Announcement

Collapse
No announcement yet.

رواية حفرة فيراب للعراقي حمزة الحسن

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • رواية حفرة فيراب للعراقي حمزة الحسن

    رواية حفرة فيراب للعراقي حمزة الحسن
    حمزة الحسن
    حفرة فيراب/رواية





    نبت في المقهى في الصباح كما تنبت الأسئلة ونباتات البرية وجروح الليل وظل جالسا في زاوية المقهى كمسمار في الكرسي القديم الذي شكل مع معطفه العسكري الأخضر الشاحب الطويل بلون غسق مسائي كئيب وشاحب صورة أقرب ما تكون الى تمثال كلسي لرجل يتكئ على يده كي يتوازن وربما كان نائما أو ذاهلا أو أي شيء آخر في حين كانت رائحة الهواء المبلل برطوبة النهر القريب تعطر المقهى، والسوق المسقوف كما في كل صباح.

    كان من الواضح للأرمني أن هذا المعطف الخاكي العشبي اللون وبصفين من الأزرار النحاسية والجيوب الواسعة على جانبيه، هو من مخلفات الجيش الملكي، ولولا الثوب الأبيض الطويل الذي يلتصق بجسد صاحبه، ويتنافر مع هذا المعطف المنقرض والمختفي من الاستعمال، لفكر صاحب المقهى على نحو مختلف، لكنه الآن يشعر أن هذا الزائر الصباحي الغريب يخرج من حكاية قديمة من زمن تلاشى ليجلس على هذا الكرسي على هيئة صامتة منكسرة وهو معلب داخل هذا المعطف الأخضر الذي بدا من النظرة الأولى كما لو انه خرج الآن من مخزن قديم من مخازن الجيش أو من أي مخزن آخر.

    حين اقترب منه ليسأله عما اذا كان يشرب شايا أو قهوة أو أي شيء آخر،لم يلق ردا، لكن المعطف تحرك قليلا، ومع حركة المعطف في نزوله الى الأسفل، أسفل الكرسي، تحركت في الوجه الحجري عينان حادتان منهكتان من سفر طويل أو من ألم داخلي أو نعاس ثقيل.

    حاول أن يقول شيئاً،أي شيء، لكن حشرجة صدرت من قلب المعطف، صوت أقرب ما يكون الى العواء أو النحيب، وأمسك بقوة بمعطفه كما لو أنه يستنجد به على النطق. قال الأرمني بصوت مسموع كي يساعده على التوضيح: (تسمع؟).رد صاحب المعطف وقد سمع رنين الأزرار النحاسية بهزة من رأسه دون أن يقول شيئاً. قال صاحب المقهى: ( اذن انت تسمع، ولكنك لا تتكلم). رنت الأزرار النحاسية بالطريقة نفسها وبهزة الرأس نفسها، فقال صاحب المقهى وهو يتلقى نسائم النهر في هذا الصباح الغريب كما لو كان يحدث نفسه: (أخرس لكنه يسمع).

    بما ان الأرمني يعرف زبائن المقهى بل كل أهل البلدة سواء الذين جلسوا عنده أو الذين مروا بالسوق الكبير، الا ان هذا الزبون الصباحي غير معروف لديه، كما لو أنه طائر هبط فجأة في المقهى. لم يكن الأرمني يحدس أن هذا الزائر الغريب سيسمى في السنوات القادمة: "بريد السنونو" ويكون جزءا من تاريخ المقهى، ومن تاريخ السوق، بل تاريخ البلدة.

    ظل جالسا في كرسيه كما لو انه يخشى لو تحرك قليلا أن يكسر شيئاً أو يطرد الا عند حلول الظهيرة حين فرغ السوق من حشود الناس الذين يلوذون في هذا الوقت بالحيطان من هجير الظهيرة ونار الشمس المحرقة عائدين الى منازلهم، ويخلو السوق الا من أصحاب الدكاكين الذين يستلقون تحت المراوح ويصبحون جزءا من أثاث المحلات والظلال الباردة المنطرحة فوق أرضية السوق حيث حزم أشعة الشمس تخترق السقف من ثقوب لا ترى وتشكل ظلالا مختلفة الأشكال.

    تلك اللحظة نهض المعطف على مراحل. أول الأمر حرك عنقه للأمام والخلف، ثم لليسار واليمين كما لو أنه يخرج من التحنيط أو من تابوت أو نوم عميق، كطائر يتأهب للطيران، ومشى بهدوء وتراخ نحو السوق، تحت مراقبة الأرمني، وراح يبحث وسط النفايات المرمية عن بقايا طعام، الأمر الذي أغضب الأرمني، فجره الى المقهى، وأشار له أن ينتظر قليلا، ودخل عبر باب ضيق في جدار المقهى وخرج حاملا صينية طعام وضعها بكل هدوء على طاولة صغيرة سحبها معه خلال عبوره أرائك المقهى:( الآن تستطيع الأكل مثل أي آدمي).

    خطر للأرمني أن يسأله من أين جاء وأين يريد؟ لكنه أجل السؤال، فصاحب المعطف الملكي، فكر الأرمني، سوف لن يجد مكانا يأوي اليه الا المقهى، وهو أمر حدث عدة مرات في هذا السوق الكبير الذي يأوي في حجراته مشردين ومجانين وتائهين وشعراء معتوهين بل وحتى الكلاب والقطط والعقارب والأفاعي والطيور والسنونوات التي تختفي في الشتاء لتعود في الربيع حتى ان الأرمني نفسه كان قد كتب عبارة تحت عش سنونوة قرأها يوما في مجلة عن أغنية اسبانية تقول: ايتها السنونوة، متى تعودين الى عشك؟

    حين عادت ضجة السوق مرة أخرى، عصراً، عند برودة الهواء والطرق ومسامير الأبواب ـ آب يشوي المسمار في الباب ، كما يقول المثل ـ كان صاحب المعطف الملكي قد شرع بدون تكليف من أحد برفع أقداح الشاي وتنظيف الطاولات وتنظيم الكراسي وكنس الأرض وغسل مساند الأرائك.

    كان يقوم بكل ذلك صامتا دون أن يخلع معطفه الذي اثار دهشة وسخرية وسؤال بعض الزبائن: هل السيد صاحب المعطف الملكي مبعوث جلالة الملك من القبر؟ هل خرج من المتحف الملكي؟ اين عثر على هذا المعطف الذي يبدو جديدا؟. ولم يكن الأرمني يرد على هذه الأسئلة متظاهرا بالعمل، لكن صاحب المعطف الملكي كان يسمع هذه الأسئلة كما لو أنها تتحدث عن المعطف وليس عنه هو. فما علاقته هو بمعطف ملكي؟

    آخر الليل، اللحظة التي يخشاها المشرد والتائه والغريب، جلس صاحب المعطف منكفئا كغصن مرمي، في حين كان الأرمني يتهيأ لغلق المقهى. ظهرت كلاب السوق، ثم برزت من الظلال العميقة الآن قامة لكائن خرج من عتمة في جدار السوق، ثم مرق قط مفزوع، ورفرف جناح طائر في عش في أعلى السقف. مخلوقات منتصف الليل بدأت تدب في السوق:( تستطيع أن تبيت هنا الليلة. هل تسمع؟ لا تخف. خلف تلك الباب مرحاض ومطبخ صغير. يمكنك النوم هناك أو هنا على الأرائك اذا شئت. كل وأشرب ما تريد. لن يفتح المقهى حتى الفجر. هل تفهم؟) أومأ له بالايجاب.

    سمع صرير باب المقهى وهو ينزل كستارة حديدية،وأصغى لخطوات صاحب المقهى وهي تغوص عميقا في جوف الليل، وقبل أن يغمض عينيه، سمع نباح كلاب، ومواء قطط، وخطوات تعبر السوق متعثرة وتختفي خلف أبواب تفتح بصرير موحش، وأغنية ريفية تأتي من حائط في جدار السوق أو من قلب عزلته الموحشة. حاول أن يقول شيئاً، لكنه أطلق عواءً طويلا قبل أن يغفو على صدى الأغنية وهي تختلط بنباح الكلاب ومواء القطط وخطوات متعثرة تعبر السوق وتختفي كظلال الليل.
    ***
    قبل أن يكمل أحلامه الليلية الطويلة والمرهقة والمبتورة، سمع صرير باب المقهى، وشاهد وجه صاحبه في ضوء الفجر الناعم، وشم رائحة أعشاب نهرية في الهواء. كان ينام على أحدى الأرائك منطويا على جسده كما يلتف حيوان غابي على نفسه من المطر والبرد والريح:( هل نمت جيدا؟) هز رأسه. قال صاحب المقهى :( جلبت لك معي هذه الملابس. هذه السترة أفضل من هذا المعطف الحار والثقيل والنشاز. ليس من المعقول أن تلبس معطفا ملكيا ونحن نعيش في زمن جمهوري. دع هذا الثوب وخذ هذا البنطال. انه على مقاسك).

    تورد وجهه ولاحت لاول مرة ابتسامة عذبة من أعماق وجه مجعد كضفاف شواطئ جافة. فكر الأرمني مع نفسه انه لا يستطيع تحديد عمر هذا الكائن لأن الوجه مغطى بطبقة كثيفة من التجاعيد والخطوط والجروح من كثرة الطرق والأدغال والجداول والبراري والأرصفة والحقول التي عبرها. تناول إفطاره بصمت. حين نبهه الأرمني الى انه من الممكن أن يرتدي السترة الآن كي يرى كم هي مناسبة عليه، هز رأسه، نفيا.

    خرج منه عواء حاد وهو يشير الى البنطال، ففهم الأرمني انه موافق على لبسه، لكن المعطف لن ينزعه. وفكر صاحب المقهى بينه وبين نفسه انه كان قد عرف هذا النوع من الجنون أو الهيام في لبس ثوب أو سترة واحدة في كل المواسم، وكان قد شاهد ذلك على جسد مصطفى ترك الجندي العثماني الذي تخلف عن الانسحاب الى تركيا في الحرب العالمية الأولى وعاش هنا كسائق أجرة وهو يرتدي معطف الجيش العثماني في غالب الأيام حتى صارت رائحة المعطف تترك لدى مرورها رائحة عفنة من عرق وغبار ورغبات صدئة يمكن لزبائن المقهى معرفة مصدرها بدون رؤية وجه مصطفى ترك.

    قال الارمني كما لو أنه تذكر شيئاً :( سيكون اسمك منذ اليوم سنونو. هل يعجبك هذا الاسم؟). واستدرك صاحب المقهى قائلا: ( هل رأيت طائر سنونو من قبل؟). أومأ برأسه بالايجاب. هتف صاحب المقهى بفرح :( اذن، هو الاسم المناسب. هل تعرف لماذا؟ عندي سنونوة تخلفت عن المجيء هذا الربيع من الهند وجئت أنت بدلها. هو اسم جميل. لا تقلق).

    تذكر ان سنونوته كانت تصاب عند ظهور الغيوم القطنية البيضاء وسقوط أول أوراق الخريف بتشنج يجعلها تدور في حركات طيران دائرية حادة قبل موعد الهجرة ولم يكن يعرف، الا حين أخبره مستشاره في كل شيء الطبيب البيطري،طبيب الأسرة وخبير الطقس وشؤون الغرام وأخبار الحرب، إن طائر السنونو يفرز هرمونات استعدادا للسفر وتتواعد أسرابه فوق أسلاك الكهرباء أواخر شهر أيلول، وقال له إن السنونو حتى لو وضع في مكان دافيء في الشتاء، فإن احاسيسه الداخلية تخبره بموعد السفر.

    حاول الأرمني أن يرسخ الاسم فصاح من أعماق غرفة خلفية عبر باب في الجدار:(سنونو، لماذا لم تأكل شيئاً في الليل؟). لم ينتظر جوابا لأنه في كل الأحوال لن يقول شيئاً وان حاول أن يرسم شارة في الهواء تدل على انه نام. أراد أن يقول انه نام على نباح كلب وأغنية ريفية وخطوات متعثرة في السوق وأفاق على بقايا أحلام مشتتة، لكنه لم يقل كلمة في النهاية:(سنونو، أنت منذ اليوم صديقي وستعمل معي في المقهى. لكن ما حكايتك مع هذا المعطف؟ الناس في هذا الصيف تهرب من جلودها وانت مكبوس في هذا المعطف الملكي. هل تحب هذا المعطف؟) أومأ له بالايجاب:(أين عثرت عليه؟) مد يده الى البعيد: (هناك؟ اين هناك؟) تساءل الأرمني لكنه لم يحصل على غير هذا الجواب فصمت إشارة الى مكان بعيد وهو الجواب نفسه الذي حصل عليه حين سأله من أين جاء وأين ولد؟ عقب الأرمني ضاحكا وهو يغسل الصحون والاقداح ويشعل وجاق النار:( السنونو طائر ذكي ويعرف الأمكنة. انت تقول انك جئت من" هناك" أي من البرية. لكن البشر لا يولدون في البرية....).

    وتذكر الأرمني حكاية الصبية صٌفيَّة التي بزغت في مساء صيفي يمامي من البرية قبل عدة سنوات وعاشت دون أن تتذكر شيئاً من حياتها السابقة. لكن الأمر، فكر الأرمني، صعب مع رجل مثل هذا السنونو. حاول أن يعيد النظر في الاسم كي لا يكون مادة للتندر بين الزبائن وغيرهم. فكيف يمكن لسنونو أن يكون على هذا الشكل المزري، وبهذا المعطف العسكري الأخضر الذي يكفي لاخفاء بعير؟

    هبت نسائم النهر وغرق الأرمني في همومه، في حين كان سنونو يغسل المقهى وهو يراقب حركة السوق التي تصاعدت مع الوقت. حين امتلأت المقهى بالزبائن وهم عادة من أصحاب المحلات أو الجنود أو الصيادين والفلاحين القادمين مع بضائعهم من الريف وعمال التنظيف وبعض موظفي الدولة، صاح الأرمني كإعلان عن اسم النادل الجديد:( سنونو، خذ هذا الشاي لعمك في الزاوية. سنونو، قدح ماء للأستاذ الذي يقرأ الجريدة. سنونو، هات، خذ، امسح، تعال...). علق زبون ضاحكا: ( تقول سنونو؟ اذن ماذا ستسمي الثور؟). لم يرد الأرمني لأنه يعرف أن هذا أمر طبيعي أول الأمر ثم ينسى الناس تحت مشاغلهم اليومية حتى انفسهم. قال الاستاذ الذي يقرأ الجريدة:( قل لي سنونو، بروح جدك، أليس هذا هو معطف الملك فيصل الثاني؟). رد الأرمني: (هو لا يتكلم، ولكنه يسمع). علق صياد سمك وهو يغادر المقهى الى النهر، ضاحكا:( لو كان العكس، لكان افضل. ماذا يسمع في هذا الزمان؟). قال الأرمني كما لو انه لم يسمع: ( هل تعرف اننا نسمى السنونو بطير السعد؟ حين يموت ملك يتحول الى سنونو وتظل روحه مرفرفة. انت الآن ملك حقيقي بمعطف ملكي). ضحك سنونو، فتلاشت من الوجه المجعد ملامح طرق وغابات وبراري وأرصفة وضفاف وأدغال كثيفة ووحول وأشواك وليالي أرق ورغبات متعفنة.

    حين جاءت ساعة منتصف الليل، وجهز الأرمني نفسه لغلق المقهى،قال:( يمكنك أن تنام في الغرفة الصغيرة خلف المقهى. لا حاجة للنوم في المعطف لأن رائحته تصبح كريهة مع الوقت. يمكن أن تلبسه في الصباح اذا شئت. هل تريد شيئاً؟) رد بالنفي. قال الأرمني:( طيب، مع السلامة).

    سمع صرير باب المقهى ينزل بقوة هذه المرة، وخطوات الأرمني تضرب فوق الأرض وتضمحل، وتناهى نباح كلب خلال مروره بالسوق، ثم صوت خطى مبعثرة تكاد أن تكون الخطى نفسها وهي تدخل في شقوق الجدران، لكنه لم يسمع اليوم تلك الأغنية الريفية القادمة من أعماق السوق أو أعماقه، لكنه سمع حشرجة تخرج من روحه تختلط بعواء ذئب بعيد. عواء قادم من غابة نائية أو صحراء متلاشية.
    ***
    قال الأرمني وهو يندس في الفراش لزوجته بما يشبه الهمس: (هذا السنونو يثير حيرتي). ردت الزوجة المندهشة:( هل جننت؟ أي سنونو؟) لم يكن قد أطلعها بعد على حكاية الزائر الغريب الذي أطلق عليه لقب سنونو.قال موضحا: (رجل مشرد دخل المقهى صباح البارحة، أخرس لكنه يسمع، لا أعرف من أين جاء واين ولد. قررت ان ينام في المقهى. تبدو عليه ملامح شباب لكنه هرم من إنهاك وتشرد. انت تعرفين ان السنونوة لم تعد هذا الربيع. أطلقت عليه اسم سنونو تيمناً). لم تقل الزوجة شيئاً ولكنها شعرت بساق الأرمني الحارة تحتك بجلدها كما يحتك جواد بجذع شجرة طرية حتى النزف والصهيل لكنه يختلف كثيرا عن عواء ذئب قادم من أعماق غابة أو صحراء متلاشية.

    قالت زوجة الأرمني لجارتها عبر الجدار في الصباح وهي تسألها عن الرجل الذي سلمها سلة التسوق:(هذا سنونو. يقولون إنه درويش وملاك. جاء من البراري وسكن في المقهى. منذ أن دخل السوق والناس تشعر بالبركة والخير. طير سعد، يقولون). ردت الجارة مندهشة: ( ماذا يقول؟) أجابت زوجة الأرمني مفتخرة: ( لا يتكلم ولكنه يسمع. قال حارس ليلي لزوجي إنه سمع عواء ذئب من داخل المقهى بعد منتصف الليل) .ردت الجارة وهي تزداد ذهولا:( هذه علامة على الطاعون).صرخت زوجة الأرمني مذعورة:(أي طاعون، الله لا يوفقك، هل رأيت معطفه الأخضر الملكي؟ انه من سلالة علوية. كيف انت مسلمة؟). قالت الجارة بما يشبه الاعتذار:(ملكي؟ كيف لي أن أعرف وأنا ولدت بعد سقوط الملكية. حقا كان معطفه أخضر. في المرة القادمة بلغيني كي امسح به ثيابي...) وصمتت حياءً ثم أضافت : ( انت تعرفين السبب. قد أرزق على بركته).
    ***
    صار سنونو يطير، صيفا وشتاءً، في شوارع البلدة، حاملا هذه السلة أو تلك، الى هذا البيت أو ذاك، ومع السلال يحمل رسائل أو قصاصات ورق عن طلبات أو مواعيد وحتى تهديدات أو رسائل غرام مشفرة أو عن بضائع وعن رغبات، وحتى لقاءات سرية لعشاق وقد عرف بالكتمان الشديد ولم يتسرب سر رسالة أو خبر ابدا حتى انهم أطلقوا عليه لقب: بريد السنونو. هو البريد الوحيد في العالم الذي لا يخضع لكل أنواع الرقابة والضياع والفضيحة.

    مع الأيام، وذيوع صيته، وانتشار أسطورة الدرويش المقدس، وصاحب البركات، ومحقق الأحلام، وصانع المعجزات، صار يدخل في بيوت عوائل محافظة غنية وفقيرة، وتحول معطفه الملكي الأخضر الى مزار للتبرك والتمسح من قبل نساء فاتنات، كان بعضهن يدعونه الى السرير ويتعرين تماما وهو يفح فوق برية الثراء والبياض كجواد يخب في سهل محترق وتحت حوافره يتكسر حجر ناعم حار، ومعه تتكسر في داخله رغبات كثيرة مؤجلة ومتفسخة.

    الرجال يسألون الأرمني في السوق عن السنونو كي يرسلوا سلالهم الى البيت، مع ان السوق يعج بأصحاب عربات التسوق، وصارت النسوة، خاصة الفتيات، يجلسن على عتبات البيوت في انتظار بريد السنونو، حتى موزع بريد البلدة الوحيد صار ينتظر مروره على نار كي يرسل معه موعده الغرامي الاسبوعي قرب قنطرة خضراء على جدول صغير، بعد حلول الغسق.

    بعد منتصف الليل غادر الأرمني السوق ومشى بخطواته الثقيلة البطيئة المتعبة، فسمع سنونو من خلف باب المقهى صوتا رخوا لأحد سكارى السوق الذين يخرجون في هذه الساعة من الليل من شقوق الجدران مع الكلاب والقطط يقول:( لو تكلمت يا سنونو يوما، فستكون فضيحة مدوية). جفل وفكر مع نفسه: هؤلاء السكارى وحدهم ليس لديهم من يراسلونه. لكن من يدري؟ هل هو البريد الوحيد في هذه البلدة؟ وفي ليلة أخرى سمع هذا الفحيح خلف باب المقهى بعد منتصف الليل:(لم يبق أحدا لم تضاجعه عدا الأشجار). لكن كل هذه الصيحات والهواجس والشكوك والشائعات تختفي في ضجة الحياة اليومية وتلاحق الأحداث.

    تمكن من شراء دراجة هوائية وصار يطير بها على طرق الريف حاملا الهدايا والرسائل والوصايا والمواعيد، وكان مروره العابر والبرقي المثير يحدث في القلوب نشوة تشبه نشوة عيد متنقل. كان يسمع اصواتاً محتفلة مبتهجة من كل مكان، من الشرفات والنوافذ والسيارات والأبواب: "بريد السنونو! بريد السنونو!". أما هو فكان يحلق في الطرق وخلفه يطير ذيل معطفه العسكري الأخضر، هويته الوحيدة في الصيف والشتاء، الذي لم يخلعه مرة واحدة منذ جاء هذه البلدة قادما من البرية، الا عند النوم كما طلب منه الأرمني:( السنونو مر من هنا) أو:( هذه دراجة السنونو). في أعماق ليلة وهو بين اليقظة والنوم سمع هذا الصوت كثعبان يزحف على رقبته من خلف باب المقهى:( سنونو، انت الأب الحقيقي لنصف أطفال البلدة ولكنك وحيد).
    ***
    صرخت زوجة الأرمني يوما حين تسلل زوجها الى الفراش وهو يطلق شررا من كل مسامات جسده من التعب: ( أنت أطلقت في البلدة ثورا في حقل أبقار. سنونوك الدرويش تجاوز كل الحدود). حين سألها ماذا فعل هذا المسكين، ردت غاضبة: ( مسكين؟ لو لم أكن واثقة من نفسي لقلت لك إن أبنك الوحيد منه).عندها بزغ من عيني الأرمني ثعبان أصفر وكان مستعدا تلك اللحظة لتقويض السوق الكبير التاريخي المبني منذ أكثر من قرن. قال وهو يفح:( لكن لماذا هو بالذات؟ هل شيئه به حلاوة وعسل؟).ردت الزوجة بقوة: (غموض الرجل وصمته والحكايات التي دارت حوله كدرويش وعلوي وملكي والخ الخ..). قاطعها وهو يتأملها لأول مرة خلال هذا الحديث:(لكنك أول من اشاع عنه هذه القداسة والرجل مشرد ومسكين). قالت بأسف:( لم أكن متصورة ان الأمور تصل هذا الحد. ماذا نعمل؟) رد الأرمني وقد رق مزاجه فجأة على فكرة شيطانية طارئة :( لن نعمل شيئاً. ليفعل ما يشاء. هو لم يخترع اللبن. لم يخترع شيئاً غير موجود. هل نسيت ماذا فعلت هذه البلدة؟).

    تذكرت زوجة الأرمني،تلك اللحظة،أمه العمياء،الحسناء، المشردة، وهي تلتحف بالحيطان من البرد والمطر والجوع في أربعينات القرن العشرين وفي حضنها الطفل، منتصف الليل، حين كان عليّة القوم والسكارى يأخذونها الى بيوت خاصة ثم يقذفونها في الغبش الأزرق الى الشوارع مع الطفل الباكي. قالت الزوجة وقد عادت من الذكرى بصوت واهن حزين:( انت، اذن، تنتقم؟) رد حالا:( أبدا. أنا آخر من علم منك. هذا عقاب عادل لبلدة يتباهى رجالها في المقهى بعدد من ناموا من النساء في حين تطحن زوجاتهم تحت رحى مشرد وضائع).وأضاف ضاحكا في هذا الجو الغريب:(سنونو هو ملك حقيقي ولو على دراجة هوائية). وحين علّقت زوجته بذات اللهجة:( هذا طائر السعد الذي وعدتنا به؟) كان هو يحرث في أرض تزداد بكرا كلما حرث أكثر وأعمق وأقوى وأعنف وتوغل في الحريق البهي.
    ***
    صرخ شخص ما من خلف شرفة:( السنونو مر من هنا). كان مروره اليومي في الشوارع يطغي على أخبار الحوادث والزواج والموت والحرب كما لو ان الناس بحاجة لحكاية غامضة تنسيهم هموم الحياة وحوادثها، أما هو فلم يكن مشغولا بشيء محدد في هذه البلدة التي صار يكتب سيرتها الذاتية الحقيقية بجسده دونما حاجة الى لغة. ما فائدة اللغة حين تصبح جدارا بين الناس ويصبح الخرس لغة للتفاهم؟لو لم يكشف زيفها صاحب المعطف العشبي سنونو، لكشفه اعصار أو مجزرة أو طوفان أو حريق هائل. لو كانت هذه البلدة متماسكة، لما عراها مشرد أخرس.

    هذا بريد السنونو ـ قالت عجوز وهي ترفع ستارة النافذة للصغار المتدافعين في الغرفة في حين كان آخر ما رأوه هو ذيل معطفه العسكري الأخضر يطير في الهواء كمروحة خضراء في حكايات الأطفال. نادته فتاة بهمس خافت: ( سنونو، توقف، ارجوك) توقف حالا . قالت:( اسمع، ليس عندي ورقة. سأكتب على بطن معطفك وانت تعرف أين تذهب. "من خ. ع. الى فراشة قلبي. الساعة مليون. قرب القنطرة بعشرة أمتار. تعال فور قراءة الرسالة على الخطوط السويدية!").

    حين مر من أمام مقاهي النهار في الشوارع المفتوحة، تبعه شاب على دراجة:(سنونو، عيني، توقف) توقف فورا: ( اسمع، خذ هذه الوردة الى س. ل. سأكتب لك على بطن المعطف" محتاج الى لسعاتك يا بعوضة قلبي"). ويوما صادفه تاجر الحبوب الشهير في البلدة وهو يخور كثور ذبيح صارخا: ( توقف، سنونو، الله يباركك، احمل هذه الرسالة الى صاحب المطحنة....) وراح التاجر الغاضب يبحث عن مكان فارغ في بطانة المعطف وكتب:(أنتظر وعدك اليوم أو أحفر قبرك). كان سنونو يعرف مكان كل رسالة وصاحبها والمرسل اليه وهو لا يُري الا الشخص المعني الجزء الخاص به ويحجب بقية الرسائل.

    بعد منتصف ليلة وهو يشرب الشاي والكلاب تنبح في سوق القصابين سمع هذا الفحيح من وراء باب المقهى:(كل أسرار البلدة في معطفك). تلك كانت المرة الأولى التي شعر أن هذا المعطف صار عبأً ثقيلا عليه وفكر في التخلص منه لكنه قرر غسله وحكه بحجر صلب كي يتخلص من كل هذه الرسائل المبثوثة في ثناياه كوشم على جلد. لكن الرسائل تعود مرة أخرى، وأخرى، وفي كل مرة يتحول المعطف الى بريد متنقل وهو يطير في الشوارع على دراجته وصدره الى الأمام كصقر محلق في فضاء أزرق ومفتوح.
    ***
    فُتح باب المقهى ذات فجر ودخل الأرمني صارخا كالعادة: ( سنونو؟). لم يرد ولم يخرج أحد. لم يكن هناك أي سنونو لا في العش المهجور منذ الربيع ولا في الغرفة الخلفية ولا على الارائك. وفكر الأرمني بحديث زوجته عن غزواته الغرامية. قال يحدث نفسه ربما يكون قد أخذه النوم ورقد في سرير إحداهن أو أنهم كبسوه في واقعة غرام ودفن حيا. عند منتصف الظهيرة، والكلاب تلهث من الحر اللاهب، بزغ وجه سنونو كوجه جرو ناقع في الدهن. كان شاحبا شحوبا مميتا وضائعا وتالفا. هزه الأرمني بقوة :(ماذا جرى؟).

    في الأيام الأخيرة توصلا الى تفاهم كامل عن طريق الاشارات والكلمات المبهمة المتحشرجة التي كانت تصدر من أعماقه الموصدة على الجميع. بعد عشرات العلامات والحشرجات والرموز والاشارات فهم الأرمني ان سنونو قضى ليلة مشؤومة في دائرة الأمن. كانوا يريدون منه أن يتكلم. فهم الأرمني منه بوضوح انه من شدة الضرب حاول فعلا أن يتكلم لكنه كان يصدر بدل ذلك عواءً قال عنه أحدهم :( هذا من سلالة ذئاب أو كلاب وحشية). شرح ذلك للأرمني المذعور. حاولوا بكل مكبرات الصورة قراءة العلامات والرسائل داخل بطانة المعطف لكنهم لم يعثروا على شيء لأنه غسل المعطف للمرة الخامسة قبل يومين. قبل أن يطلقوا سراحه طلبوا منه أن يريهم عضوه . حين رأوه صاح أحدهم كما لو كان يطلق صفارة إنذار:( هذا خرطوم فيل).

    تلك كانت المرة الأولى التي يتعرى فيها سنونو أمام رجال وقد شعر ببرودة مخيفة تزحف فوق جسده وتتحول مع الوقت الى رعشة تشبه رعشة طائر يحتضر بين جوارح. فكر الأرمني ان سنونو قد جرح في أعماقه أكثر من كل سنوات التشرد والضياع والطرق والأدغال. قال له مؤاسيا:(لا تفكر بهذا كثيرا. انه يحدث مع غيرك).

    ذلك النهار لم يخرج من المقهى وانزوى في الغرفة الخلفية حتى منتصف الليل حين سمع صوت صرير الباب ينزل كقضبان حديدية تهبط بقوة ووحشية، وسمع ايضا أنينا خافتا يخرج من قلب معطفه الساخن ممتزجا بعواء ذئاب بعيدة خلف المقهى، خلف السوق، خلف النهر، خلف شقوق الجدران التي ينبثق منها رجال غامضون آخر الليل، لكنه سمع مرة أخرى تلك الأغنية الريفية وهي تندلع داخل السوق كحريق له لون المعطف.

    لم يظهر سنونو في البلدة، وبدا ان الزمن قد توقف، أو أن الايقاع المتناغم والمتوازن والرتيب والمسالم لدراجته الهوائية وهي تحلق في الشوارع قد توقف فجأة، كما لو أن الحياة نفسها، الحياة الأخرى، الخفية، المليئة بمسرات ومباهج ومشاجرات طريفة ومواعيد غرام، قد أصيبت بالعطب، وعليهم التعايش مرة أخرى مع وجه الحياة المنفر:( هل رأيت سنونو؟) أو:(هل من خبر عن بريد السنونو؟). أو :( الأفضل أن نسأل الأرمني).

    لكن الأرمني نفسه قد اختفى هو الآخر. حتى زوجته لا تعرف شيئاً عنه. قيل إنه خرج الى البرية مع سنونو في غسق رماني، وقيل إن روح سنونو الحقيقية قد تلبسته وهي روح شريرة، وقيل إنه أطلق ساقيه للريح على أثر حادثة غامضة، وقيل إنه كبس عليه بتهمة تزعم تنظيم سري يقوده سنونو المتلبس شخصية درويش أخرس. قيل الكثير كما يحصل عادة في البلدة في مثل هذا النوع من حوادث الاختفاء الكثيرة.

    ومثل كل الوقائع الغريبة في هذه البلدة، ظهر الأرمني يمشي في شارع البلدة الرئيس متسرنما. في الحقيقة يمكن القول إن الذي ظهر يمشي هو أرمني آخر غير صاحب المقهى المعروف. هذا الشبح الماشي كظل لا يمت بصلة الى ذلك الرجل القوي الصلب صاحب القامة المنتصبة كرمح عتيق وثمين وأصيل. الشيء الوحيد الباقي من الأرمني القديم هو الحذاء الأسود الشهير ذي الصرير الموسيقي الرتيب والحزام الجلدي الأحمر الذي خاض به كل معاركه. عدا ذلك لا شيء من شخصيته القديمة.

    لقد تم تقليصه الى أصغر حجم ممكن تحت تأثر قوة جهنمية غامضة. حين طرق الباب وخرجت زوجته متلهفة أوشكت على طرده أو سؤاله عن زوجها المختفي. لكن هويته الشهيرة ـ الحذاء ـ هي التي جعلتها تفتح الباب مولولة صارخة تنكث شعرها الأسود الفاحم الحريري المنسدل على كتفيها كشلال ماء على منحدرات صخرية ملساء.

    هذه الانوثة الضاجة هي التي أعادت للأرمني بعض ذاكرته، فحشرج كديك مبحوح:(الى السرير، بروح جدك التافه). توكأ عليها دون أن تفهم شيئاً من الأمر الأخير الصادر منه وحين تمدد على السرير وحاولت تغطيته، انقض عليها ممزقا الثوب الأبيض الشفاف كي يندلق اللحم البض الشهي وهو يعتصره بضراوة في حين كانت تستلقي تحته من الذعر والشهوة والصدمة وكان يردد كالمجنون وهو يسحق جسدها بقوة :( يسقط الحزب! يسقط الحزب!). حين خمدا معا، وساد صمت طويل، سمعا باندهاش هذا الصوت القادم من زاوية الغرفة:(يسقط الحزب...).كانت ذلك الصوت صادرا من ببغاء أخضر اللون يشبه معطف سنونو المشؤوم، حتى اضطروا في الايام التالية الى حبسها في مكان بعيد كي لا يسمعها زوار المنزل، وفشلت معها كل محاولات التلقين لجملة أخرى كما لو أن ذاكرة الببغاء توقفت، كذاكرة الأرمني، عند ذلك اليوم القرمزي.

    قالت له زوجته:(خذها الى البساتين وأطلقها). رد عليها بهلع:(وماذا لو وقفت فوق بناية الحزب وهي تغرد بهذا الهتاف القاتل؟).قالت الزوجة:(وكيف سيعرفون أنها لنا؟) قال لها حالا:(اذا كان سنونو الأخرس أوشك على النطق تحت التعذيب، فهل يصعب ذلك مع ببغاء لسانها طويل كلسانك خارج السرير؟). قالت الزوجة موشكة على الضحك:(كنت أتصورك تصارع الأسود وها أنت تخاف من ببغاء؟). أجاب وقد مد يده الى حزامه لكنه تذكر انه عار في السرير:( لا أخاف من ببغاء يا غبية ولكني أخشى الذل). قالت الزوجة حاسمة الأمر:(لم يبق غير قتلها) رد فزعا، مستثاراً:( قلتِ أقتلها؟ لأنها تهتف بسقوط الحزب؟ اذن تحولت الى جلاد).

    اقترب من قفص الببغاء الذي وضع هذه المرة في قن متروك للدجاج واغلق فمها وجاء بها الى غرفة النوم. نظر في عينيها بتحد وشراسة وهو يردد : (عاش الرئيس! عاش الرئيس!). انتظر انبثاق معجزة في اللحظة الأخيرة قبل أن يصدر بحقها فعلا حكم الموت. تحركت الببغاء وأدارت ظهرها له وهي تطلق ذرقا ذهبيا من أكل اللوز في وجهه وهي تصيح:( يعيش الحزب! يسقط الرئيس!).

    احتقن وجهه كضفدع وهو ينقض عليها في القفص ويكاد أن يسحقها بقبضته المضمومة والتفت الى زوجته الذاهلة وهو يقول غاضبا:(عقلها كعقلك، متعلم على الخطأ والعناد. عاشت معك عدة سنوات وصارت صورة عنك). وأضاف:( لو ظلت على الهتاف الأول، لكان ذلك أهون. تصوري انني محاصر بين سنونو مشبوه وبين ببغاء عنيد. الأول قادني الى حفلة تعذيب والثاني يريد أن يقودني الى حفلة موت. سنونو اختفى مرة أخرى).
    ***
    في مساء ربيعي عذب، والمقاهي ضاجة بالناس على جانبي الشارع الرئيس في البلدة، والمصابيح مضاءة بلون غسقي متوهج، ينتشر على الأشجار والجدران والنوافذ والوجوه، ويعطي الجميع هوية أخرى، أكثر دفئا وعمقا وهدوءا، ظهرت دراجة هوائية من النهاية البعيدة للشارع، آخذة في الاقتراب، فدارت الرؤوس كما لو انها تتابع حركة أحدى النجوم وهي تقترب من الأرض، لكن الدراجة حين تقترب، تذوب في المدى المنظور وتتراجع وتتحلل الى خيوط وتفاصيل وأشلاء ولا تتقدم كما انها لا تتراجع، كما لو انها تسمرت في الضوء المسائي الرخو، أو انها تحلق في نقطة معينة لا تغادرها، ولم يعد هناك أي صوت في صفوف المقاهي على الجانبين عدا التنفس المتشنج والمترقب والبطيء والحذر، حتى صار ضوء المصابيح العمومية آزا بأنين مكتوم وداخلي، لكن ظهر بعد لحظات أن الدراجة تقترب فعلا من المكان وان كانت لا تقترب كثيرا حتى تذوب في الضوء الشفاف السائل من مصابيح معلقة في فضاء مساء ربيعي يسكر النحل والخيول والأزهار والبشر. قبل أن تلوح ملامح الدراجة كاملة، ظهر، كنيزك، اللون الأخضر الشاحب العشبي للمعطف الملكي والأزرار النحاسية وهي تلمع في العتمة المسائية المضيئة الباهرة.

    حين اقتربت الدراجة من صفوف المقاهي الجامدة والمحنطة والمرتقبة، ظهر المعطف بوضوح أكبر، كما ظهر وجه الراكب، وعندها أصيب الحشد المنتظر بصدمة عنيفة. همس أحدهم:( إنه معطف سنونو ولكنه ليس هو. ماذا جرى؟) أجاب آخر، همسا: (هو نفسه لكنهم نزعوا جلده).
    ***
    كان المطر ينهمر فوق سطح السوق في الفجر ويترك أنينا مكتوما في صفائح الألمنيوم أو في الخشب حين فتح باب المقهى وأطل الأرمني على معطف أخضر ينزاح قليلا عن الأريكة. فز سنونو واستدار برأسه نحو الخطوات المحترسة وفرك عينيه كي يستوعب صورة الشبح القادم الذي كان يتضخم ثم يصغر حتى تكشفت معالم الأرمني وهو يقف فوق رأسه كشراع مكسور تسيل من فوق ثيابه قطرات مطر ثم تنساب الى الأسفل وتتساقط فوق المعطف الأخضر الذي تفوح منه مع رائحة المطر رائحة جسد بشري عطن معتق. قال الأرمني بحنان وهدوء:( لا حاجة للشرح. أعرف كل شيء. أخذوك مرة أخرى. هل كان ذلك بسبب النساء؟). هز سنونو رأسه بالنفي. واصل الأرمني:(اذن بسبب المعطف؟). أومأ سنونو برأسه بالايجاب. تابع الأرمني:(اذهب الى الغرفة الخلفية وتناول فطورك. تصرف كما في أي يوم آخر. هل تشكو من شيء؟ الم مثلا؟) أومأ سنونو بالايجاب. قال الأرمني:(وأنا كذلك. يبدو أنهم سيصنعون منا وحوشا). قال ذلك وانصرف يرتب الكراسي والطاولات والأرائك ويشعل نار الوجاق، في حين كان نور الفجر يتسرب الى السوق على صوت مطر مكتوم ورتيب ومتواصل يختلط بآذان الفجر القادم من مئذنة الجامع.

    فكر الأرمني في رؤية الواجهة الداخلية للمعطف الأخضر لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وكان سنونو الآن يرتدي معطفه، أو بالعكس، وهو يصغي لصوت المطر، آذان الفجر، الأنين المكتوم للخشب والصفيح، ويرى الضباب الداخل من جهة النهر الى السوق ودراجته الهوائية تستند على أحد الكراسي كجواد نائم من سفر طويل. قال الأرمني ضاحكا:(سمعت انك الأب الحقيقي لنصف أطفال البلدة. هل هذا صحيح؟). ضحك سنونو في هذا الجو المعتم والكئيب والتف أكثر بمعطفه وانسل الى الغرفة الداخلية عبر الباب الضيق في حين كان ضوء الصباح يملأ السوق وترتفع معه ضجة يومية أليفة. في هذه اللحظة دخل العجوز الصياد سلمان وهو يتمتم بكلمات مبهمة وجلس دون أن يلقي تحية الصباح. قال سلمان وهو ينظر الى دراجة سنونو :( هل عاد أخيرا؟) رد الأرمني بتأفف: ( نعم). قال سلمان وهو يسحب كيس التتن من جيب سترته الداخلية:( كيف حال الببغاء؟). جفل الأرمني وتعثر بأقرب كرسي وهو يرد من دون تفكير:( الببغاء؟ ماذا بها؟). قال العجوز الصياد الذي لا يزال عكر المزاج من هذه اليقظة المبكرة: ( سمعت انها قادرة على تلاوة النشيد الوطني من أوله الى أخره) رد الارمني: (هذا ليس صحيحا. من منا يحفظه حتى تتمكن ببغاء من ذلك؟ هل ستذهب الى الصيد في هذا الجو الماطر؟). وكما لو أن العجوز سلمان لم يسمع، قال:(لو تترك سنونو يعمل معي في الصيد؟) أجاب الأرمني: (سنونو لا يعمل في النهر). عقب سلمان الصياد:(أعرف. ليس في النهر حوريات). شرب شايه على عجل وحمل حقيبة كبيرة على ظهره واختفى في عطفة السوق الذي بدأ يضج بالناس والأصوات والروائح.
    ***
    كان سنونو يطير كالعادة فوق الشوارع بدراجته المعهودة وصرخات الأطفال في الطريق الى المدارس تلاحقه:(سنونو عاد!. سنونو عاد!).حين صار فوق الطريق الرئيس المؤدي الى جسر البلدة، مرقت بجانبه أكثر من جنازة مغطاة بالعلم الوطني. فكر على نحو مشوش: ماذا لو أرسلوه الى الحرب؟ وعندها اندلع صوت الأرمني في داخله:(نحن في أكثر من حرب، يا سنونو).كان يشم رائحة الأشجار والمطر والعشب ويرى نوافذ المنازل مضاءة بضوء نهار طري ويقترب من النهر وهو ينظر الى غابات النخيل البعيدة وهي تشكل حزاما أخضر يصعد حتى السماء والطيور تحلق في سماء مشرقة بعد مطر عنيف وقوارب الصيادين ساكنة فوق سطح الماء المشع بضوء حار يعكس هامات الأشجار والضفاف والأدغال القريبة وقامات الصيادين وميز بينها قامة العجوز سلمان وهو ينحني على شباك الصيد وحيدا في قاربه وحدة شجرة في برية أو طريق مهجور الا من الغبار والغربان والمطر وضوء النجوم.

    حدث نفسه من فوق دراجته المنطلقة في دروب ريفية مفتوحة بين صفوف الأشجار المورقة بالضوء والمطر والبراعم:(سنونو، كيف تذهب الى الحرب اذا كنت لا تملك اسما ولا أوراقا رسمية عن الولادة والسكن والعائلة؟ لا تملك غير هذا المعطف العسكري الأخضر المشبوه تبرع به لك عسكري عجوز متقاعد صادفك نائما يوما تحت مظلة محل مغلق في الفجر. من قال ان سنونو اسمك الأول والأخير؟). تحاشى في الدرب قطيع أبقار وخطرت له فكرة الرعي في البرية لكنه فكر في أن مهنة درويش أو ولي صالح مفيدة أكثر من اية مهنة أخرى. هذه البلدة، أعطته أسما، لكنه سلبها كل الأسماء. وحده سنونو صاحب المعطف الملكي الأخضر العشبي المشبوه برسائل الغرام وربما في غيرها يحكم هذه البلدة حين ينام الرجال. وحده الملك الحقيقي على رعية غافية بين اقدام النهر واقدام الحرب. فكر على نحو خاطف وكريه: ماذا سيفعل لو انه تكلم يوما؟ وماذا سيقول وهو أكثر الذين يتكلمون اليوم بلا لغة؟ بل هو المتكلم الوحيد في بلدة مصابة بالخرس.

    لاح له الجسر الطويل معلقا في الفضاء الأزرق الشفاف بين غابات عامرة بالنور والماء والخضرة والسر،وخطر له أن حياته صارت معلقة كالجسر بين ضفتين: بين درويش أو ولي صالح مقدس، وبين أخرس وشريد وأعزل، بين ذكر يفح في أسرّة النساء المتوسلات من الرغبة والبركة والمعجزة،وبين سنونو معلق الأطراف الى مروحة في السقف من أجل رسائل غرام أو رسائل سياسة لا يفهم منها شيئاً.
    ***
    كالزجاج المنكسر،سمع الأرمني صوت قلبه يسقط على الأرض، حين خطر له أن احدا ما في السوق ذكر اسم الببغاء. ماذا لو فرت الببغاء خارج القفص والقن وحلقت في سماء البلدة وحطت فوق بناياتها وهي تغرد بذلك الهتاف اللعين الذي أطلقه هو بنفسه في لحظة غير متوقعة وفي مكان غير مناسب؟. خيل اليه ضجة اقدام راكضة وان شخصا ما يهتف بكلمة ببغاء. هذه الكلمة تعني عنده الموت، شنقا، أو التذويب في حوض للتيزاب أو يجد نفسه هذه الليلة في ضيافة تمساح أو فهد أو نمر أو ثعبان أو كلاب وحشية. راح خياله المذعور والمشتت يلقي في نار مخيلته كلمات وصورا مرعبة كما يلقى الحطب في فرن مشتعل.

    تخيلهم الآن يطاردون الببغاء فوق بناية الحزب أو مبنى البلدية. تخيلها تحلق عائدة الى المنزل كي تبصم على شهادة موته المهلك. فكر في غلق المقهى منتصف النهار والعودة الى البيت لكنه انتظر سماع أنباء دقيقة من خارج رأسه الذي صار في الآونة الأخيرة يرسم له مشاهد يوم قيامة أرضية لم تكن تخطر له على بال.

    فكر في سنونو ـ الذي يطير الآن فوق دروب الريف ـ وفكر في عدد الأطفال الذين كان الأرمني نفسه سبباً في قدومهم الى هذا العالم حين قبل يوما إيواء هذا الفحل المشرد، وذهل كيف أنه لم يفكر يوما في العالم السري لهذه البلدة المغطاة، كأشجار النهر في الغبش، بغشاء رقيق جدا من الضباب والزور والصدأ؟ هل كان الأمر يحتاج حقا الى هذا السنونو البائس كي نعرف صورتنا الأصلية؟ وفي البلدة أكثر من ألف سنونو يعيثون فسادا فيها بكل أنواع الفساد؟ لماذا، فكر الأرمني الذي صار يقرأ كثيرا بعض المجلات الطبية السهلة القراءة كي يتخلص من مشكلة القذف السريع التي ترافقه منذ أن أكتشف ذكورته وحتى اليوم، لا تبدو حقائق حياتنا بهذا الوضوح الا في حفرة الخراء التي عراها سنونو؟ هل سنونو قدر أم عقاب أم مصادفة؟

    في هذه اللحظة كانت الدراجة تطير،محلقة، فوق دروب الريف، وسنونو يمضي مأخوذاً بعالم الأشجار والدروب والجداول والأزهار والروائح كما لو انه يكتشفها أول مرة. فكر في الأرمني الطيب الذي آواه وتحمل من أجله الكثير بما في ذلك التعذيب والسجن والاذلال ومع ذلك تمسك به حتى اليوم بصبر وهدوء. إن الأرمني، فكر سنونو، لم يتحدث ولو مرة واحدة عن ماضيه أو أسرته ولا عن الأيام القادمة. لقد تساوى معه في الخرس والنفي والحلم والتعذيب. إن الشيء الوحيد الحقيقي في حياته هو المقهى وحين يغلقه آخر الليل، تكون الحياة قد توقفت حتى فجر اليوم القادم. هذا هو أيضا وجه سنونو الآخر. لكنه سمع في الأيام الأخيرة حكايات كثيرة عن أم الأرمني العمياء والحسناء والتي تحولت مع الطفل الصغير الأرمني نفسه الى وليمة لكبار القوم، كبار القوم الذين فتك بهم هو نفسه سنونو الآن، والى سكارى منتصف الليل، ثم ترمى مع الطفل كنفاية الى الشوارع الماطرة والموحلة والموحشة لائذة بالحيطان من البرد والجوع والمطر والذل. ألم يسمع سنونو نفسه قول قارئ القرآن ذات فجر من فوق المئذنة:(وما ربك مهلك القرى، لو لم يكن أهلها ظالمين)؟

    فكر الأرمني على غير توقع بصراخ أمه وهي تسحل من جوار الجدران منتصف الليل، تحت المطر، وهو يلوذ بها، لوذ الحمام بمنائر الأضرحة، وخطر له ان سنونو هو طوفان أو حريق أو نقمة، أما هذه الببغاء فهي الشيء الوحيد الذي صار يخشاه أكثر مما يخشى الموت لأن الموت، وسمع ذلك من خبازة البلدة وهي في الطريق الى الفرن ذات فجر تكلم نفسها: (الموت مكب الذهب). الموت وليس الاذلال.

    قرر الأرمني اليوم أن يسكر وينام في المقهى، فهي المرة الأولى في حياته التي يشعر بصداقة حقيقية مع إنسان، واشترى لذلك زجاجة عرق عراقي ماركة زحلة التي تسكر الثيران والفيلة والخيول والقنافذ. تذكر ضاحكا كيف انه في يوم ما، يوم قديم، أجبر قنفذا على شرب الخمر وفتح فمه بالقوة، وبعد لحظات صار القنفذ يمشي طليقا كملك حقيقي وقد خرج من قوقعته الشوكية حتى تداعى، ميتا. فكر الأرمني في ضجيج السوق والمقهى ولهب الوجاق: لماذا لا نخرج من جلودنا الا حين نسكر؟

    قبل منتصف الليل وقفت الدراجة الهوائية في السوق الفارغ الا من بقايا الأوراق وعلب الكارتون والأطعمة والنفايات، ونزل المعطف الملكي الأخضر بهدوء ورصانة لكنه دهش لأن الأرمني يستلقي على السرير في الغرفة الداخلية وعلى الطاولة زجاجة خمر وسلطة خضار وزيتون ولبن. قال الأرمني وقد تبدل صوته تماما، كما لو أنه حبس هذا الصوت سنوات طويلة:( سنونو، تعال نشرب الليلة). لم يقل سنونو شيئاً لكنه أدخل الدراجة الهوائية وأغلق باب المقهى من الداخل وجلس قبالة الأرمني المحدق في الجدار المعلقة فيه صور مطربات وراقصات وممثلات في أوضاع عارية ودراجات نارية وهوائية ونماذج سيارات وبنايات وبحيرات وحدائق خلابة ساحرة وجبال وصحارى ومساجد أثرية قديمة وكنائس في كهوف حجرية ومحطات قطارات ومطارات وسواحل وخلجان ومشاهد حرب وجنس وصورة قديمة للبلدة ملتقطة في أوائل القرن العشرين وتظهر فيها نساء يحملن أوعية الماء من النهر، وفي خلفية الصورة بالأبيض والأسود يظهر شريط الأشجار البعيد ملتصقا بالأفق ـ لم تعد الأشجار موجودة اليوم ولا الأفق.

    كطائر صحراوي عثر على بركة ماء، شرب سنونو كأسه وهو يطلق عواءً طويلا كما لو أنه يتألم من حريق أو وجع مباغت أو ضربة طارئة وقابله الأرمني بالتحية المماثلة حتى تقضى نصف الليل وزحف الفجر من خلف نافذة الغرفة الخلفية. روى الأرمني حكايته الطويلة المريرة مع العمى والجمال والحائط والاغتصاب والمطر والجوع والبكاء، وروى سنونو طرق البراري ونساء البلدة والمعتقل والريف والسفر. كان سنونو يضطر الى النهوض والحركة كي يشرح حكاياته. الأرمني فهم كل شيء لا من الحركة فحسب بل من عيون سنونو وجسده وتجاعيده والعواء الصادر من قلب معطفه الأخضر الشاحب الذي حمل مع الوقت لون التفاح المزهر تحت ندى غبش متوهج.

    قال له سنونو على طريقته إنه يعرف اشياءً كثيرة عن الأمر، عن العمى والجمال والحائط والجنون، وقال له إنه في بعض الليالي يجعل نساء علية القوم يتعرين أمامه تماما ويطلب منهن أن يرقصن عاريات ويركعن تحت قدميه ثم يتركهن ذاهلات دون أن يفعل شيئاً. قال له إن واحدة منهن وهي زوجة مسؤول كبير كانت تلحس جسده من الأعلى الى الأسفل وهي تنشج باكية قائلة:(هو الآن في فندق خمس نجوم مع زوجة صديق).قال له، راقصا، إن زوجة المقاول صاحب العمارة الجديدة على النهر قد أنجبت منه طفلا وهي تصر على أن تكون ذريتها من سلالة درويش، وروى كيف ان بعض الرجال يدخلون معه الى حمام المنزل ثملين وهم يديرون ظهورهم المشعرة متوسلين. سنونو يروي والأرمني يصغي، مصعوقا،حتى جاء صوت من خلف باب المقهى المغلق أو من داخل حواسه المضطربة: (سنونو، الحرب هنا وليست في الحدود). انقطع الصوت وتعالى صوت المطر وهو ينقر صفيح السقف والخشب ويترك أنينا حادا طويلا كقطار يطلق صفارته في برية مفتوحة على الليل والنجوم والرمل.

    نهض الأرمني متوكئاً على طاولة صغيرة وهو يقول بلسان رخو لكن بانتشاء وسعادة: (لن نفتح المقهى اليوم. خذ المفتاح وتصرف كما تشاء). ثم غادر المقهى مترنحاً على ضوء الفجر الأزرق وروائح عطر الأشجار والنهر والضباب والعشب ، في حين كان السوق قد بدأ يدب بالحركة.

    ***
    صرخت زوجة الأرمني وهي تفتح الباب( الببغاء!، الببغاء!) ولم يرد الأرمني كما لو انه لم يسمع. ولولت الزوجة مرة أخرى وهي تنكش شعرها لحثه على الكلام:(الببغاء هربت). رد عليها الأرمني بهدوء بارد مخيف:( أعرف). حدقت فيه بعينين جامدتين من الذعر وبقايا أرق ليلي طويل:(كيف عرفت؟) أزاحها عن طريقه وهو يمضي الى غرفة النوم وقال تحت مشاعر غامضة امتلأ بها ولم تعهدها فيه:(سمعت ذلك من الجن الأزرق). وكما لو انها تخاطب شخصا غريبا دخل المنزل هزته بعنف قائلة:( أين كنت؟). لم يتأخر في الرد وهو يتمدد على السرير المبعثر كساحة لأحلام ليلية ثقيلة:(في حلم طويل). وسمعته يضحك ضحكة طويلة مجلجلة قبل أن ينام:(لأول مرة ارى الحياة بهذا الجمال). ضربت يدا بيد وهي تحدث نفسها مذهولة: (ليس هو الرجل الذي عرفته). قالت متذكرة:( لكن ماذا سنفعل مع الببغاء؟)، وكما لو كان يكلمها عبر أستار وجدران، قال دون أن يفتح عينيه :( ليست وحدها تطير في هذه البلدة).

    عاد الأرمني طفلا صغيرا يركض في شوارع أخرى الى جوار أمه التي زال عنها العمى كما زال عنه هو عماه كل هذه السنوات، كما لو انه انتظر كل هذا العمر كي يرى بهذا الوضوح. صحيح ان سنونوته لم تعد من الهند هذا الربيع هربا من الصيف الهندي الساخن، لكن صديقه الأخرس الذي دخل المقهى في صباح غريب، صاحب المعطف الملكي الأخضر، أدخله في السر والمعتم والمغطى والمخفي.

    وماذا عن الببغاء يا أرمني؟. الى الجحيم بكل شيء. سوف تظل تطير من بناية الى أخرى كما عشنا نطير من زمن الى آخر. هذه الببغاء هي وجهنا الآخر. لماذا زوجتك حزينة ومذعورة؟ ماذا سيحصل في النهاية؟ حين علقوك في المروحة شاهدت وجوها قديمة من زمن الطفولة وهم ينتزعونك من صدر الأم من تحت جدار وتحت مطر وتحت سماء بلا قلب. ماذا تبدل يا صاحب المقهى العتيد في السوق؟ خلّفت الأفاعي صلالا كما يخلف السحاب المطر، والليل النهار، والحياة الموت، والخوف الأرق. سنونو هذا يا أرمني هو أكبر من درويش. هو الطوفان الذي يكشف متانة السدود والمطر الذي يعري السقوف والفجيعة التي تكشف صلابة القلب. لا تخف على هرب ببغاء. لا يخيف الأجرب أكل البصل.
    ***

    تناهت ضجة السوق الى سمع سنونو وهو يتأمل جدار الغرفة الخلفية المطلة على خلاء تتكوم فيه نفايات ومناضد مرمية وأرائك، وتنتصب فيه نخلة حفرت على جذعها تذكارات على شكل قلوب وسهام ووجوه مبعثرة وطيور بأجنحة متكسرة وعلامات غامضة وعصي وأسلاك وقضبان حديد ونوافذ غير مكتملة وشمس مشتتة وقمر ملون بصبغ أحمر بعثره المطر.

    خيل اليه انه يسمع صليل فتح باب المعتقل يوم قبض عليه تائها في شوارع بغداد ولم يكن يحمل معه أوراقا تثبت هويته الا هذا المعطف الأخضر. حين دخل بوابة المعتقل( سمع ان اسمه الحارثية) شعر انه ضاع الى الابد. وجد نفسه في حشد هائل من الأشباح والثياب الممزقة والجنود المحشورين في علبة صفيح كما لو أن الهواء قد أفرغ من المكان وصار يحاول التقاطه بأصابعه.

    داخل علبة الصفيح هذه، لم يجد مكانا ينام أو يجلس فيه في اكتظاظ وتدافع وهياج وعراك وصراخ وحفلات جلد بعد منتصف كل ليلة. الشمس في النهار نار تصب فوق الصفيح المشتعل ولا تشبه شمس جذع النخلة في الخلاء الخلفي للمقهى، ولا القمر الأحمر الذي بعثره المطر يشبه قمر المعتقل.

    اقتربت منه أشباح المعتقل الذاوية المنهكة كما لو أن ذلك يحدث في غابة ليلية أو في برية معتمة. مخلوقات محطمة تقترب وتبتعد دون أن يفهم منها شيئاً عدا جملة تتكرر كل يوم:( هروب من الحرب)، لكنه لم يذهب الى حرب ولم يفر منها ولا يفهم شيئاً من كل ما جرى ويجري.

    كانوا يقضون حاجتهم في الزاوية الأخيرة لعلبة الصفيح أمام الجميع، بعضهم ينام في مستنقعات بقايا البراز والبول بثياب ممزقة وبعضهم يستلقي عاريا تماما ولا فرق بين ميت ونائم حتى تهاوى يوما كشجرة قطعت فجأة بمعطفه الأخضر داخل حشد الأشباح وكان آخر ما سمعه ورآه هو رقص دائري حوله وصرخات تصدر من أعماق وحشية لمخلوقات تتراجع وتتقدم وهي تحمل مشاعل نارية داخل كهوف عميقة الظلمة.

    حين أفاق، وجد نفسه في غرفة مضاءة وقد أجلسوه على كرسي صغير كي تنهال عليه الأسئلة:(لماذا لا تتكلم وتقول الحقيقة؟ من أنت ومن أية بلدة؟ لماذا تتظاهر بالخرس؟ما اسم وحدتك العسكرية؟ لماذا هربت من الحرب؟).كان رده الوحيد هو ذلك العواء الذئبي الصادر من خلجانه العميقة :(اذا لم تنطق، ستموت في هذا الجملون المشتعل).

    عاد الى علبة الصفيح والحشر والجنون والضجة وروائح العرق والبراز والأنفاس والتعفن لمخلوقات تتفسخ بصمت وسرية داخل الأسلاك الشائكة حتى ظهرت في يوم ما أسراب القمل و بقع الجرب على الأجساد التالفة وحالات هذيان وحوادث انتحار وجنون وصراخ وحشي وبكاء وأوضاع جنسية في عمق عتمة المعتقل. كان لا يكف عن النظر الى كل هذا الذي يدور كما لو أنه في كابوس.

    القمر يمر من أمام كوة صغيرة في أعلى الجدار في الليل، فتتدافع الأشباح لرؤية آخر علامات الحياة البعيدة التي قذفوا خارجها في هذا المسلخ البشري الرهيب. في الفجر يهيمن سكون ضاج ولا يسمع غير أنين صادر من أرض المعتقل. أنين الأشباح الممددة كخرق مهملة كما لو أن الأرض تئن.

    لكن القلب البشري يحضر في قلب عزلته الموحشة، فيندلع غناء ناعم خفيف من زاوية ما كما لو أنه صادر من أعماق هور أو حافة برية أو قيعان قلب محاصر، ومع الغناء تتعالى صيحات محذرة وأخرى مشجعة:(الغناء ممنوع بأمر الانضباط العسكري) فيرد شبح آخر:(لا يوجد هنا قانون). وكما في يوم حشر أخروي تنهض مخلوقات المعتقل على ضوء نهار جديد يتسلل عبر شقوق الصفيح ومن كوة الجدار معلنا بداية موت جديد. تكتشف الأشباح الممزقة حالات موت جديدة لجنود لم يستيقظوا لا في ذلك اليوم ولا في أي يوم آخر من الجوع والانهاك والعطش والجلد والحنين والذكرى.

    تلك كانت المرة الأولى التي رأى فيها الموت وجها لوجه، الموت السري الزاحف لكائنات هربت من موت لتسقط في موت آخر على مقربة من حائط وبراز وأسراب قمل وكوة في جدار يمر منها كل ليلة قمر بعيد كعذاب أقسى من الجلد الليلي. في هذا الجحيم الشبيه بمعتقل نازي يكون مرور قمر أو صيحة طائر أو مرور نسمة علامة الانفصال والعزل والنفي لهذه المخلوقات التي تذوي بسرية موت نباتات البراري.

    ضجة السوق أعادت سنونو من كوابيسه المرهقة. تذكر وهو يتأمل شجرة النخيل في الخلاء الخلفي للمقهى، كيف أنه خرج من المسلخ البشري بورقة لم يفهم منها غير كلمة:(معتوه).كانت منقذة من الجنون العارم وصراخ الحرب ونقاط تفتيش الطرق ومن مخاطر النوم في الحقول والحدائق العامة والمراحيض العمومية وتحت مظلات المحلات أو في محطات السيارات والقطارات ومداخل العمارات وتحرشات نزلاء المكاتب التجارية، وغرف المقاولين،والمحامين، والعزاب الهرمين في غرفهم المنزوية في الطوابق المعتمة، قبل أن يغادر الى البرية صوب الجنوب على قدميه قاطعا الجسور والقناطر والبراري والقرى والغابات والسواقي حتى دخل في ذلك الصباح مقهى الأرمني.
    ***
    جفلت زوجة الأرمني على صوت قادم من غرفة النوم: (السلطان الأحمر!،السلطان الأحمر!).حين دخلت الغرفة وجدته جالسا والعرق يتصبب منه كجواد منهك. قال لها بين اليقظة والنوم:(هل تلفظت بهراء جديد، يا ماريا؟) ردت عليه بحنان واضح أكثر منه إشفاقاً:(ذكرت السلطان الأحمر). عدل من جلسته حتى صار نصفه الأسفل على الأرض:(آه، كنت قد حلمت بنفسي مصلوبا والى جواري ببغاء تصرخ بذلك الهتاف اللعين).وأضاف مستدركا :( لكن كيف خطر لي السلطان عبد الحميد الثاني؟) قالت وهي تمسح جبهته من عرق متصبب:(حكاية قديمة، يا يعقوب. ماذا سنفعل مع الببغاء؟).تأملها بفزع:(هل حقا هربت؟). قالت بيقين جارح وهي تتحاشى بصره:(هربت). قالت مضيفة بحسرة وقلق:( أنت تغيرت كثيرا هذه الأيام).

    قام بهدوء وفتح النافذة المطلة على الشارع المغمور بشمس شتوية دافئة وهو أمر لا يحدث كثيرا بالنسبة له في هذه الساعة من النهار، وراحت عيناه تبحثان في الأفق وبين هامات الأشجار وأسلاك النور وسطوح المنازل عن طائر محلق يحمل في منقاره المشؤوم حكم الموت المؤجل. سألته بشعور فياض من الألم والدفء :(هل ستذهب الى المقهى اليوم؟) وكما لو انه توقع هذا السؤال، أجاب وهو يعيد غلق النافذة:(لا.ربما غدا). التفتت نحوه كما لو انها نسيت ان تسأله:(ماذا أرادوا منك؟).قلب يديه في الهواء :( يشكّون في ان سنونو يتكلم. قلت لهم وأنا بين السقف والأرض:إنه أخرس لكنه يعوي). أشرقت في الوجه الحزين المهان ابتسامة عذبة، وأضاف:( عجبت كيف ان سنونو لم يتكلم تحت هذا البلاء. هؤلاء خبراء في استنطاق الحجر. لو لا الإغماء المتكرر لما تحملت ذلك الهوان. قلتِ إن الببغاء هربت؟ طيب، ماذا سنعمل؟ لا شيء. ننتظر تغريدها فوق بناية أو شجرة أو منارة...).وقطع كلامه فجأة وقال ضاحكا بامتلاء هذه المرة:(سنقول انها تقصد رئيس البلدية).

    نظر في عيني ماريا فوجد الوجه الملائكي الصافي كوجه تمثال رخامي ابيض قد علاه خوف دفين غير معهود في الوجه القمري الغارق الآن في ضباب معتم.قال يطمئنها: (ربما لا تظهر الببغاء في أي مكان). وأضاف بلهجة ساخرة كي يبدد ظلمة الخوف:(الجميع ينتظرون قدم شيء أو أحد. لسنا وحدنا). حين جاء سؤالها المباغت: (هل انت خائف؟). رد على الفور وهو يستعيد حلم صلبه الليلي:(خائف ولكن ذلك ليس حلا. اردد قول السيد المسيح:( لتعبر عني هذه الكأس ). عندها فحسب شعرت ماريا ان يعقوب الأرمني القادم هو الآخر من مكان مجهول كسنونو، يجهز نفسه لميتة شنيعة، وكما لو أنه قرأ خواطرها المنسابة على الوجه المرمري، قال بخفوت عميق:(صلي كي تظهر في وقت مبكر كي لا تكون حياتنا معلقة بكل رفة طائر أو نعيب غراب أو ذرق عصفور).

    في الطريق الى المقهى شم يعقوب في الفجر رائحة خريف زاحف على الأشجار والروائح والحيطان،وشاهد، من جهة النهر غير المرئي بسبب كثافة الأشجار وسقف السوق، الضباب النهري وهو يكسو المنازل المضاءة بنور طري، ودقق في المنارة الزرقاء كما لو انه يبحث عن شيء آخر ضاع منه وذعر من فكرة أن تكون الببغاء في مكان ما تنظر اليه عبر أستار الضباب الكثيف. ضحك من فكرة أن خوفه هذه المرة من طائر صغير، وقد يكون الشخص الوحيد في العالم المذعور من ببغاء ربما تكون قد ماتت أو هاجرت الى أمكنة بعيدة ولكنها غُرزت في خياله كما يغرز مسمار في باب في ظهيرة صيفية عراقية مشتعلة.

    كان سنونو يتمطى حين سمع صليل باب المقهى يرفع بعد أن أنزله سنونو بلا قفل والأرمني يدخل متهدلا كخرج بدوي وهو يشمل المقهى بنظرة مدققة وحين اطمأن على نظام المكان، توجه نحو باب الغرفة الخلفية وكان سنونو قد قاطعه في الباب وتصافحا كما لو كان ذلك بعد غياب طويل، فلم يعد احدهما يعرف متى وأين وكيف يلتقي بصاحبه؟:سأل الأرمني:( هل خرجت من المقهى؟) رد سنونو بالنفي.

    شرعا في غسل المقهى واشعال النار في الوجاق وترتيب المناضد والكراسي وكنس الواجهة الخارجية في حين انتشر ضوء الصباح عبر ثقوب سقف السوق ودخلت رائحة خريف وضباب وعشب نهري مختلطة بنفايات وعرق بشري وعطر أزهار أشجار النارنج.

    كان قنفذ أول من دخل المقهى. قنفذ بشري بسيقان قصيرة يبدو في مشيته كما لو انه يزحف من كثرة ما حمل على ظهره من بضائع من السوق الى المنازل. إنه الحمال قنفذ وتبدو على وجهه المغطى بطبقة كثيفة من الشعر الوبري الحاد ملامح سكر تطلي الوجه المسحوق بمسحة من الذهول المتحفز كما لو أنه يصغي لصور وأخبار داخلية متسلسلة بصفاء تام. قال الأرمني:(شوف قنفذ ماذا يشرب غير العرق؟). قال قنفذ وقد قطع الأمر عليه مشاهد فيلمه الداخلي تعليقا على قول الأرمني :(يا يعقوب، لو تقلبها خمارة لكان ذلك أفضل). رد عليه يعقوب:(لن نضيف شيئاً الى البلدة). لم يفهم قنفذ الذي يبدو انه اكتشف الآن سنونو وهو يمسح زجاج الناركيلات، فعلق بخبث:(الهواء يلعب بعبك، يا سنونو). لم يرد عليه أحد.

    قال يعقوب وهو يشم في الهواء رائحة أخرى غير رائحة خريف مبكر:(هل من أخبار جديدة؟).أجاب قنفذ عبر شعره الوبري الحاد الذي يغطي نصف فمه ووجهه:(انشغل الناس هذه الأيام بأخبار ببغاء ونسوا أخبار الحرب). شعر الأرمني يعقوب أن عاصفة صفراء تغطي عينيه وأنه صار عاجزاً عن الرؤية والتنفس وأوشك على السقوط لكنه تمسك بكرسي قريب وجلس عليه وهو يحاول أن يرى، عبر ضباب الرؤية، وجه قنفذ الذي أخذ مع الوقت شكل ببغاء قبيحة المنظر.

    بلا وعي أو تفكير خرج منه هذه السؤال الذي باغته: (ماذا تقول هذه الببغاء؟) ضحك قنفذ طويلا حتى أوشك على الاختناق بقدح الشاي:(ماذا تقول الببغاء؟ كنت أمزح).كما لو ان الأرمني أفاق من غيبوبته الطارئة، تنفس بعمق وراحة قائلا: ( عندنا ما يكفي). لم يضف وكالعادة لم يفهم قنفذ المغزى لكنه سأل الأرمني فجأة:(ماذا جرى لببغاء البيت؟). صعق يعقوب،ورد فورا:(بعتها من زمان لبائع عطور متجول من البصرة). ذهل هو نفسه من هذا الجواب وتمسك به كرد على كل الاسئلة المنتظرة كما لو ان مصير ببغاء هو كل ما يشغل الناس في هذا الزمن.

    صاح يعقوب على نحو غريب:(سنونو،انت أخي). قابله سنونو بعواء حار وطويل خيل للأرمني انه كان قد سمعه يوما قرب حائط ومطر منتصف ليل لم يعد في ذاكرة أحد الا هو كتلك التذكارات على جذع شجرة النخيل في الخلاء الخلفي للمقهى.

    مع الوقت غص المقهى بالزبائن وخيل ليعقوب الأرمني انه يسمع كلمة واحدة تتردد في هذا الضجيج:( ببغاء)ولا يعلم اذا كان ذلك ناتجا عن تشوش وقلق أم عن حقيقة. اقترب من شيخ الجامع وترك المقهى لسنونو. فاجأه الشيخ قائلا بلا مقدمات:( أنت ارمني طيب ومن أهل الكتاب. ألا تخشى من عذاب الجحيم؟). شعر يعقوب الأرمني لأول مرة بثعبان عملاق يلحس جسده وهو يغرق تدرجيا في أتون نار حامية، فأحس بالغثيان وفكر ان الأمر قد يعود الى سهره الليلي أكثر مما هو ناجم عن مخاوف دينية لم تخطر له على بال ما دام يردد مع هؤلاء:(اللهم أجعلني مظلوما وليس ظالما)، لكن صوت الشيخ الهادر الذي، فكر يعقوب، يمرن صوته على خطبة الجمعة هذا اليوم، وهو يصف عالم المخطئين في جهنم، قد أعاده الى صورته الحقيقية.

    حاول أن يكظم غيظه فلم يستطع حين صرخ بحدة في وجه الشيخ:(لكن لماذا أنا بالذات؟)، فرد عليه الشيخ محتدا كما لو انه حبس هذا الصوت طويلا:(سلطت علينا وباءً ومنكراً). حاول يعقوب أن ينهض لكن الآخر تمسك به بقوة:(اجلس، قلت لك اجلس. لا تتظاهر بالبلادة. هل تسمع بأخبار درويشك الأخرس؟) أجاب يعقوب وقد تناهت اليه كلمة( ببغاء) تحلق في دخان المقهى:(لا أعرف شيئاً. هل تعرف أنت؟) ولم يطل جواب الشيخ وكان ينتهز هذه الفرصة:(لقد عبث بأعراضنا في وضح النهار). رد الأرمني بغضب واضح:( لم يخترع شيئاً غير موجود. أنا مسؤول عن نفسي).

    نهض وهو يتجه نحو الغرفة الخلفية كي يشرب على عجل كأس عرق حار دفعة واحدة وهو يتأمل أوراق الخريف المتطايرة في الفناء الخلفي للمقهى، ويردد مع نفسه دون أن يسمع ضجة المقهى:(اذا كنت سأدخل النار بسبب سنونو، فإنه سيدخل الجنة بسببي). ضحك في عزلته العابرة وهو ينظر الى هامة شجرة النخيل المورقة كما لو أنه يبحث عن ببغاء طغت اخبارها على كل شيء. قال يحدث نفسه بصوت مسموع، ساخراً :( اذا لم أمت بسبب ببغاء متمردة في هذه الحياة، فسأدخل النار في الحياة الأخرى بسبب سنونو فاجر). تمنى لو ينقضي هذا النهار ويعود حياً الى صدر ماريا ويشرب من عسلها الشهي قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر ـ كما تقول أغنية السيدة أم كلثوم.

    نادى يعقوب على سنونو الذي جاء مسرعا وابتسم بعذوبة وهو يرى الأرمني يشرب العرق في النهار خلاف عادته: قال يعقوب بحنان وألم :(أصغ جيدا أرجوك. خرجت قضيتك عن نطاق السيطرة. بدت أخشى عليك كثيرا. يجب أن تختفي عن الأنظار بعض الوقت حتى تهدأ الضجة ثم تعود. هل هناك مكان تلجأ اليه؟)، هز سنونو راسه بالايجاب وهو يشرح باللغة الإيمائية ليعقوب الذاهل كيف انه حفر في البستان القريب من منزل الأرمني حفرة كبيرة وفرشها بالعشب وسجادة صغيرة وترك فيها بعض علب الطعام وغطاء للنوم واشياء أخرى، حفرة مغطاة بالعشب والأغصان وأوراق الأشجار. شرح أيضا إنه سيذهب هناك الآن قبل حلول المساء كي لا يتعثر بخنزير بري أو ذئب أو أفعى وانه ـ ووضع يديه حول فمه ـ سيطلق عواءً طويلا قبل منتصف الليل كي يسمعه الأرمني ويطمئن عليه. ضحك يعقوب وهو يضمه الى صدره بحنان أبوي رقيق لم يشعر به الا مع صغيره الوحيد يوسف، آخر المسرات الشحيحة مع ماريا في ساعات العزلة والتعب والأفراح العابرة.

    لكن ضجة في الخارج سحبتهم الى الجري ومراقبة الحشود الصاخبة وهي تعبر السوق مرددة هتافات وحاملة لافتات فهم منها الأرمني انها تحتفل بانتصارات حربية على الجبهة الشرقية ولمح بين الحشد وجوها كان قد رآها خلال تلك الأيام العصيبة وهو معلق بين السقف والأرض، عاريا، وحين عاد الى المقهى حاول أن يشرح لسنونو سبب هذه المظاهرة لكنه لم يفلح ابدا، فترك الأمر. قال:(اسمع، لا تظل تعوي كل الليل كي لا ترعب الصغار وتتصاعد شكاوى جديدة وقد يخرجون لصيدك في الغار. هل فهمت؟).أومأ سنونو برأسه:(اسمع جيدا،حين ترى يوما طائرة ورقية سوداء، أعرف انني قلق عليك. حاول العودة الى المقهى ولو كان ثمن ذلك رقبتي. لكن تعال منتصف الليل). وضع يده حول رقبته بشجن، ثم صافح يعقوب وغادر المقهى بعد أن اختفت ضجة الحشد وترك دراجته مركونة في زاوية منعزلة في الخلاء الخلفي للمقهى، قرب شجرة النخيل، والقمر الأحمر، والشمس المشتتة، والقلوب المحفورة في الجذع تخترقها سهام صغيرة ملونة ذاب صبغها كما ذاب صبغ القمر من أثر المطر والريح والأيام.حين غاب سنونو تماما،أجهش يعقوب الأرمني بالبكاء الذي ذكره بحائط ومطر وصرخات وحشية لكائن ينتزع بقوة من حضن كائن يصرخ من قلب عزلته البشرية وتحت سماء بلون ظهر ذئب.

    لأول مرة بعد قدوم سنونو، شعر يعقوب وهو يغلق باب المقهى، انه يغلقه على طاولات وأرائك بلا عاطفة. اليوم أغلق المقهى قبل منتصف الليل كي يطمئن على سنونو. حين وصل المنزل صعد الى السطح فداهمته رائحة خريف مبللة بالمطر وسمع عبر الهواء الخريفي المشبع بأزهار النارنج وأعشاب النهار وأوراق الأشجار عواءً حادا طويلا ينبع من أعماق البستان المجاور ويصعد في نحيب مرير عابرا الطرق والأدغال والمنازل والنجوم والقناطر والأزمنة.
    ***

    تلقى يعقوب الغارق في نوم عميق في الفجر صفعة قوية، فنهض مذعورا وهو يرى ماريا تقف جامدة منفوشة الشعر كما لو انها خرجت توا من القبر. كانت تريد إيقاظه برقة لكنها فقدت حاسة التمييز من الهلع الذي استولى عليها بعد ان سمعت من فوق أسلاك الكهرباء صراخ الببغاء بلهجة الأرمني نفسه وهي تقول:(أبانا الذي في السموات). قالت ماريا الباكية المحبطة:(ما الذي جعلها تتذكر هذه الصلاة الآن والناس يعرفونك كمسلم؟). رد الأرمني غاضبا:(لم أجبر على ذلك.انا أشعت هذه الحكاية بسبب بعض البهائم من الزبائن). قالت ماريا:(وأبانا الذي في السموات؟) فأجاب الأرمني بسخط وهو يتابع عبر النافذة حركات الببغاء وهو تدير وجهها نحو المنزل كما لو كانت تسخر من الجميع:(أين يمكن أن يكون اذا لم يكن في السماء عند كل الأديان السماوية؟). وحاول أن يطلق كلمة بذيئة لكنه كبح مشاعره في اللحظة الأخيرة لأن ذلك سيؤدي الى تقويض سلام المنزل الذي حرص عليه كل حياته وهو الشيء الوحيد الباقي قبل وقوع هذه الأحداث المحزنة غير المتوقعة. تابع كالنائم: (المشكلة انها تلفظ الكلمات بلهجتي كما لو انني أتكلم عبر جهاز تسجيل).

    خرج الى الشارع متوسلا بها أن تنزل لكن الجواب الوحيد الذي ظفر بهي هو ذرق قذف من الخلف بقوة وظل محلقا في الهواء كرسالة سخرية قبل أن تطير ويطير معها قلب يعقوب. قال:(نسيت أن اقول لك انني قلت في المقهى لقد بعتها الى بائع عطور متجول في البصرة. اذا عادت، فهذا يعني انها هربت منه). قالت ماريا المرتبكة:(واذا تذكرت ذلك الهتاف اللعين؟)،أجاب يعقوب المنكس الرأس:(رغبتي في أن أدفن في مقبرة الأرمن جوار أمي). كان ضوء الفجر يلوح عبر النافذة كئيباً كآبة عواء ذئب يأتي من غابة قريبة، من غار في جوف الأرض.

    غادر المنزل وهو يتطلع نحو قمم الأشجار والسطوح والأعمدة تحت مطر رذاذي خفيف، ورفع بصره نحو البستان الذي يلوح كشريط أخضر تحت المطر والضباب وفكر في الليلة التي قضاها سنونو في جحره وكيف توقى المطر والبرد والذئاب والضباع والخنازير البرية والمخلوقات الليلية. نازع رغبة عارمة في زيارته لكنه عاد على أثر رفيف خاطف الى النظر الى الأعلى حيث السماء رمادية موحشة وفكر في انه للمرة الأولى في حياته يكتشف بعدا جديدا للحياة هو: (المافوق)، المستوى الأعلى للنظر لأن يعقوب الأرمني كان يغادر المنزل في الفجر ويعود منتصف الليل وهو ينظر الى الأرض لكنه الآن يكتشف ان عالم فوق الأرض، عالم السطوح والشرفات وقمم الأشجار والأعمدة والسماء المتبدلة والنجوم، هو عالم زاخر بحياة لا تقل صخباً عن الطرق والابواب والبشر.

    كان يزحف نحو المقهى كسلحية مكسورة الظهر من الترقب والانهاك والمخاوف. حين مر به حصان عربة أحمر. خطر له ان الحل الوحيد هو في حصان مماثل يخب نحو البرية أو أي مكان آخر ويتبادل مع سنونو المواقع. لكن البرية، فكر وهو يراقب نقطة تقترب من بين الغيوم، لم تعد برية الأيام البعيدة. كان عصفور دوري صغير يحلق طليقا تحت هذه السماء الماطرة، فهدأت مخاوفه قليلا. ضحك يعقوب على هذا الوضع الذي يزداد سوءاً:كيف يمكن لعصفور أن يثير في نفسه كل هذا الفزع والترقب والمشاعر المحتدمة؟ قبل أن يدخل السوق الذي تراءى له اليوم كنفق معتم رغم الضوء الفجري الناعم قرر أن يمضي في نزهة قصيرة قرب سياج البستان القريب.

    حين اقترب من السياج الطيني المتآكل والذي تعلوه الأشواك الحادة، خيل اليه أنه يسمع ضجة مكتومة لمطر ينفذ في قلب جذوع الأشجار ويخترق الطين، ورأى وقد صار الآن فوق السدة الترابية للنهر، الضباب الكثيف وقوارب الصيادين وهي ترتعش في النور الفجري الطري وتحسس الهواء المحمل برائحة الأعشاب والندى والطين والثمار والخريف وعبير الأوراق. لم يشعر يوما انه بعيد عن مقهاه كل هذا البعد، عن ضجة السوق وعوالمه السفلية ومساوماته وحيله وفنون تجاره وصخب الزبائن ورائحة النفايات والغش والعيون المتلصصة. أطل من فوق السياج الواطئ على الدغل المتراكم والأشجار العميقة الخضرة والنور الفتي والسكون العميق الذي يقطعه بين لحظة وأخرى نقر ايقاعي متوازن لطائر أو نقر المطر وهو ينثال فوق الأشجار أو أزيز حشرة مجفلة. هو الأرمني نفسه يشعر اليوم أنه قضى حياته في ذلك المدفن وترك فيض الحياة يتدفق في مكان آخر، على مقربة منه، ولم يشعر بذلك الا اليوم حين صار مهددا بفضيحة وشيكة من بغاء هارب وسنونو رفع الغطاء عن جيفة معتقة.

    عاد الى السوق ليجد الكائن القنفذي صاحب الشعر الابري الحاد جالسا على أريكة خارج المقهى المغلق. قال قنفذ تحت سطوة ليلة ضارية من السكر:(تأخرت اليوم؟).لم يرد يعقوب وفتح الباب بصمت وشعر أنه أثقل من أي يوم آخر. لم يكن باب مقهى هذا الذي رفعه الآن، بل كان باب الأحزان الثقيلة وهي تتراكم كسحب هذا الفجر الرمادية. زعق قنفذ:(هل سمعت؟ دخلت قواتنا بعيدا في الحدود).

    لم يعد يعقوب يعرف حدوداً خارج جدران السوق أو المقهى. هذا القنفذ الهاذي ليس بداية طيبة ليوم عمل شاق ومرهق ومحمل بكل الاحتمالات. فتح الباب الخلفي للمقهى وأطل على الخلاء المكتظ بالضباب والأشياء المهملة ووقع بصره على الدراجة الهوائية المتكئة على جدار قديم وهي تئن تحت المطر، فرسم شارة الصليب كما لو كان يلقي نظرة على مشهد جنازة مرمية تحت سماء رمادية محملة بمطر خريفي له عطر ثلاجات الموتى.
    ***
    كان المطر ينهمر في الليل فوق مأوى أو حفرة أو جحر بشري تغطيه أغصان وأعشاب من الخارج، ومن الداخل زين بمرايا مكسرة على الجدار وصور اعلانات لنساء عاريات وصحارى وجبال وثلوج ومآذن وكنائس وصورة بالأبيض والأسود ليعقوب الأرمني مبتسما في حديقة حيوانات على مقربة من أسد ضخم بلبدة مشعثة لا يفصله عنه غير قضبان الحديد، وبعض الصور لحيوانات كبيرة وصغيرة من ثعالب وقطط وذئاب وحشرات محلقة ولوحة مستنسخة عن السوق القديم تعود الى بدايات القرن العشرين يبدو فيها السوق بالالوان المشرقة كمهرجان شعبي صاخب بالناس والعربات والألوان والبضائع.

    في أعماق الليل أرسل رسالته الأولى الى يعقوب حين وقف خارج المأوى ووضع يديه حول فمه وأطلق عواءً طويلا حادا متواصلا جعل سكون البستان يهتز. فر طائر من شجرة فوق المأوى، وعوى ثعلب من قلب الدغل، وتحركت زواحف في العشب، لكن سنونو عاد الى قلب عزلته المعتمة والمطر ينهمر مخلفا تلك الرائحة الندية من عشب وعبير ومن سكون غابي حي لا يكسره غير أزيز حشرة أو طيران طائر أو مروق حيوان باغته المطر، الليل، العش، السكون، دم الشهوة، سقوط الأوراق الخريفية، النعاس.

    هنا لا يحتاج سنونو الى الكلام، لكنه يحتاج الى اللغة وهي ممكنة. عاد سنونو الى زمن ما قبل الكلام ، عاد الى عصر الكهف والمأوى والجحر والغابة. عاد الى الاشارة والعواء والرفيف وحركات الذعر والنشوة وصوت جريان الدم وسقوط الأوراق والمطر وعبير الأزهار ورائحة الضباب وأنين الطين وصوت تكسر أوراق الشجر تحت أظلاف مخلوقات الليل . تلك اللحظة كان يعقوب الأرمني قد أنهى وقوفه الصامت أمام الدراجة الهوائية المتكئة على الجدار وعاد الى جوف المقهى حيث الصخب والدخان وضجة السوق وصلاة ماريا المتضرعة تقرع في قلبه كجرس كنيسة كريكور في ساحة الطيران في الباب الشرقي في نهار أحد بعيد
    ***

    بعد مرور أكثر من عشرين سنة ستجري محاولة تفجير الكنيسة سنة 2004 مع موجة تخريب شملت كل دور العبادة أيضا، في لحظة خروج الوحش السري المغطى بالقيم الحريرية وأجمل التحيات والعناق الأخوي ومواسم حضور الاعراس والمآتم من الغريزة والظلام والغابة والدم كي يستحم بالدم في الشوارع، فكتب الراهب آشور ياقو البازي:(سأحمل أمتعتي وأرحل) وهو يرثي بحزن بلاد الرافدين حيث يهاجر أهلها نحو دياسبورا عراقية فريدة، مؤكدا هروب الراهب قول بودلير ان العشاق والجنود أكثر شجاعة من الرهبان. اذا هرب الراهب من بيت الرب، فإلى أين يذهب؟
    ***

    في الأيام التالية صار يعقوب الأرمني يتلقى سيلا من الأسئلة عن سنونو المختفي أو المهاجر حتى ان يعقوب نفسه تصور مرة أن سنونو هاجر مع أسراب السنونو الى الهند في موسم الخريف ولا يدري من أدخل في خياله فكرة الهجرة الى الهند التي تلوح له كفكرة عائمة بين وقت وآخر. مرة وصل به الغضب منتهاه من الالحاح الفظ عن المختفي، فأجاب وقد شعر ان قرونا قد نبتت في رأسه:(اسألوا عنه الغيوم).

    لم يكن يعقوب بعيدا عن الصواب في هذا الوصف، لأن غيوم كانون الأول وقبلها غيوم كثيرة المحلقة في السماء كانت تمر تلك اللحظة فوق عش سنونو المخفي في قلب البستان، وتمكن في الآونة الأخيرة أن يقيم علاقات مع ثعلب صغير وجده شبه ميت يرتجف من البرد والحمى والجوع على مقربة من أمه المصابة بطلق ناري في الجانب الأيسر من صدرها وهو جانب لا يعرف سنونو عما اذا كان القلب يقع فيه أم لا، لأنه لم يقترب يوما من ثعلب ميت أو حي الا في حكايات مشوشة هائمة غير قادر على تحديد مصدرها. مع الثعلب الصغير عثر يوما على صقر مكسور الجناح موشك على الموت. ولا يدري كيف اهتدى جرذ كبير برأس متلصص كوجه تاجر الحبوب الى جحره المنزوي والمغطى.

    صار الآن يعتني بمخلوقات كثيرة عدا ذلك: كان يتابع حركة الخنازير البرية ويحاول عقد صداقات مع صغارها المجفلة والصارخة حتى انه قبض على خنوص صغير وحمله وهو يرفس كطفل الى جحره لكنه عاد بعد جولة نهارية في البستان يوما كي يجد ان المأوى قد فُتك به وتطاير كل شيء فيه على الجوانب بما في ذلك السقف الصفيحي الواقي من المطر بأنياب أم الخنوص الهائجة المستثارة. لكنه عثر على ثعلبه الصغير مختبئا راعشا من الذعر وهو ينزف دما حارا يختلط مع العشب المبلل، فحمله الى المأوى بعد اصلاحه.

    كان في الأيام الأخيرة قد اطلق بينه وبين نفسه اسم مقهى الأرمني على هذا الجحر، كما أطلق على شجرة الرمان التي تظلله اسم المئذنة، أما صف الأشجار المتشابكة فوق درب ترابي فلقد أطلق عليه تسمية السوق، في حين وجد ان الثعلب الصغير الجميل يليق باسم ماريا، ولم يجد من يطلق عليه لقب الخنزير سوى ذاك الرجل الذي تطالعه صوره في كل مكان، على الجدران والمنازل والبنايات والسجون والأسلاك الشائكة والسيارات والمحطات والحدائق والمقابر، وترك تسمية الصقر للأيام. لقد أسس سنونو مملكته التي تليق بمعطف ملكي وجحر مؤثث بالعشب ،فوقه المطر، وصاحب أجمل صقر في العالم يطير في الأعالي وهو يحدق بالمأوى، حتى اذا حل المساء وقف الصقر عند الباب فوق جذع مقطوع عثر عليه كي يكون بابا ثقيلا يغلق عليه في الليل من الضواري.

    في الليل يفكر سنونو في قائمة أحلامه الطويلة المعتقة التي تمنى تحقيق أهمها في أن يجلس يوما في مطعم ويدفع ثمن الطعام وهو أمر لم يحصل في حياته مرة واحدة أو أن يذهب الى الفرن ويشتري عدة أرغفة حارة أو يدفع أجرة طريق لكنه شعر أن كل أحلامه مؤجلة الآن وانتظر الوقت المناسب لذلك واكتفى برعاية ثعلبه الصغير الذي صار ينمو كل ساعة ويأخذ شكلا مختلفا عن شكله الأول كما لو انه دب في جلد ثعلب، كثير الشبه بالصغير يوسف الذي أخذ ينمو سريعا حتى خطر له انه لن يتوقف عن النمو حتى النهاية.

    فكر عدة مرات في التخلص منه وفعل ذلك مرة لكن عند منتصف ليل عاد جالبا معه عدة ثعالب كي يقيموا عند بابه المغلق بجذع شجرة ثقيل حفلة عواء دامت حتى الفجر. وعلى امتداد الليل، وعبر ثقب في الباب، كان يرى أن ثعلبه اللعين يضع يديه حول وجهه ويتأمله من ثقب آخر في الجدار المكون من أغصان واخشاب وأعشاب. فكر سنونو في انه تعلم هذه العادة منه حين كان يذهب معه للبحث عن الطيور في الأعشاش العميقة والجحور.

    كان الصقر أكثر الحيوانات قربا الى قلبه، اذ يشعر في طيرانه النائي وانقضاضه السريع الخاطف انه يحقق حلمه الليلي الدائم في الطيران. كان صقر سنونو من نوع الحباري بخصلة من الريش الأسود والأبيض على جانبي الرقبة، بلون رملي أصفر واقدام قوية بثلاثة أصابع وكثيرا ما وجد سنونو سحالي صغيرة ممزقة وجرذان وخنافس وحتى بقايا فئران، وكثيرا ما يقدم الصقر عرضا ضاحكا أمام سنونو في الصباح خارج المأوى حيث ينتصب الريش الأبيض فوق الرأس والريش الأسود حول العنق، حتى يسقط سنونو على قفاه من الضحك. لكنه كف عن هذا العرض الاحتفالي بعد عدة أيام من سماع رسائل سنونو الليلية وقد فسر الأمر على انه حنين الى تلك السهول المفتوحة التي مر بها يوما في قطار في صيف قديم وهو يختبيء في احدى عربات البضائع الصدئة والساخنة مع جرذ شرس ظل يهاجمه طيلة الرحلة وحرمه من النوم ومن رؤية المناظر الشاسعة للأرضي الخضراء، ومثل أي مسافر وصل نهاية الطريق، نزل الجرذ في محطة صحراوية وخيل لسنونو أنه بصق عليه وهو يقطع المحطة المنعزلة بلا وجل، بل بمشية متبخترة، ويختفي في غرفة مهملة متداعية يغطي جدارها المقابل دغل كثيف.على عكس ما تصور، فإن سنونو شعر بحزن خانق لأنه قد يكون المسافر الوحيد الذي لا يعرف محطته الأخيرة.

    عندما ينام في الليل، يظل الصقر يقظا تومض عيناه في ضوء شعاع رقيق من ضوء قمر ينسل في بعض الليالي عبر ثقوب الجدران. أكثر اللحظات هياجا عند الصقر، حين يعوي سنونو مرسلا رسالته اليومية عبر الليل، كما لو أن هذا هو السلوك الوحيد الذي لا يفهمه هذا الحباري الذي وجد نفسه، كسنونو، في غير بيئته.

    مرت فوقه غيوم بيضاء ورمادية وهو في هذا العش الغابي دون أن ينسى رسالته اليومية الى يعقوب الأرمني منتصف الليل وهي رسالة العواء الحاد التي حرص على أن لا يتبدل أو يقطع الا حين داهمه يوما خنزير بري مصادفة وأوشك على الفتك به كي يظل مرميا هنا يتفسخ مثل كل مخلوقات الغابة. كان يعقوب يتلقى هذه الرسالة في أوضاع وظروف وحالات نفسية مختلفة. عدة مرات تلقاها وهو في الطريق الى المنزل منتصف الليل، ومرات تلقاها وهو يتأمل السطوح والمصابيح المضاءة وهامات الأشجار.

    مرة وحيدة تلقاها تحت جسد ماريا الشبيه بتمثال مرمري روماني رآه في صورة سياحية في مجلة، وكانت تنز عرقا وشهوة وهي توشك على البكاء، وحين اندلع في عروقه حريق الموت واللوعة والعسل، باغته العواء الناحب الحاد، وبلا تفكير صدر منه هو الآخر عواء جعل ماريا وهي تتلقى اللهب المحرق تفكر في الفرار من هذا الانقلاب المباغت في صوت ووجه وقبضة يعقوب الذي أخذ شكل رجل محتضر.

    قال يعقوب وهو يعود الى وعيه الى جوار ماريا:(آسف، ماريا، اذا استمر الأمر كذلك، سنتحول الى قطيع ذئاب تمزق لحم بعضها). لم ترد ماريا الذاهلة والنائية في مكان بعيد لأنها كانت تنصت الى حفيف خافت وطيران زلق يوشك على الاقتراب من نافذة المنزل. لم يكن ذلك سوى خفق أجنحة مر في خيال ماريا كما حدث في الآونة الأخيرة وهو أمر لم يدهش يعقوب الأرمني بل كان يسليه لأنه يتقاسم مع ماريا، ماريا وحدها، الخوف والفراش والعواء والانتظار والدفن، كما تمنى يوما، في مقبرة الأرمن بعد أن يصلى عليه في الكنيسة التي كانت تبهره كلما مر من ساحة الطيران في الطريق الى البلدة.
    ***

    بعد مرور أكثر من عقدين على حلم يعقوب الأرمني سيدخل جنرال أمريكي في الصباح بوجه ضفدع الى كنيسة القديس كريكور المنور للأرمن في بغداد، أواخر ربيع سنة 2003، ويمشي فوق الممر الحجري بين صفين من أشجار الآس، وتسمى"ريحان القبور" أو "الهوسن" بالسريانية، وهي تفوح عطرا شذيا، يتنافر مع زي الجنرال الأصفر،كي يطرق باب الكنيسة الداخلي المغلق، في حين كان الخوري ناريك أشخانيان راعي الكنيسة ينظر عبر نافذة في القبة الشاهقة، قرب الجرس، سرب عجلات الهامفي الواقفة أمام الباب الرئيس ويتابع حركة الجنرال، الذي عاد ماراً فوق الممر نفسه وقد لفت نظره ان قبرا واحدا بين القبور يخلو من أي أثر لباقة زهور ويغطي شاهدته الرخامية غبار تماسك من المطر والرطوبة. إنه قبر سيلفا نزاريان أم يعقوب الأرمني. في تلك اللحظة كان المطران افاك اسادوريان يطعم عصفوا دوريا صغيرا وجده مبللا في حديقة المنزل التي تفوح بعبير الأزهار ومغمورة بالضوء النهاري الطري وهو يتمتم بأدعية بصوت خافت ومتهدج.

    في نيسان 2006 سيدعو المطران العراقيين جميعا الى الصوم من اجل تجنب الحرب الأهلية مطلقا هذا الهتاف:"صوموا لتنقذوا العراق"في الوقت نفسه كانت الطائرات الأمريكية قد حولت عدة مدن عراقية الى خرائب ينعق فيها بوم حديدي متوحش قادم من أقاصي الأرض الى "أرض القصب" وهي تتقوض وتتحول الى انقاض كخرائب أور التاريخية ـ قائد الدبابة الامريكية ابراهام سأل عن اسم المدينة التي يقف على تخومها فقيل له:( إنها أور مدينة ابراهيم) فذهل من هذه المصادفة. هل حقا مصادفة؟
    ***

    مطر المقبرة أكثر رحمة من مطر الجدران والليل ومخالب القسوة، فكر يعقوب وهو ينتزع جسده من جسد ماريا الحار كعش سنونوة لم تعد في الربيع الماضي، وسيكون في انتظارها بشوق في الربيع القادم، اذا لم تحل به فاجعة بسبب ذاك الشيء الطائر الذي يحمل مع تلك العبارات القاتلة، أسرار يعقوب الأرمني وصرخاته الجنسية في السرير، الذي يتمنى لو يموت قبل سماع الببغاء تغرد بها من فوق منارة البلدة أو من فوق الأعمدة أو الأشجار. فكر بحرقة: كيف كان بليداً الى هذا الحد ووضع ببغاءً قرب سريره العائلي؟ وهمس بخفوت: (يا أبتاه ان أمكن فلتعبر عني هذه الكأس).

    سمعها تقول بأسى:( لماذا لا ننتقل الى الموصل أو حلب). لم تر ماريا مدينة حلب لكنها سمعت عنها الكثير وأضافت:( نحن غرباء هنا يا يعقوب). كان يعقوب قد رد عليها بحنان عارم وقلبه يدق في راحة يده من خفق جناح لطائر عبر النافذة المسدلة:(لا، يا ماريا، الناس جميعا غرباء عند الخوف). لم يكن موقنا من انها فهمت ذلك أم لا، لكنه تطلع عبر النافذة الى الشارع وهامات الأشجار والسطوح والأعمدة وحتى الغيوم بحثا عن أسراره المحلقة والمحمولة في فم ببغاء لم تعجبها كل لكنات العالم الا لكنة يعقوب الأرمني. كما لو انها تذكرت فجأة، سألت ماريا:(هل من أخبار عن سنونو؟)، أجاب يعقوب وهو يرتدي معطفه الأسود:(لا أدري. قد يكون هاجر الى بلدة أخرى). تلك كانت أول مرة يكذب فيها على ماريا لكي لا ينقل هواجسه الواخزة هذه الأيام عن امكانية ان تتذكر الببغاء صرخاتهما المشتركة في السرير وهما يتداخلان كديكة تتقاتل.

    كان الشارع يفيض بضوء فجري مشع رغم المطر. حين وضع أقدامه على الطريق الى المقهى، والتفت الى الوراء، شاهد ماريا عبر النافذة تقذف له قبلة من يدها تصورها محلقة تحت المطر على شكل ببغاء خضراء متنقلة بين الغيوم تبحث له عن مصير لم يخطر في باله في أشد كوابيسه هولا. فكر ساخرا بمرارة: أي مصير مشؤوم هذا الذي يحدده ببغاء ارعن في السماء وسنونو أخرس في الأرض؟. ضحك بصوت عال وهو يطل الآن على صفوف الأشجار المعمرة التي تحجز النهر عن البلدة، وشم رائحة أغصان مبللة بالمطر،وشم، بكل حواسه الداخلية والخارجية، رائحة خطر يزحف بسرية كصلال صحراء منسية.
    ***

    كان سنونو خلال كل الوقت الماضي، يمسح السماء ببصره عله يعثر يوما على طائرة ورقية سوداء محلقة، وحين كان في يوم شتوي مشرق بعد مطر غزير يتابع نقطة بعيدة في سماء زرقاء مخططة بغيوم بيضاء حيث كان صقره يغوص عميقا في قلب الغيوم ويخرج منها محلقا وقد كست مزق من أشعة الشمس جناحيه بلون ذهبي خبازي مشع، شاهد كما لو في منام طائرة ورقية سوداء تطير فوق السوق من جهة الخلاء الخلفي للمقهى وهي مزينة بشرائط على شكل دموع خضراء، وحين استدارت الطائرة الورقية وصارت قبالته تماما، شاهد الرسم المجنح لسنونو في حالة تحليق وهو تخطيط انهمك الارمني في رسمه بكل أنواع الأصباغ الراسخة والمضادة لكل أنواع الأحوال الجوية ومصائد الأطفال.

    قضى يعقوب وقتا غير قصير يجهز الطائرة الورقية فوق سطح المنزل قبل الغبش، وقبل الموعد التاريخي الذي لا يحيد لاستيقاظ ماريا، وهو تقليد حرصت عليه حتى في أسوأ ايام الحبل الأخير الذي كانت تقول عنه إنها حبلت هذه المرة بجرو،الأمر الذي أفزع يعقوب ورمقها بنظرة فاحصة بحثا عن المعنى الملغز لهذه العبارة، لأن لغة التخاطب في المنزل وفي المقهى وفي البلدة في السنوات الأخيرة لم تعد اللغة المعهودة حيث الكلمات صارت تحمل عدة وجوه، وأحيانا لا تعني شيئاً، صارت ضربا من التسلية. لكن حلما داهم ماريا قبل الغبش وقبل الوقت المقرر للنهوض من النوم، جعلها تستيقظ لتفاجأ بخلو مكان يعقوب في السرير وهو أمر لم يحدث مرة واحدة في حياتهما المشتركة والهانئة.

    حين بحثت عنه في كل غرف المنزل، وتحت وخلف شجرة السدر في الفناء الخلفي، توكأت على جذعها وصعدت السلم الى السطح ليقع بصرها على مشهد مروع: يعقوب يرسم طائر سنونو على الواجهة الأمامية لطائرة ورقية سوداء .قالت غير مصدقة جملة خرجت منها على غير توقع من إنهاك الحلم: (تصورتك ميتاً). فزع يعقوب لهذا السبب وقال بما يشبه الخوف جملة خرجت منه هو الآخر بلا تفكير:( هل يضايقك هذا الجرو؟)وأشار الى بطنها المكور، وكانت هي قد استعادت سيطرتها على المشهد كما لو انها تراه الآن:(ما هذه؟)، رد يعقوب بسرور طفولي باغته:(لم ألعب في حياتي لا بطائرة ورقية ولا بغيرها الا معك في السرير. رغبات آخر العمر، يا ماريا).

    لم تصدق وظلت ترمقه بنظرات وجلة حائرة مشككة حتى غادر المنزل الى السوق وهو يحمل علنا طائرته السوداء التي خيل ليعقوب ان وجه السنونو المرسوم قريب الشبه بوجه ببغاء أخضر تكفي صرخة واحدة منها بتلك الجملة القاتلة كي يعود الى كنيسة كريكور المنور ذات البناء الهندسي المخروطي المبني على طراز الكنائس الارمنية وربما يحظى بقداس يقيمه على جنازته الخوري غريغوري ناريك أشخانيان راعي الكنيسة أو أي خوري آخر مشتت الذهن من تقلبات الطقس والاحوال والرتابة المعطرة ببخور التاريخ. وفكر: لا يمكن أن يكون قد ولد تحت جدار ماطر متآكل.
    ***

    في حزيران 2004، وبعد أكثر من عشرين سنة من هذه الاحداث تحدث الأب غريغوري ناريك عن تاريخ الأرمن في العراق لجريدة محلية قائلا:(ينتمي الأرمن الى العرق الآري ويعود وجودهم الى أرمينيا وفي الأجزاء الوسطى من آسيا الصغرى الى الألف الثالث قبل الميلاد لكن تعرض ارمينيا الى غزوات متكررة من الامبراطورية العثمانية في القرنين التاسع عشر والعشرين أدى الى مجازر بحقهم وحتى تأسيس تركيا الكمالية. وصل عدد الأرمن في العراق بعد تلك المجازر العثمانية سنة 1915 بين 25 ـ 30 الفا.أول هجرة للأرمن الى العراق كانت من ايران الى البصرة وبغداد ثم الموصل في القرن السابع عشر. ويسكنون حاليا في بغداد وكركوك والموصل وزاخو وفي غيرها. عندما وصل المهجرون الأرمن الى العراق، يضيف الخوري غريغوري، بعد تلك المذابح، استقبلوا بكل حفاوة من العراقيين عموما، وآووهم في بيوتهم واقتسموا معهم رغيف الخبز وكانت لهم عبر الزمن الحقوق نفسها في العمل والتعليم والصحة والسكن والعبادة ولهم عدة كنائس:في بغداد كنيسة كريكور المنور في الباب الشرقي، وكنيسة القديس كرابيت في منطقة كمب سارة، وكنيسة مريم العذراء وقد أسست سنة 1638، وكنيسة الشهداء وبنيت سنة 1989، كما توجد كنائس أرمنية في البصرة وكركوك والموصل وزاخو).

    ضحك يعقوب بينه وبين نفسه من فكرة أن ببغاءً متمردة قد تحقق حلمه الطويل في العودة الأخيرة الى عش الأم وان كان يشك في ذلك في منطقة مبعثرة في عقله لأن احتمال أن يلقي في فم تمساح أو كلب شرس أو قفص ذئاب جائعة اذا قررت تلك الببغاء الوقحة ان تنطق يوما بتلك الجملة، هو ممكن. وماذا سيحصل؟ ليس أكثر من عود ثقاب مرمي في طريق. سوف لن يخسر العالم ولا كنيسة كريكور شاهدة حجرية وحفرة صغيرة ليعقوب الأرمني الذي لم يتذكر واجباته الدينية الا بسبب ببغاء هارب وسنونو أخرس في جحر في غابة. ماذا سيقول في العالم الآخر للملك الأرمني أرخا بن خلديتا أو نبوخذ نصر الرابع الذي قاد ثورة في بابل عام 521 قبل الميلاد كما هو موجود على صخرة بيهستون في ايران ضد الملك الأخميني داريوس؟ هل سيقول له انه قُتل بسبب ببغاء وقحة منافقة وتأوهات جنسية؟ الصور تتداعى هذه الأيام في مخيلة يعقوب الأرمني بلا انتظام ولا يدري لماذا خطر بباله الآن منظر استوديو أرشاك الأرمني في الباب الشرقي صاحب الاستوديو الشهير باسم (أرشاك) أو المصور جان صاحب (ستوديو بابل) ولوحة الرسام بهجة عبوش عن عماد المسيح في سقف كنيسة الأرمن في بغداد والفنانة سيتا هاكوبيان والمخرج كارلو هارتيون والأب نرسيس صائغيان خبير في تاريخ المقام والشخصية البغدادية الثرية سارة تايتوسان أو سارة خاتون التي قابلها علي الوردي سنة 1945 وكانت عجوزا هرمة لكنها، تحمل بقايا ذلك الجمال الغارب، فقلت مع نفسي، يقول الوردي:" ساعد الله قلبك يا ناظم باشا" والي العراق الذي عزل بسبب هيامه بها من قبل السلطان العثماني.

    شم يعقوب رائحة آخر باقة زهور وضعها على قبر أمه قبل أن يتوقف عن زيارة الكنيسة في صباح مشمس وعذب. حين خارج من بوابة الكنيسة، آخر مرة، شعر بقطرات تبلل خصيتيه وكانت تلك علامة شؤم تحقق منها بعد وقوع تحولات وانقلابات سياسية خاطفة رغم ان ماريا فسرت هذه القطرات على انها بداية سلس بولي، وابعد من أن تكون علامة دينية أو نبوءة سياسية كما يحاول يعقوب أحيانا أن يضع سلوكه أو كوابيسه أو عثرات لسانه أو سقوطه من فوق سلم المنزل كما حصل مرة حين ربط هذا السقوط بيوم قيامة قريب لكن بدله شهدت البلدة في ملعبها الرياضي حفلة اعدام لجنود فارين من الحرب على الحدود الشرقية أمام جمهور حشد على عجل وبالقوة وأمام صراخ عوائل المحكومين.
    ***
    أفاق على صوت نسائي ناعم ورقيق كنسيم هذا الفجر الهادئ يأتيه من احدى النوافذ، وحين أفاق من ذهوله، طالعه وجه العلوية هاشمية الملقبة بـ"الشوافة" أو عرافة البلدة، منورا فتيا لم تخذله سنوات الأربعين ولا كل هذه السنوات العجاف كما لو أن هذه المرأة تعيش خارج زمن البلدة وقد حنطت خلاياها في جليد سحري أو انها عثرت على عشبة الخلود التي فقدها كلكامش بعد بحث منهك في الصحارى والجبال وغابات الأرز وصارت من نصيب الأفعى. قال لها بنوع من التبجيل الكريه الذي يستفزه أكثر من أي شيء آخر:( صباح البركة والأنوار يا أحلى نساء الأرض). ردت عليه ساخرة بأناقة مهذبة:(لو كنتَ امرأة لقلت انك تحدث نفسك.هل عندك بعض الوقت لشرب الشاي؟). أجاب يعقوب بسرور لم يتوقعه:(كل الوقت).

    من أعماقه السرية الغامضة التي تقذف له في مثل هذه اللحظات بصور وتفسيرات ومشاعر محتدمة، شعر يعقوب الأرمني ان هذه العرافة الأسطورية التي تنبأت بوقوع حوادث كثيرة تحقق الكثير منها والباقي، تقول، في الطريق، لديها ما تقوله له لأنها التاريخ السري لهذه البلدة وخازن أسرارها وفضائحها والمؤتمن على قلوب التجار والعشاق والمجانين من إصابات الحرب والسجون والباحثين عن الأمل. حين استدارت لتعد الشاي تأملها يعقوب من الخلف بنظرة شيطانية جامحة، فوجد ان الغواية تكمن في هذه الأرداف المتوثبة كغزال يتعلم القفز توا في حقول مشمسة، لكن خفق جناح مباغت عبر نافذة غرفة الضيوف المطلة على حديقتها المضاءة بنور فجري شفاف أيقظ هواجسه المتواصلة عن أقدام الكارثة المقبلة. عادت بصينية الشاي وهو تتلوى في مشيتها الطبيعية بلا غنج وجلست قبالته محدقة في عينيه بتلك النظرة المتمهلة الفاحصة المعرية لكن بلا قسوة، ولم تدهش للطائرة السوداء لأنها اعتادت على هذا النزق الصبياني للرجال في بعض محطات الحياة.

    قالت كما لو انها تحثه على شرب الشاي:(سأذهب معك اختصارا للوقت مباشرة الى الموضوع. كنت أريد أن أقول لك إن اختفاء سنونو أثار حيرة الناس أكثر من حضوره. حدسي يقول إنه ما يزال موجودا تحت سمعك وبصرك). قال يعقوب وهو يتأمل اشجار الحديقة:(هل هذا هو كل ما يشغل الناس في هذه الأيام؟). لم ترد أول الأمر لكنها واصلت التحديق الهادئ والرصين والمهذب في عيني يعقوب الأرمني الذي يعرف من قول ماريا المتكرر إن عينيه هما الجزء الوحيد في جسده الذي لا يقول شيئاً أبدا، وانها تقرأ خواطره ومشاغله وهمومه من رائحة جسده في الفراش. حين يكون منزعجا من أمر ما حدث في المقهى، تشم رائحة تشبه رائحة حليب الفرس التي تتذكر مذاقها يوم كانت أمها تجبرها على شربه لأنها تؤمن انه يقوي بنية البنت في وقت مبكر، وحين يكون مشتاقا لها تنبعث منه رائحة روث متفسخ تحت الشمس، أما حين يكون قلقا، فإن رائحة صمغ اليوكالبتوس يخرج مع المني. هل ستكون هذه الشوافة هي ديبورا التي ساهمت في قتل القائد الكنعاني سيسرا، تحت أي سبب ولو بذريعة واهية؟ لكن ما علاقته هو صاحب المقهى البائس بسيسرا؟ ان كل هذه الحوادث التاريخية القديمة عثر عليها في تلك المجلات الدينية التي كان يحصل عليها خلال زياراته النادرة الى كنيسة كريكور في ساحة الطيران والتي انقطع عنها منذ عدة سنوات بعد ان انقلبت الامور تماما.

    قالت وقد شعر بقلبه يخفق:(لكن هذا ما يشغلني أنا يا يعقوب).كلسعة بعوض مرقت فكرة لعينة في رأسه عن سلوك سنونو مع النساء وقد لا تكون هذه المرأة بعيدة عن عالمه الوردي. لكنها تابعت كما لو قرأت أفكاره:(لا تذهب بعيدا. الأمر لا يتجاوز الاحراج الذي يواجهني من بعض الزبائن. انت تعرف أن سنونو ليس بعيدا من هنا . حاولت معرفة برجه فلم أتمكن). كان يعقوب قد سمع الكثير عن تنبؤاتها، فقال بلهجة طيبة:( كيف يمكن معرفة برجه إذا كنا لا نعرف اسمه ومكان وتاريخ ولادته ودينه؟اذا كان الأمر كذلك، فهو قد يعود قريبا كما يخبرني قلبي). عندها شعرت بارتياح عميق واتكأت على مسند الأريكة المغطاة بقماش حريري مطرز بصورة ثور تتحفز قرونه للنطح. علقت بخبث:(فيما يتعلق بدينه الأمر واضح. هل نسيت علامة المسلم في الجزء السري من الجسد؟ أكثر من واحدة أكدت لي الأمر بإعجاب وشوق).قال كي يبدل موضوع الحديث: هل تظلين وحيدة الى الأبد وتتركين هذا الجمال يذبل؟). أجابت منتشية وهو تدفع صدرها الى الأمام، فشعر يعقوب الأرمني، أمام توثب مفاجيء عبر الثوب الأزرق الناعم، بأنه يتدهور، قائلة: (الجمال كالأزهار يحتاج الى أصابع ورعاية. ليس هنا من هو غير جورب مستهلك. لو كنت في مكاني، لما اقتربت من أحد). وعندها فحسب عرف يعقوب الأرمني ان العلوية مغرمة بقدرة سنونو على كشف المستور، لا عن طريق النبوءات وقراءة الكف، بل عن طريق الجسد. وكما لو أرادت أن تقطع عليه خواطره وتؤكدها، قالت وقد صار ثور الأريكة أكثر هياجا كما بدا له:(كيف يمكن لأخرس أن يترك كل هذا اللغط دون أن ينطق كلمة واحدة؟). قال يعقوب وقد شعر أن الوقت تأخر في الذهاب الى المقهى:( أعتقد ان في الأمر كثير من المبالغة. أستأذنك في الذهاب). حين غادر المنزل، شم في كل مسامات جسده رائحة روث متفسخ مع أن الفجر يعبق بشذى الأشجار والأرض المبللة والضباب.

    خطرت له فجأة وصايا ماريا المتكررة في شراء ديك رومي لعشاء ليلة عيد الميلاد، واذا لم تجد، تقول ماريا متوسلة وضاحكة، فيمكنك شراء وزة ريانة تمشي بدلال وغنج. قد تكون مشية هاشمية أو ديبورا المستقبل هي التي ذكرته بحكاية الديك الرومي أو الوزة ذات الأرداف الجنسية المثيرة التي ستشوى على نار هادئة في ليلة الميلاد المقتربة.
    ***

    في انتظار قدوم منتصف الليل، ظل سنونو يتأمل الطائرة الورقية المحلقة تارة، ويلعب مع صقره الحباري أو يطارد الجرذان المذعورة أو يتسلق الأشجار لقطف الثمار تارة أخرى. في واحدة من هذه الجولات عثر على جحر لخنزير بري لكنه فر قافزا فوق الأشجار بعد أن لاح عبر الجحر الخطم الحاد المميت حين شم الحيوان رائحة كائن بشري يقترب من خنانيصه الصغيرة، وعندها شاهد الطائرة السوداء ترفرف فوق السوق كما لو كانت توميء اليه.

    سنونو الوحيد في العالم الذي يفهم معنى هذه الطائرة، كما ان يعقوب الأرمني هو الوحيد الذي يفهم العواء الليلي الرتيب منتصف الليل القادم من أعماق البستان المحاذي لدجلة أقدم أنهار الأرض. بهذه الطريقة تمكنا من التفاهم على مدى شهور تحت سمع وبصر البلدة دون أن يفهم أحد لغتهما المشتركة:عواء سنونو يحمل رسالة تتغير قليلا كل يوم:(كيف حالك يا يعقوب؟ أنا بخير. أو: لا تقلق مازلت حيا. سنلتقي يوما. أنا حي.. الخ) في حين كان صمت يعقوب الأرمني يعني:(استلم رسائلك كل يوم وانا مسرور. أو: لا تقلق ناحيتي أيضا. حين تقرأ رسالة الطائرة، تعال. الامور تمشي جيدا.. الخ ). أما رسالة اليوم المحلقة السوداء فهي تعني: (سنونو، تعال. انا مشتاق اليك). هكذا تمكنا من تأسيس لغة داخل اللغة وخارجها، فوق سطح البلدة وأشجارها وأعمدتها وبناياتها ومؤسساتها وضجتها النهارية وصمتها الليلي الجارح وهي تنام على مشاهد موت وولادة وجنون واختفاء وحفلات زواج وهروب ومارشات عسكرية واحتفالات حربية ومواعيد غرام منتظرة بسبب بريد السنونو الذي انقطعت أخباره لكنه يمر كل ليلة فوق رؤوسهم كعواء طويل يرتطم بنجوم الليل والضباب والمطر.

    من مخبئه في دغل كثيف مطل على النهار، شاهد قوارب الصيادين تعود في المساء تتراقص فوانيسها على سطح الماء كنجوم منعكسة فوق في مرايا بلورية معتمة، وسمع صيحاتهم وهي تختلط بصيحات النوارس المجفلة من وجوده في هذا الدغل في حين كانت ظلال الشواطئ تزداد عتمة. مع حلول الظلام تندلع الجوقة النحاسية لكائنات وحشرات وأزيز مخلوقات تنام في النهار وتستيقظ في المساء على ضوء القمر الذي كان يبزغ ببطء من خلف الشريط الشرقي لأشجار النخيل الملتف حول النهار والموغل عميقا نحو الجنوب، وتلوح في الأفق اسراب محلقة لطيور مهاجرة ثم تختفي كنجوم منطفئة.

    شم رائحة الأعشاب النهرية ورائحة تراب مبلل وأغصان ندية وخيل اليه ان للقمر المتوهج فوق حافات الأشجار رائحة كعبير زهور برية تتفتح في قلب العتمة والرمل والسكون. كان الصقر يتكيء على كتفه كما لو كان يغفو على غصن وهو ينشب مخالبه برفق في معطف سنونو الأخضر الشبيه الآن بشجرة ليلية معتمة واقفة عند أقدم أنهار التاريخ،في انتظار منتصف الليل،حيث سيتسلل كحيوان ليلي وهو يغادر جحره في الظلمة العميقة خوفا من ثعالب الليل،وفي الوقت نفسه ارتفع شعاع المصابيح العمومية من قلب البلدة صاعدا نحو السماء وهامات أشجار اليوكالبتوس المعمرة العملاقة وهي تطل، كأشجار بابلية في حكاية، على نهر الأساطير المستمرة حتى الآن.

    سنونو وهو يقف الآن بقامته كاملة في عتمة الليل والدغل والأشجار على ضفة النهر أمام قمر أحمر يخرج تماما من بين شريط أشجار النخيل في الأفق الشرقي، يرى، عبر النهر، فوق جزيرة منعزلة، بنايات حديثة وأسلاك شائكة وأسوارا وأبراج مراقبة وأضواءً كاشفة ونوافذ مضاءة بنور فاتر رمادي منفر ومنتجعات ومهابط طائرات عمودية ومساكن سياحية كتلك التي رآها في مجلات الأرمني. ما لم يقرأه سنونو عند مدخل تلك الجزيرة النهرية الساحرة، مدخلها الوحيد على اليابسة، هو علامات تحذير بعدم المرور أو طريق خاص أو لا تقترب ..الخ. تلك كانت جزيرة مختارة كمنتجع خاص لأفراد الحزب الحاكم، لا يعزلها عن البلدة غير النهر، وسنونو يقف الآن فاصلا بين منطقتين لا يفصله عن جسده غير صقر الحباري الذي أفاق على رائحة هذا الليل الضاج بكل ما هو شهي: هذا الليل، هذا الصقر، تلك الجزيرة الرمادية الموحشة، هذا النهر، تلك البلدة، هذا الرجل القادم من عتمة البرية الى عتمة المدن والغابات والأنهار، مخلوقات الضفاف المستيقظة على ضوء القمر،كل ذلك غرق الآن في السر والسكون والضوء المشتت القادم عبر النهر ومن أعماق البلدة ومن قمر يبتعد كلما اقترب من حافات الأشجار والأسيجة وخفافيش الليل المتخاطفة في هذا السكون المتوثب.

    سنونو نفسه هو الكائن الوحيد هنا الذي ينتظر لحظة الذهاب الى موعد مختلس، تحت جنح الظلام، أكثر حذرا من خفافيش الليل وهو تعلن طيرانها الزلق فوق سطح النهر. وحده صاحب المعطف الملكي الأخضر العشبي يشعر اليوم انه لم يعد بحاجة الى الكلام كما شعر من قبل، ففي هذه العتمة الباهرة والروائح النهرية المخدرة وفي صحبة الصقر ومطاردة الحشرات ورفقة الدغل والأشجار والنجوم والشواطئ، لا معنى للكلام أبدا. بل انه استطاع التواصل مع أرنب عثر عليه مريضا في الدغل وحمله الى المأوى بضعة ايام، رغم نفور الصقر من هذه الضيافة الغريبة، تعلم خلالها لغته بكل بساطة قبل أن يطلقه مرة أخرى في البستان: اذا وقف الأرنب على قدميه الخلفيتين، فهذا يعني انه في حالة حراسة، واذا تمدد متهدلا، فهذا يعني انه مريض، واذا انبطح على الأرض تماما، فهو في حالة خوف واختباء، واذا وضع اذنيه في حالة منتصبة، فمعنى ذلك انه في حالة تنصت. ولسبب ما لم يتعجب سنونو كيف انه لم يعثر على لغة مشتركة مع أهل البلدة رغم ان يعقوب الارمني قال له يوما جملة غير مفهومة:( هؤلاء، يا سنونو، نسوا اللغة. لم يعودوا يتكلمون ولكنهم يرطنون).

    فكر وهو يعود الى المأوى وقد كساه الضباب وبدا الصقر متحفزا لحركة خفيفة بين الأشجار، في انه يجب أن يذهب للقاء يعقوب وقد حلق لحيته الكثة التي يحلو لثعلبه أن يلحسها حين يصادفه في الدغل. على ضوء شمعة صغيرة ومرآة جيب على الجانب الخلفي منها صورة فرس تنغرز في جسدها عدة سهام تقطر دما والى جوارها جسد ممزق لفارس بعمامة سوداء ينطرح على رمل صحراوي في هجير ظهيرة مهلكة قرب نهر وقد قطع جسده الى اشلاء أقرب ما يكون الى وجه المصلوب على خشبة كما رآه في واحدة من مجلات الأرمني، حلق سنونو لحيته وكان قبل ذلك وبعد ان رأى الطائرة الورقية السوداء، كان قد استحم في بركة ماء نظيفة بين الأشجار حيث بدا أن الصقر الواقف على قدم واحدة فوق الشجرة المطلة عليه ساخرا أو مستهجنا رؤية سنونو عاريا وهي المرة الوحيدة التي يراه فيها بلا معطفه الأخضر وبلا أي شيء آخر.

    ذهل سنونو وهي يرى جسده وقد تحول الى عظام ناتئة جوفاء تمر في داخلها الريح وتترك صفيرا يشبه صفير قطار مندفع في برية مفتوحة على النهار والسهول والقناطر والمستنقعات الغارقة في نور سماوي شفاف. لكن ما أدهشه أكثر حد الفزع هو اكتشاف ان صورة المعطف وخطوطه كانت مطبوعة على جسده ولم يكن اكتشاف الجروح الخفية الملتئمة أو المتقيحة، القديمة والجديدة، مفاجأة له، فهو اعتاد هذه الجروح في دروب كثيرة منسية، ولم يكن على اية حال يشعر بأي الم بسببها كما لو انها تشق أو تنغرز في جسد آخر لا صلة له به أكثر من صلته بهذا المعطف الأخضر العشبي وهو الشيء الوحيد الذي يملكه ويلف به هذا الجسد الذي يتعرى الآن أمام صقر الحباري.

    كان قد فكر في الأيام الأخيرة في أن يرسل الى يعقوب الأرمني وماريا بعض الفواكه والثمار والأزهار المجففة وحتى الأسماك التي يصطادها في الليل من النهر بصنارة عثر عليها مخبأة في العشب على الشاطئ وفي مكان نزول الصيادين الى القوارب، لكنه لم يجد وسيلة مطمئنة لذلك، فقرر اليوم أخذها معه وهو يتأهب لمغادرة المأوى والتسلل الى الشوارع بين الأشجار والجدران وقد أخذ المطر يهطل بغزارة وغاب القمر بين الغيوم مما سيسهل عليه عبور الشوارع حتى الوصول الى السوق في وقت قصير.

    أطلق آخر عواء قبل أن يتسلق السياج الطيني المتآكل وينحدر تحت جنح الليل كمتسلل خرج لارتكاب جريمة لقاء صديق. وكان قبل ذلك قد أطلق الصقر خارج المأوى تحسبا لكل الاحتمالات كي ولا يموت الحباري من الجوع والعطش لو تعرض سنونو لخطر ما، لكنه أغلق الباب وتأكد من وضع جذع الشجرة المقطوع في مكانه المناسب وحمل في سلة سعف نسجها بنفسه بعض الفواكه والثمار والأزهار المجففة وسمكة حية اصطادها امس وتركها تلبط في بركة ماء جوار المأوى، وحين أخرجها من البركة حدقت فيه بعينين ضاريتين مكحلتين بكحل أسود فاحم بل رأى قرطا ذهبيا على شكل فراشة في الأذن اليسرى ولم ينقصها،فكر سنونو، ضاحكا، غير حزام حريري كي ترقص على الطبل ذلك النوع من الرقص الغجري الذي رآه في حفلات قديمة خلال المدن التي عبرها.

    عبر صفي أشجار اليوكالبتوس الضخمة على جانبي سدة النهر، ثم انحدر بموازاة مبنى البلدية، واختبأ بعض الوقت بين أشجار الحديقة الوسطية لدى عبور سيارة، واندفع راكضا عبر درب يقود الى السوق الذي تعوي فيه الكلاب واقترب من باب المقهى نصف المفتوح ودخل بهدوء ومشى نحو الباب الخلفي المطل على الغرفة الداخلية ليطالعه وجه يعقوب الأرمني ثملا وشاحبا وهو ينشج على صورة لطفل بالأبيض والأسود تعود الى اربعينات القرن العشرين يتكيء على جذع شجرة نخيل ويترقب نهاية الشارع في انتظار قدوم أحد ما من نهايته. ما لم تقله الصورة هو ان الصبي يعقوب كان ينتظر قدوم الأم التي كانت غائبة لسبب نساه اليوم لأن كل الأسباب تتشابه. عانق سنونو وبكى على كتفه كما لو انه يعانق صبي الصورة: صورته.

    شربا معا نبيذ العنب الذي يصنعه يعقوب الأرمني فوق سطح المنزل. ضحكا. أكلا. شرح كل واحد منها للآخر فترة الغياب. سلمه سلة الفواكه والثمار والزهور المجففة وجفل يعقوب وهو يتأمل وجه السمكة الشبيه، كما بدا له، بامرأة سوقية.

    فهم يعقوب من علامة ما أن سنونو يملك صقرا، فصرخ بلا حذر مما أجفل سنونو الذاهل:(تقول صقر؟ متأكد؟ اذن، حُلّت المشكلة). لم يفهم سنونو أية مشكلة فوضح يعقوب بفرح طفولي:(الببغاء هربت وهي تحمل أسرارا عائلية تعلمتها في غرفة النوم) ضحك سنونو بخجل. قال الأرمني:(هل صقرك ذكي؟ أعني هل سيصطاد هذه الملعونة قبل أن تقضي علي؟). فهم يعقوب ان سنونو قد طمأنه حول مصير الببغاء، فشربا معا كأس ليلة القبض عليها المنتظرة.

    حين ظهرت عبر الخلاء الخلفي غلسة الفجر، وتعالت زقزقة العصافير، قال الأرمني:(اسمع جيدا. حاول ان تأتي مرة واحدة في النهار وتمر في شوارع البلدة. عليك وحدك أن تقرر في أي يوم. سوف نرى بعد ذلك. لكن دعني أرى صقرك يحوم في سماء البلدة طيلة النهار كي يطارد الببغاء المشؤومة قبل أن تحل الكارثة).قال له سنونو انه سيستمر في العواء الليلي حتى ذلك اليوم الذي سينقطع فيه وهذا يسبق نهار ظهوره العلني. قال يعقوب وهو يحتضنه بحنان ودفء: (دعني ارى الصقر في السماء كل نهار من أجل تلك الفاجرة. خذ معك الدراجة وغطها جيدا في الدغل).
    ***

    لكن صقر الحباري لم يحلق لا في ذلك النهار ولا في أي نهار آخر بعد أن كبس عليه ثعلب شرس وهو يقضي حاجته في حفرة عميقة وهي عادة تعملها من سنونو ومزقه تماما، ولم يبق منه ما يؤكد انه صقر سوى الريش المتناثر ورأس تحدق فيه عين واحدة سليمة من عراك دموي، بسخط وتوعد، نحو سنونو الذاهل. انغرزت تلك النظرة المهددة في قلب سنونو عدة ايام وخاصة في الليل، على صوت المطر الهاطل، أو صرير الريح، وهي تمرق بين الأشجار، والأدغال، وحافة المأوى، وانطفأت رقصة الحباري كنيزك في برية مظلمة، كحلم بزغ وتلاشى.

    ظل يعقوب يمسح السماء بنظراته كل نهار دون جدوى وخلال ذلك اكتشف، هو المدفون في عفونة السوق والمقهى، ان حياة أخرى أكثر جمالا ودهشة تتحرك فوقه من طيور وغيوم وبدت له نجمة الصباح، رغم المخاوف الدفينة، كأجمل شيء رآه في حياته ولا ينافسها في هذا السطوع والبهاء والبياض الذهبي النافر الا جسد ماريا حين تستلقي على السرير وهو يركض فوق برية البياض كجواد مستثار وعلى مقربة منه طائر ارعن يسجل قاموسه الجنسي البذيء الذي يتجدد بلا وعي كل مرة.

    وقت الظهيرة حين تخف ضجة السوق بسبب لهب الظهيرة صيفا وفترة قيلولة سريعة شتاءً، صار يخلو لوحده في الغرفة الخلفية وهو يتأمل لوحات وصور كتاب موسوعة "الفن الاسلامي القديم" أرسلته له الفنانة سيتا هاكوبيان قبل عدة شهور في البريد وعليه كلمة اهداء بخط لا يمكن أن يكون الا بأصابع فراشة أو ملاك يقول: (أخي يعقوب: قد يكون هذا الكتاب مفيدا لك لأنني أتذكر جيدا أنك حين كنت صغيرا كنت ترسم فوق كل شيء، واذا لم تجد قلما، فإنك تخطط الأرض ببولك النتن. اذا عدت من المقهى اليوم، قبِّل ماريا وكالة عني برقة وتحية حارة الى سنونو ـ سيتا هاكوبيان. بغداد ـ 1985). وكتبت على المظروف: مقهى يعقوب، أبو يوسف الأرمني، السوق. بلدة الصيراوي.

    كان يقلب صفحات الموسوعة وهو يرمق نافذة الغرفة المطلة على الخلاء الخلفي للمقهى. هذه لوحة رقص الدراويش. الفنان محمدي.مخطوطة بالحبر الأحمر لمقامات الحريري تمثل السيد المسيح في القدس. لوحة من كتاب الأغاني . أمير في جلسة طرب. صورة جدارية تمثل الحسين وقد مزقته السهام ثم أخرى وقد عاد منهكا والدم ينزف من جسده من القرن السابع عشر. لوحة من مقامات الحريري بعنوان الفرسان في طريقهم الى دار افراح الشحاذين. لوحة من كليلة ودمنة: الأرنب البري وملك الفيلة عند بئر القمر. لوحة الحارث وغلامه الميت من المقامات. لوحة درويش في لحظة تأمل. لوحة من مخطوطة للواسطي عن أبي زيد الشروجي أمام حاكم رحبة عاشق الغلمان يقود غلاما. صورة جدارية من سامراء: غلام مملوكي يحمل غزالا. لوحة بستان سعدي. حفلة أنس وطرب بحضور السلطان حسين ميرزا. ومن مقامات الحريري لوحة عن ابي زيد ايضا وهو يشكو غلامه للأمير. لوحات كثيرة عن كليلة ودمنة ويظهر فيها ظبي وجرذ وسلحفاة وغراب والمزربان وامرأته في البازار تعود الى سنتي 1200 ـ 1220.م. ومن كتاب الحيوان للجاحظ لوحة عن عبد مخصي يطلق طيرا من القفص. حدث يعقوب نفسه: ليس أكثر من عبد مخصي من يفهم مشاعر طير في قفص او جواد يحتاج الى ترويض. لوحة من مقامات الحريري: رهط الابل. ظهر سرب الابل عند جدول ماء. زمن اللوحة:1237. م. أغلق الكتاب حين عادت ضجة السوق في الساعة الخامسة عصرا وصار ينظر الى نفسه كما لو أنه خرج الان من صورة أو لوحة أو حكاية قديمة في كتاب مغبر في خزانة عتيقة من خشب الأبنوس.

    خطر له أن عدة سنوات مرت، ثقيلة ومربكة ومحيرة، على قدوم سنونو مليئة بالأحداث والمفاجآت، لكنها رغم كل شيء خففت من أحزان خفية مختبئة في أعماق الروح. إن عمر يوسف اليوم هو نفسه عمر قدوم سنونو كما لو أنه كان بشارة وأملا وضياء سطع في لياليه الرمادية والجافة وأهوال حرب مشؤومة صبغت الوجوه والجدران والنفوس بلون كالح مميت. يوم ولد يوسف كانت الحرب في عامها الأول، واليوم يقترب من عامه الخامس وهو يتفتح على مشاهد الموت والجنازات والقتل والاختفاء والصخب. شعر يعقوب بانقباض وهو يفكر في الايام القادمة، في مستقبل الطفل، في المختفي والقدر والسر والمعتم. هل سيعيد يوسف سيرته المؤلمة؟ أم ان الاغتصاب والموت والألم سوف لن يكون قرب حائط ومطر وليل، بل على صورة أخرى؟

    عاد يعقوب منتصف الليل منكسرا. عاد هذه المرة بديك رومي بطباع مستهجنة، اذ كلما دخل الى الخلاء الخلفي للمقهى وقد تركه طليقا طوال اليوم، جاء الديك الرومي مسرعا وهو يحك مؤخرته بساق يعقوب المروَّع، وحين يصل الى لحظة ما، كما لو انه صرع، يطلق صوتا أقرب ما يكون الى صوت يعقوب في السرير وهو يوغل في دغل ماريا المحتدمة من اللوعة واللذة والألم.

    مر في طريق العودة من تحت شرفة هاشمية فسمع ضحكة خافتة من خلف النافذة ورأى بابها يفتح لتخرج هذه العرافة كملاك ليلي بثوب أزرق حريري ناعم وشفاف يجسد مفاتن جسد في صلابة النور ورقته رغم الليل الشتوي البارد وكان قد شم رائحة نبيذ العنب ينضح به كل جسدها وحتى الثوب وتجلى ذلك في مرح هادئ يعكس عزلة وحشية مغطاة بقناع من النبوءات والأحلام والأوهام. عزلة افعى في صحراء الظمأ. قالت: (لقد رأيت طائرتك السوداء تحلق اليوم طوال النهار. رد يعقوب:(هل وحدك من رأى ذلك؟). أوشكت على إطلاق ضحكة مستهترة في عمق الليل لكنها كبحت ذلك قائلة:(لا يوجد هنا من يرفع رأسه الى السماء هذه الأيام. تذكر، يا يعقوب، هذا الكلام. في يوم ما ستنفجر علبة القاذورات هذه عن قتلة ولصوص ووحوش ونصابين من كل الأنواع. العلبة مغطاة الآن بسد محكم اسمه الخوف). تجاهل المعاني الخفية في كلامها وأثنى عليها لأنها تشرب النبيذ تحت المطر وفي أعماق الليل وبهذا الثوب الشبيه بثوب برجيت باردو، كما قرأ في مجلة، حين دخلت قصر الأليزيه أول مرة بثياب الجنرال كما علق ديغول على ذاك المشهد البابوي. هاشمية وهي ترفع دبوسا سقط الى الأرض، انطلق طائران مشتعلان باللهب من صدرها البض المعجون بلون كحلي ورملي ونهري وسماوي له رائحة عشب تحت المطر:(قليل من الخمر يفرح القلب قبل أن تأتي الذئاب، يا سيد يعقوب) ـ لقد احتاج الامر الى زمن طويل لكي يكتب الشاعر سعدي يوسف في منتبذه في ضواحي لندن هذه القصيدة صيف 2007:(لم يجئنا قطيع الذئاب. الرجال يقولون إن الذئاب التي أتخمتها خراف المراعي ستذهب نحو الكهوف القريبة. قد تسألين: وأين تأتي الينا؟ اقول لك الحق: إني أراها هنا الآن. إني أراها هنا تخمش الباب. هل تسمعين صرير المخالب فوق الحديد؟ وقضقضة العصْلِ.. تلك النيوب التي سوف تنهش طفلا لنا، أولا، قبل أن تغتذي لحمنا المرَّ؟ لا تسألي، واهدأي. هَيِّئي الخبز والماء والتين. أغطية الصوف. صف الرصاص. الضماد. الذئاب التي تخمش الباب لن تدخل البيت. حتى لو استعرت بالجنون).
    ***

    هذه اللحظة جاء العواء الحاد من خلف الأشجار، قرب النهر، فمضى يعقوب وهو يحمل الديك الرومي المصاب بكل العاهات الجنسية على ظهره مشدودا بحبل في حين كان الديك ينقر في أسته طوال الطريق كما لو كان ينقب فيه عن آخر الأسرار العائلية المحلقة هذه الأيام في الفضاء، وعجب كيف يمكن لمثل هذا الديك الشيوعي المنحرف أن يكون عشاء الليلة المقدسة؟

    تلك الليلة عرف سنونو مشاعر حداد غريبة بسبب الموت المرتجل لصقر الحباري واطلق عواءً بعد منتصف الليل كرسالة يومية ليعقوب الذي شعر ان سنونو يعوي هذه المرة من قلب مجروح ونازف.
    ***

    في تلك اللحظة كان المطر يهطل بقوة أكبر فوق المأوى وتذكر بغير وضوح اغنية عن طير الحباري للمطرب حميد منصور وجمع الريش الذي تناثر في الحفرة المشؤومة وحفر بأصابعه للمرة الأولى قبرا ودفن بقايا الصقر أو بقايا حلم الطيران والعثور على الببغاء الشرس وانقاذ يعقوب الوفي من ورطة الأسرار الطائرة في الفضاء. اليوم يشعر سنونو لأول مرة في حياته انه اختبر مشاعر حداد طبيعية ومشاعر حفر قبر لصديق ومشاعر دفن. انه يسلك سلوك الانسان السوي في اختبار مشاعر الفقدان ولو في قلب عزلته الوحشية تحت مطر يهطل بغزارة فوق غابة وعلى مقربة من نهر كبير وعريق في القدم كالموت نفسه، كالظلم، كالضباب، وجنوح القلب.

    يعقوب وقد باغته العواء في الطريق الى المنزل، تحت المطر، وهو يحمل موسوعته المصورة برسومها المحافظة والفاحشة وديكه النزق، خطر له ان هذا لم يكن صادرا من فم سنونو بل من جوارحه، من أدغال روحه الموغلة في العمق والطين والعشب والصور وكل سلالات التشرد، حتى داهمه صوت جمد أطرافه وجعل العرق يتصبب من كل ذرة في جسده بما في ذلك حزامه الجلدي الأحمر وهو يقترب من نافذة غرفة نوم ماريا في الشارع وسريرهما المشترك آخر مساحة للأحزان السرية:( بقوة! بقوة!).

    كان صوت ماريا المتشنج نفسه. دار الشارع والمصابيح والأشجار والأبواب والعالم والمقهى والسوق وشعر انه يهوي الى هاوية من الضباب بلا قاع وشم رائحة براز تخرج من أنفه حين سمع خفق الأجنحة فوق عمود الكهرباء. حينئذ رأى نفسه يطير خلفها عبر الأسلاك والأشجار وأن أجنحة نبتت له فجأة لكن بلا جدوى. غابت في المطر والضباب والعتمة الليلية بعد أن نشفت له ريقه ودمه وحولته الى كائن ملحي من الدهشة والذهول والرعب. كيف لم يخطر بباله أن الببغاء اللعينة لم تكون تسمع صوته وحده بل صوت ماريا ايضا؟ وها هي الآن تقلد صوت ملاكه البريء بتلك العبارة الفاحشة الكفيلة لو سمعتها ماريا بأن تجعل الجنين يخرج من أنفها، صارخا. فتح الباب بهدوء ودخل غرفة النوم. كانت ماريا تنام محتضنة يوسف النائم كمسيح صغير، يفوح من جسدها عبير الخزامى لنفورها الشديد من العطور الأجنبية، وعلى وجهها تطوف احلام الملائكة كطفل يحتضن دميته المفضلة وينام، باسما. كانت هاشمية هي التي جلبت لها أول مرة زهور الخزامي بالأزهار البنفسجية، والحواشي البيضاء الشفافة الفاتحة، مرددة قول "أمرؤ القيس" :كأن المدام وصوب الغمامَ/ ورِيحَ الخٌزامَى ونَشرَ القٌطٌر.

    سحب يعقوب حزامه بغضب وهو يتوجه بالكلام الى السقف: (قلت لك لتعبر عني هذه الكأس). لأول مرة في حياته نظر الى الجانب المعاكس لجدار غرفة النوم بحثا عن الساعة الموجودة في الجدار الآخر منذ أكثر من ربع قرن والتي اشتراها من رصيف ميناء البصرة من بحار هولندي له طبائع هذا الديك الرومي. فكر في اهداء سيتا هاكوبيان وعن عبارة مختزلة عن طفولته لكنها لم تمر، كي لا تجرح احاسيسه، الى هلاكه الليلي تحت جدران المطر وأصابع شرسة تنتزعه بكل قسوة من دفء أعمى لكنه يفيض نورا وحرارة وحنانا. سمع صوت ماريا الناعس الحار كرغيف ساخن:(عدت، يا يعقوب؟). لم يقل شيئاً.حمل يوسف النائم كملاك الى غرفة أخرى، وعاد واندس في السرير وقد أوقدت كلمات الببغاء في دمه نيرانا أخمدها العمل، وشم في جسده رائحة روث معتق يتفسخ تحت الشمس. قال جملة واحدة لأغنية شعبية للمطرب ياس خضر قبل أن يتهدم جوار البياض المرمري ويتحول الى أنقاض بصوت مفعم بالحنين والرجاء والشكر:(عيونك مثل زرازير البراري، بكل نشاط جناحها بعالي السحر). كان المطر ينثال فوق السطح في حين كان ضوء المصباح العمومي يخترق ستارة النافذة، عاكسا أشباح الليل.
    ***

    صرخت ماريا هلعة راكضة في ضوء الفجر الندي المعتم الممزوج برائحة المطر الى غرفة النوم وكان يعقوب يرفل بنوم طيب وقد قفز من السرير كما لو داهمه كابوس واحتضنها برفق في حين كانت هي مشوشة البال غير قادرة على تفسير أو شرح ما جرى. كل ما خطر ببال يعقوب انها سمعت تلك العبارة الفاحشة من فوق عمود النور لكن ماريا روت له، وهو بين الحلم واليقظة، حكاية الديك الرومي الشبقي الذي باغتها وهي في المطبخ تعد له الفطور وتمكن من مسكها بجناحين حديديين وطرحها أرضا وأوشك على أخذها بالقوة لو لم تلطمه على وجهه بآخر ما تبقى لها من قوة ونفس ووعي.

    قال يعقوب زافرا:(يبدو أن كل شيء قد فسد هنا. لا يُسمح لبريء أن يعيش بيننا لأننا جوقة. البريء نضعه على حمار أبتر ونطوف به الشوارع وعلى رأسه طربوش أحمر دون أن يعلم). انطلق كثور هائج الى المطبخ وحمل أطول سكين عثر عليها هناك وركض خلف الديك الرومي الزاعق المستنجد حتى قبض عليه من عنقه كرجل حقيقي حاول انتهاك زوجته عنونة وقبل أن يحز عنقه أراد أن يسمعه آخر جملة تأكل قلبه:(سيكون هذا مصير رئيسك أيضا).
    ***

    كان يجب أن تمر سنوات كثيرة على أمنية يعقوب تلك، كي يقف رئيس الديك الرومي حسب وصف الأرمني، فوق خشبة مشنقة في صالة موحشة في فجر الأول من كانون الثاني 2007 ويحاور جلاديه حول أمر يتعلق بلف قطعة قماش حول رقبته كي لا تتمزق من الحبل ويقبل التفاوض معهم حول تلك الرقبة التي تطلب الحفاظ عليها منتصبة كل تلك الأعوام قطع ما لا يحصى من الرقاب والتي حرص على أن لا تتمزق حتى بعد الموت، وقد سحب نفسا عميقا قبل أن يدخل الحيز المطلوب وهو يستعيد صورته يتيما ومشردا ونائبا وزعيما ومحاربا ومطلوبا وسجينا ومحكوما،على إيقاع هتافات تنادي له بالجحيم في حين توعد هو بحكم التاريخ.

    ذاك النهار، نهار المشنقة، كان رأس الديك الرومي المحنط لا يزال مسمرا على جذع شجرة السدر في حديقة منزل الأرمني كتعويذة سحرية غامضة ولغز من ألغاز ذاك البيت العتيق الذي صمد في وجه الريح والزمن والأمطار رغم انه تآكل في عدة مواضع لم يتح ليعقوب الأرمني الوقت الكافي لاصلاحها وربما لانعدام الرغبة في ذلك حين اصبح الخراب وحشا متجولا بأنياب قاتلة في كل مكان وهو يتجول في ارض بابل وآشور ونينوى بأقدام ثقيلة تسحق كل شيء وتحول الأحلام الى رماد كما يقول الفنان المسرحي فاروق صبري وهو يتحدث مع نفسه من فوق خشبة مسرح فارغ الى جمهور غائب في عزلته الموحشة في نيوزلندا.
    ***

    في ايار سنة 2007 يعود فاروق صبري من منفاه النيوزلندي
    لأول مرة منذ أن غادر كركوك سنة 1979 الى بيروت ودمشق، وأخيرا نيوزلندا، يعود الى كركوك وقد فكر في أن يزور قبور العائلة. ماتت الأم ومات والأب وهما يقبلان صورته في لحظات الاحتضار، كما ظل هو يعانق صورهما في سنوات المنفى، شكل الاحتضار السري.

    الجبال البعيدة المضببة أعادته الى سنة 1980 يوم عمل مع مجاميع الأنصار التابعة للحزب الشيوعي ـ الفترة التي كانت الإمبريالية فيها نمرا من ورق. سنوات الزهد والتصوف وسعادة التضحية.كانت مهمته تهريب المتطوعين والزائرين عبر سوريا وتركيا الى الجبال:(أكراد تركيا، يقول فاروق محدثا نفسه،ضاحكا،كانوا يسمونني بالمهرب"القجقجي".عبد الله صخي في روايته" رؤيا الغرف" كتب عن غرفتي في الحيدرخانة. الوقائع على الورق أو في الكلام تبدو بسيطة وسهلة وعادية، لكن عبور جبال وعرة مثلجة ومخاطر الانكشاف تستعصي على الوصف). غير ان مرور رتل من المدرعات الأمريكية وهو يعبر جسر التون كوبري ـ اسم البلدة باللغة التركمانية يعني الجسر الذهبي ـ الذي دمرته القوات البريطانية في الاحتلال القديم الأول، فسد الاسترسال التخيلي المستمر منذ أن غادر نيوزلندا، ولا يعرف كيف تذكر، تلك اللحظة، مبغى في ساحة الميدان. صورة بزغت بلا ترتيب في الذاكرة على منظر جيش مسلح يعبر جسر البلدة الأسطوري فوق نهر الزاب الصغير لكنه، فكر فاروق، يربط بين ضفاف القلب والذكريات ومباهج وأحزن طفولة هي الشيء الوحيد الذي نجا من الخراب.

    كل ذلك التعب، كل تلك الجبال، كل ذلك الخوف، والنشوة والأمل والحرمان والفرح والسلاح والرفاق والكبت والمشاريع والتصوف بالثورة والفن والكتب وحذف الجسد، كل ذلك ينتهي بهذه الصورة، صورة جيش محتل يستطيع أي جندي فيه أن يحول حياته كلها بما فيها من أمكنة ومسارح ونساء وجبال وأحلام وحنين الى رماد؟. إن جسر التون كوبري أو الجسر الذهبي شهد عبور ثلاثة جيوش غازية: عبره الجيش العثماني نحو بغداد بقيادة السلطان مراد الرابع، والجيش البريطاني، واليوم الجيش الأمريكي، فكر فاروق وهو يخترق احياء البلدة وقراها الوديعة المنتشرة على الجانبين، عبر نافذة السيارة: بويك كوبري، كوجك كوبري، قرى قايا باشي، قاره بك، محلة أورطا ياقا، كوبري كوسكي الخ.

    كل تلك الجيوش، فكر، ذهبت الى النسيان وستذهب غيرها، لكن جسر البلدة المتوهج تحت الشمس أو القمر، يخترق الأزمنة كصوت ابراهيم خان وهو يقود الثورة في التون كوبري ضد البريطانيين في عشرينات القرن الماضي بعد رحيل الأتراك وقتل القائد البريطاني: (قبل هذه الجيوش، وهذا الجسر، حدث نفسه، تعرضت البلدة لغزو وحشي روماني وجرح في تلك المعركة القائد الروماني جوليا.التون خانم المرأة ورئيسة العشيرة والتي رفض صاحب الجسر القديم عبورها الجسر اذا لم تتزوجه، أمرت عشيرتها ببناء جسر جديد. شاعر تركماني خلد هذه المأثرة برباعية شعرية تقول: (ليجرفك السيل، أفضل من عبور جسر من لا شرف له).

    خطر له وهو يقطع الطريق من اربيل الى كركوك، تحت رذاذ مطري ناعم، وفي الأفق البعيد تلوح قمم جبال بعيدة، مغروزة في الضباب والسر والضوء، انه سيعثر على المدينة التي تركها وظلت في ذاكرته كما هي كل سنوات المنفى. موتى العائلة ظلوا أحياءً في ذاكرته لأنهم ماتوا في غيابه، حتى جاء اليوم الذي وقف فيه في المقبرة لكي يكتشف أن الموت حقيقي وليس لعبة مراوغة مارسها طويلا. لم يكتشف حقيقة موت الناس فحسب، بل حقيقة موت الأمكنة، وان صور عالمه القديم يوم غادر لم تعد موجودة الا كحلم هو الآن يتداعى مثل كل الأشياء، كالحرية والانتظار والفن والحب والمسرح وعبير الأزهار.

    لم يجد كركوكه، ولا محلة قورية التي عاش فيها ولا رائحة أشجار النارنج ولا لون الجدران القديم ولا القلعة الشهيرة ولا المكتبة:( كان صاحب المكتبة يسمح لي باستعارة كتابين لأنني مواظب على زيارة المكتبة).حتى الشوارع فقدت لونها النبيذي الساحر وتحولت الجدران الى وحوش رمادية مزمجرة، كما لو أن الوجوه والأمكنة والأشياء حملت لون الأسلحة ورائحة الموت والعطب.

    تذكر وهو في الطريق الى المقبرة الخاصة، قادما من المأتم العام، كيف ان والده أطلق النار على ضابط إنكليزي في الاحتلال القديم كان يحاول الدخول الى خيمة امرأة فقدت زوجها في الحرب، ثم الهروب مع أخته زليخة والعودة بعد سنوات. يتحدث فاروق في المسرح النيوزلندي الفارغ الى جمهور غائب:(أنا كوردي ولكن لغتنا اليومية كانت التركمانية لأننا عشنا في منطقة كاورباغي التي حمل الإضراب الشهير لعمال النفط اسمها).

    شعر، وهو يرى دبابات أمريكية تدخل مقر شركة النفط الوطنية، أن الرصاصة التي قتلت الضابط الانكليزي لم تقتل سوى الفراغ والسراب والظل والقتيل الحقيقي هو أمل الأب الذي صعد يوما، أواخر خمسينات القرن العشرين فوق السطح،حين ظهرت غيوم سوداء في المدينة وهو يصرخ: (التركمان يقولون إنكم شيوعيون وأكراد، والأكراد يقولون لنا إنكم توران. والله العظيم أنا عراقي). توقف فاروق عن الكلام، كما لو أنه يمنح الوقت الكافي لكاتب هذه الحكاية المختفي في المسرح الفارغ كي يسجل بعض صور تلك الأيام، في حين كان المطر النيوزلندي يهبط فوق قلبه، ثقيلا، كما لم يهبط يوما مطر على محلة قورية أو القلعة أو الإسكان أوكاورباغي بهذه القسوة والوحشية والعزلة وشعور المحاصر.

    حين وقف أول مرة عند قبري الأم والأب، فوجيء فاروق صبري بأنه لم ينثر التراب على وجهه أو يعض الشاهدة الرخامية أو ينهار كما توقع: (كل شيء حولي كان يتداعى). دخل المقبرة بدموع نضبت في الطريق:(كنت قد وجدت نفسي في مأتم عام، يقول فاروق صبري من فوق مسرح فارغ بعد رحيل الجمهور والممثلين.كل شيء خراب، حتى أنا. لم أفطن الى أنني تغيرت وليست المدينة أو رائحة الأزهار والأشجار والأمكنة. نزفت كل الدمع حتى لم أجد ما أبكي به في المقبرة الا قطرات قليلة فاجأتني. الشيء الوحيد الباقي، يواصل كلامه لجمهور غائب، هو طريقة أختي هديّة في معانقتي يوم كنت طفلا: كانت تعانقني من الأسفل الى الأعلى. هذا ما فعلته يوم عدت. الحنان أرسخ من صلابة الحجر وقوة الأمكنة. الباقي هو الدمع وبهجة قديمة. القبلة الحارة أكثر حرارة من حديد الهامفي. لم أكن موجودا في ذاكرة المدينة الا عند بقايا العائلة وحفنة اصدقاء كعوليس الذي عاش يتذكر سكان إيثاكا طيلة سنوات النفي لكنه لم يكن موجودا في ذاكرة أحد. عدت الى نيوزلندا خائبا وحزينا اكثر من أي وقت مضى. فقدت حتى الحلم بوطن الذاكرة. سابقا كنت أحلم. اليوم لا شيء. لو أنني لم اسافر ولم اجد كل ذاك الخراب، كان أهون عليّ. سأعيد بناء صورة وطن في المخيلة لكي يبرر معنى العيش أو أقيم في وطن الحلم المنقرض. أفكر اليوم بعمل مسرحي يتحدث عن حكاية يعقوب الأرمني التي رواها لي درويش مشرد قرب بقايا قلعة كركوك خلال عودتي الأخيرة من المنفى. قال إنه هارب من الجنوب وإنه جامع حكايات عن المجانين والعشاق والفارين والمذعورين والمحبطين والمحطمين والمهجورين من الفرح وعن مغني بدوي كان يعزف على ربابة قديمة عند أبواب البيوت من أجل بقايا ثياب أو حفنة طحين أو رغيف خبز. كان يضع قلبه على ربابته ويعزف. كان يموت، علنا، دون أن يعرف الناس أحزان المغني. في المساء يختفي من الشوارع).

    في الحقيقة، يا فاروق، قال الدرويش، يجرجر المغني البدوي جسده كذئب جريح الى عمق حفرة. هناك يبكي بكل عذاب العالم. في الصباح يرتدي قناع المغني. هو القناع الحقيقي الوحيد في هذه البلاد. ثم، بعد الأحداث الأخيرة، اختفى. لم تعد هناك شوارع آمنة ولا من يسمع. صار صوت الربابة انحرافا عن العويل العام والموت وهتاف الانتقام.

    هل ترى ذاك الرجل المنطوي على جسده والمتكيء على جدار القلعة المتآكل؟. تابع الدرويش: إنه مثلك قدم من منفى بعيد من أجل هدف واحد: أن يرى قبر المرأة التي هام بها حبا. عندما لم يجد القبر، فقد صوابه. صدم. أغلق جهاز الأمان الاحساس بشراسة الواقع لأن قوة الضغط فوق الاحتمال. إنه راوي حكايات وهو من كتب حكاية يعقوب الأرمني. جاء من منفى بعيد لكي يمارس ذاكرته. توقفت ذاكرته الآن عند تلك الأيام. لو لم يقم الدماغ بهذه الحيلة الدفاعية، لجن الرجل تماما. ظل يتنقل من مدينة الى اخرى، بين نقاط الموت والتفتيش والانفجارات ومراكز الشرطة، حتى وصل الى القلعة.

    هرب الى المنفى لكي تنجو حكاية حبه وعاد أيضا من أجل قبر. في المنفى أخذوا منه كل شيء، كل شيء، الأمل والحب، المسرات الشحيحة وفرح العائلة، وحاولوا، كما حدث معه هنا، تحويله الى وحش أو قاتل، وسرقوا في النهاية أعز ما تبقى له: ولادة الضحك، بزوغ الأمل، حرية التفتح، لأنه مختلف، لأنه لا يشبه أحدا، لأنه طفل. الفاشيون هنا والعنصريون هناك. قال لي مرة انه كان بين خيارين: "إما العودة الى هنا أو السجن هناك والانتقام. غذّت العنصرية الوحش البشري في داخلي،بتعذيب طويل وهادئ واحترافي، عكس ما كان يجري هنا من تعذيب جسدي وحروب ومطاردة". الفاشيون هنا والديمقراطيون هناك. حياته صارت وليمة للجميع أينما ذهب. هرب من هنا لكي يحمي حكاية هناك ويبحث عن دفء ومسرة وحرية، وعاد من المنفى حاملا حكاية خيبة أخرى لكي يرويها لقبر لم يجده، فوجد ان الوطن كله مقبرة. هذا الراوي عاد كرحلة حضرموت، مهشم القارب:" بلا امرأة محناة اليدين تمثل في انتظاره، ولا حفيد يحمل عنه أحقاب المسافر" كما كان سعدي يوسف يغني يوما في حانة دافئة منعزلة في ضواحي لندن، والثلج ينهمر عبر الواجهة الزجاجية، وهو يتحدث مع عجائز فاتنات عن الطقس والشعر والموسيقى والحنين والغزو والخيبة، عن رحلة حضرموت. لم يجد عند عودته من يروي له، فاختار أن يروي لنفسه، للّيل، للنجوم المطفأة، في موت بطيء: الموت، حبا. عندما سألته قبل أن أعرفه اسمه، قال ،ذاهلا، كما لو أنه يتحدث مع نفسه:(أظن ان اسمي بيار دوشين). قلت له :(دوشين كتب رواية " الموت حبا". أنت لست أجنبيا؟)، أجاب:(وماذا يهم الآن؟ كلنا أجانب). ثم راح راوي الحكايات يردد قصيدة لسعدي يوسف:" لكستناء الحصان، اشتقت في سفري/لا نخلة الله شافتني ولا الأثلُ/ لا ذوائب لبلابٍ/ ولا سمك يلاعب الماءَ.../ قالوا: ثم فاختةُ تأوي اليك مساءً!/ قلت: منتبذي مأوى العذارى ذواتِ الريشِ/ لا امرأةُ قد آنستني/ ولا ليلى ترطب لي متن الفراشِ/ فلا نُعمى ولا قُبَلُ/ كأن قطن فراشي حين ألمسه/ سجادة بالبياض المحضِ تحتفلُ".

    ومرة اخرى، تابع الدرويش، سألته عن اسمه فأجاب:(اذا كنت مصرا فاسمي أوكا الكسندرسين). طبعا لم يكن ذلك صحيحا وعلمت فيما بعد ان هذا الاسم هو مغني نرويجي من شعب التاتَرنا Taterneالذين تم محو هويتهم وتعقيمهم وخصيهم في النرويج من قبل أحفاد القراصنة الفيكنغ لكونهم مختلفين فحسب في القرن الماضي ولأن لهم هويتهم الخاصة، ثم صار مغنيا مشهورا وروى سيرته في كتاب" طائر غريب".

    قبل أن يبوح باسمه قال لي، ضجرا:(نحن لسنا فردا، بل جوقة. سمني جوقة). عرفت ان ذلك المقطع من انجيل لوقا. سألته مرة عما اذا كانت لديه حكاية جديدة، فأجاب وهو يحدق بذعر الى سرب عجلات الهامفي الأمريكية وهو تمر في شوارع كركوك:(عدت من المنفى، كما خرجت، بحكاية أخرى وخيبة أخرى. اذا عشت سيكون عنوانها"حفرة فيراب".).

    هل خطر ببالك يا فاروق، واصل الدرويش، أن راوي حكايات يهرب، ويغامر، ويعبر عدة حدود، ويسجن في عدة دول، ويلاحق، ويتعذب، من أجل انقاذ حكاية؟ انت يا سيد فاروق تحتاج الى مثل هذا الراوي. كلنا نحتاج الى مثل هذا الراوي لأنه الوحيد الذي يروي لنا الحكاية لا كما جرت، بل كما أحسها واحترق بها. ليس مهما أن تروي ما رأيت، بل المهم أن تروي ما تخيلت. انظر.إنه الآن يستعيد على جدار متآكل حكاية حبه. يعيشها في حين يغرق الآخرون في الدم والخراب. من أي منفى جاء، تقول؟ ليس هذا مهما ما دام الوطن قد تحول الى منفى. لقد هجر الحياة وعاش في حكاية. إنه أسعد الناس في هذا الجحيم.

    هل تعرف، واصل الدرويش الكلام، هذا العجوز المنكسر الظهر الذي يصيح مرددا قول هيرمان هيسه:"ما كان بالأمس خمراً، أصبح اليوم خلاً. ولن يرجع الخل خمرا أبدا. ابدا"؟. إنه خضر موسى من محلة جقور الرجل الذي طار في منطاد لأول مرة في تاريخ كركوك في رواية" آخر الملائكة" لفاضل العزاوي. يحلم في العودة الى زمن الحكاية. أعرف جيدا ان حلمك في المنفى كان هو العودة الى كركوك بمنطاد. هذا مستحيل اليوم حيث الغيوم يمزقها الرصاص. لكنك قد تعود عودة أفضل من هذه العودة اذا صرت شخصا في حكاية.

    ابحث عن مؤلف مجنون، يا فاروق. هل ترى ذاك البيت المتداعي؟ إنه جحر تسكن فيه العرافة هاشمية، صديقة يعقوب الأرمني، العجوز التي لا تزال محتفظة ببقايا جمال انثوي مُطَمئِن. هي الأخرى وصلت الى القلعة، هاربة، كما تقول، من تحقق نبوءات قديمة لها، لتكتشف أن المدن هذه الأيام، كالفرح والطرق والأشجار، مصابة بالوباء نفسه. تقول في آخر نبوءة إن كركوك ستتحول الى صحراء يوما. ماذا تعني؟ النبوءة لا تفسر حرفيا ولكن تعاش. ستتذكر يوما صرخة والدك فوق السطح، غضبا من صراع الهويات. كيف عرفت؟ أخبرتني زليخة الفاجرة. لا تغضب. ليست عمتك زليخة. أتحدث عن امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسها. قالت لي ذلك في منام عميق تحت ذاك الجسر. جسر الحصى والحجر. قد تسأل: لماذا هرب هؤلاء الى هذه المدينة؟ كركوك الفتيل والطمع والحقد والأمل واللهب الذي يجذب الفراشات لكي تحترق. مكان واسع يضيع فيه الدرويش ورجل المخابرات والثائر والتائه والعاشق واللص والمنحرف والقديس والمجرم والشاعر بسلام في الظاهر، لكن هذا ليس الا قناعا. إنها كجواد جامح فوق جبل، اذا فلت اللجام، سوف يطل على الهاوية.

    سألته:(لكن ما الذي يخسره درويش مشرد مثلك؟). غضب بقوة قائلا:(أنا أكبر الخاسرين من هذا الخراب. حين تتحطم مخيلة الناس، لا تعود هناك حكايات). قلت:(لكن الحكايات اليوم أكثر من السابق). أجاب حالا: (هذه جرائم). وأضاف الدرويش:(كنت قبل هذه الأحداث، أنام قرب جدار كنيسة كريكور في الباب الشرقي في بغداد وقد اطلقت على نفسي اسم كريكور المسلم، حبا بالقديس كريكور الذي أمر الملك الأرمني درتاد الثالث في القرن الثالث بعد الميلاد بوضعه في حفرة لأنه رفض تقديم القرابين الى الآلهة آناهيد ورمي في حفرة تسمى خور فيراب في مدينة ارداشاد عاصمة أرمينا القديمة في عزلة لا يتحملها غير قديس أو وحش لكن الأميرة خوسرو فيدخوت أخرجته من الزنزانة بعد مرور ثلاث عشرة سنة لمعالجة والدها الملك من مرض نفسي أصابه سنة 301 .م. إنها الحكاية نفسها. إنها"حفرة فيراب"التي دفُعنا فيها جميعا. إن تاريخ الحفرة أو الجب أو البئر عريق، يا فاروق: من بئر يوسف الى بئر إرميا، ومن بئر دانيال الى جب يونس في جوف الحوت الى بئر يوحنا الصيلب في ديجور طليطلة، الى بئر الظلمات الذي حشرنا فيه وهو أخطر الآبار). حين سألته:(أين تنام؟)، ضحك قائلا :(أنام وأعيش في حكاية، يا سيد فاروق) ثم اختفى، فجأة.

    إنها حكاية الجميع. خراب الجميع. أحلام الجميع المقوضة. إنهم "أمراء الجحيم" والاحتلال، يتحدث فاروق صبري الى جمهور غائب، من فوق مسرح فارغ:(أحتاج الى مؤلف أو جامع حكايات كذاك الدرويش. يقولون إن المجانين أكثر قدرة على رواية الخراب وأنا أبحث عن مؤلف مجنون. أين سأعثر عليه؟).
    ***

    كان يعقوب ذاك الفجر، موقنا ان الديك الرومي لن تتاح له الفرصة ثانية في هذه الحياة كي يبلّغ عنه الا في العالم الآخر الذي يأمل أن يتشفع له فيه افاك أسادوريان مطران كنيسة كريكور المنور لذبحه هذا الديك بهذه القسوة اذا صادف وجوده هناك أو أي مطران عاطل عن العمل في سنوات البلاء هذه. خطرت له صور كتاب الحيوان للجاحظ التي تصفحها البارحة وبدت له حقيقية تماما. قال لاهثا: (سأحاول العثور على وزة شريفة).كانت عينا الديك الرومي تطلقان شررا حاقدا نحو يعقوب قبل أن تغشيهما عتمة رمادية وتنطفئان كزورقين يغطسان ببطء في عتمة مساء ضبابي.
    ***

    كان سنونو في الايام التالية يحشد كل ما يمكن أن يتذكره من خبرة في التقلبات الجوية والأيام المشرقة ولحظات شروق الشمس الدافئة وحركة الغيوم البيضاء المرتحلة لا يعرف الى اين كي يخرج بدراجته الهوائية علنا في البلدة بالمعطف الملكي الاخضر نفسه لكنه لم يتوصل الى نتيجة مهمة عدا التعرف على نجمة جديدة ضاحكة في المساء عرف أن اسمها نجمة الراعي. كان حلمه الجديد ان يعثر على صقر آخر بدل قتيل الحاجة في تلك الحفرة المنحوسة، لكن ثعلبه القديم عاد اليه في نهار يوم وهو كتلة من العظام واللحم والشعر الممزوج في خلطة منفرة مخيفة كما لو كتب على سنونو أن يكون دفانا ومقبرة لهذه السلالات الهائمة في البستان والسماء والضفاف.

    كان الثعلب ما أن وصل حتى أطلق عواءً يشبه النحيب ووضع رأسه في على فخذ سنونو وهو يرنو اليه بين لحظة وأخرى بعينين ممزقتين من العجز والألم والعزلة. خطر لسنونو انه يتأمل وجهه في مرآة تضمحل تدريجيا كفانوس زورق يبتعد في خلجان الفجر. على نحو غير متوقع، وقف الثعلب الجريح على قدميه، بعد منتصف الليل، وغادر المأوى، تحت المطر، وأطلق عواءً متواصلا طويلا وهو يرفع بصره نحو قمر يظهر ويختفي بين غيوم رمادية ثم تداعى وخمد بلا حراك ودفن الى جوار صقر الحباري بالصمت المدوي نفسه الذي لا يقطعه غير سقوط قطرات المطر فوق الأشجار.

    تلك الليلة هي الوحيدة التي لم يرسل فيها سنونو رسالته اليومية الى يعقوب الأرمني الذي من جانبه تلقى ذاك العواء برجفة في الأطراف جعلت ماريا الخارجة توا من الحمام بشعر محلول وعبير الخزامى تفتح ستارة النافذة كي تطل على الشارع وأعمدة النور وهامات الأشجار. لم تقل شيئاً لكن يعقوب همس لها بصوت عميق وتالف:(الشيء الوحيد الذي يستحق عليه والدك الرحمة، هو النطفة التي أنجبتك). كانت ماريا قد تعودت على هذا النوع من الجمل الصبيانية حين يكون يعقوب في أشد حالاته تشوشا وقلقا.اختلطت رائحة تراب بلله المطر بصوت يعقوب المحتدم في حين كان شعر ماريا الذي ما يزال رطبا تلك الرطوبة البريئة التي تفوح من جسد رضيع، ينشر عبيرا هو مزيج من الزهر البري وجسد فتي قادر على أن يقيم يعقوب الأرمني ولو من رماد.

    لم يكن عالم سنونو في البستان ورديا تماما بعد مرور خمس سنوات على وصوله البلدة، اذ مع الوقت واكتشاف الحياة الخفية للجرذان والذئاب والحشرات والضفاف وأدق نقرات المطر وعبير الأزهار والأوراق وطبقات العتمة والنور، تعرف على العالم الخفي للبستان: المقمرة السرية في ركن منعزل مسور بالدغل حيث يجلس رجال في ذهول تام عن كل ما يحيط بهم من الصباح وحتى عتمة المساء، فجور طالب الدراسات الدينية في غزواته المنحرفة مع صبيان نزلاء أكواخ النهر الفقيرة، وتأوهات مهلكة صادرة من قلب الدغل كما لو انها تنبع من أعماق الأرض، وعثر في جولاته الليلية السرية على الشاطئ على حفلات غرام ناحبة يتم فيها وضع الشموع في وعاء ودفعها بعيدا في النهر كقسم مقدس على وفاء لن يستمر أطول من لهب تلك الشموع، وطائرات مروحية تحلق على طول الضفاف، واطئة، كي تحرس جزيرة الحاشية في الضفة الأخرى، وعثر يوما وهو يخرج من عتمة البستان الى عتمة الشاطئ الناعمة على بقايا عظام بشرية، بل وعثر في أحدى الليالي على جثة طافية في النهر مكتفة اليدين ـ من قال، بعد مرور زمن طويل، إن ظاهرة الجثث الطافية في النهر هي ظاهرة غريبة؟

    تعلم السباحة في النهر وصيد السمك على نحو أفضل من السابق وقلي البيض وإعداد الشاي في الليل كي لا يرتفع الدخان في النهار كما لو انه يحمي المكان أو نفسه من زحف تلك العفونة المكتسحة بسرية وصمت مريب كثعبان ينبثق من الرمل.

    في احدى الليالي أوشكت شمس سنونو على الغروب الى الأبد بفعل قطيع مرقط لضباع عاوية حاصر المأوى من كل الجهات وأخذ يعول بوحشية وهو يمزق بأنيابه الغليظة الأمامية جدران الجحر المصنوعة من الأغصان والأخشاب والأعشاب الجافة القوية. كان سنونو قد سمع ان الضباع تشرب دم الانسان وانها تهاجمه مجتمعة من كل الجهات خاصة في الليل لأن الضباع لا تخرج من جحورها في النهار. حدق بها عبر فتحات المأوى، فدهش للرقاب الغليظة والخطوم الوحشية والأقدام ذات الأربعة أصابع والظهور المحدبة والأطراف الخلفية الأقصر قليلا من الأطراف الأمامية وأفزعته النظرة البشرية ذات البريق الوحشي وهي تحدق اليه عبر ثقوب في الجدران وشم الرائحة الكريهة لهذه المخلوقات الضارية. فكر في ان الوقت قد حان كي يتصرف أفضل من الانتظار وتهاوي الجدران، فأشعل نار شمعة وقربها من ثقوب الجدران لأن الضباع تخاف من النار وتهرب، وهذا ما حصل تلك الليلة التي لم يتمكن فيها من إرسال رسالته اليومية ولم يخرج من المأوى كي لا يكون مضغة في وليمة جماعية لضباع الليل. كان أغرب ما في تلك الواقعة المخيفة هو أن أحد الضباع وقد تأخر عن القطيع في الانصراف، قد رفع إحدى ساقية كما يفعل كلب وبال على باب المأوى، تاركا تلك الرائحة النتنة الراسخة في خشب الجذع المقطوع لعدة ايام كما لو أن الضبع قد حدد ملكية المكان بهذه العلامة.

    لم يتخلص سنونو من تلك الرائحة رغم كل الغسل والحك والمطر والريح الا بالتخلص من الجذع والإتيان بباب ربما يكون لقن دجاج عثر عليه في إحدى الزوايا مرميا ومهملا ومغطى بالأعشاب الميتة صار مرتعا لديدان أكثر ضراوة من الضباع أخذت تهاجمه في كل الأوقات وهو تطلق صرخات وحشية وتدور حول بعضها عارية في شريط دائري كرقص جماعي خليع لفرقة غجرية مبتذلة انتهت مرة واحدة بنار محرقة مررها على الباب كي يخمد كل شيء كساحة حرب تناثرت فيها الجثث كما رأى قبل عدة شهور على شاشة التلفزيون في مناطق جبلية وسهلية ومستنقعات ومدن وصحارى. لكن سنونو في الايام التالية شعر بحمى زاحفة صارت تغرقه أحيانا في هذيان يرى خلاله صورا غريبة ووجوها لا يتذكرها وطرقات وعربات قطار ودراجة هوائية طائرة في الهواء، وانقطع عن رسالته اليومية وعن جولاته الليلية على الضفة وصارت رائحته جسده مشبعة برائحة موت يقترب وخشي أن تهاجمه لذلك الضباع.
    ***

    كانت ماريا تغسل وترتب منذ عدة ايام المنزل لحفلة عشاء ليلة عيد الميلاد حتى انها نظفت الجدار الخارجي العالي الذي يعزل الأسرة وعوالمها الخاصة عن فضاء البلدة، كما أنها نظفت الفناء الدائري المسقف ما عدا كوة لدخول الضوء كما لو ان يعقوب الأرمني أراد عزل عوالمه الشخصية عن الأرض والسماء، وخرجت الى فناء خلفي صغير ملحق بالبيت للطيور والدجاج ومكان حديقة صغيرة تحتوي على قن فرت منه الببغاء اللعينة والتي تشعر ماريا الآن بأنها تخلصت منها أو انها في مكان بعيد ولم تعد مشكلتها مطروحة عليها منذ انقطاع زياراتها المشؤومة، ونظفت كل شيء. هنا تمرح وزة العشاء المقدس هذه الأيام كبديل عن ذاك الديك الرومي المنحرف، وزينت شجرة السدر الملائكية في الفناء الخلفي ذات الظل الوارف في الصيف التي اقتلعها يعقوب من منزل مسؤول حكومي كبير هرم الآن كان نفسه ينتزع الأم من حضن الطفل الباكي في تلك الليالي الوحشية تحت جدران المطر.قال يعقوب هو يزرع الشجرة في الفناء الخلفي المسيّج:(لا يجوز أن تنبت الأشجار البريئة في أرض وسخة)، كما لو انه من أعمق جروحه الداخلية يريد أن يؤكد ان جذوره أعمق وأقوى وأرسخ، وأنه يقتلع ذكرى مريرة ويعيد تصحيح أو مسح الخطايا.

    قالت له هاشمية يوما وهو تنظر الى شجرة السدر:(هذه شجرة مباركة يا يعقوب. ذكرت في القرآن"وأصحاب اليمين وما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود"). واضافت هاشمية:(أو في سورة النجم قوله تعالى" عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، اذ يغشى السدرة ما يغشى"). رد عليها يعقوب الأرمني:(لكن يقال إن من أغصانها صنعوا أكليل الشوك على رأس السيد المسيح)، فعلقت هاشمية: ( لقد شُبّه لهم).

    على فناء المنزل الدائري تطل عدة غرف كان يعقوب يحلم أن يكون بيتا لأسرة كبيرة من سلالته هو حيث تاريخ الأسرة لا يمكن أن ينتهي به. لكنه رغم كل الجهود والعقاقير والصلوات والأدعية والأعشاب التي ينفحه بها صيدلي الأعشاب الطبية في السوق ورغم كل أنواع النبيذ المهيج واغراءات هاشمية الخفية وصور المجلات الفاضحة وحالات الاستمناء في النهار بعد فراغ السوق وقت الظهيرة، ورغم سحر عظم الهدهد الذي قدمته له يوما هاشمية، ظهر بعد ذلك بعدة سنوات وفي نهاية هذه الأحداث انه عظم ترقوة لكلب، ورغم كل الدهون المجلوبة من كربلاء والعمارة والناصرية والسليمانية ونينوى ودلهي ومراكش وجزر الكناري، رغم كل ذلك لم ينجب غير يوسف الذي يثير منظره الشفقة والرثاء لأنه سيعيش وحيدا كما عاش هو بلا إخوة في عالم يتداعى فيه كل شيء، وحمل محفوف بمخاطر كثيرة كمال قال له الطبيب البيطري مستشاره في كل شؤون الحياة من الصحة الى قراءة النجوم والذي كلما صادفه شم منه رائحة عرق الخيل ، لكنه اكتشف متأخرا ان المشكلة لا تكمن فيه هو يعقوب الأرمني القادر على انجاب جوقة إنشاد كنسية في حياته لو كانت الظروف على ما يرام، بل في دم ماريا لكنه تجاوز ذلك بعد أن صارت الجنازات تحوم في سماء البلدة كل يوم قادمة من جبهات الحرب كأسراب الغربان.

    كانت ماريا منهمكة في طبخ الوزة وفي تغطية مؤخرتها التي صارت تطلق أنغاما موسيقية ذكرتها بمارشات الحرب في الأيام الأخيرة، حين اخترقها سيخ حديدي فأخذت شكل رجل مخوزق في الفناء الخلفي للبيت على نار هادئة وقد أعدت البطاطس المسلوقة وصلصة بيض وخبز الميلاد من زبيب وفاكهة ومربى التفاح، وزينت شجرة السرو التي حملها بائع عسل جبلي من غابات السليمانية بطلب من يعقوب وصارت الآن مضيئة بالأنوار والشرائط الملونة التي أبهرت يوسف الذي يقترب من السنة الخامسة، وكان يحلم برؤية بابا نويل وهو يطلع من مكان ما من المنزل أو يهبط من بين الأشجار أو أعمدة الضوء في الشارع أو من سقف البيت المغطى أو من كوته الوحيدة.

    كانت ماريا قد وجهت دعوة لبعض الصديقات والجارات من كل الملل، ومن جهته طرق يعقوب هذا الصباح الباب على هاشمية التي برقت عيناها بعزلة موحشة أكثر من أي يوم مضى وطلب اليها الحضور فقبلت بسرور. حين حل المساء واكتملت حلقة الضيوف حول الشجرة المضيئة في الفناء الداخلي الذي تتسرب اليه انوار نجوم بعيدة وامضة، أعطى يعقوب الإذن لهاشمية في بدء الحفل،وحين شرعت في قراءة الآية:(وسلام عليك يوم ولدت، ويوم تموت، ويوم تبعث حيّاً) وقبل أن يتلو صلاته، سمع يعقوب خفق أجنحة فوق قبة السقف الداخلي. شم رائحة موت داهم. قبل أن يفيق من ذهوله،جاء الصوت المنفر الفاحش السريري ليضع خاتمة دنيئة لهذه الليلة المقدسة:(ماريا، بقوة!، بقوة!).

    في السكون الضاج والترقب، قال يوسف الصغير وهو يقفز فرحا وبصره نحو السقف:(بابا نويل!، بابا نويل!). وبما ان احدا لم ير وجه الببغاء المنحوس غير يعقوب، وكما لو تحت الهام الهي منقذ، عادته في مثل هذه المواقف المضطربة،قال يعقوب متخذا صوت مؤمن في لحظة خشوع:(باركك الرب، يا ماريا).كانت ماريا تتصبب عرقا وهي تحشرج قبل أن تتهاوى معتذرة للضيوف:(هذا الجرو في بطني يمزق أحشائي).
    ***

    كان سنونو المحموم داخل المأوى يرى عبر أستار الضباب والحمى والهذيان أشعة الشمس تسطع فوق الأشجار عبر الثقوب المنتشرة على جانبي المأوى الذي انتشرت فيه رائحة عفنة تشير الى تفسخ تدريجي لجسد مدفون، حيا. لكن ضوء الشمس الباهر أمده بطاقة هائلة على الحياة وبرغبة جامحة في الخروج. قاد الدراجة الهوائية عبر الممر الترابي ووصل الى السياج الأخير وصعد لاهثا وهو يضع دراجته عبر السياج. لم يتمكن أول الأمر، ورأسه يطن بكل أنواع العواصف والأصوات والمشاهد، من ركوب الدراجة، لكنه بعد عدة محاولات وقد حشد الباقي من قوته، انطلق بها عابرا الحقول والطرق والسيارات المعاكسة، وحين أصبح فوق شارع البلدة الرئيس، تعالت أصوات من الشرفات ونوافذ المنازل ومن خلف واجهات المقاهي الزجاجية :(سنونو عاد!. سنونو عاد!). كان يشعر أن قواه موشكة على النفاد وقد بدأ الدم الحار يسيل من فمه، لذلك حرص على قطع المسافة الباقية بأقصى ما تبقى من طاقة تتلاشى كل لحظة.

    فجأة، وأمام الحشود الذاهلة والمبتهجة والمنتظرة، تدلى رأسه فوق الدراجة كما لو غفا، وظل على هذه السرعة التي تخف في مواجهة ريح باردة قوية انتزعت معطفه الأخضر الملكي وكان مفتوح الأزرار ، كجناحي طائر، وحلق في الهواء، في حين انفصل جسد سنونو عن الدراجة وظل طائرا كما لو في لقطة في التصوير البطيء، ثم ارتطم بالأرض والدم يسيل من فمه بغزارة، في حين كان المعطف يطير مع الريح، حاملا رموزا وعلامات وإشارات قديمة ورائحة وصور لمدن وأعشاب وبراري وقرى وطرق وجسور وقناطر وغابات وشواطئ وفوانيس قوارب صيد تتلاشى ببطء في ضباب فجر وحشي.
    حمزة الحسن
    روائي عراقي ، النرويج.
    [email protected]
Working...
X