Announcement

Collapse
No announcement yet.

الأديب يحيى حقي ... بقصته ( كنا ثلاثة أيتام )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الأديب يحيى حقي ... بقصته ( كنا ثلاثة أيتام )

    الأديب يحيى حقي ... بقصته ( كنا ثلاثة أيتام )


    كنا ثلاثة أيتام


    ها هو قد تزوج, وها هو يقبّل زوجته, في كل قبلة يدعو الله أن يرزقه ولدًا صالحًا تتجدد من بذرته شجرة أسرة ليست - وهنا العجب - بذات جاه أو ثراء. وجاء يومه المرجو, وسلمته القابلة لفة لها لين العجين ورائحته, وقالت:
    - بنت. بنت. هذه نعمة الله...
    فسماها نعمات.
    لم يدرك أن في أغلب الرجاء طمعا, وأن بعض الدعاء جحود وتدخل في الملكوت. وعاد إلى سؤال ربه في صلاته, وأطال تضرعه في ركوعه وسجوده.
    وجاء يومه المرتقب, بين الخشية والأمل, وسلمته القابلة لَفّةً تتلوى كالحشرة, وقالت:
    - بنت. بنت. هذه عطية من الله:
    فسمى الثانية عطيات.
    "نعمات", "وعطيات". لم تكن أسماء بقدر ما هي تلميح بأن الرضا عن اضطرار, وأن خضوع اليوم مرتبط بالرجاء في تحقيق الوعد غدًا. حرك الأب الأبتر كل ما في قلبه من شعل الإيمان وتوجه إلى الله بكل ما قدر عليه من خشوع, وكرر ابتهاله وتذلله, فاستجيب في يوم دعاؤه. واستقر في بطن الأم سر الصبي الموعود.
    حينئذ مات أبي, وهو لا يعلم أنه فاز بأمنيته: أو في جهده على الغاية, وتحقق الغرض من وجوده. وكان ثمن انطلاق السهم تمزق الوتر المشدود. إن سعادة الأفراد لا وزن لها في تسلسل الأجيال.
    وهكذا ولدت يتيمًا, ومع ذلك لست بغريب عن أبي, كل مرة أدخل فيها غرفة الاستقبال وتقع عيني على صورته الفوتوغرافية الشاحبة على الجدار, أراه يبتسم لي, ويكاد يناديني.
    ***

    ولم أكد أوظف بالحكومة وأقبض أول مرتب, حتى ماتت أمي, كأنها لم تقو على فراقنا إلاّ بعد أن اطمأنّت عليّ. وسرت وحيدًا منفردًا خلف النعش. أما شقيقتاي, نعمات وعطيات, فقد بقيتا تنوحان وتلطمان الخدود وهما متدليتان من النوافذ. رأيت أكثر المشيعين يتطلعون إلى وجهيهما ونهودهما من أطراف العيون. في تلك اللحظة استفقت, وأدركت أنني أصبحت رب أسرة. أية أسرة?! فتاتان جميلتان, نعم جميلتان, وإن لم تصح شهادتي. ليس لهما غيري. قومت من ظهري المنحني, وسرت رافع الرأس, وتقبلت - على القبر - دون ثورة أو غضب وكره, عبارات التشجيع والعزاء, والتوصية بالصبر والرجولة.
    ***
    ثم مرت الأيام, ودرج النسيان بأذياله على الماضي وأهله, وإذا بي في صحبة شقيقتيَّ من أهنإ الناس. ثلاثتُنا في مُقتبل الشباب ورونقه, في مرحه ونزقه, في جريه وقفزه, في عطره ونضرته. تساوٍ طليق, لا تضغطه شيخوخة موليةٍ, ولا تأخذ بخناقه طفولة هاجمة. من حسن الحظ أننا لم نكن في سعة تكفي للإنفاق على ثلاثتنا. فقدم الصبي وحجزت البنتان في الدار. وكذلك نجاهما الله من الجامعة بآدابها وفلسفتها, وسلم لهما عقل غير ملتوٍ يضل في الفضاء, وطبع غير متكلف. كل منهما نمت أنثى جسمًا وعقلاً, لا يعكر حديثنا نقاش أو جدال. صحبة لم يترك لي صفاؤها مطمعًا; فمن مثلي من الرجال تحوطه فتاتان - لا فتاة واحدة - بكل ما وسعهما من عناية وإخلاص? لا تقل ملابسي هندامًا ولا أكلي جودة عن زملائي المتزوجين, دون أن أدفع ثمن هذه النعمة بالكدر والهم والضيق الذي أتبينه على وجوههم كل صباح في المكتب. كانت نفسي قانعة وجسمي سعيدا. نعيش متلاصقين كصغار القطط وهُنَّ عُميُ. حلقتنا كاملة: هذه نعمات لبسها دور الأم الحنون فلبسته. هي أكثرنا رزانة واتزانًا. في يدها مصروف البيت وتدبير خزينه. وبقيت عطيات "دلوعتنا الشعنونة" التي من أجلها نحرص - في خفية منها - على تذكر أقل رغبة لها ترد عرضًا في سياق حديثها, وننتظر إلى أن تحين الفرصة فنجد أكبر اللذة في تعب البحث عن طلبتها, وفي التحايل على كتمان أمرها, إلى أن تعثر عليها في تمام مناسبتها, فنضحك معها لدهشتها, ونشاركها الفرح بهديتنا. وفي بعض الأحيان أضع رأسي على ركبة عطيات, فتعبث بأصابعها الطويلة في شعري كأم القرد تفلّي رأسه وتناغيه. بجانبنا نعمات تغمرنا بابتساماتها الحلوة, وهي تخيط لي بعض ملابسي الداخلية. لو تركنا لأنفسنا لعشنا سعداء في هناء يكمل بعضنا بعضًا. ولكن كيف يتأتي ذلك, وفي الناس إخلاص ومحبة ورغبة في مساعدة الغير, وتطوع لعمل الخير والتحريض عليه?!
    بدأ أقاربي ومعارفي يهمسون لي: "متى تزوج أختيك? لقد آن الأوان!". ثم في مرة أخرى: "كيف تأمل أن تعثر لهما على زوج صالح, وأنت قابع في داركم القديمة المختبئة بدرب الحجر من وراء حارة التمساح لاتزور ولا تُزار. أم تراك معتمدًا على الخاطبة ومقالبها?".
    أخذت وأنا خائف أتطلع إلى عيون شقيقتيّ على غفلة منهما وأسأل نفسي:
    - هل هذه عيون ظامئة جائعة?
    خيل إليّ في بعض الأحيان أن نظرتهما الناطقة تخرس فجأة وتشرد في الفضاء, وأن تحت وشي هذه النظرات الجميلة يختبئ قزم من الحزن والحرمان: له عين البوم, وأسنان الفأر, وعناد الثور, ونزق الجدي. أيها الشيطان الأسود! مهما تراوغ فلن تخفى عليّ بعد الآن!
    سهرت الليل أفكر. وأنار الفجر ظلام الليل وبصيرتي فاستبانت لي الحقيقة على ضوء النهار, جسدًا عارمًا قبيحًا عاريًا قويّ العضلات. لا فائدة من مغالطة الطبيعة. ولا بد من التضحية وتحمل الوحدة والصبر على مرارة التسليم والانسحاب. رسمت لنفسي برنامجًا, وصممت على تنفيذه دون استشارة أحد, حتى شقيقتيّ. لن ألجأ إلى الأقارب, فهم - كما يقول المثل - عقارب, ولا إلى الخاطبة, فهي سمسار بين عجزة. أليست المشكلة أن الزوج الصالح لم يأت إلينا? إذن فلنبحث عنه, ولنذهب إليه, وفي موطنه, ولو أدى الأمر إلى اصطياده احتيالاً. سأعد الشبكة الماكرة بنفسي, وألقيها في طريقه بيديّ. هذا صيد حلال. وأيّ شيء أعظم ثوابًا عند الله من تدبير زوج صالح لأعز الناس علي?!
    بعت بعض الحلي, وسحبت كل نقودي المودعة بصندوق التوفير, وأجرت شقة كالحُق - ولكنها غالية علي! - في جاردن سيتي, واشتريت لها بعض الأثاث من معارض سليمان باشا. عن إذنك يا درب الحجر! لقد ألغي الرق فأعتقنا لوجه الله! وأنت أيتها الصناديق والشكمجيات, وأنت أيتها الشمعدانات والمرايا المذهبة, وأنت أيتها الكنبات والمقاعد المطعمة بالصدف, منك إلى صالة المزاد خطوة مباركة! وداعًا, وداعًا. فنحن في دار كل مقام فيها قصير, وكل صحبة إلى فراق. أتنتظرين أن أرثيك بدمعة? من تلفت إلى الماضي لم تكفه دموع الخنساء! أتسأليننا البكاء? بل اسألينا النسيان, والنسيان السريع.
    ولما دخلت العمارة, قام لنا بوابها: بربري له وقار القديسين وهيبة الأباطرة, ولما دلفت إلى المصعد بعد سلالم قليلة فرشت بالبساط وزينت بأصص الزهر, ولما سمعت الوكيل يقول: "هنا الأنتريه, وهنا الأوفيس - اطمأن قلبي, وقلت: قد أحكمت الشبكة, فلننتظر صابرين, وعلى الله توكلنا.
    ***

    عشنا غرباء زمنًا, ثم بدأنا نألف الحي وأصواته, ووجوه سكانه وعاداتهم. خرجت من الشقة ذات صباح فإذا بي أواجه صاحب الشقة المقابلة خارجًا بدوره. واحتوانا المصعد معًا. لا أدري لماذا اطمأن قلبي إليه. ابتسامة مني - وكنت أنا البادئ- وابتسامة منه, وصلت الحديث بيننا. هو موظف كبير, على المعاش. دعوت الله أن يكون له ابن صالح, أو ابن أخ, أو ابن أخت, أو صديق أو معرفة, وقلت: لعلهم إذا رأوا أخلاقنا وشرفنا, وخبروا أحوالنا واستقامتنا, تقدموا بالخطبة. دعوته لزيارتنا, فإذا به - لشدة دهشتي - يقبل بسهولة. جاء وزوجته, سيدة نصف, حنت على أختي حنو الأم الرءوم. دعتنا لشرب الشاي عندهم وقالت وهي تنصرف:
    - عسى أن تكون ابنتي سنية قد عادت من الإسكندرية فأقدمها إليكم.
    حاولت ألاّ يظهر غمّي على وجهي. كنت أنتظر أسماء رجال لا نساء. وقلت في نفسي: "فلتكن زيارتنا الأولى هي الأخيرة, فلم أجئ هنا من أجل التزاور مع أسرة ليس لديها رجال".
    وذهبت في الموعد المضروب, وأنا متحرج ضيق الصدر.
    وجاءت سنية أيها الناس! لا تبخلوا على بكرمكم وطيبتكم.
    أشفقوا على شاب قليل الخبرة والتجربة مثلي, ولا تبتسموا إذا وصفت لكم اضطرابي أمامها وحيرتي.
    ماذا أقول? كان اللقاء هو بدء تاريخ حياتي. ما قبله جاهلية معتمة, وما بعده نور وإشراق, أحدثها وأسارقها النظر. وإلاّ كيف تقوي عيناي العاشيتان على مواجهة هذا الجمال كله? كنت بجانبها كالجرو المبتل يوضع في الشمس. ما كنت أدرك قبل رؤيتها أن اللباس من الفنون الجميلة. كأن جسدها تمني فكان ثوبها تحقيق أمنيته! وكأن الثوب نفسه اشتهى, فكان هذا الجسد خليلته التي وجد لديها السكينة وطعم الحياة. ثوب كم أبدَى وكم أخفَى! استدار عليها يكاد يأسرها, فإذا أسيرته طليقة تتحكم فيه. هابط إلى أن يقف حيث يتأرجح الذيل بين الكتمان والإفصاح. وحذاء تغنيك أناقته عن التساؤل عما يداريه. كل شعرة في رأسها اصطفت راضية بجانب أختها, أو التفت معها أو من تحتها, عالمة أنها تشارك في زينة, سعيدة ناعمة بالدور الذي رُسم لها. لو تهشم هذا الجسد وتفتت ألف كسرة, لما خدش جماله. وضحكت فأسمعتني ضحكة تختصر العمر كله. فيها سذاجة الطفولة, ومرح الصبا, ومرارة التجربة.. فم متهم وعيون بريئة. لم تهتم بي كثيرًا, وما وجهت إليّ غير نظرة أو نظرتين. ومع ذلك عندما انصرفت - وأنا أجر رجليّ جرًّا - كنت شاعرًا بتعب من جسّ دقيق تناول روحي وجسدي بأصابع توهم أنها تمسح وتربت, وهي تندس وتنقب. شعرت أنني عُرّيت وقُلّبت ظهرًا لبطن, وفُحصت واختُبرت: قيست قامتي, وسُبرت. وُزنت وكيّلت. عُركت وعُضضت بالأسنان, ورُننت على الأرض.. حُركت أوتار روحي واستُمع لموسيقاها, ثم استُخرج من مخبئه كتابي الدفين, فرُوجعت في النور صفحاته, وقُرئت سطوره كلمة كلمة. كل هذا والعيون مترددة, والشفاه مستفهمة. ثم أصدرت حكمًا لن يكون له نقض ولا إبرام, إلى آخر حياتها وحياتي.
    أيها الناس! أشفقوا عليّ مرة أخرى. ولا تبتسموا من جديد إذا قلت لكم إنني تعبت حقًّا, ولكني مع ذلك وجدت في هذا التعب لذة كبرى. لم أخش حكمها, بل سرني أنها تناولتني بالفحص. كنت كالمريض لا يسعده أمل الشفاء, بقدر ما يسعده تقلبه بين يدي طبيب مدل ممتنع وراء أجر باهظ. انصرفت وأنا لا أزال ألوك في فمي لذة مذاقها. ولما دخلت شقتنا, حانت مني التفاتة إلى أختيّ, فقلت في نفسي - والأسى يملؤها: "ما ينقصهما والله إلاّ أن تطول الضفيرة, ويغطي الجورب السميك الرُّكبة. لتبدوا شابتين من الريف... من غد إن شاء الله, سأعني بتوجيههما إلى الاعتناء بهندامهما وزينتهما, وإلا كان فشل برنامجي المرسوم محققًا".
    ولكني في غد نسيت كل شيء إلاّ سنية! حاولت أن أجد مسوغًا لتكرار الزيارة فلم أوفق, بل وجدت باب الشقة موصدًا في وجهي. ألأنهم رأوا لعابي يسيل وأنا أحدق في ابنتهم خلسة, فرثوا لحالى وأرادوا تجنيبي التعلق بسراب? لما شعرت أنهم يتعمدون صدى زاد هياجي, فإذا بي - وأنا المعروف باتزاني وأدبي - أفقد كل سيطرة على نفسي ورأيتني, لشدة دهشتي, آتي بحركات وتصرفات لا تصدر إلاّ عن أطفال أو مجانين. حاولت أن أستعين برشوة الخدم, فضحكوا مني. تصديت لها في الطريق. ألقيت أمامها رسائلي. تتبعتها كظلها. كل هذا وهي لا تتكرم عليّ بكلمة أو بابتسامة. أقسم لكم أنني لا أدري كم من الزمن مر عليّ وأنا في هذه الحالة. قد يكون أسبوعًا وقد يكون شهرًا. وأخيرًا ضاق ذرعي, وأحسست أن العذاب لو طال لقصفني الألم ودمر قلبي وقضى عليّ. هجمت عليها ذات يوم وهي سائرة وأمسكتها من ذراعها. لمسة فيها رعشة الغيظ والأمل, وقلت لها صارخًا:
    - ماذا تظنين? أجري وراءك طول العمر? أليس لي عمل في الدنيا إلاّ أن أسير في ركاب حضرتك? العفو! الآن أريد كلمة واحدة: نعم أو لا.
    فنظرت إليّ وابتسمت..
    زرت معها معالم القاهرة, فكأنني سائح يجوس خلال مدينة مجهولة ساحرة لم يكن يعرفها من قبل. كنت أتلو كالببغاء قصيدة النيل, فشرحتها لي سنية بيتًا بيتًا, وأفهمتني جمال معانيها ولفتاتها. في حديقة الحيوان - التي طالما زرتها فلم أجد شيئًا - كلمتني لأول مرة, من وراء أعمدة السجن المؤبدة, عيون صافية جميلة حزينة, وشكت إلى وحدتها وآلامها, الفضل لسنية في الراحة الكبرى التي شملت نفسي عندما آخيتهم جميعًا, من زحف منهم أو طار, أو أودبّ على أربع.
    قالت لي ذات يوم:
    - ما العمل إذًا? إن بابا يرفض بتاتًا, لأنك موظف صغير ومرتبك قليل, ولا يدري كيف تقوي بهذا المرتب على المعيشة في جاردن سيتي...
    ولما رأتني مطرق الرأس غمًّا أضافت تقول:
    - ولكن ماما في صفي...
    وكان القرار أن أنتقل إلى مسكنهم, على أن تذهب نعمات وعطيات للإقامة مع إحدى خالاتي...
    كلهم قالو لي إنني ساعة "كتب الكتاب" كنت شارد اللب, ثم إذا بي فجأة أبتسم ابتسامة خفيفة, ظنوها من حرج سؤال المأذون الصريح. لا يعلمون أنني - ولا أدري كيف - انتبهت إذ ذاك فحسب, إلى قسوة الفكاهة, وهي تنطبق عليّ, في المثل القائل:
    "راح يصطاد.... صادوه..."



Working...
X