Announcement

Collapse
No announcement yet.

رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق جزء 6

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق جزء 6

    المسافة بين شقتها وديوان الكوفة ليست بعيدة، رغم ذلك فضّلت صعود الحافلة رقم (7) الأشياء لا تتفجر مصادفة، ولا تتدفق إلا إذا وجدت ما يدفقها. لاحظت راوية أن عيناء تدس أصابعها في محتويات شنطتها اليدوية، وتخرج فارغة. أغلقتها وأعادت فتحها ثانية، وبنفس التوتر سألتها فيما إذا كانت بحاجة الى مساعدة؟
    أجابتها؛ شكراً، لقد كنت أبحث عن حبة مهدئ للصداع.
    رجل عربى يرتدي نظارة طبية، أكرش تفوح منه رائحة الخمر، تسمّرت عيناه على صدر عيناء وراحتا تلتهمان مفاتنها.. نظرة التلصص تسير حيثما يسير العربى، عرضاً وطولاً، من تختّله بين الأشجار، من السطوح والنوافذ، من الثقوب الاسمنتية. ويد التحرش تهاجر معه لترتعش باكتساء آخر، وتتلـّمس رقة اللحم الأبيض، بعد أن كانت تخترق العباءات السود وقت العزاءات الحسينية، أو تستقر على الصدور البارزة في الأسواق. وتصدح الحناجر المهتاجة ( فدوة أروح لهلعيون ) ، ويتدارى الغضب الأنثوي بين اللذة والخجل .
    بعد أن امتدت يد الرجل الى ظهر عيناء، وتحركت هي بدورها غاضبة،ردّ عليها:
    -( اشدعوى دادة..عيوني ليش شنو سوّينة)..؟؟
    عرفت راوية أنها في المكان الصحيح، في الموكب العاشوري ذاته، أو في الأسواق المكتظة ببضاعة النساء، بادرتها بتصرف يقيها حرجها، وفسحت لها مجالاً قربها:
    ـ تفضلي قربى.. هنا أفضل.
    في تلك اللحظة ولد الكلام بينهما، وبعد ابتسامة ودعابة دارت بينهما، اطمأنت عيناء وأخذت تبتسم بعض الشيء لابتعادها عن العاصفة.
    طلب محمود من المصور الخاص بالصحيفة التي يعملان بها، أن يلتقط له صورة تذكارية قرب لوحته المفضلة، أخذ وقفته المعهودة بفتح ساقيه وميـّل وسطه جانباً وابتسم، ثم طلب صورة أخرى على أن تكون قريبة جداً، ورغب أن يكون وجهه ووجه ذات الرداء الأحمر لصيقين. أسرع وليد اليهما وطلب هو الآخر أن تكون لديه صورة تذكارية مع الجميع، بعد أن وقف من الجهة الأخرى من اللوحة.
    استدركا تصرفهما الطفولي، وقدّما اعتذارهما بصوت واضح للسيدة راوية: عذرك سيدتي، تصرفنا غير مقصود.
    أجابتهما: لاعليكما، لكل منكما صراع داخلي ترغبان أن تجسّداه في صورة تذكاري، أما أنا فصراعي في ثمن الكرامة، هل بمقدور مصور تجسيده في صورة؟
    شعر وليد بحرج واعتبر كلام السيدة موجهاً اليه، ترك محموداً على وقفته ووقف قرب السيدة: لم أدفع كرامتي ثمناً لإبداعي، لم ولن يكون هذا في أي يوم.
    بعد أن وضعت يدها على كتفه، هزت رأسها: أعرف يا وليد، أعرف، لكن في مختبر الحياة تكون النظرة معكوسة دائماً خارج المنطق.. كم تدفع، كم تقدم تنازلات، ولو فعلت أي واحدة مما قلت ستجد سرب الحشرات يركض وراءك، إنه التواطؤ مع الشذوذ، وما علينا إلا أن نكون خارج الفراغ. صدق محمود درويش حين قال؛ (ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للحنين الى أحد).
    وأنا أقول ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للشرف.
    ارتدّ وليد الى نفسه كطفل مرتبك، واعتذر آسفاً على فوات وقت الغداء دون أن يجلب ولو شطائر أو معجنات لسدّ الرمق، أنا لم أذق الطعام منذ ظهيرة أمس.
    ـ لاعليك (ردت راوية) في عالمك الجميل لسنا في حاجة لمعدة. إنه الجوع المخلـَّد، غداً سيذكر التأريخ عن جوعنا وشبعنا الإبداعي، وسيقول: ثلاثة مبدعين جوعى ممتلئي البطون، وسيتخرج آلاف الأساتذة في علم التأريخ وينالون شهادات الدكتوراه بشرح وتحليل مفردات كهذه.
    فتحت حقيبة يدها لتدوّن ما قالته، سقطت ورقة على الأرض، التقطتها بسرعة، ردت اليها كلمات سبق أن كتبتها، وعاينت في وجه وليد:
    - أنا مثلك أرسم على الورق، الورق هو ستري وغطائي.
    ابتسم محمود:
    - ما أرخص الورق في أيامنا هذه، تركتها منشورة في غرفة نومي، دوّنت عليها حتى اللحظات العابرة.
    قاطعته راوية:
    - هل قرأت نفسك فيها؟ هل سبق لك أن استيقظت من نومك مذعوراً ودارت حولك كلماتك تجسد شخوصها أمامك، حادثتهم مثلاً؟.
    ـ لا سيدتي، وإلاّ لـجُننت.
    ـ ما رأيك بالذي يجالس ويحادث أبطال أعماله؟ هل تسمّي هذا جنوناً؟ (وأكملت):
    - أنا آكــــل معهم، أتنـــــزّه معهم، أدخل شذوذهم وسكــــــــرهم، خياناتهم وذكورتهم، ممارساتهم الخاطئة وخذلانهم، أدخل زنزانات توزّع حبوب منع الحمل على أوطانها، أدخل شوارع متكررة لها صورة واحدة وإن تعدّدت أسماء الأوطان، سورية، العراق، فلسطين، مصر، مرآة زائفة أرى فيها رجالاً يركضون خلف نصفهم الأسفل. أقرأ المنطق المقلوب، فأرى النظرية النصفية، أقصد السفلى. أضف الى نظرياتك يا وليد (التنظير السفلي).
    رفع محمود يديه مستجيراً:
    - الله الله، كل شي ولا تترك كاتباً يتحدث.
    ردّ عليه وليد:
    - كن صبوراً أو تهادى كالجمل.
    ضحكت راوية حتى سالت دموعها على خديها:
    ـ وأنتم على الجمل، لا تنسوا أنكم كائنات تتحرك بشبقها النصفي، وتركتم النصف العلوي تستخفّ به أمريكا.
    حاول وليد استمالتها اليه :
    - لم نقرأ لكِ أشعاراً في الصحف اللندنية؟.
    أجابت بعد أن احتقن الدم في وجهها: لأني لا أتعامل بمنطق النصف.
    محمود: بالله عليك فسّري لنا كيف تتحاورين مع أبطال أعمالك، هل تأكلين معهم حقاً؟ أهذا يُعقل؟.
    ردّت:
    - ولمَ لا.

    ***


















    مرة طرأت لي فكرة زيارة إحدى المقاهي، شعور خامرني في محاورة إحدى بطلاتي وهي تقرأ الصحف في مقهى. اقتربت منها حيث كانت تدخن الشيشة، كانت وقتها لا تعرف ماذا تقرأ، فالصحف كلها سواسية، الكذب على واجهات الصفحات بالعناوين الكبيرة، وبما أني أطلقت عليها اسم عيناء بعد أن وجدتها بلا اسم في الحافلة، أخذت تسألني عن معنى اسمها، وحين شرحت لها أن العيناء هي ذات العيون الواسعة السواد فرحت وقالت لي: إنه يترجمنى، كلانا كانت على عجل، وكأن الريح تحتها.
    طلبتُ منها أن تحتسي القهوة بسرعة كي نخرج لنتمشى قليلاً، جمعنا أعضاءنا المتناثرة وأخذناها (كعّـابياً) ، سألتني وقتها:
    -الى أين؟ ثم ضحكت وبدت أسنانها البيضاء المتراصفة كأنها حبات لؤلؤ، يبدو أن قولي المقاهي للكسالى أثلج صدرها، وأدخل بعض بهجة عليها.
    في سيرنا كنّـا نعدّ الكنائس التي نمرّ بها، كثرتها جعلتني أقارن بينها وبين عدد المساجد في بلداننا العربية.. إذا كانت الموسيقى ترافق صلاتهم وفنّ الرسم والحفر يملأ كنائسهم، فنحن لنا فن الزخرفة والمنمنمات حيث أعطى مساجدنا خصوصيتها.
    أذكر أني دخلت المسجد مع أبي مرة وأنا في الثانية عشرة، بعد أن طلبت منه ذلك سألني فيما إذا كنت طاهرة، استفزّني سؤاله فسألته :
    ـ وهل أنا نجسة يا أبي؟
    ـ لا يا ابنتي، أقصد، أقصد..
    استدرك قصده في دهشة وجهي، وعرف بأني لم يمرّ علي طقس المحيض. رحت معه يوم الجمعة، وأدخلني الى مكان ذي ستر مخصص للنساء.. كنت أبحث عن روح الله في ساحة المسجد*
    ـ لمَ توقفت سيدة راوية؟
    ـ تعال، نسأل وليداً عن سعر ثالث لوحة بيعت اليوم.
    اقتربا من وليد، وجداه غير مسرور، فمازحه محمود:
    ـ ستصبح برجوازياً، هذا ثالث رجل أعمال يشتري منك، من أين وفدوا؟
    ـ صديقة قديمة لها معارف كثيرون، وعلى ما أعتقد هي وراء كل ذلك.
    (ثم واصل): لغة رجال الأعمال لا تضع النقاط على الحروف في لغة الفن.
    وفيما هم يتبادلون الأحاديث دخل مصور يحمل كاميرا تلفزيونية وبرفقته مذيعة، ترتدي تنورة ضيقة وقصيرة من اللون البيج، وقد تركت قميصها الأحمر مسدلاً على جانب التنـّورة، بينما باقي أطراف القميص عقدتها وتركت العقدة مربوطة من الأمام، وقد زرّت ثلاثة أزرار سفلية فقط من القميص.
    بعد أن ترجرج نهداها، وتمايل خصرها الممتلئ بعض الشيء، سألت عن وليد. أسرعت إليه وقتما حدّدوه لها من بين الجمع الغفير، مشطت شعــــرها الأســـــود بأطراف أصابعها، وأشارت الى المصوّر (أن اتبعني)
    وقالت:
    ـ لو كنت غير متزوج لخطبتكَ، مرحباً سيد وليد. وعذراً، هذه طريقتي في الكلام؛ لا أحبّ التكلـّف والتصنّع.
    ارتبك وليد وهو يجاملها :
    ـ أبداً، والله أنتِ لطيفة جداً وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها لكِ؟.
    ـ أنا مذيعة من تلفزيون (arb) وأرغب بإجراء حوار معك، هذا إذا لم تمانع.
    ـ بكل سرور.. لكن اسمحي لي، مَن أخبرك عن معرضي وكيف عرفت مكانه؟.
    ـ اتصل بي الأخ محمود قبل ساعة.
    ـ آه. فهمت. تفضلي، كيف تحبين، أنظلّ واقفين أم؟ (تطلـّع الى الكراسي الأربعة فوجدها غير شاغرة، فأكمل) :
    - الوقوف أفضل.
    ـ لن أسألك عن بداياتك وحياتك الخاصة، إنه سؤال مهترئ يتداوله المذيعون السذّج.. سيد وليد، الجزء البسيط من حياتنا أُعلن عليه التلف، حتى عواطفنا بتنا نخاف عليها من بخار الدمع، كيف تستطيع كفنان أن تحتفظ بجزئكَ البسيط أو بما تبقى لديك؟
    ـ يقول (نيتشه) :
    - إن إرادتنا خير مَن يهدم القبور. عواطفنا ومبادئنا الحقيقية هي الشفاء لبؤسنا، فليعلنوا الحرب كيفما شاؤوا.
    ـ هذا يعني أنك لا تخضع للمقايضة؟
    ـ يا سيدتي.. (وراح يتحسّس ذراعه).. أنا يا سيدتي حتى عند حافة الموت أحمل صليبي وأمشي على تلك الحافة. أما ترينني أقف بيد واحدة، أصافح أصدقائي وهذا الحشد الذي اختارني هو ولم أبذل جهداً للوصول اليه؟
    - سمعت، وأرجو المعذرة، سمعت أنك مقطوع من شجرة.. أي لا أحد لك، فلمَ العزلة إذاً؟
    احمرّت وجنتاه بحرج سؤالها، وعرقت جبهته، تردّد في الإجابة، ثم انطلقت الكلمات من فمه مسرعة:
    ـ الابتعاد أو العزلة كما تسمينها هما أول نقطة الجريان.
    ـ جريان ماذا؟
    وطلبت بطرف عينها من المصوّر أن يقترب منه أكثر.
    ـ جريان النهر، أي نهر يبدأ من نقطة، ثم قطرة.
    قالت بعد أن عقدت حاجبيها:
    - من خلال نظرتي السريعة للوحاتك وجدت أنك في صراع مع الظلام.. مرة يتغلب عليك، ومرة تنتصر عليه بتسليط الضوء، اليس كذلك؟ أم إنّ حدسي الفني قد خانني؟،.
    ـ لقد أصبتِ.. أحياناً تعتريني فرجة أمل، فأبعد الضرير عني وأتحرش بالضوء.
    ـ قبل قليل سيد وليد كنت تردّد مقولة نيتشه عن الإرادة، وردك الآن على سؤالي يظهر شخصيــــة غير متوازنة الكفتين. هل أنت من الــرجال الذين يكون منطقهم عكس تصرّفهم؟. بصراحة إني أجد تسعين بالمئة من الشرقيين والعرب تحديداً متناقضين، أين تضع نفسك؟
    عن بعد كانت راوية تسترق السمع، لربـّما يردّ وليد على سؤال يتحدى به نفسه. وحين وجدته (نيـﮔتف ) لكل الصور، اتخذت لها كرسياً فرغ للتو، وراحت تعيد ترتيب الصور والأحداث.


    ***














    فاجأتها صورة عيناء الباكية، ووجهها يرسم طفولة منكسرة، وتذكرت أنها طلبت منها أن تكفّ عن البكاء، وتتصبّر.
    الخروج من عتمة الألم هي أن تتذكر ساديـّة العصر، وتنظر للتلفاز، قالت لها: افعلي شيئاً من أجلك أنت لا من أجل رجل لا يعجبه غير فحيحه الذكوري، ثم يطلق عليك طلقته ويمنعك من الانضمام الى عالمه.
    وتابعت شعرها الأسود خصلة خصلة،
    خصرها الذي أطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره، تتبعت كل أجزاء جسدها، كلها تنبض عشقاً، سقطت على خدها دمعة دون قصد منها، هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل، حتى كادت راوية أن تشمّ رائحة تلك الدمعة، لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر. طبطبت على كتف عيناء قائلة:
    ـ الحب هو ترياق الحياة، حفنة من رماد الحب تحيي القلب، حالتان لا يمكن العيش دونهما، الحب والحرية.(وواصلت الحديث) لكن يا حبيبتي، حزنك روّضيه، ومخاوفك من فقدان رجل تعبدينه لا مبرّر لها، مَن يراه وهو يتعطـّف عليك بابتسامة أو نظرة من خلال ألوانه المجنونة مثله، يتمنى أن يخنقه.

    ـ دخيلك ست راوية، لا تكوني قاسية عليه، تركته يفعل ما يريد، إنها طريقتي في الحب ، يكفيني صوته ورائحته. (ثم استطردت بعد أن وضعت المشط في وسط فرشاة للشعر):
    - أنا يا ست راوية أنظر اليه من زاوية أخرى، فمثلاً عندما يهزّ رأسه طرباً وهو يتغزل في شقـــرائه أمامي ويذكر محاسنـها ومميزاتها، أعطف عليه لأنه بعين واحدة ومريضة. فنظره باتجاه واحد، لا يستطيع تحريك عينه يمنة أو يسرة، ولطالما وضع شقراءه نصب عينه لا يرى غيرها .
    - إذن؟
    ـ كيف تعشقين رجلاً أحادي النظرة؟
    ـ هذا أعذب عشق.
    ـ قرأتُ مرة يا عيناء لـ (شمس الدين التبريزي)، (لا تكلـّف نفسك في الذهاب الى البستان، انظر الى وجه العاشق) وأحادي النظرة خاصتك لم يكلـّف نفسه حتى النظر اليكِ.
    ـ لا بل ينظر لي، وإلا كيف رسمني؟
    ـ ليست العين هي التي ترى، بل القلب، القلب يا عيناء. العين ما هي إلا ساعي بريد بين القلب ومن نحب، إنها الثقب الذي نُدخل اليه نهارنا وجراحنا*
    في محاولتها لإعادة ترتيب الأشياء، وإعطاء البداية أحقيتها بالظهور على مسرح ذكرياتها، بلغ سمعها آخر سؤال وجهته المذيعة الى وليد:
    ـ لماذا لا ترسم الموت والمقابر الجماعية في بلدك؟
    فرحت وقتها لجوابه:
    لأني لا أجيد تعظيم القتلة. ثم.. ثم.. (تلعثم) هل هناك ما يكفي من اللون لرسم الدم؟
    عدّلت راوية من جلستها، ومن خلال ثقب عينيها أدخلت شريطها، وراحت تستعيد كل ما فعلته الكتابة على أوراقها.
    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
Working...
X