Announcement

Collapse
No announcement yet.

المتصوف جبران خليل جبران ( كثير من المذاهب كزجاج النافذة )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • المتصوف جبران خليل جبران ( كثير من المذاهب كزجاج النافذة )

    جبران خليل جبران المكتوي بنار العرفان والتصوف
    جبران: كثير من المذاهب كزجاج النافذة
    نرى الحقيقة من خلالها لكنها تفصلنا عن الحقيقة
    إسماعيل مروة

    جبران خليل جبران السر، وجبران الفكر، جبران الذي يشبهنا في تفاصيله كلها، لكن ينال حبنا ودهشتنا، لأنه قال ما لم نقل، وملك الجرأة التي نعجز عن امتلاكها، حين حمل ريشته كان شفيفاً كالضياء، فعبر بريشته عما لا نراه من دواخل، وحين كتب نقش سر الروح الذي لا يزول مع الزمن.. تجاوز حتى اقترب من الكنه والسر، وعند الحد توقف عن التعبير.. أعطى الجزء واحتفظ بالسر، قبض على الرمل، واعتصر الزبد، أحببناه لأنه يشبهنا، إلا أننا لم نتمثل به في الاكتواء بنار المعرفة والحب، فتحول هو إلى لون ونظرة عميقة وقصيدة وكلمة.. ومن ثم صار لحناً على فم الخلود، ونحن لا نزال عاجزين عن ولوج عالم حرفه..!! حدّث أبا الهول وتحدث باسمه، صاغ ما يريد وغادر بعد أن أعاد إلى أبي الهول جمال صمته «تكلم أبو الهول مرة واحدة في حياته، وإليك ما قال: حبة الرمل صحراء، والصحراء حبة رمل قال هذا وسكت ثانية ولم يفتح فاه، قد سمعت ما قاله أبو الهول بيد أنني لم أفهم..».
    هل فهمنا ما أراد جبران للذات؟
    نقف أمام ما كتب جبران أحياناً لنقرأ ما كتب قولاً وحكمة، ولكن كيف لنا أن نقترب من عالمه الغائص في الذات والروح؟ جبران لم يعلّق كلماته هذه على الجدران ثم يجمعها، إنه فنان مبدع، وشأنه شأن المبدعين الذين تجاوزوا مراحل الجنون، واقتربوا من حافة الاحتراق في مركز النواة، كثف التجربة بلفظ.. هذا ما كان يفعله فاتح مدرس في مرسمه على أوراق يثبتها على الكتب وبين الأرفف وعلى إطار اللوحات وفي كل مكان يحلّ فيه، ولو تهيأ لفاتح أن تجمع هذه الأوراق، وأن تقرأ، وشرط القراءة فوق شرط الجمع لكانت تجربة كبيرة تختصر علينا تجارب ضياع لا تتوقف لمجتمع ينزف فقراً في الفكر والتجربة والعاطفة!!
    الجزء كل والكل مجموعة أجزاء كذلك هي الصحراء وحبة الرمل عند جبران، هكذا أنطق صديقه أبا الهول، فهل استطاع أن يصل إلى حقيقة الشيء وجوهره؟ وهل نحتاج بعد هذا الكلام إلى كلمة أخرى من أبي الهول؟ ربما كانت الحقيقة الجوهر التي أدلى بها أبو الهول هي التي ساقته إلى صمت مطبق وطويل جداً، ولم يفتح فاه بعدها، وما من سبب ليفتح أبو الهول فاه بعد أن أوجز كل شيء، وأعطانا السبب الذي جعل أنفه متأثراً بالطبيعة ليصبح مجدوعاً بعوامل الطبيعة، وهي الطبيعة التي أرادت استرداد بعض حبات الرمل لتبقى الصحراء كما هي الصحراء، وسواء فهمنا ما تريد الصحراء أم لم نفهم فإننا أمام رؤية وصلت إلى العمق لرمال متحركة نعيش فوقها في صحرائنا تتحرك لتشكل صحراوات ممتدة، وتتجمع لتصل إلى ذرة من رمل متماسكة، وما بينهما نقف حائرين على أرض نحبها ولا نعرف آليات الحفاظ عليها وحبها.. وإلا فبماذا نفسر هذا العمق المتناهي عند جبران في أن يكون أضحية لا أن يكون مفترساً.. «اجعلني يا الله فريسة قبل أن تجعل الأرنب فريستي»؟
    ليتابع: «ما أغربني عندما أشكو ألماً فيه لذتي»! لو بحثنا عن الروح الغيرية في جبران فإننا لن نجد أعمق من الرغبة في أن يكون فريسة لا مفترساً، لا لشيء إلا لأن جبران لا يرغب أن يقف عند الإحساس بظلم الآخر.. ولو جمعنا متعة التصوف والاستمتاع بالألم المحب، لكان جبران مثالاً للتصوف، وهو الذي يترجم قول المقصوف لذات المعبود:
    قلبي يحدثني بأنك متلفي
    روحي فداك عرفت أم لم تعرف
    وجبران يستنكر على ذاته أن تشكو وتتألم من ألم مبرح وممض لأن المتعة في الألم الذي ينعش خلايا الروح وإن أفنى خلايا الجسد.. وأي إحساس أعلى من الفناء والتماهي بذاك المحبوب الذي يجلس وحده ليحدد مقدار ساعة الزمن، بعد ساعة يكون الوحي وتمرّ الأيام دون وصول الساعة إلى الملتقى.. هو يفرح بانتظار المحبوب، ولكن المحبوب يقول له: لقد اقتربت من الألوهة أكثر: (الروح من أمر ربي) و(يسألونك عن الساعة) ولا يدري المحبوب المفرط في الجمال والعذوبة أن المحب لا يتمنى أن تأتي الساعة الموعودة لأنه يراها قيامة، وهو يريد أن يستمتع أكثر في حياة تعبدية بعيدة عن طلاء الأظافر وأحمر لا يشبهه في شيء؟

    الغوص في الجوهر
    ثرثرة تملأ المكان، ضجيج هنا وآخر هناك، وشام تسأل إنسانها، وإنسانها يطفر دمعاً وحباً ودماً.. يعجز عن القول والبوح، وقد لا يفهم الآخر مكاناً وإنساناً ورمزاً أن البوح عجز وما تبقى هو الحقيقة، ولم يكن عنترة بقوله (لو علم الكلام مكلمي) إلا قارئاً مستشرفاً لما يمكن أن يكون من عجز مفروض عن الكلام والبوح، ولا أتوقف عند مفهوم الأنسنة وحده لفرسه، فهذا المفهوم واضح للغاية، لكن المفهوم الأكثر عمقاً يتمثل في قدرتنا على تحمل أن يكون الإنسان أكثر تخلفاً في الإيضاح والحديث لتتحول الأشياء والرموز إلى موجه ومدرس وواعظ!!
    جبران وهو الذي اكتشف مزايا النبوة، وصنع أجنحة متكسرة لطائر لا يريد التحليق فوق شام أو بعيداً عنها يدخل في الجوهر، يغوص طويلاً ليقول: «ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره.. لذلك إذا أردت أن تعرفه، فلا تصغ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله.. نصف ما أقوله لا معنى له، ولكنني أقوله ليتم معنى النصف الآخر..
    إنه العرفان الجبراني العميق، والاعتراف بأن كل ما نقوم به للكتابة أو التعبير ليس إلا محاولات محمومة من إنسان يدعي المعرفة والتفوق والقدرة على القول والكتابة لقراءة وتفسير بسمة كانت ذات لحظة من زمن من امرأة تسربلت الفتنة والنقاء، أو لتحليل نظرة أو كلمة أو إيماءة، أو ابتلاعه لحروف.. وببراعته الجبرانية استطاع جبران أن يدلف إلى جوف الحقيقة دون أن يخاف ابتلاعة الجوف، ليقول: إن كل ما نقوله ليس سوى كلام فارغ لتفسير أو إتمام وذاك جزء من حالة يتماهى فيها المدنف مع الحالة.
    كل ما قاله الأدباء والشعراء في مدينة أو محبوبة لم يتغير، وليس سوى قراءة لحالة قد تكون وقد لا تكون لكنها حالة تطل عليك من شرفة ينسرب منها ضوء خافت إلى حافة اليأس ليقدّم لك طوقاً هو طوق النجاة ولعاشق ظن أن الدنيا ستتوقف عنده، الدنيا لن تتوقف والساعة لن تأتي والمحبوب أمام مرآته.. لكن البعد الجبراني جعل المحب ملتذاً بألمه..!
    ألم يقل الشاعر الصوفي:
    وما شربت لذيذ الماء من ظمأ
    إلا لمحت خيالاً منك في الكاس
    وما جلست إلى قوم أحادثهم
    إلا وكنت حديثي بين جلاسي..؟
    هل يكون الحب بهذا القدر وهذه السرعة؟
    عندما يكون المحب قدراً والمحبوب قادراً، فإنه يسكن ذاكرة الأبد ليستفيق بلحظة واحدة عندما تتعانق العينان بحثاً عن بريق الألم.. وهل في غير شام..؟

    النبل في الحب والمرأة
    يتهيأ لرجل أو امرأة أن اللعنات خاتمة الرحلة، وأن الصدمة نتيجة حتمية، ويأتي سؤال الغباء عند كل التقاء لغيمة مع برق في سماء خالية، وماذا بعد؟
    وهل تسأل الأبدية عن البعدية؟
    «تستطيع المرأة أن تقنع وجهها بابتسامة.. وما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه من أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة.. وما أشبه الراغب في فهم المرأة أو تحليل العبقرية أو حل سر الصمت بذلك الرجل الذي يفيق من حلم جميل ليأكل طعام الصباح.. لو خيّرت بين القوة على كتابة الشعر، وما في الشعر غير المكتوب من الهيام، لاخترت الهيام، فهو خير من الشعر..».
    جبران يفتح أعيننا على أن الابتسامة قناع، وربما تكون الدهشة هي الحقيقة، وقد تختفي المرأة باحثة عن لحظة أو فرصة، دون أن تدري أن نبوءة جبران يقلبها العاشق في فراشه أو بين أوراقه، وهو ينتظر أن تحين ساعة لقاء منتظر، لكنه يتمنى ألا تكون الساعة حتى لا تفسد الابتسامة حقيقة الجمال الإلهي.
    والمرأة عبقرية وسرد حلم أجمل أوقاتها أن تكون رحلة بحث عن تفسير لهذا الحلم وعندما يستفيق الإنسان على حلّ لهذا الحلم يصطدم بالواقع.. الفطور الصباحي..!
    إنها فلسفة البحث عن العصي وغير المفهوم، لعل السر يتدرج بك شيئاً فشيئاً لتجتمع مع ابن عربي وابن الفارض ورابعة لتشرب معهم سلاف خمر العرفان وعندها تصبح من الإله أقرب، وتسكن ثنية في الوجه الآسر، وتبتعد عن حقد الإنسان والكره الذي يحيط جنبات حياتنا ليصبح ناراً قد تطول كل شيء، لكنها لن تصل إلى نخب العرفان وسلافته التي ترشف قبل أن يعرف الآخرون، فالساهر على التقطير الصوفي، وإن كان ينتظر ساعة من زمن لن تأتي، سيكون أول راشف للقطفة الأولى من الخمر.. قد لا تأتي الساعة، لكنها تمنح العاشق الوله متعة انتظار ما يستحق..

    الخلاف وزجاج النوافذ
    كلما سمعت رأياً من أي كان حاولت تذكر ما قرأت ذات يوم، ولكن عبثاً إلى أن عدت إلى ما قرأته لجبران فعرفت أن اقترابه من النبي لم يكن عبثاً «يحتاج الحق إلى رجلين: الواحد لينطق به، والآخر ليفهمه.. كثير من المذاهب كزجاج النافذة، نرى الحقيقة من خلالها ولكنها تفصلنا عن الحقيقة.. مع أن الأمواج للألفاظ تغمرنا أبداً، فإن عمقنا صامت أبداً.. ألا إننا لم نعش عبثاً، أفلم يبنوا الأبراج من عظامنا؟ يغمسون أقلامهم في دماء قلوبنا ثم يدّعون الوحي والإلهام...».
    مرعب هذا الجبران خليل جبران عندما ندخل في تلافيف قراءته، ألم يتحدث الحكماء منذ الأزل عن متكلم ومستمع مجتمع العقلاء؟ لذلك لا نجد حلولاً لقضايانا، حتى في العاطفة لا نجد من يستمع للآخر، وفي الوطن الجميع يتحدث، ولا نجد النوعين من الرجال الناطق والفاهم، الجميع يظن أنه وجد ليقول وليقول... أما النوافذ التي تصدمنا وتبعدنا عن الحقيقة فهي أكثر من أن تحصى، إنها في دواخلنا وفي عدسات عيني الآخر، وفي بحة صوته التي تبكيك ثم تهرب إلى غير رجعة.. والعجز عن التعبير، أو عدم الرغبة في التعبير، أو الحرص على الصمت هو الذي يجعل أحدنا غير قادر على فهم الآخر، وإذا ما عجزنا عن فهم الآخر فكيف يمكن أن نعيش معاً لنحقق على الأقل ما قرأه جبران من أن الأبراج من عظامنا، كما العاشق الفاجر يبني أبراجه من الذين رماهم على قارعة طريق العشق.. وما أقدس دم القلب الذي يدّعي بعده القاتل وصاحب الريشة الوحي والإلهام والتفوق! هذا التفوق لم يكن لو لم يوغل الآخر في دم الإحساس والمشاعر والجسد.
    جبران بعمقه لم يقل، ولكنه قال: ستمضي الأيام ويصبح الملهم دجالاً، ويصبح الدم حبراً يصنع الدجال، وتذهب رائحة الدم لتبقى رائحة الحبر العطرة، وتبقى هذه الرائحة طاغية حتى تُلقى الكتب في نهر لتصبغ لون مائه، عندها سيعود الحبر دماً، وتعود الأمة ضحية لطيش ما.. وتحجبنا النوافذ السمكية عن الحقيقة.. الحقيقة قد تنقذنا، ولكن لماذا نريد الحقيقة؟ وإذا جاءت الحقيقة فكيف سيدعي المدعي بأنه موحى إليه أو ملهم؟ وإذا غابت النوافذ فسنجد من يتكلم ومن يستمع.. ولن نجد أحداً متلذذاً بوحدته، وستصبح وحدة الشخص شريك يشرب من صرف الفكر والرأي والعشق.

    خلاصة الحكمة
    لست أدري عدد المرات التي قرأنا فيها جبران وحكمه، وفي كل مرة تتغير القراءة، واليوم، وربما بدافع مما يجري، وفي قراءة للإنسان وجوهره أجد في رمل جبران وزبده الكثير الكثير.. وبعد كل ما تقدم أقف عند اللحظة القصوى من الجمال، تلك اللحظة التي من أجلها كانت الحياة وتحملنا من يدّعي الوحي والإلهام..! «الجمال العظيم يأسرني، ولكن الجمال الأعظم يحررني من أسر ذاته.. ويشرق الجمال أكثر لمعاناً في قلب المشتاق إليه مما في عيني الذي يراه.. ولا يدرك أسرار قلوبنا إلا من امتلأت قلوبهم بالأسرار» ربّي املأ قلونا بالأسرار، ربما نصل إلى الجمال الأعظم الذي يحررنا على حدود ذواتنا ومدننا وشام.. وامنحنا القدرة على تجاوز النوافذ الفاصلة بيننا، والتي تعوق المعرفة والفهم ولنردد مع جبران العظيم:
    «إذا أخرس تراب الأرض قلب الإنسان فأي قلب يستطيع أن يرجّع صدى صوتنا..؟
    وإذا عميت عيون الإنسان بظلمة الليل، فمن يستطيع أن يرى لمعان مجدنا؟
    قال ذاك لآلهة الأرض وهو ينشد على باب الآلهة:
    «أيها المصلوب. إنك مصلوب على قلبي. والمسامير التي ثقبت يديك
    تخترق جدران قلبي..».
    ... أيها الوطن الجميل.. أيها الإنسان النبيل.. أرادوا.. ولن نخاطبك إلا بالمترجل العصي على الصلب والذبح، ففيك البشارة، وأنت البشارة، ووهبت للعالم مخلصاً... ومخلص واحد يكفي.. فمن حب إلى حب.. ومن مدينة إلى مدينة والخلاصة عطر وإنسان وحب وشام. ووطن مسامير صلبه تدمينا، وبأرواحنا نفتديه مأخوذين بنشوة التصوف على أعتابه.
Working...
X