Announcement

Collapse
No announcement yet.

سر الحضارات

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • سر الحضارات




    سر الحضارات


    قليلة هي المعلومات عن بدء الحياة على الأرض , واصعب من ذلك معرفة متى وكيف وجد الإنسان على هذا الكوكب الاستثنائي , فما نعلمه أقل بكثير مما نجهله , و ليس وجود الإنسان على الأرض إلا سرا ً من أسرار خالق الكون . بدأ الإنسان يتعرف على محيطه منذ خطواته الأولى , وكان حظ البقاء للأذكى والأقوى , حيث استطاع جنس البشر الذي يستعمر الأرض في الوقت الحاضر ( الهوموسابيان ) التغلب على قساوة الحياة , بينما تقهقرت واختفت كائنات عديدة بسبب عدم قدرتها على الاستمرار والتأقلم كما هو الحال بالأخ الشقيق للهوموسابيان ألا وهو الإنسان ( النيانتردال ) , كما اختفت كائنات عديدة حسب قاعدة لكل شيء بداية ونهاية والبقاء لله .
    بدأ الإنسان يستعمر الأرض على شكل تجمعات حيث عرف بالفطرة ضرورة العيش مع الآخرين , عرفها لأنه بحاجة للحماية والعاطفة , وهكذا نجد سر التجمعات عند كل الكائنات الحية لأنها أدركت بالفطنة ضرورة البقاء بجانب بعضها بعضاً لتحمي نفسها وتشعر بالطمأنينة .

    ولقد بدأت الحياة على الأرض تدريجياً خلال فترة من الزمن لايمكننا تقديرها بالضبط , ولكننا نستطيع القول بأنها أستعمرت الأرض بفترات متتالية , أما وجود المخلوقات المعقدة كالإنسان الذي ينتمي إلى فئة الثديات فهي ترجع إلى حقبة واحدة جمعت قمة ماأبدع الخالق من الحياة على الأرض .

    بدأ الإنسان يستعمر الأرض بالتعرف إلى قوانينها وماكرمه الله به من الذكاء والفطنة , واستطاع منذ البدء نتيجة التجربة والاختبار التعرف إلى قواعد الحياة وناموسها , استطاع أن يعبر الزمن خلال الحقب المتتالية كالعصر الحجري والحديدي والبرونزي مستعملاً ذكاءه وقدراته الكامنة في التعرف على مااستطاع من أسرار الخالق والكون .

    مر الإنسان خلال الحقب السابقة بخطى ثابتة , واستطاع أن يراكم المعلومات بطريقتين : الأولى هي نقل تجاربه عبر الأجيال , والثانية وهي الطاقة الخفية التي لم يدركها الإنسان إلا في الوقت الحاضر , لقد علمنا حديثاً أن المورثات تنقل التغيرات الطارئة على الإنسان مع الزمن , ليس فقط من الناحية البيولوجية ولكن أيضاً تلك الملكات المكتسبة من البيئة . إن التأقلم والتكيف جعل الإنسان مزيجاً من تراكمات بيولوجية وروحية عبر الزمان , وليس من الغريب أن ندرك أن ماتوصلنا إليه من تقانات فائقة التطور في الزمن الحاضر ليست إلا حصيلة تجارب مر بها الإنسان عبر الحقب , وخصوصاً خلال العشرة آلاف سنة الماضية منذ وجوده على الأرض .

    أتت كلمة الحضارة من الحضر , وهي تعني وجود الإنسان ضمن مجموعة تربطهم قواعد منظمة للحياة ( أخلاقية , إقتصادية , ثقافية ...) , وعرف التاريخ حضارات عميقة عبر الزمن لم يصلنا منها إلا بعض الومضات , فالمنطق يشير إلى أن الحضارة الاشورية والفرعونية وحضارات شرق أسيا لم تكن لتظهر من العبث , وأن وراءها عمق زمني تتوج بظهورها على هذا النحو من التألق والعظمة .

    ولقد نشأت حضارات متعددة في أماكن مختلفة على الأرض , ففي فترة ليست بالبعيدة عن الأنظار , نشأت في منطقة الشرق الأوسط الحضارة الاشورية والفرعونية ومن ثم اليونانية والفارسية والرومانية , هي قمة ماعرفه الإنسان من الحضارات القديمة , ولذلك أطلق على هذه المنطقة بمهد الحضارات , قدمت أروع مالديها وأبدعت لسبب أساسي أنها أطلقت عنان التفكير وقامت على أسس البحث عن الحقيقة . لقد وحد أخناتون الآله تحت عبادة إله واحد , ومن ثم جاء قانون حامورابي , ومن ثم جذور المنطق والفلسفة عند اليونانيين , وتألق الفن والعمار وطرق القتال عند الرومان , كل ذلك جعل الإنسان يسير إلى قدره الذي نراه متوجاً بأعلى التقانات في الزمن الحاضر. أما الإسلام فلم ينتتشر فقط كدين وإنما انتشر أيضاً كحضارة ,لأنه استطاع منذ البداية أن يستوعب ضمنه الحضارات الأخرى ونهل منها العلم والمعرفة , وعندما انغلقت الشعوب الإسلامية على نفسها ورفضت أن تتعلم من الماضي ومن أخطائها , عندما انحسر تفكيرها على تأدية واجبها الديني بالشعائر الدينية فقط , دون أن تربط بين ذلك وواجباتها وسلوكها اليومي , دون أن تمعن النظر في سر الكون ومعنى الحياة , عندئذ ضاقت بها الدنيا وبدأت تجف ينابيع العلم والمعرفة وانتشر الجهل والفساد .


    وحتى نستطيع تفسير الحوادث ومعرفة سر الحضارات ومصيرها علينا إدراك النقاط التالية :
    1-لايوجد أكثر من الحضارات عطاءً , فهي حتى عند ضعفها وذوبانها تنقل معها شعلة النور لتضيء درب من تحمَّل عناء حمل الراية . ولم أجد أجمل من الشعلة الأولمبية التي تتناقلها الأيدي لتوضح كيف تنتقل المعرفة من حضارة لأخرى عبر الزمن . الحضارات لاتموت لأن كل مانراه ليس إلا نتاج تجارب تضافرت لتوصلنا إلى مانحن عليه الآن .
    2-عندما تتقوقع حضارة على نفسها وترفض التعلم من دروس الماضي , ومن تجارب غيرها , وتختار أن تكون مسيَّرة وغير قادرة على الإبداع والاكتشاف , وعندما تكَّبل بالقيود الفكرية ولاتستطيع أن تنطلق في حرية التفكير نتيجة المسلمات والمحرمات , عندها تحكم على نفسها بالتراجع والتقهقر ومن ثم الذوبان في الحضارات الآخرى نتيجة ضعفها وتفككها .
    3-العقل هو القوة الكامنة المحركة للحضارات . لم تكن الثورات الناجحة على مر الزمن نتاج ثورة الفقير ضد الغني , أو الشعب ضد السلطة , ولكنها كانت نتاج ثورة العقل ضد الجهل والتخلف . وتظهر الحقائق عندما يستيقظ الإنسان من غفوته ليكتشف سر الكون , لأن سر الكون يكمن في العلم والمعرفة وتغيير الذات , لأن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم .
    4- ترتبط النهضة الحقيقية للمجتمعات بالنهضة الفكرية , فالعقل قوة جبارة لايقف أمامها اي حاجز إلا إذا وضعنا نحن الحواجز أمام انطلاقه وتطوره . ولم تعد وسائل الاستعمار السابقة ضرورية لتسيطر على بلد ما , فيكفي أن نستعمر العقول عن طريق برمجتها وإغراقها بالفيروسات حتى نتحكم بمصير الشعوب .
    5-الفكر التحليلي والإبداعي والفلسفي هو محرك الحضارات ومحرضها على التقدم , وهو الذي حرر الإنسان الغربي من الخنوع والجهل وأطلق فكره من التقييد , وشجعه على حرية التفكير والتعبير , وأرشده إلى توزيع السلطات , وهو الذي ساعد المجتمع الغربي على التقدم والازدهار , وهو العامل الحاسم في ثقافة الغرب وسر تفوقه .
    6- مصير كل حضارة بأيدي شعبها وبما كتبت أيديهم , فالدول تنهزم من الداخل وإن مفاتيح الحل في تغيير النفوس , ففي أعماق الإنسان تكمن عوامل إعاقته أو عوامل ازدهاره .


    *

    جاء في ديوان الإمام الشافعي رضي الله عنه مايلي :

    نعيب ُ زماننا والعيب ُ فينا ومَالزماننَا عيب ٌ سوانَا
    ونهجو ذا الزمان بغيرِ ذنب ٍ ولوْ نطق َ الزمان ُ لنا هجانَا
    فدنيانا التصنع ُ والترائي ونحن ُ بهِ نخادع ُ من يَرانا
    وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكل ُ بعضنا بعضا ً عيانَا
    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون
Working...
X