Announcement

Collapse
No announcement yet.

وداعا محمد عفيفى مطر

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • وداعا محمد عفيفى مطر

    الكلام عن الشاعر المصرى الكبير محمد عفيفى مطر، الذى غيبه الموت، مساء الاثنين الموافق 28/6/2010، يكشف عن إشكاليات متعددة فى علاقة الشاعر والمثقف الكبير ببلده ولغته وانتماءاته واختياراته، وكيف يدفع دائمًا ثمنها إذا آمن بها.لم يكن محمد عفيفى مطر، المولود فى 30 مايو 1935، مجرد شاعر كبير وفقط بل كان مثقفا رفيع الطراز مثلما كان وظل حتى آخر لحظات عمره إنسانا يحمل هم إنسانيته وبلده وانتماءاته، وحتى لا يتحول الكلام عن عفيفى مطر، إلى مرثية ذاتية، فالأقرب للحديث هو العام والمشترك، أما الشأن الذاتى أو الشخصى، فهذا ما يخص بلا ادعاء ولا مزايدة، ولا حق لأحد فى التطرق إليه، ولأنه دائما للنهايات حديث القرب إلى الذاكرة، فسأبدأ بالحديث الأخير.





    غسلت كفنى بزمزم وجففت فى الحرم!
    «كنت أحج»، هكذا باغتنى عفيفى بالرد عن أحواله، وبسمة تملأ الوجه وتنتشر به، «تعرف»، واصل عفيفى، «لقد اشتريت كفنى قبل حجى من عرقى وأخذته معى فلقد كان كيانى كله ممتلئا بإحساس أننى لن أعود وسأدفن هناك، لذا جهزت كفنى معى، ولما أوشك الحج على الانتهاء وأيقنت أن موتى مؤجل، غسلت كفنى فى ماء زمزم ونشرته فى الحرم ولما تجفف من هوائه طويته وحملته راجعا لأكفن فيه متى حانت ساعتى».


    أنت واحدها..
    الحديث السابق مفتاح للتعرف على شعر محمد عفيفى مطر وشخصيته، فلو أن أكاديميا قرأه لتوقف عند دلالات لا تخطئها عين قارئ، نعم! هذا هو عفيفى مطر الذى أصدر الديوان القنبلة «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» فى بغداد 1986، كاتبا فى مدخله: (جرأة إهداء.. إلى محمد.. سيد الأوجه الصاعدة.. وراية الطلائع من كل جنس.. منفرطٌ على أكمامه كل دمع.. ومفتوحةٌ ممالكه للجائعين.. وإيقاعُ نعليه كلامُ الحياة فى جسد العالم) مستحضرا كل ما يمكن لشاعر نشأ على اللغة القرآنية أن يستحضره، ومعلنا به انتماءه الكبير لأمة عربية كان يرى أن لغتها العربية الواحدة تجمعها لتقف ضد أى هجوم.

    تشكك كثيرون فى مرجعية الديوان، وقالوا فى كتابات منشورة إنه أى عفيفى يرتد إلى الأصولية بعيدا عما كتبه قبل ذلك فى يونانياته مثلما فعل فى «ملامح من الوجه الأمبيوذوقليس»، لكنه رد بأن «الإسلام كان مرجعية من مرجعيات مبدعين مثل جيته الألمانى، أو أنطونيو جالا أو بورخيس من اللاتين الكاثوليك، أو غيرهم ممن لا يحصيهم العد، ولكن الإسلام بالنسبة لى ولغيرى من مواطنى الأرض العربية والإسلامية، مسلمين وغير مسلمين، هو المحور التكوينى لهوية الأفراد وعصب الرؤية والفكر والثقافة والإبداع، أنكر من أنكر أو ادعى غير ذلك من ادعى، وهو النور الذى يضىء ما نقرأ أو نحاور أو نبدع، ولست أدرى مذلة حضارية ومهانة وإهانة ثقافية أبشع من القمع الذاتى الذى يمارسه المنحطون المتخاذلون وهم يظهرون انتماءاتهم العمومية، فرحين أو مزهوين بينما يخفون هوياتهم الأصلية».

    ولعل هذه القناعة هى ما استدعاه إلى أن يعود مرة أخرى ليناقش هذه العلاقة.

    مئوية لوركا وحوليات الإبادة
    قبل أعوام، احتفل العالم بمئوية الشاعر الإسبانى الشهير لوركا، وتزامنت هذه الاحتفالية مع فرض العقوبات الاقتصادية على العراق وضربه المستمر بالقنابل والطائرات فى تحالف قادته أمريكا، ودفعت العراق ثمنا غاليا له من آلاف الأطفال والمدنيين العزل الذين كانوا يقتلون كل يوم، وجد عفيفى هذه الاحتفالية فرصة ليعيد مناقشة العلاقة التى حكمت شاطئى البحر المتوسط أو كما كان يسميه بحر الدم، «هو بحر واحد على ضفتيه تتناحر شعوب رغم إرث مشترك كان فى غالبه إرث الدم».

    استحضر عفيفى فى هذه القصيدة، روح لوركا ليناقشه، ويكتب معارضة لقصيدته الشهيرة فى رثاء صديقه مصارع الثيران إجناثيو سانشيز، التى عرفت فى العالم باسم: بكائية لوركا، واتخذ فيها من عبارة «دقت الساعة الخامسة» جملة محورية يرصد فيها لحظات هياج الثور وانقضاضه على المصارع وقتله له وكيف سيطر لون الدم الأحمر على الحلبة التى كان ينتظر أن تعلن تتويج المصارع بالفوز لكنها شهدت مصرعه.

    استخدم عفيفى فى قصيدته عن مئوية لوركا ميراث الدم الحاكم بين شطرى المتوسط وكيف أن ساعة الغرب تدق دائما، للذين يقيمون فى جهة البحر الأخرى، الخامسة: «إنها من أبد القتل تدق الخامسة».


    عمر الباكى فى زمان الضحك
    فى ستينيات القرن الماضى، عندما كانت الأبواق تعلى الصوت بالغناء لأزهى عهود الديمقراطية والتقدم، وقعت هزيمة الخامس من يونيو 1967، التى عرفت بالنكسة، اختار عفيفى أن يحاكم العصر وسبل الحكم والنظام الناصرى القائم كله، فى ديوان «شهادة البكاء فى زمن الضحك»، مرتديا قناع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ومستحضرا عدله الذى سمح له بأن ينام آمنا تحت ظل شجرة، ليحاكم به شمولية العصر وبوليسيته، التى غيبت الوعى الفردى والإنسانى لصاح الوعى الجمعى، ليبدو عفيفى وقتها مغردا خارج السرب وكاشفا لما يرفض الجميع رؤيته.

    لقد استنكر كاتب بقامة محمود أمين العالم موقف عفيفى، ولأن العالم كان واحدا من كبار النقاد والمثقفين، التقط إشارة عفيفى وموقفه الضدى من الخطاب الإعلامى السائد وقتها، فكتب ناقدا عفيفى فى مقالة شهيرة قال فيها إنه «الشاعر الذى يبكى ونحن نبنى السد العالى»، لكن موقف العالم وعفيفى معا لم يخرج عن الخط فى علاقة النقاد بعفيفى وشعره، وعلاقة عفيفى نفسه بالدولة وخطابها الرسمى.


    الغول للأبد
    فى تسعينيات القرن الماضى، أصدر عفيفى كتابا نثريا رفيع المستوى، تناول فيه ما يمكن أن نعتبره سيرة ذاتية سماه: «أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين»، استعرض فيه الملامح والمؤثرات التى أسهمت فى تكوينه الثقافى والشعرى والإنسانى، وتناول فيه قضية علاقة المثقف بالسلطة الرسمية وما تمثله أجهزة إعلامها الجبارة فى مقطع بعنوان «الغول للأبد»، وشرح فيه أنه من اللحظة التى يقرر فيها الكاتب أن يبتعد عن الخطاب الرسمى للدولة وأجهزة إعلامها الجبارة فإنه ينأى بنفسه كل يوم إلى النسيان إذا لم يكن مترفعا عما يمكن أن يغدقه الحاكم أو يمنحه من مكسب مادى، ورأى أن هذا هو قانون العلاقة التى حكمت المثقف بالسلطة منذ العصر الفرعونى، لذا يقرر فى جلاء أنه اختار أن يبتعد عن أجهزة الدولة وإعلامها وألا يكون من كتبة السلطة أو سدنتها.

    وموقف الاستقلال عن الدولة وعطاياها، امتد معه طيلة حياته، فالذى لا أنساه وتحتفظ به أوراقى ما كتبه من أنه «قبل جائزة الدولة التشجيعية 1986 بعدما اتصل به الناقد د. صلاح فضل وقال له أن يقبلها باسم جموع المثقفين حتى لا تتأكد الكلمة «السخيفة» قالها وكتبها بيده من أن الشعر مات فى مصر وحتى لا تحجبها اللجنة».

    لم يكن هذا هو مظهر استقلاله أو ثمنه الوحيد، فعفيفى مطر لم يطبع أى ديوان له على الإطلاق فى طبعته الأولى، حتى جاوز الستين من عمره، من هيئة رسمية فى الدولة، فى حين أن أعماله التى طبع معظمها خارج مصر، طبعتها له مؤسسات رسمية كوزارة الثقافة السورية والعراقية، وحتى أعماله الكاملة عندما صدرت، صدرت هى الأخرى عن دار الشروق عام 2000، ثم التفتت الدولة لقامة بحجمه بأن أعادت هيئة قصور الثقافة طبع ديوانين له، ثم أصدرت هيئة الكتاب أخيرا له مختارات من أشعاره فى مكتبة الأسرة وطبعت له ديوانا آخر.

    ولم يكن موقف النشر الرسمى أو الجوائز هو الثمن الوحيد الذى دفعه، حيث اعتقل خلال ضرب العراق وشهد تعذيبا ترك أثره على أنفه حتى وفاته، لكنه ترك للذاكرة الأدبية والشعر العربى ديوانه الشعرى «احتفاليات المومياء المتوحشة»، الذى فضح فيه ممارسات الأجهزة الجبارة إزاء شاعر ومثقف كبير لم تحتمل الأجهزة أن يكون له موقف يعادى توجهات القطيع.


    طرق النقد السهلة
    «يفضل النقاد دائما الطرق المطروقة السهلة لذا لم يلتفتوا كثيرا»، هكذا علق عفيفى على موقف النقاد من كتاباته التى اعتبرت رأس حربة التجريب والتجديد فى موجة شعر الستينيات العربى.

    إدوارد الخراط، الشاعر والناقد والكاتب الكبير، قال عنه إنه الغريب الغامض كالليل، وهو ما أشاع فى أجواء النقاد والأكاديميين مقولة منتشرة حول صعوبة شعره وغموضه، لكنه رد بأنه دائما «يرى شعره واضحا وضوح الابتذال»، وعلى الرغم من هذا الموقف كانت التفاتات الأكاديميين لشعره تتزايد وتكبر، مقدرة قيمة شاعر آثر أن يحفر لنفسه خطا بعيدا عن المطروق والمألوف من الشعر حوله،

    فبدأت كتابات الدكتورة فريال جبورى غزول، مثل مقالتها الشهيرة فى مجلة فصول: فيض الدلالة وغموض المعنى، وهى الكتابة الفاتحة لكثيرين، ثم سرعان ما تبعها الدكتور شاكر عبدالحميد والدكتور رمضان بسطاويسى، ليقدم عبدالسلام سلام دراسة جامعية لنيل الدكتوراه حول الخطاب الشعرى عند عفيفى مطر، فى آداب المنوفية، تلته غادة إبراهيم فى آداب القاهرة برسالة ماجستير، ثم كاتب هذه السطور برسالة ماجستير عن أثر العلاقات النحوية فى تشكيل الصورة الشعرية عند عفيفى، فى تربية عين شمس، ثم شوكت المصرى برسالة ماجستير حول إشارات الجسد فى شعره، وتبعهم آخرون فى طرق باب شعره الثرى.


    رجل يلبس الأخضر دائما

    للون الأخضر فى شعر عفيفى حضور طاغ، كان تجليه الكبير فى قصيدة «امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا»، التى نشرت فى مجلة إبداع فى ثمانينيات القرن الماضى ثم ضمها ديوان «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» فيما بعد.

    وقالت رسالة جامعية، نوقشت فى دار العلوم بجامعة القاهرة، حول شعراء الستينيات فى مصر، إن اللون الأخضر عند عفيفى يرمز إلى نرجسية شديدة، لكن الذى لم تعرفه صاحبة الرسالة أن رجلا نشأ فى خضرة ريف مصر، قرية رملة الأنجب بمركز أشمون بالمنوفية، وعمل فى مدارس قرى كفرالشيخ، لا يمكن أن يملأ حياته أى لون سوى الأخضر، بكل دلالته على الحياة والنمو.

    انحاز عفيفى للأرض للدرجة التى قال عنه الشاعر حلمى سالم إنه أى عفيفى هو شاعر الفلاحة بامتياز، وربما كان هذا هو الدافع المستمر لكى يظل عفيفى مرتبطا بقريته وأرضه ولا يجد بدا من الذهاب كل يوم إلى الحقل كأى فلاح مصرى يزرع ويقلع، كما يقول، وتظل القاهرة عنده مجرد محطة انتقال يرحل منها وإليها لكنه لا يقيم فيها دائما.

    وربما حمل شعر عفيفى مثلما حملت حياته دوافع تجعله شاعر الفلاحة، أو الرجل الأخضر الذى رأى دائما أن محبوبته «لعشاقها ملكوت من الخضرة الدائمة».

    الأرض والحواكير القديمة
    ارتبط عفيفى مطر الشاعر بتراث قريته ارتباطا جعله يفرد ديوان «يتحدث الطمى»، الصادر فى القاهرة 1977، للخرافات الشعبية فى سابقة كانت استثنائية فى مسيرة الشعر الحديث.

    عرف الشعر الحر ارتباط الشاعر العراقى الراحل بدر شاكر السياب بقريته جيكور وكتب لها، لكن يتحدث الطمى كان حدثا شعريا استثنائيا، حيث أفرد عفيفى الديوان كله للأحاديث القروية المهجورة والحكايات الشعبية المرتبطة بقريته ونشأته الأولى فيها، باعتباره فلاحا يقدم للعالم أحاديث قريته التى أوشك النسيان على طيها.

    لم يكن توظيف الخرافة أو الأسطورة بجديد على شعر عفيفى نفسه، فقد طرق الشعر اليونانى، خصوصا فترة ما قبل الفلاسفة، وتناول ملامح الوجه الأمبيذوقليس فى ديوان، ثم تناول فى «والنهر يلبس الأقنعة»، التراث العربى والأندلسى على وجه الخصوص، ليعود إلى شخصية عمر بن الخطاب فى شهادة البكاء فى زمن الضحك، لكن إفراد ديوان كامل لحكايات القرى المنسية كان شجاعة تستحق التنبيه إليها، خصوصا أنه وضع له عنوانا شارحا: «قصائد من الخرافة الشعبية».

    موتٌ ما لوقتٍ ما

    أعلنت ميثاق الإقامة بالرحيل
    وتركت وقع خطاى فى ظل الشجر
    واساقطت ما بين عينى والبلاد
    زمردات من حجر
    فعرفت طعم الخبز مرتجفا
    وقلت..
    وقال لى الموتى
    أطلت
    استألفونى بالتذكر
    وارتمى عنى الرداء.
    اه يا دهر هات ما شئت و انظر عزمات الرجال كيف تكون
    ما تعسفت فى بلاءك الا هان بالصبر منه ما لا يهون






    sigpic
Working...
X