عبر القصص الاجتماعية
صالح عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ... وبعد؛فإن الحياة مليئة بالمواقف المفرحة والمبكية، السعيدة والتعيسة، التي تسترشد منها الأجيال المتتالية، وتعتبر بمثابة دروس ميدانية مثلها أبطالها على مسرح الحياة بدون اختيار منهم لكون ظروف الحياة هي التي فرضت عليهم أداء هذه الأدوار.
ونحن إذ نجمع بعض أوراق الشجر المتساقطة من تلك القصص الماضية نهدف من ذلك تسليط الضوء على تعاملنا مع بعض ومراجعة كل منا تصرفاته حتى لا يخسر الكثير ويتنازل عن أرصدته الإيجابية لمن يحب ولمن يكره.
هذه القصص المختارة تعبر عن الواقع المشرق والمظلم في تعاملنا، وتصور ظلم الإنسان لأخيه عندما ينام الضمير، أو يضعف الوازع الديني، فيطغى بما يملك من قدرات أو إمكانيات على إخوانه الآخرين ويتجاوز بذلك الحدود الشرعية ويدفعهم إلى سجن أنفسهم وآهاتهم داخل صدورهم إلى حين أن يجدوا الصديق الأمين الذين يثقون به فيمسح دموعهم ويفضون له كل ما يثقل كاهلهم؛ ليخفف من تلك المعاناة ويدمل جراحهم ويربطهم بالله، ويعينهم على التحلي بالصبر الذي هو من أعظم العبادات، ولا شك بأن البشرية مهما عملت لن تقضي على الصراع بين بذور الخير ونوازع الشر التي تعتبر نواميس هذه الحياة، ولكن المساعي المبذولة تنحصر في تقليل كفة الشر وحصره بعيدًا عنا.
وأنت أيها القارئ الكريم واحدٌ ممن نثق بهم؛ فهل تساعد تلك الفئة الحزينة على إذابة معاناتها، وإخراج نفوسها الحزينة من سجونها. والله الموفق.
قتلتني أمي وهي لا تدري
وَعيتُ الحياةَ بِدُونِ أبٍ، وعَرَفْتُ أخيرًا بأن أبي طلّق أمي وتزوج بأخرى، كما علمت بأن دخله محدود ومتواضع؛ حيث يعمل مستخدمًا في مدرسة ابتدائية، وقد خصص لنا مبلغ خمسمائة ريال شهريًا فقط، وهذا المبلغ القليل الذي لا يكفي لسد إيجار البيت نستبشر بمقدمه عندما نستلمه، ثم يتبخر سريعًا، كما أن الجمعية الخيرية تقدم لنا مساعدة مالية نخصصها لإيجار البيت والضمان الاجتماعي، أيضًا يمنح والدتي مساعدة مالية كل سنة، لكن كل هذه المساعدات تقضي عليها متطلبات الأسرة المتنوعة والضيوف الثقلاء من أمثال فاتورة الكهرباء التي تزورنا كل شهر وتلاطفنا حتى ندفع لها حقها، ثم فاتورة الهاتف التي تصرح وتلمح وتهدد بقطع العلاقة معنا حتى نعطيها حقها، وفاتورة الغاز، وفاتورة الصيانة لأدوات البيت والأجهزة كالثلاجة والمكيفات والغسالة ثم الفاتورة التي تلتهم كل ما تجده وهي فاتورة الأكل، وأهم منها فاتورة ملابس المدرسة ومتطلباتها وملابس الشتاء والصيف والمناسبات التي تفرض حقوقها بالقوة، ناهيك عن فواتير أخرى ترفع رأسها بين كل فترة وأخرى، مثل العلاج ومتطلبات الضيوف، وأثاث المنزل وغيرها، كل هذه التكاليف تعتبر كابوسًا تحمله أمي وحدها فوق رأسها كل يوم وتسعى أن تتخلص منه سريعًا وتسأل الله دائمًا العون والفرج.نعم أنا أكبر واحدة في البيت بعد أمي، ولهذا وجب علي المسهامة قدر استطاعتي في حساب الفواتير المدفوعة بل التضحية، فإن لم يكن لدي دخل أساهم به فمن حقها علي أن أقطع ما أستطيع لأضعه في سلة التوفير، ولذلك سعيت منذ عرفت الواقع، بل منذ وقفت اللقمة في حلق والدتي أن أقف معها قدر استطاعتي؛ لذلك تنازلت عن شراء ثوب للمدرسة للعام الجديد، وقبلت لبس مريولي القديم مع الحذاء القديم؛ سعيًا لتقليل التكلفة إلى جانب تقليل طلباتي ما استطعت على الرغم من أن المنافسة حادة بين الفتيات في سوق التباهي والتفاخر، وبشكل خاص في مثل سِنِّي حول المشتريات المدرسية والحذاء؛ لأنه يعبر عن مستوى الأسرة القادرة على اختيار الأفضل والأغلى على الرغم من وجود ضوابط مدرسية لتقييد ذلك إلا أن الفتيات يخترقن جدار الضوابط، ويجدن ما يتبارين حوله من الأقلام والأدوات الهندسية وأدوات التربي الفنية وتجليد الدفاتر والأقلام وأنواعها وغيرها.
ومعلمتي بالفصل – سامحها الله – التي تجهل واقعي الاجتماعي والاقتصادي أصحبت تتندر بي من حيث لا تدري، وأنا أموت بالفصل خجلاً وألمًا لأني أتصنع بأني في مستوى تلك الفتيات، ولا أحب أن أظهر بينهن بأني فقيرة وغير قادرة على تأمين متطلبات المدرسة.
ذات يوم أكَّدْتُ عليَّ المُدرِّسة بتغيير حذائي الشتوي القديم المتهالك، ثم لامتني مرة لعدم تجاوبي معها، وعندما قرر بنات الفصل تحسين الفصل، ومساهمة كل فتاة بمبلغ من المال سأَلَتْ: مَنِ التي لم تُسَاهِم؟ فَأُشِيرَ إليَّ، فقالت: يكفينا منك مساهمتك في تغيير حذائك. لعلَّها كلمة سهلة قالتها ولم تعرف أبعادها؛ ولكنها كلمةٌ قاسية، تمنيت وقتها أن الأرض تنشق فتبلعني، لم تقف الأمور عند هذا الحد بل عندما دعي الفصل للمساهمة في مساعدة الشيشان تخلَّفْتُ عن الدفع لضيق ذات اليد، فألبستني وشاحًا جديدًا وقالت كل الفصل يتجاوب ويتعاون إلا "نورة"؛ شايفة حالها أو أنها غير حاسَّة بالآم الفقراء المساكين، ولم تَدْرِ أني أكابد متاعب كبيرة جدًا؛ ليس لعدم مساهمتي فقط، ولكن لضيق ذات اليد وأكثر ما يؤلمني كلمات معلمتي التي تخنقني كلما هممت أن أخرج للهواء الطلق بل إنها والله تقتلني يوميًا.
ربما كلماتها سهلة عند شخص كبير لديه لياقة في الصبر والتعليل الداخلي، ولكن لفتاة في مثل سني تصبح أجراس كلماتها تجعلني أتجرع واقعي المرّ ساعاتٍ وساعات ... ماذا أعمل حتى أكون في مستوى غيري فأرضي معلمتي؟!! رفقًا معلمتي بغصون من الأحاسيس ما زالت طريَّةً ... رفقًا معلمتي بي فهل ترفعين أسهمك على حساب جثة ميتة؟!! خافي من الله، ألا ترين أنك قضيت على مستقبلي، وأنت ترفعين وتستعرضين دفتر واجباتي أمام محكمة الطالبات قائلة: لسنا بحاجة يا نورة لمساعدتك بل اشتري بها على الأقل دفتر لك ... ما أسهل الكلمات عندما تقال، ولكنها كالفأس الذي يهوي على رأسي مما جعلني لا أطيق البقاء بالمدرسة، حجبت دموعي وخلفها سترت مشاعري ثم ذهبت إلى منزلي أجر الألم والحسرة.
لقد تمارضت وادّعيت أمام رفيقاتي وجيراني بأن ظروفي المرضية وظروف والدتي تعيقني عن مواصلة الدراسة، مرّت ثلاثة أعوام وفيها نضجت أكثر، وعرفت الحياة بطريقة أحسن ثم تعرف أحد أقاربي على الموانع التي عاقتني عن مواصلة دراستي فساعدني جزاه الله خيرًا وبذل جهود كبيرة حتى عدت مرة أخرى لمواصلة دراستي.
والآن تريدون نهاية معاناتي، ولعل أسلوبي في تناول قصتي خير دليل يعرفكم بأني أصبحت باحثة اجتماعية في مؤسسة داخلية أثبت جدارتي بفضل الله لأني أصبحت لا آخذ بالظواهر بل أبحث عن الدوافع والمسببات، وأرجو ألا أُخْطِئ مثل معلمتي التي أعترف لكم بأنها خدمتني كثيرًا من حيث تدري ولا تدري؛ حيث علمتني في المدرسة كثيرًا ودربتني بظلمها كيف أتقن مهنتي وأتجنب ظلم الآخرين.
ولكن إذا نَجَتْ نورة من الغَرَقِ بأعجوبة، فكم من فتاة غيري ستغرق تحت ألواح مظهرية ومطالب شكلية لا تستطيع أن تحملها إلى شاطئ الأمان؟! وحتى لا تقلقوا على والدتي؛ فمع أني تزوجت وعملت فقد خصصت لها شيئًا من راتبي وفاء بدورها ووقوفها معنا والتزامًا بمنهج رب العالمين الذي يدفعنا إلى التكافل والبر والرحمة بوالدينا وبأقاربنا وأرحامنا.
معلمتي ... مرة أخرى رفقًا بنا؛ فكم من بنت فقيرة! وكم من أخرى والدها من ذوي الدخل المحدود مثلي! وكم من بنت تعيش في ظروف الله أعلم بها! صحيح نحن أفضل حالاً من غيرنا، ولكن يوجد معنا من هو أفضل منا فالمقارنة غير متكافئة.
Comment