Announcement

Collapse
No announcement yet.

اروبا تقع ضحية نجاحها

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • اروبا تقع ضحية نجاحها

    هذه أول هزة بهذا الحجم تصيب جسم الاتحاد الأوروبي. اتحاد في مطلع شبابه، في السابعة عشرة من العمر، يواجه للمرة الأولى مسؤوليات الحياة الصعبة ويحاول الوقوف وحيداً على قدميه. كان لا بد من مبالغة اليونانيين في انفاقهم الى الحد الذي يسمى في لغة الميزانيات تبذيراً، كي يستفيق الاتحاد، الذي ولد عام 1993 من رحم ما كان يعرف بالسوق الأوروبية المشتركة، الى أن الوحدة النظرية على الورق وفي الدساتير لا تعني بالضرورة وحدة في القيم المشتركة وفي الأهداف.
    للمرة الأولى يفيق أهل الشمال الأوروبي، وبالأخص الألمان منهم والفرنسيون، آباء مشروع الوحدة الأوروبية في الأساس، الى أن هناك بلداناً في الجنوب، وشواطئ مشمسة، على أطراف جزر اليونان وجنّات اسبانيا ومسابح البرتغال، والى حد ما مفاسد صقلية، لا تهوى ساعات العمل الطويلة التي يغرق فيها الشماليون، الذين لم تتيسر لهم نعمة الشمس الساطعة على مدى ثلاثة أرباع أيام السنة. صحيح أن حلم الانتماء الى أوروبا راود بلداناً كهذه، ومعه حلم جواز السفر الموحد وأسواق العمل المفتوحة. لكن ماذا عن المسؤوليات المترتبة على هذا الانتماء؟ وماذا عن الشراكة في أعباء الإنفاق وفي طرق وأساليب الحياة؟
    لم تقتصر صعوبات الاندماج الأوروبي على هذا الفارق في طرق العيش بين الشمال المتجمد والجنوب المشمس فقط. جاءت بعد ذلك مسألة أوروبا الشرقية والرغبة المتسرعة في ضم تلك الدول الى العالم الغربي. بدت تلك الخطوة في وقتها وكأنها انتقام من انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه ما بقي من أحلام حلف وارسو. لكن ما أعقب تلك الخطوة كان أسوأ ما أصاب المشروع الأوروبي: تفاوت واسع في مستويات العيش وفي الأوضاع الاقتصادية بين مجتمعات كانت خارجة للتو من كنف الشيوعية وأخرى لم تعرف سوى الأنظمة الرأسمالية بوتيرة أو بأخرى منذ الحرب العالمية الثانية، وتدفق كبير لليد العاملة الرخيصة وغير المؤهلة في أغلب الأحيان الى أسواق الاقتصادات الناجحة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعها مشاكل ما صار يعرف بـ «الهجرة»، وهي هجرة قانونية وداخلية في كل حال. وفي الوقت الذي أخذت ألمانيا على عاتقها، وهي أكبر اقتصاد وأقواه في الاتحاد الأوروبي، إعادة تأهيل نصفها الشرقي، الى حد باتت واحدة من أبنائه قادرة على تبوؤ منصب المستشارية في البلد الموحد، كان لا بد أن يتكفل الاتحاد الأوروبي بأسره بإعادة تأهيل الدول «الشرقية» التي انضمت الى عضويته، مع ما ترتب على ذلك من أعباء مالية.
    بدأت الفكرة حلماً بـ «ولايات أوروبية متحدة» على نسق الولايات المتحدة الأميركية. لكن ذلك الحلم الذي يعود الى عام 1957 ومعاهدة روما لم يستطع أن يقفز فوق المشاعر القومية التي تسري في عروق أبناء الدول الأوروبية.
    لقد أثبتت أزمة اليونان المالية أن القوانين الاقتصادية الموحدة التي تفترض السعي الى إنقاذ هذا البلد الذي وصل الى الإفلاس، وبالتالي إنقاذ العملة الموحدة (اليورو) معه، لم تمنع بروز اعتراضات في صفوف نواب وقانونيين، ناهيك عن عامة الناس، تتساءل عمّا يفرض على دافع الضرائب الألماني مثلاً تعويم «مواطنه» اليوناني الذي يقضي في عمله نصف الوقت الذي يمضيه الألماني ويبحث عن أول فرصة للتقاعد بأجر كامل!
    أوروبا قارة ناجحة بكل المقاييس، ولا يعلم نعمة نجاحها إلا من يغادرها الى قارات أخرى، عند أطراف هذا العالم الواسع. لكن القارة القديمة التي تسعى الى تجديد شبابها من خلال اتحادها ليست مطوقة فقط بأعراضها الداخلية، بل أيضاً بالتنافس المحتدم على دورها الاقتصادي من اقتصادات ناشئة وناجحة، من آسيا في الشرق، حيث العمالقة الثلاثة الصين والهند واليابان، وصولاً الى البرازيل، تلك «القارة» التي تحتل الجزء الأكبر من أميركا اللاتينية، مروراً طبعاً بالولايات المتحدة. ليس صدفة أن يكون الدولار أول المتعافين على حساب أمراض اليورو وعوارض الاقتصاد الأوروبي.

    الياس حرفوش
    الياة اللندنية
Working...
X