أفقت من أحلامي العدوانية بسبب حادثة مثبطة للعزائم وقعت خارج محيط غرفتي، وداهمتني من بعيد كما يداهم سرب من النحل الغاضب ، صلعة انسان غافل..‏
                              كانت داخل المطبخ ، تقف أمام المغسل، تنظف أواني الأكل،.. وبدون تحذير أو انذار، أنطلقت تردد أغنية قديمة لأم كلثوم/ على بلدي المحبوب.../ كانت في صوتها بحّة متحشرجة، وفي لحنها نشاز مقزز.. يجعل السامع يظن أنها تسخر في غنائها ، وهي جادة في تقليد أم كلثوم/ كوكب الشرق/ مع أن الحقيقة هي العكس وهو ما ينطبق على الكثير عندنا ممن يعتبرون أنفسهم أهل الفن..!‏
                              أنزعجت إلى درجة الصدمة، من تلك الصرخات المتصاعدة من المطبخ مع روائح البصل والثوم، وضعت كفي على أذني.. حاولت أن أعود إلى معركتي مع الأسد وأدعه يفترسني وينقذني.. أردت أن أرفع صوتي وآمرها بالصمت.. وجاءت الفكرة.. صممت أن أضع حدا لذلك التجاوز بواسطة مزحة ثقيلة الوزن..‏
                              قمت من غرفة الجلوس.. حافي القدمين، تسللت نحو المطبخ ماشيا كاللص على رؤوس الأصابع، محاذرا أن أثير أي أنتباه..إلى أن أصبحت خلفها تماما...‏
                              جمدت في مكاني .. أوقفت تنفسي.. واستمرت هي في غنائها المزعج . غافلة عن الشبح الذي يقف بالرعب خلفها.. كادت الضحكة أن تفلت مني.. أنتظرت بفارغ الصبر حتى أنهت مقطع الأغنية..كان الموقف يتطلب تصفيقات حارة من طرف الجمهور، لو كانت أم كلثوم هي التي تغني.. ولكن الوضع يختلف.. ففي ذلك الوقت بالذات صرخت بغتة وبعنف في صميم أذنها: هائل..:‏
                              أهتزت المسكينة إلى فوق..ثم هوت بسرعة نحو الأرض .. وهي ترتعش ذعرا، وتصيح.. كأن ثعباناً قد لسعها.. تكسرت بعض الصحون والفناجين .. أندلقت المياه اللزجة فوق الآجور... حاولت أن تقوم فانزلقت.. نكست على عقبي هاربا.. فرحا متشفيا.. أكاد أقع من شدة الضحك.. توقعت مكروها .. فلزمت الصمت بدون مبالاة..‏
                              كانت الضجة قد أثارت انتباه الأطفال فتراكضوا يتدافعون من أماكن مجهولة نحو المطبخ.. طرقت سمعي همهمات مبهمة.. وبعد هنيهة.. رأيت طفلي الصغير يتقدم نحوي بتردد.. وفي نظرته ذبول.. قال لي بعتاب: بابا.. ماذا فعلت بماما .. إنها تبكي.؟ فأجبته كّأي بطل منتصر: من يغني كثيرا.. يبكي أخيراً.. وأحسست ببعض التأنيب الغامض.‏
                              مرت تلك الحادثة بدون خسائر مادية معتبرة.. ولم تخلف أي عطب جسمي، وحتى آثارها المعنوية المسيئة لم تدم طويلا، إنها لم تكن سوى مزحة ثقيلة، تظهر أنها بريئة!‏
                              ومرت الأيام ، ولم يجل بخاطري أن الخوّافة تخطط للانتقام وأنها ستفضحني أمام أبنائي الذين يعتقدون بأنني أقوى وأجشع رجل في العالم.‏
                              كان الفصل شتاء عندما عدت ليلا من العمل إلى المنزل.. وكعادتي في جلّ أيام عملي، أعود مرهقا متوتر الأعصاب، ليس بسبب كثرة الأعمال، بل لأنني لا أجد ما أعمله في مكتبي،.. إن كل المهام التي كان من المفروض أن أستمر في انجازها يوميا.. هي معلقة نتيجة لمشاكل خارجية، هي بدورها معلقة.. وهكذا أقضي أغلب أوقاتي مشدود البصر بمصباح السقف الكهربائي، مشغول الفكر بين الفراغ والانتظار، إلى أن يحين موعد انصرافي فاهرع كبقية الموظفين إلى منزلي وما أكاد أصل غرفة الجلوس حتى ألقي بجسمي أفقياً فوق فراشي الخاص.. لاستريح من عناء العمل .. وكلل الأيام المتشابهة ورهبة سلالم العاصمة الشاقولية.‏
                              كانت الماكرة قد دست في ثنايا فراشي لعبة مطاطية منتفخة - كنت أشتريتها للأطفال- موصولة بمزمار جني الصوت.. على شكل كلب.. فما أن أرتميت بثقلي فوق الفراش حتى صاح من تحتي ما يشبه العواء الحاد، فانتفضت مرتعدا كمن أصيب بمس كهربائي عنيف، وقفزت مذعورا فزعا، ولم أدر كيف وجدت نفسي واقفا بعيدا عن فراشي، شارد العقل كالمعتوه.. كانت الأم وأطفالها يملأون الغرفة بقهقهات هيستيرية متواصلة تثير الاشمئزاز.. صرخت فيهم بغضب: اخرسوا.. شتمت الجميع، أسمعت الماكرة أن دمها ثقيل جدا، وان ما يجوز لي لا يجوز لها.. وأنها تجهل تماما قواعد المزاح ، والاكيف تصطاد لحظة تعبي لتستغل توتر أعصابي، وتسخر مني أمام الأولاد... حاولت بكل ما أملك من عبارات الردع الجارحة أن أبرر موقفي من سرعة فزعي.. أعلمتهم أنني عندما كنت طفلا ، كنت بين أندادي، من أعظمهم شجاعة وأقواهم ثباتا في مواقف الصمود والتصدي.. وكنت ممن يدقون الاوتاد بين المقابر في الليالي المظلمة... لم أكن أعرف خوفا أو تهيبا .. أما في هذه المرحلة، وقد كبرت ، فقد صرت سريع التأثر، شديد الحيطة، نتيجة لما بلغته من كمال العقل، ونضج التجربة ، لذلك فأن طيراني العمودي من الفراش.. عندما نبهني مزمار اللعبة.. ما هو في الحقيقة سوى رد فعل لما أتمتع به من ذكاء، وشدة حذر...‏
                              كنت أثرثر كالمحموم.. لم يستطع ولدي الكبير أن يكتم قهقهة تهكمية خبيثة .. فلفظها من حلقه كسعلة ديكية.. كنت ما زلت أرتعش.. حملت حذائي ورجمته به فأخطأه، وأصاب شيئاً ما فأحدث قرقعة نحاسية، أزداد توتري إلى درجة الاحتراق.. عولت على استعمال السلاح الأبيض.. فهرب الجميع من الغرفة.. كانت أسناني تصطك عندما رأيت نفسي منتصبا وحيدا كالبطل المهزوم... كان ريقي قد جفّ.. بلعت الهواء .. راجعت نفسي.. أحتقرتها.. لعنة الشيطان بدون مبرر..‏
                              كظمت غضبي.. وجلست.‏
                              عندما جمعتنا طاولة العشاء الكسكسي... كان الجوّ مازال مشحونا برائحة البارود.. كنا صامتين.. كان الأطفال لايرفعون أعينهم عن صحونهم.. وكنت غير متأكد من سبب ذلك... هل هو الرهبة من سطوتي أم هو مقاومتهم للضحك لو نظروا نحو وجهي المتهجم. وأنا مكشر الأسنان، أمضغ بسرعة كالأرنب وأحيانا أبتلع اللقمة بلا مضغ فيشرئب لها عنفي كالديك الذي يهم أن يصيح.. ثم يكون لها صدى مكتوم، كصوت سقوط حجر في قعر البئر...؟‏
                              كان منظري بصفة عامة مثيرا للضحك وهذا بكل تأكيد... فعندما ركزت انتباهي نحو وضعيتي وتابعت حركاتي الداخلية والخارجية.. لم أستطيع أن أتحكم في وقاري المصطنع.. وبدون مقدمات أنفجرت ضاحكاً من نفسي، راشا بما في جعبتي من طعام مكبوت فوق رؤوس الجالسين.. وقد جاءت تلك القهقهة الجنونية في وقتها المناسب.. حيث توالت انفجارات مضغوطة متداخلة، وتطايرت حبات الطعام كالبرد فشرق من شرق.. وفرغاصا من فر .. ولم نستطع أن نعود إلى حالتنا الطبعية الابعد صعوبة كبيرة وتردد طويل..‏
                              بعد انهيار جدار الثلج.. أشرقت الوجوه بابتساماتها الجميلة..‏
                              فأضاءت زوايا الدار، وعم الفرح العميق قلوبنا.. فأحسسنا كأننا نلتقي لأول مرة بعد غياب وأشواق.. وكان الجميع يحيطونني بحبهم عندما قال لي ولدي الكبير:‏
                              -بابا ألا تغضب لو طلبنا منك شيئا..؟‏
                              - طبعا لا أغضب.. تفضل .. قل..‏
                              - نطلب منك أن تحكي لنا حكاية عنك، عندما كنت طفلا صغيرا..‏
                              -أية حكاية تريدون ..؟ ان طفولتي مليئة بالحكايات‏
                              - نريد.. حكاية الأوتاد التي كنت تدقها بين المقابر في الليل.. قال ذلك بجدية صادقة، فأجبته بارتياح:‏
                              آه.. حكاية الأوتاد.. أو/ الموثق/ لامانع عندي.. أستمعوا ياأبنائي ...؟‏
                              الجزائر 24/1/ 1983‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              Comment

                              Working...
                              X