Announcement

Collapse
No announcement yet.

رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق جزء 5

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق جزء 5

    كان يقبـّلها قبل أن تكتمل في يديه، يقبـّلها حين يبدأ وحين يكل، كيفية تسليط الضوء، كيفية تسليط العتمة، اختلاط الضوء بالعتمة على ثوبها الأصفر؛ بينما أنين امرأة من تكوينه عشقته من اللمسة الأولى من النقطة الصفر، شكوكها وتودّدها، ثورتها وانتظارها، غضبها الصامت وصمتها الغضوب، الاحتياطي من الصبر الذي استنفدته في خلق أعذار لخطيئته، قهوته الباردة، سيجارته بنصف احتراقها ، أصابعه المصفرّة من الدخان والتبغ، رائحة عرقه، انهياره، سكره، عربدته، الأعتدة الفاشلة لمن خانهم المبغى العام، القصائد التي يتلوها، أسماء الرسامين والأدباء..
    حفظتهم من خلال أنفاسه اللاهثة والمتقطعة والخافتة ساعة اندماجه باللاوعي الفني، استعادته لوعيه، نومه، صحوته، خروجه من دورته الدموية في مدحه شقراء ذات قلب عاقر لا ينجب حباً كحبها.. حفظت معه أسماء الفائزين بجائزة نوبل، وتساؤلها لخيبتها:
    -أما كان الأجدر للجنة التحكيم أن تمنحها الجائزة.
    اشتداد الحزن والتصاقه في قلبها، في أي وقت من أوقات تغزله بعشقه الوحيد.
    كان يسمعها قرآنه، يتلو آيته الوحيدة، هو لم يؤمن بالتوحيد ولم يعرف الله، لم يعرف غير لوثته بعشق يشرب عصير دمه. وقفته مبهوراً بفضائل الجمال والطيبة من شقرائه عليه، حيثما يذهب وحيثما يعود يُسمعها آيته؛
    ـ الله يا شقرائي.. أدفع عمري كله، مالى، سعادتي، رضاي وزعلي، نومي ويقظتي من أجل نظرة رضا من عينيك..
    كم شكرتْ السجن ورجال التعذيب على إخصائه وإلاّ لحمّـل الرجولة عذاباً كعذابها، الصرخة لا تخرج إلا من أعماق المخذول، ولكن ليس المخذول برجولته.
    تمنّت أن تفوز بجائزة نوبل للقهر لتتبرع بها للقلوب المخذولة، ولتطرق أبواب البيوت المغلقة على نسائها وتفتحها بيتاً بيتاً.. ولأعطت نساءها حصةً من فوز ألمها.
    ابتسامته لها من وراء قدح الخمر، قبولها بفراغ كأسه واحتساؤها ثمالة الحب، تجاهله رعشتها وهو يضع لمساته على رقبتها، شراعها المنعطف نحوه، مسحه حافة قدحه بعد فراغه، شعورها بالضآلة في تلاوته عليها آيته الوحيدة، طرحها أسئلة دون أن تجد جواباً من صمتها:
    ـ لماذا رسمنى في لوحته؟
    تبهجها أية كلمة منه ، لكن تصرفاته تقتلها باليوم عشر مرات لعله يقول في سره كيف تريدين موتك؟
    يطاردها خياله حتى حين يغلق نور الغرفة ويترك الألوان مبعثرة على الأرض، لتحلم به وتتمنى أن تكون حقيقة وليست صورة، هو من رسمها، هو من جعلها ممتلئة وصبغ شعرها بالسواد كما صبغ قلبها بألمه، هو خالقها وخالق مفاتنها، هو خطؤها إذن، وهو ذنبها وغفرانها.
    وضعت راوية رجْلاً على رجْل هاربة من تفاصيل تعتبرها كشرارة الجذع المحترق، سمعت عجوز بقبعة حمراء وطقم أحمر فالتفتت اليها وقد رددت: ما أعمق هذه النظرة.

    ـ الله يا عيناء.. حتى الآن لم يتعرّف على دمعتك التي لم يسعفك الوقت لمَسحها ساعة رجوعك المرسم، ها هو يفرح بفوزه متوهماً أنه حبا كطفل الى عينيك وجسّد نظرة إعتراها الألم. أنت صاحبة الفوز. جائزة المعرض وإعجاب الوافدين أنت مَن يستحقهما، لا هو ولا صديقته القديمة سما، التي جاهدت للتقرّب منه كامرأة ورجل ولم يصل جهدها الى جدواه. كل ما فعلته بعد مهاتفته لها بدعوتها حضور معرضه، هو اتصالها بأصدقاء لها يعملون بالصحافة.
    ها هو يقف مطمئناً هادئ النفس، يستلم من الجيوب المنتفخة ثمن فنّـه وثمن تزييف الواقع المادي.. دمى آدمية، وزبائن تشترى نظرات تطلـّعت باتجاه واحد وجمدت إرضاءً لثرائهم، بؤرة رخام تبتلع كل شيء حتى غرور وليد في هذه اللحظة.


    ***













    في الضفة الأخرى قرأت راوية في مفكرة حياتها أول يوم لها في امتلاكها ذاتها واستردادها بعضاً من آدميتها، وهي تطأ أرض لندن، استعادتها لأنفاسها النقية، خوفها من أيام تجهل كيف سترتب لها المشهد القادم وتخطط لها حياتها القادمة، احتياجها لقلب بعد أن طردها قلبها، احتياجها للمسة حنان حقيقية.
    على مرمى من الخديعة، من حرية لم تتحرر من صدور أصحابها، تعرفت على شوارع المدينة، على الوجوه العربية والآسيوية، على العيون الزرق والقوام الرشيق، على العجائز الأنيقات، والعجائز البدينات.. على الفرح المعلب، القهر المستورد والتلف المعبأ بالقناني العربية في واجهات محلات " أجورد رود"، على الجميلات بتنوراتهن القصيرة وكعوبهن العالية.
    سيقان عارية، وسيقان ملتحفة بعباءات سود، وجوه سمراء بمساحيق وعدسات لاصقة، عرب، كرد، هنود، أفارقة، إيرانيون، طقوس عزاء حسينية في الـ (هايد بارك)، رجال الشرطة المحيطة بالموكب حماية له. ورائحة النفط في (أجورد رود)؛ تمنطق خارطة ثرائها بشرب الشيشة في المقاهي، رشوة للوقت، رشوة للمطر ولهواء عذب.
    على الضفة التائهة نفسها التقت بعيناء، وقت عودتها من ديوان الكوفة، بعد انعقاد ندوة حول ديوان أدونيس (تنبأ أيها الأعمى). خلال المحاضرة كانت تتخيل العميان، المبصرين الذين يناشدهم الشاعر، وتتساءل:
    ـ ماذا لو تنبّـأ العميان، هل ننال المقصود؟ أم يسوقنا القطار الى دوّامة جديدة..؟؟.
    وتخيّلت كيف يتنبأ كل أعمى على طريقته الخاصة وعلى مستوى وعيه الفكري ونضجه الثقافي وفهمه لما كان يدور خلف نظارته السوداء.

    ***











    فُـُتحت ستارة المسرح، المشهد الأول: عشرة عميان يسيرون باتجاه معاكس على خشبة المسرح، المكان قاتم بلا أنوار، لفتة إيحائية من المخرج بتصوير العمى للجمهور، تزداد حركة الرجال بازدياد إيقاع الموسيقى المصاحبة للعرض.. يتخبطون بالسير، يصطدم بعضهم ببعض، كلما احتدمت الموسيقى زاد الردم، تدخل نساء مسرعات بنفس سرعة الإيقاع، سكارى، واعون، أميرات، أمراء، عبيد، حاشية، رجال يحملون كتباً، مومسات، باعة صحف، نغمات تتوالى بسرعة دخول وتوالي أمثلة الحياة على الخشبة، واحتشاد المكان بالعماء..
    دخان يتصاعد من جهة واحدة، يصبح المكان ضبابياً، الاختناق يبدو على الوجوه، الرقاب تتدلـّى إعياءً، شخير الاختناق يعلو على صوت الموسيقى، تنشقّ الخشبة لنصفين، يخرج من الشق عميان جدد، يفور المكان ويدور حول ناسه، تتشقق كل أجزاء الأرضية، تتهاوى من سقف المسرح أحجار البنايات والبيوت، أصوات رعد وصيحات.
    فجأة يسوّر المكان بالصمت.. يُضاء المسرح.. يعلو تصفيق الجمهور، يحني الممثلون رؤوسهم تشرّفاً بالتصفيق، يستمر العرض. استعمل المخرج أسلوب الإنارة والظل، ظهرت خلفية المسرح كشاشة عرض، ظلال لبشر مكبلين بالحديد، أحمال ثقيلة على أكتافهم ولكن بتفاوت، أثقال خفيفة من السهل حملها، أثقال أوقعت أصحابها أرضاً، أثقال بصناديق خشبية كبيرة يجرها شخص واحد، أثقال تجرجرها جماعات مجنزرة قيودهم ببعضها.
    انشقّ المســـرح على شكل نهر بضفّتين، مـــــراكب ورقية ترسو، مراكب خشبية، في الضفة الأخرى، عينا ماء منفصلتان، يباعد بينهما نهر عميق.. واحدة تفوح منها رائحة المسك، يدور حولها صبيان وصبيّات يرشون عليها ماء الورد، من العين الثانية فاحت رائحة أبخرة ماء مغلي.. رجال ذوو عضلات مفتولة يرمون فيها أسياخاً من الحديد، الممثلون المجنزرون بالسلاسل بعد أن تفتّحت عيونهم يفقدون الذاكرة، لا أحد يعرف اسمه.
    صاح رجلان دخلا مع ثالث أكبر منهما سناً:
    ـ كيف سنعقد المحكمة؟.
    أشار لهم الرجل الوقور، وهو يتوسط الجلسة الى دفتر كبير معهم:
    ـ لا داعي للحيرة، أمامكم كل شيء. فقط نادوا بالاسم وزنوا الثقل، وينتهي كل شيء.
    ـ لكن يا سيدي نحن مَن أنسيناهم أسماءهم.
    أما الشخص الرابع الذي دخل قبلهم، فقد وقف وقفة المتفرج. مطّ رقبته وفرد طوله، تكتّـف ووقف يستطلع.. أحد الرجلين يرتدي جلباباً واسعاً بنيّ اللون، يفتح أول صفحة من دفتره، وينظر الى الرابع الذي كان يهزّ رأسه هزّة العارف:
    ـ ونعرفهم واحداً واحداً.
    دوّت مطرقة الرجل الوقور: محكمة.
    أعاد المخرج فكرة التلاعب بالإضاءة، أنوار خافتة جداً، بالكاد تبدو الظلال على خلفية المسرح. موسيقى صاخبة، ثم أطبق الصمت بعدها على جو المسرح. أدرك الجمهور أنه المشهد الأخير، تهيأت الأصوات والأيدي للتصفيق والإعجاب والتعظيم.. أضيئت الإنارة على المسرح والقاعة كلها.
    الصناديق والأثقال مركونة على الضفة القريبة من المحكمة، لا أحد على المسرح غير الرجل الطويل الذي تفرّج فقط، ورجل في نهاية المسرح، يهزّ رأسه بحركات تعاكس بعضها، خرج في هذه اللحظة رجال من عين الماء، وبخروجهم عبق المكان برائحة المسك وماء الورد، قدّمت لهم الصبايا مناشف بيضاء معطـّرة، التحفوا بها وجلسوا على سجادة خضراء، صبيان قدموا لهم أطباق الفاكهة، ووقفوا وقفة المطيع.
    نفخ صدره بانتصار، وراح يتلمس الصناديق، ويفتل شاربيه متلذذاً بانتصاره، تضاحك بخبث، ونادى الرجل الواقف في نهاية المسرح:
    ـ تعال.
    ـ أنا سيدي..؟؟
    ـ لم أستطع أن أكون سيدك.
    ثم سأله عن كتاب بيده: ما هذا الكتاب؟
    ـ إنه كتاب اشترته لي صديقة، اسمه (تنبأ أيها الأعمى ). وطلبت مني أن أحاضر به، قادتني الى هذا المسرح. لكن كيف سيدي، كيف أحاضر عن كتاب لم أقرأه؟
    ـ لماذا لم تقرأه، ألست مسؤولاً عن المحاضرة؟
    ـ كان بودّي.. (واقترب منه مشيراً الى فتحتين غائرتين في وجهه) - - انظر سيدي، أنا بلاعينين أصلاً، وكلمة أعمى تـُطلق على الذي كانت له عينان وفقد متعة البصر. لذا حين عنون الشاعر ديوانه لم يجد لي اسماً في قاموسه من كلمة واحدة مثل أعمى، ومــن أربعة أحرف لآخذ نفس المساحة على كتابه.لا ادري سيدي لمَ َطلبوا مني انا بالذات أن احاضر بهذا الكتاب ، لربما عرفوا اني أستاجر قارئا اعتمد عليه*
    صفـّق الجميع، وصفـّقت راوية معهم. سمعت صديقاً اتخذ له مقعداً قربها:
    ـ هل أعجبتك المحاضرة؟
    ـ أية محاضرة؟.
    ـ عجباً.. شاهدتك تصفقين بحرارة، علماً بأنني لم أفهم من المحاضر كلمة واحدة مثلما لم أفهم شعر أدونيس.
    ـ أنا بصراحة (والتقطت حمّـالة حقيبتها من الأرض) أنا دخلت مع أدونيس عالمه غير المرئي للجميع.

    ***

    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
Working...
X