Announcement

Collapse
No announcement yet.

هذيان صفحة أولى

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • هذيان صفحة أولى

    في اللحظة التي دخلت فيها دمشق, أخذتني رجفة المشتاق, شعرت أنها استعادتني, كانت أرصفتها التي تجولت فيها مقهوراً لسنين طويلة تنظر إلي بعتب جعل الدمع ينفر من عيني قطعاناً من الوعول الخائفة, نظر إلي بصمت مشبوه وكاد يسأل, أجبته:
    -دمشق تستعيدني إلى حضنها بدون استئذان, هي امرأة تشعر العابر منها أنها ملكه هو فقط, تعرض عليه قصور بني أمية وأسوارها حتى يأخذه الوهم أنه أحد خلفائها, فإذا ركن لهذا الوهم ترميه غريباً على أرصفتها والحزن يعتصر قلبه, دمشق دافئة كعاشقة تنتظرك على شرفة المنزل, وباردة كمنزل مقفر يكسو أثاثه الغبار, دمشق لاتستأذن أحداً عندما تستبيح فؤاده, لايردعها شيء عندما تنزل بين كفيك جرعة ماء في بادية لاترحم, دمشق عذراء تستعصي على القبائل, وتفتح أبواب أسوارها لكل العابرين, دمشق أمي...
    لاذ بالصمت وهو يبوح بعبارة تشبه (كنت خائفاً عليك قبل وصولنا و...تحققت مخاوفي) وأشعل لفافته نفث دخانها يمسك بها بأصابعه الطويلة والممتلئة كأنه يواقع امرأة, فتح عينيه على اتساعهما يراقب كل شيء, ساهماً عما حوله, وآثار الخمر الذي احتسيناه طوال الطريق رسم على وجهه ملامح غريبة أقرب إلى الذهول منها إلى الدهشة, يترقب ساعة وصولنا بلهفة طفل, لذلك عندما دخلت جرمانا كان قد تنبه لدرجة أنه أضاع (لخمة الخمر) كما يسميها, وترجل من السيارة بطوله الفارع, ونحافته المثيرة للانتباه, وقد أحنى ظهره قليلاً ودفع برأسه للأمام, شعره الصدئ ربطه إلى الخلف, فبدت جبهته واسعة صامته, اتجه نحو الباب ولم ينتظرني, بينما أنا بدأت رحلة البحث الطويلة عن مكان لأركن سيارتي فيه, وبالتالي لم أشاهده يصافح صديقه, أخيراً عدت ودخلت, صافحت شقيقي بلطف, شيء من الخوف يجعلني أخفي مشاعري, إضافة إلى أنه لايجوز للرجل أن يبدو عليه كل ما يعتمل في صدره كما يقول جدي, تسرب الكلام من شقيقي كجدول ماء يهبط من فوق صخور شاهقة, وعبد الله يضحك تارة ويرد أحياناً, غريب كيف ينتقل أخي من حديث عادي إلى أمور مهمة تتجاوز كل ما اعتدنا عليه في الحديث, انتبهت فجأة أن عبد الله يقول:
    -لاأجد مبرراً لوجودي بدون اللوحة, أضع عليها ما يعتمل في من إدراك ومشاعر, عندما لا تأتي اللوحة أشعر أني مصنع خراء, مهمتي في الحياة إنتاج اللوحة لايعنيني شيء آخر, اللوحة التي تنتهي الرؤية فيها عند حالة واحدة متكلسة لاتكون لوحة, هي حياة بشكل آخر تحرك فينا مشاعر مختلفة, كلما تنظر إليها تجعل يومك غير عادي.
    تجعل يومنا غير عادي, هذه الكلمات سقطت في دمي فأثارت زوبعة جعلتني أتحصن بصمت حاد الحواف, أي عمر أعبر والعادي في كل الأنحاء, فقدت ألواني وهويتي بينما أركض وراء أحلام مزيفة, بدون مذاق يميزها عما يعبر حولي, مددت يدي إلى الذاكرة أستجدي الصور المعلقة في كهوف الروح, أمعن في العودة إلى الوراء أعواماً بعيدة, وأنسرب من الغرفة باتجاه الشرفة, أرتمي على الكرسي متهالكاً, أختار زاوية مطلة على الشارع, في المسافة التي تفصلني عن الواقع وعلى بعد سنتمترات قليلة, تشرع أوهامي بالتحرك, وتبدأ شخوص كثيرة بالعبور, يدور بينها حوارات متداخلة فتفقد منطقيتها, أحياناً يعبر شخص من أخر فيخرج مزدوجاً, ويكتسب سحنة لاأعرفها, أحدها يبدو مألوفاً ينظر إلي, أهم بالتحدث إليه لكن استغرابه من وجودي جعلني أصرف النظر, أمد إصبعي نحو فراغ الحلم, ألمس عبارة سقطت من ثغر إحداهن, لزجة العبارة المتخمة بالشهوة, أقبض على كلمة باردة أضعها في كأس الخمر, أرشف منه على مهل, يتعثر أمامي طفل في الخامسة من عمره, يصاب بخدوش في ركبته, يثور كل من في المنزل خوفاً عليه, ويبدأ الجميع باتهام بعضهم بالإهمال, وأبكي بحرقة شديدة وأصيح: ياجدي... كلهم يحاول مراضاتي أو مسح جراحي قبل حضوره, وأنا أنادي بشدة ليحضر جدي ويشاهد الدماء قبل مسحها, مشتاقاً لحضنه في مثل هذه اللحظة, ولشتائمه للجميع لأنهم لم ينتبهوا كفاية لي, وربما يحضر لي علبة الألوان ليزيل ألم السقوط عن ركبتي اليمنى, ويدخل ملهوفاً بقامته الطويلة والشتائم تسبقه بأمتار قليلة : يلعن أبوكم عرص...تتماهى الحدود الفاصلة بين الأشخاص, تتمازج بشكل يثير ارتباكي, لم أعد أتعرف على الوجوه, فقط جدي يبقى بعيداً عنهم ومتميزاً, لايفقد حضوره لدرجة إني أستطيع في هذه اللحظة تذكر رائحة إبطه اللذيذة, وأشتم في كاس الخمر رائحة أصابعه وهي تكفكف دموعي, ترتج صفحة الحلم عندما يعبر منها عبد الله وتضيع باقي الصور ينظر إلي يكتشف دموعي التي تسيل بصمت, يقبل نحوي يمد كفه يمسح عيني يأخذني إلى صدره يلتفت إلى أخي الذي تساءل يشير إليه بالصمت : أنا خائف عليك, لاتتوقف عن البكاء إنك تستعيد روحك, إياك أن تفقدها ثانية.
    كانت دمشق تتمطى بكسل, تحضر نفسها ليوم جديد, ولازدحام أكثر مرارة, تغتسل بشمس فاترة, وكنت أستقبل بداية عامي الخامس والأربعين, صباح أول يوم في شهر آب.

  • #2
    رد: هذيان صفحة أولى

    ......... ولأنها المرة الأولى التي أرتاد المنتدى ، باليد اليمنى دخلتُ المكان، ولأنني مترعٌ بالغياب، ولكثرة ماوسمتني الأمكنة الغريبة بظلالها ونواصيها وهمسات النوافذ وشرفات المنازل المشرعة للشمس والريح، ، فقد خشيت ألا يتعرف علي أحد، ولم يطل بي الأمر، و كان لابد لي أن ألتقيك – صديقي – الــ كثيراً ما صادفتك في معرض البحث عن مكامن الإبداع، ومصادر الحس الرفيع بالكلمة، فها أنا وجها لوجه أمام نص، لطالما قرأته واسترسلت في إيقاع نبضه الحي، المفعم بغزارة المعنى، وقصر الجملة، الجملة المحاكة بإبرة نساج خبير، لم تفقده خبرته طزاجة الإحساس، ولا رعشة الاكتشاف الأولى.
    سأكتفي بمروري السريع هذا، عسى أن ألتقيك في محطة أخرى من محطات هذيانك الجميل,
    دمت بخير.

    Comment

    Working...
    X