Announcement

Collapse
No announcement yet.

المرأة المسلمة وحرب العالم على حجابها

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • المرأة المسلمة وحرب العالم على حجابها


    المرأة المسلمة وحرب العالم على حجابها
    مؤامرة أم خلع لعقلها وهويتها ..؟

    قبل فترة وجيزة من الزمن نسبيا كانت حكايات التضييق على المرأة بشأن حجابها نادرة نسبيا، ومن ذلك مثلا عندما أحدثت مروة قاوقجي "ثورة علمانية أصولية"، ومن قبل عندما تجرّأت إحدى الميليشيات الفاجرة على نزع الحجاب عن رؤوس بعض المسلمات، ومن بعد عندما فُصلت عدة محجبات من العمل على شاشات التلفاز.. كما أحدث ما سمّي موجة "الفنانات التائبات" ضجة إعلامية، ونشطت معهن أو ضدّهن أقلام وأقلام، وطوال تلك الفترة الطويلة، كان حديث مَن يسعون لنزع الحجاب حديث "التنوير والتحرير" دفاعا عن المرأة "المنكوبة" بمجتمع "ذكوري".. وكانوا يستندون فيما يروّجون له على ما سبق ذلك من مقدّمات بذلوا فيها "الغالي والنفيس".. بنشر ما نشروه من "فكر وأدب وفنّ وإعلام"، من قبل أن يطلّ القرن الميلادي العشرون على العالم والبلدان الإسلامية وخلال عقوده المتعاقبة، وهو ما استمرّ على مدى عدة أجيال.. ولكن لم يطلّ القرن التالي إلا وقد أصبحت نسبة المسلمات المحجبات في أنحاء العالم أكبر من أن يمكن التصدّي لها بذرائع "تنوير" لا يعرف من "الفكر التنويري الأوروبي" شيئا ولا من "تحرير" النساء إلا بقدر ما حرّر (!) من أرض مغتصبة وكرامة مهدرة وأمّة تعاني من مختلف أمراض التخلّف دون استثناء.

    لم تعد تجدي الذرائع تحت عنوان "المجتمع الذكوري" المرفوض جملة وتفصيلا، سواء كان "همّه" إكراه المرأة على الحجاب، أو كان "همّه" إكراه المرأة على نزع الحجاب.. ومع ضياع مفعول الذرائع القديمة نتيجة الإقبال على الحجاب على أرض الواقع، بدأت تُطرح ذرائع جديدة، دون أن تتبدّل وجهة "المعركة" التي يخوضون، ثمّ ما لبثت أن استُخدمت "أسلحة متطوّرة" أيضا، فلم تعد تقتصر على "أفلام وروايات" و"حركات وجمعيات" و"كتب ومجلات" بل أصبحت تشمل "قوانين وأنظمة" و"حملات وسياسات".. على أعلى المستويات.. "تنويرا وتحريرا!" مقلوبيْن رأسا على عقب، فما عاد أدعياء التنوير يحترمون "إرادة المرأة"، ولا عاد أدعياء تحريرها يتقبّلون ما تقرّره هي من خلال حريّتها!..

    إلا أنّ ما يلفت النظر من معالم التغيير الملموسة هذه الأيام، أن ساحة تلك المعركة الكئيبة توسّعت، ليس لأن "المجتمع الذكوري" ازداد رسوخا، وإنما لأنّ "الجبهة النسائية المحجّبة المستهدفة" ازدادت عددا وانتشارا، وتبدّلت كمّا ونوعا.. فهم يواجهون هذه الأيام عددا لا يُحصى من النساء، الشابات والمسنّات، ربّات البيوت الكريمات والعاملات الكريمات، الأمّيات (بفضل "سياسة التحرير والتنوير" على مدى عقود وعقود) والمتعلّمات (رغم انحراف المتعنّتين الذين يريدونها مغلقة العقل وراء أبواب مغلقة).. ومن أولئك النساء في كل أرض وتحت كل سماء، مَن يؤثرن الحجاب أو يؤثرن النقاب.. فلم يعد يقال "وراء كل عظيم امرأة" -والشعارات جميلة.. ولها دورها المقصود دوما- قدر ما بات يقال: وراء كل محجبة "ذَكًر مستبد"، أو "عمل إسلامي مستغلّ"، أو "تدبير إرهابي أحمق".. ولو أجري إحصاء أو استفتاء -نزيه!.. رغم ندرة النزاهة- من أقصى الدنيا إلى أقصاها، وكُشف من خلاله بالأرقام أنّ النسبة الأعظم من المحجبات والمنقبات يصنعن ذلك انطلاقا من إيمانهن، وبملء إرادتهنّ، ولا يجدن فيه ما يمنع من تحرّر.. وعلم.. ومعرفة.. وسياسة.. وعمل.. لتفتقّت أذهان عباقرة صنّاع الشعارات، من "المدافعين عن المرأة رغما عنها".. عن مقولات وشعارات جديدة مبتكرة!..

    • • •
    لم يعد يمضي يوم أو أسبوع على أقصى حدّ دون أن نسمع أو نقرأ أو نشهد شيئا يؤكّد أن المعركة جارية على قدم وساق، من فرنسا إلى باكستان، ومن بلجيكا إلى فلسطين، ومن تونس إلى السعودية.. وعلى كل مستوى من المستويات، نقابا وحجابا، مدرسات ومتعلمات، دوائر رسمية ومؤسسات عامة، في دول ديمقراطية ودول استبدادية وحتى في أوطان محتلة، من جانب مسؤولين مسلمين ومسؤولين من غير المسلمين.. ولو تابعنا الإعلام بشيء من التمحيص، فلربّما وجدنا ما يكتب ويقال في هذه "المعركة" أضعاف ما يكتب ويقال عن انتشار أسلحة الدمار الشامل ومن يحقّ لها صنعها وامتلاكها ومن لا يحقّ له.. وقد نذكر بالمقابل عندما مُنعت فتاتان تلميذتان في مدرسة فرنسية قبل بضعة عشر عاما من التعلّم بسبب الحجاب، كيف انبرى بعض "الغيّورين!" على إعلامنا -لا سيما الإسلاميّ التوجّه- للتهكّم حينا والقول الجادّ حينا آخر: هل أصبحت قضية حجاب فتاتين أهمّ من قضية فلسطين وسواها، والعلاقة مع الدولة الفرنسية وسياساتها؟.. علام الاهتمام إذن بنزع حجابهما وكأنه قضية القضايا في فرنسا المتنوّرة؟..

    كلّا.. القضية قضية تنوير وتحرير.. قضية تنوير فكر أولئك الذين لا يريدون لعقل المرأة أن يكون "مستنيرا" فتقرّر لنفسها هي، ما تريد.. إذا كان "حجابا"!.. وقضية تحرير أولئك الذين كان وما يزال همّهم الأكبر ما يصنعونه ويزعمون أنّه "تحرير المرأة" ولا يرونها متحرّرة إلا إذا سلّمت قيادها لهم في "مجتمهم الذكوري" بامتياز.. العاجز عن نهوض أو تحرير أو تقدّم!..

    وينبغي الإقرار بأنّهم ليسوا "أغبياء" عندما جعلوا من الحجاب (أو النقاب) قضية، وخاضوا ويخوضون بسببها معركتهم الكبرى التي مضى عليه أكثر ممّا مضى على أطول الحروب الأوروبية التي حملت عنوان "حرب المائة عام"، وأنفقوا عليها ما يتجاوز قطعا جميع ما أنفق على أي ميدان من ميادين التقدّم والرقي، والعلم والتعليم، والزراعة والصناعة، والبحوث والتقنية الحديثة، وشؤون الدفاع وتحرير الأرض.. ربّما باستثناء ما أنفق وينفق على صعيد السياسات الأمنية والأجهزة القمعية!..

    ولكن ليست القضية في حربهم العالمية الجارية منذ قرن وأكثر من الزمان، قضية حجاب ونقاب، بل قضية "رأس المرأة" وما فيه من عقل وإرادة، فالمرأة التي تملك عقلها وإرادتها، وتتعلّم وتنجز، وتعطي وتبدع، وتربّي وتدعو، قادرة -بأضعاف ما يصنع مجتمعٌ ذكوري كمجتمعهم "المتنوّر"- على صناعة التغيير من أعمق أعماق جذوره، على صناعة الإنسان القادر على التغيير، ذكرا كان أو أنثى، ولأنّ الحجاب أصبح يعبّر عن هذه المرأة، أصبح مستهدفا أكثر ممّا مضى -وليس الذي مضى قليلا- إذ يعبّر أيضا عن "التزامٍ" بمنظومة قيم، إذا نشأ عليها جيل جديد، سقط في "ساحة المعركة" مفعول جميع ما يستخدمون من أسلحة، وهم يستخدمونها كي ينشغل كل جيل جديد، بكل أمر من الأمور، خارج دائرة التحرير والنهوض والبناء، وليكن ما يشغله أدبا وفنا وفكرا، أو علما وبحثا وتقنية، فالمهمّ ألاّ يوظف شيئا من ذلك في تعزيز منظومة القيم في مسيرة التقدم والتحرير، ويستحيل على أمة من الأمم النهوض دون منظومة قيم تضبط مسار التقدم والتحرير، ويستحيل على أمّة ناهضة الاحتفاظ بنهوضها إذا اهترأت لديها منظومة قيمها.

    • • •
    ما أسوأ شعار "وراء كل عظيم امرأة!".. وما أسوأه لو قلبناه وقلنا "وراء كل عظيمة رجل!".. فلا يقول هذا ولا ذاك إلاّ من فقد القدرة على رؤية الإنسان إنسانا، امرأة كان أو رجلا، ينجز ما ينجز من خلال تحرّر إرادته، وعلوّ همّته، وصواب رأيه، واستمرارية عطائه.. فإن صحّت قيمه وموازين خلقه وسلوكه، ترتّب على إنجازه خطوة كبيرة أو صغيرة من خطوات النهوض والتقدّم، وإن لم تصحّ فقد يصنع حربا عدوانية إجرامية، أو يوظف ما يملك للهيمنة والسيطرة، أو يوجّه ما يصنع لنشر الفقر والبؤس، وإن حكم ظلم، وإن خاصم فجر، وإن رأى حوله المآسي والنكبات.. عجز وقعد!..

    الأمة التي تعيش في الدائرة الحضارية الإسلامية، من مسلمين وغير مسلمين، من الرجال والنساء، مرشّحة في هذه الحقبة التاريخية أكثر من أي وقت مضى، أن تكون هي من يتابع مسيرة التقدم البشري بعد أن انحرف مسارُها، وأظلم "تنوير" فكرها وسلوكها، وافتُضح واقع السيطرة المادية عليها، واهترأ مفعول سلطان أسلحتها.. ولهذا باتت مستهدفة بمزيد من الحروب من جانب من يدافعون عمّا بقي من مواقع هيمنتهم وسيطرتهم على مصير البشرية، وليست ساحة تلك الحرب الهائجة على "رأس المرأة" في دائرتنا الحضارية الإسلامية، إلا واحدة من ساحات أخرى، لترسيخ الاستبداد والقمع، وترسيخ الاحتلال والاغتصاب، وترسيخ الهيمنة والتبعية، وترسيخ العجز والضعف.

    الأطفال والناشئة مستهدفون.. عبر مناهج التدريس والتربية والترفيه، وجيل الشبيبة مستهدف.. عبر شغله عن القضايا المصيرية بكل ما سواها، والأسر مستهدفة.. عبر حملات نشر الفقر والبطالة، والناشطون في أي ميدان كريم من ميادين العطاء والإنجاز مستهدفون.. عبر حملات القمع والقهر الهمجية العلنية، ومن ارتقى فوصل إلى درجة "المقاومة المسلّحة" لتحرير الأرض المغتصبة والسياسة العاجزة.. مستهدف بالقتل والحصار الإجرامي مباشرة.. أما النساء، ناشئات وبالغات، فأصبحن مستهدفات في جميع هذه الميادين، لأنهنّ موجودات عاملات في جميع هذه الميادين، وما حجاب المحجّبات منهن، إلاّ صورة من صور هذا الاستهداف، لأنه أبرز ظهورا للعيان، وأقوى تعبيرا عن تحرّر إرادتهن ورسوخ قيمهنّ.

    وليس التركيز على استهداف المرأة في دائرتنا الحضارية الإسلامية عشوائيا، بل هو حصيلة رؤية واعية عميقة.. فالمرأة المتحررة العزيزة الكريمة بقيمها وسلوكها، لا تصنع المستقبل من خلال صناعة الأبناء ودعم الأزواج -كما يردّد بعض المخلصين- فحسب، بل هي التي تصنع المستقبل من خلال إنجازاتها الذاتية أولا، ومن خلال صناعة "الإنسان" ثانيا، ذكرا كان أو أنثى.. من خلال صناعة الإنسان الحرّ المقاوم المناضل، والمتعلّم العامل الباحث، القادر على العطاء رغم العقبات والعراقيل والقمع، والقادر على الإنجاز رغم ألوان العداء والاستبداد والقهر، والقادر على الرؤية المستقبلية البعيدة، والرؤية الشاملة المديدة، رغم حملات التضليل والانحلال والانحراف.

    لقد تحرّرت المرأة إلى حدّ كبير في دائرتنا الحضارية الإسلامية، وتجاوزت تحرّرَنا في معظم الميادين، وهذا ما ينبغي أن نبذل الكثير لتحقيقه.. لحاقا بالمرأة المتحرّرة.

    لا خوف على هذه المرأة المتحرّرة في "ساحة الحرب" التي جعلوا الحجاب عنوانا لها، مجرّد عنوان لِما هو أوسع وأشمل وأعمق تأثيرا.. لا خوف عليها فقد سبق وحرّرت إرادتها رغم كلّ ما واجهته على مدى عدة أجيال متعاقبة، إنما يُخشى على شعوبنا ألا تحقّق تحرير إرادتها -بالقدر المؤثر الفعال- في مختلف الميادين التي لا يمكن أن تقطع فيها شوطا حقيقيا نحو النهوض والتقدم ما لم تتحرّر الإرادة أولا.
Working...
X