Announcement

Collapse
No announcement yet.

رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق (فصل فكرة اللون ) 2

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • رواية السماء تعود إلى أهلها وفاء عبد الرزاق (فصل فكرة اللون ) 2


    ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
    لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
    ـ خويه أسألك سؤال.
    ـ إي تفضلي.
    ـ اهوا اليتشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لمرته كردانة غالية؟
    وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر اليها ردّ على سؤالها:
    ـ اهوا اشبلانه غير النفط.
    ـ خويه ما تزوّد عليها شويّه، والله محتاجة فلوسها.
    رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
    ـ لا عيوني لا تزعل، ثلاثين، ثلاثين؛ جيبهن أمري لَ الله.
    خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت الفانيلة والقميص، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
    في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
    حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولاتزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات القيمر، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
    من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.

    ***














    تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه الى ركنها الحميمي، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده وهمهمات رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
    أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
    وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها الى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
    غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يعض شفتيه عليها لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تتقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ اليه، الى الداخل وتبقى عالقة فيه.
    ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب الى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
    ـ يا يمـّه صار لك أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
    فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء شيلتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
    عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف الى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
    ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
    دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهيجانها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
    ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي اشبيها وحياة من رفعك عالية واثمرك؟
    بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً الى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة اليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
    عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
    ـ ليش يا بويه ما اخبرتني، كان خطبتها إلك أقلها ودّيت مشايّه..
    أضافت الأم : منين يا حسرة، المشاية ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
    وثب وليد بعد سماع أمه:
    ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
    ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
    تحوّل ارتباطه بالحزب الى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
    حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
    ـ يمّـه هذا شنهو؟ امنين ﭽـا اهوا اسم صعب على يايمه وعيب اعرفه اشنهي هيّـه ما لقى غير هذا الاسم؟
    ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
    ـ إي يا بعد امك، ما تاخذني إله، بلـﭽــي أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
    من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
    ذات يوم طفح بها الكيل:
    - ما تشوف لك صرفة ويّـه ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة أخرين؟. الفلوس اللي تنطينيّاها يومية ما تكفي يبو وليد، ﭽـا اشأسوّي؟. دبرني بداعتك، دخيل مار.. شني اسمه هذا الإمام الجديد؟
    ـ ماركس.
    ـ إي دخيله ﭽـا ما يرزقنا شويّه.
    ردّ عليها الأب مؤنباً:
    ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، هسّه تشوفين وعود قولي أبو وليد قال.
    وضعت يدها على صدره:
    ـ بداعتي عندك يبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان رايد تسمّيه خلف، على اسمه؟
    ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي ﮔليبـﭺ بماي بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هاي الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد اش تردين؟؟؟
    ـ قول لا إله إلا الله.
    فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
    -اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا اصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
    وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
    فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
    - (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).


    ***












    اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون الى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً واحداً الى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبأوا كل على طريقته.
    أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
    تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، ساخبر اهلك.
    في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
    ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة الى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
    كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
    سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرارقبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
    حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه بها الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مجتث من ماضيه وحاضره، مغطى بشراشف الحزب السوداء، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
    أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
    هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين اليه؟
    الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
    يعود اليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربى، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء ببعضها ، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
    في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. المساءات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس حريمية وباروكات، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح للعبورعلى الأرصفة.
    كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
    بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
    مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
    وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.
    ***






    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
Working...
X