(( غيبـــوبــــة ))
(( قصــة قصيــرة ))
تـاليـف : عبيــر عـدنـان القطـب
كانت غارقـة في يم من الأفكار والمشاعر المتضاربة حين هبت على وجهها نسمة هواء باردة وهي تجلس الى جانبه في الحديقـة العامة ، نسمة الهواء أعادتها الى جلستها وكأنها قذفت بها من فوق السحب الى حضن يديه ثانية ، هي تحبه بلا شك وقد أحبتـه منـذ اللقاء الأول الذي كان منذ حوالي العاميـن في بيت صديقـة لها ، ليلتها كانت هي متأنقة كعادتها بل كانت مشعة اشعاعـا غير عادي اذ أن فرحتها بزواج أعز صديقاتها كان يملؤها سعادة انعكست على وجهها فأضاء وعلى جسدها المشـوق فأخذ يتمايـل وكأنه غصن ورد تداعبه نسائم الصيف
وكان هو ، شاب وسيم وخفيف الظل ، يأسر الحاضرين بحكاياته ونكاته ، حتى أنه أمسى محطا لأنظار جميع الأناث في الحفـل ، فهذة تسأله وتلك تحادثه والثالثة تبتسم له ، أما هو فعينيه لم تفارقاها لحظة ، لقد اختارها من بين عشرات الفتيات وقلبـه خفق لها دونا عمن سواها
عاشت معه خلال السنتين الماضيتين حياة لم تتخيل انها موجودة ، كانت جزءا منـه لا يتجزأ وكـان هو جزءا أو كلا منهـا ، أحبا بعضهما حبا لم يعرفه أحد وانصهرا كيانيهما لدرجة انهما قد أصبح بينهما تشابها ملموسا في طريقة الكلام وطريقة التفكير وحتـى في الشكل نفسه وكأن ملامحهما قد أعيد تشكيلها ثانية
كل هذا ولم يذكر حبيبها كلمة الزواج ولو مرة ، بل انها هي نفسها لم تخطر لها الفكرة ، فحبها له جعلها تعيش في حالة رضى وسعادة لا ينقصها شيء ، ولكن الاصدقاء والصديقات بدأوا بالتساؤل ، لماذا لا تتزوجان ..؟؟ انتبهت هي للموضوع وكم من المواضيع تفوتنا وينبهنا لها المحيطون بنا ، فأحيانا تشغلنا الحالة التي نعيشها عن تفاصيل غاية في الاهمية
انتبهت ثم تسائلت بدورها (( صحيح ، لماذا لم يطلب مني الزواج حتى الآن ..؟؟ ))
ولأنهما لم يتعودا أن يخفي أحدهما شيئا يشغله عن صاحبه فقد طلبت منه اليوم أن تتحدث اليه في شأن ما ، وحضر واختارت أن يكون اللقاء في هذة الحديقة تحديدا ، لكن الساعات مرت وأوشك الليل أن يحل وهي لم تتحدث بعد ، ربما لأنه يضع ذراعه على كتفها كعادته دائما ؟؟ لقد أحبت دائما أن تجلس معه في هذا الوضع ودأب الاثنان على الجلوس هكذا في كل مكان حتى لو كانا يجلسان مع مجموعة من الأصدقاء
كان يجلس واضعا ذراعه على كتفيها وكأنه يمتلكها كلها وكانت هي منتشية بهذا الاحتواء ، كانت تشعر أن ذراعه يحمها من العالم بأسره وأنها هنا .. بالقرب من قلبه ..في مأمن من أحزان الدنيا وشرورها
كانت تستسلم لهذا الشعور فتتحول لقطة صغيرة بين أنفاسه التي تداعب وجهها بينما هو يتحدث او يضحك ، وسرعان ما تجد رأسها قد مال باتجاه صدره و استقر عليه في زاوية محددة بالقرب من رقبته
لم يكن يضيرها أن تقبع هكذا لعدة ساعات بل كانت تتمنى أن تمتد الجلسة لأيام أو شهور وليتها تمتد للعمر كله ، فلا شعور يضاهي شعورها النوراني وهي قريبة من قلبه تسمع دقاته وتشتم عبيره الذي يفوح من أنفاسه ومن ملابسه ومن رائحة عرقه
اليوم هي جالسة أيضا تتعبد في محراب حضنه فكيف لها أن تجمع أفكارها وتحدثه في موضوع الزواج ؟؟ فهي لا تشعر اساسا برغبة في كسر سحر اللحظة ، كانت غارقة بالتفكير حتى باغتتها النسمة الباردة فأنتفضت انتفاضة بسيطة جعلته ينتبه بعد أن كان هو بدوره غارقا في يمه الخاص
نظر اليه بحنان وهمس : مابك ..؟؟
أجابت دون أن ترفع عينيها ناحيته : لماذا لا نتزوج ..؟؟
لم يكن أمامها حل سوى أن تلقي بما يجول في خاطرها هكذا ,, وبدون أي مقدمات
لم يرد على سؤالها ، أخذ نفسا عميقا ثم تقلصت أصابعه على لحمها وأخيرا شد على كتفها وطبع قبلة مؤلمة على أعلى رأسها تشبه ضربة عصا غليظة
ألمتها ضلوعها و عضلاتها فتحركت قليلا لتتحرر من قبضته فلأول مرة تشعر انها سجينة حضنه ، لكنه لم يطلقها بل أحكم امساكها أكثر بحيث انها تألمت فعلا هذة المرة وهمس بصوت متحشرج ساخن : أحبــك
هاجمتها أنفاسه وقد بدأت تستعر نبضات قلبه و تتسارع بشكل واضح ، فخافت وهي التي لم تتخيل يوما أنها ستخاف وهي في أحضانه فأنتزعت نفسها منه عنوة وقالت بحزم :
لو كنت تحبني فعلا فسأنتظرك ووالدي غدا في الثامنة مساءا ، ثم قامت ومشت مسرعة بل انها ركضت خشية أن يلحق بها
لكنه لم يلحق بها ، ولم يأت للموعد في اليوم التالي ، وبعد شهر من القطيعة سمعت ان والدته قد خطبت له احدى قريباته من الأرياف و أن الزواج سيتم خلال فترة بسيطة ، علما بأن عمر الخطيبة ثمانية عشر عاما ، فشتان بين الحب والزواج في منظومتنا الاجتماعية ، أحب من تريد لكن لو اخترت أن تتزوج .. فهذا شيء مختلف تماما ...
Comment