Announcement

Collapse
No announcement yet.

حمص بعد سَفَرْ بَرْلِكْحمص بعد سَفَـر بَــرْلِك

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • حمص بعد سَفَرْ بَرْلِكْحمص بعد سَفَـر بَــرْلِك

    حمص بعد سَفَـر بَــرْلِك

    المهندس جورج فارس رباحية

    كان انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918( 1) وعودة بقايا المقاتلين إلى بلدهم قد بدأت تظهر في مدينة حمص .ويعودون إلى أعمالهم ويروون القصص عن أهوال الحرب . فللذكرى وللتاريخ أيضاً لابد أن نروي بعض الأحداث اللطيفة في ذلك الزمان :
    فالأسواق التي كانت مهجورة أخذت تعمر بالبائعين والمشترين والطرقات التي كانت مقفرة بدأت تأنس بالسالكين , والتقاليد والمهرجانات التي طواها الحرب شرع هواتها يعملون على إحيائها والحِرَف والصناعات التي كانت معطّلة أخذت دواليبها تدور . والزقاق الذي فيه دار صاحبنا كان في الأصل حافلاً بدكاكين هذه الحِرَف وهاهي اليوم تستأنف نشاطها وتعجّ بالصنّاع والعمّال كهولاً وشباباً وغلماناً .
    فهذا ( الملقي )(2) بشير , يتربّع وراء( نصْبته) يتناول خيوط السدى من صبي مواجه له ويغلّها في ( الدرقات ) المعلّقة بالنصْبة , ويحكي لعمّاله ( حكايات ) خدمته العسكرية وأهوال المعارك التي اشترك بها ثم وقوعه في أسْر الانكليز واعتقاله في معسكر ( التل الكبير ) بمصر مع عدد كبير من( أولاد العرب ) ضبّاطاً وعساكر . ويدندن بعض الأغنيات التي كانوا يغنّونها في ميادين الحرب ومعتقل الأسْر :
    لمّن تجي الطيّارة تُضرب على مهلا
    قولي للكذّ ياماما تلْزَم بيت أهــلا
    إيه ياحيف ع الشباب
    ( تل الكبير ) ياماما شو عَمَل فينـــا
    لَبّسونا تياب السود وأخدو كناوينـــا
    إيه ياحيف ع الشباب
    ثم يحكي لهم عن الانكليز وكيف عرضوا عليهم أن يطْلقوا سراحهم من الأسر على أن يلتحقوا بجيش الشريف حسين الثائر على الدولة التركية فيوافق أكثرهم وينضمّون إلى الجيش الذي يقوده ( أبو غازي ) الأمير فيصل . ثم يروي حكايات عن ( لورنز ) وكيف كان يدرّبهم على نسف ( سكة الحديد ) الحجاز فتتطاير قضبانها في الجو ( متل ريش الجاج ) ثم يغنّي بعض الأغنيات التي كانت شائعة بين الجنود ومنها :
    وبهيبتك يابو غازي نهجم على الدشمان (3)
    أمـان أمـان أمـان
    ويهزّ رأسه طرباً وتوافقاً مع حركة يديه بالعمل فتهتزّ شرّابة طربوشه كأنها تضبط له الايقاع
    وهذا ( المسدّي) عبد الحسيب يحكي عن فراره من العسكرية , لقد هرب من قرب ( بير السبع ) وقطع فلسطين كلّها مشياً على الأقدام فمرّ بقرى ( الفولة ...وعفولة...وزمارين ..الخ) ويروي كيف كان يجد القرى العربية خاوية خالية إلاّ من الشيوخ والنسوة والأطفال , فكان لايجد فيها ما يسدّ جوعته , فكان يعيش على ( الشحادة ) .
    وهذا( الفتّال) أبو خالد يمازح أحد عمّاله :
    - أي يانصرو ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍, هات احكِ لنا كيف سمّوك ( علي الزيبق ) ؟
    والله يامعلّمي – أنت الصادق – ماحدا سمّاني , أنا سمّيت ( حالي ) :
    مرّة كنت بطريقي إلى جامع ( أبو لبّادة) ولما صرت في ( عوينة الحمة ) ماحسّيت الاّ دورية نبقت من صوب ( جامع العنابة ) قلت ( أكلناها ) وتداريت بأمرأة كانت جنبي لكن لمحني واحد من عسكرها فأمسكني وقال ( نره ده وثيقة ) فجاوبْته ( عند شفيقة) وإذا به يقول هامساً ( شفيقة) ؟ ويغمز بعينيه نحو ( القانون شاويش) قائد الدورية الذي كان مشغولاً بفحص وثيقة أحد المُصَادَرين , فعرفت أن الله ألهمني , وحزرت أن للقائد صاحبة بهذا الأسم , فأكدّت قولي ( نعم شفيقة) وغمزت بعيني نحو ( القانون شاويش) , فسألني عن أسمي فقلت ( علي الزيبق) قال( وين دارك ) قلت : ياأخي أنا درويش انكشاري على باب الله , مالي دار وأنام في الجوامع , فضرب على كتفي وقال( هيدي كيت , عجلت ) وما كنت بحاجة إلى من يوصيني بالعجلة , فمَلَصْت إلى الطريق الآخذ لسوق الحَبّ ومنه إلى (فرن الكعكة ) ورجعت إلى( جامع أبو لبّادة) . ولمّا حكيت لأولاد الحارة ماجرى لي تمسّكوا بأسم ( علي الزيبق) وصاروا لاينادوني إلاّ به.
    وهذا ( الصبّاغ) بديع , المُشَمّرْ عن ساعديه المصبوغين بالنيلة حتى المرفقين , يطوف بخوابي الأصبغة الثبّتة بمحاذاة جدران دكّانه . يغمر الغزول التي يريد صبغها , وينقلها من واحدة إلى أخرى , صامتاً هادئاً كأنه لم يخدم العسكرية ولاصادرته دوريّة .
    وهذا ( الدقّاق ) شاكر , ينشر أثواب النسيج ( الصايات ) بينه وبين صبي يعاونه , ويميل برأسه على وعاء مترع بالماء , يأخذ منه ملء فمه وينفثه على الثوب يرشّه به ثم يطويه ويلقي به إلى عُمّاله ليدقُّوه بمطرقهم الخشبية الصلبة الثقيلة فكأن الشاعر عناه اذ قال:
    في فمي ماء وهـل ينطق من في فيه ماء ؟
    وهؤلاء( النوّالة ) المغروسون في حُفَر أنوالهم إلى أوساطهم أرجلهم تتراوح الدّعس على( الدوسات) وأيديهم تتناوب حدف( المكّوك) يميناً وشمالاً . ورؤوسهم تتابع مسيرته كرقّاص الساعة .
    فهم راقصون ملوّحون برؤوسهم ماداموا يعملون . فإذا عسس الليل ولفّ الكون بكلكته , أضفى على الزقاق ظلاً من الروعة ساحراً بما تنفرج عنه أبواب الدكاكين على جانبيه من حزم النور الوسنان تتلاقى متعانقة في أحضانه فتحيل الحلكة إلى صبْح حالم يوشك أن يتنفّس وحوّل تلك الدكاكين ولاسيما دكاكين النوّالة إلى حلقات طرب تتعالى منها الأصوات الندية بالآغاني البلدية المحببة , ترافقها وتتجاوب معها طرقات ( دفّات) الأنوال وهتافات العاملين عليها الراقصين في حُفَرِها ( طيِّب ياشحرور ..بحياتك منعاد ) .
    هذه الحياة الجديدة التي أخذ نفَسها يجري في شرايين البلد وتلك المشاهد الطريفة التي تحتفظ عين الطفل بخيالات قديمة لها . بدت الآن لعين اليافع أشياء مغرية جذّابة .
    ونترك الآن أديبنا يتابع كتاباته الشيّقة في كتابه – على جناح الذكرى –

    3/5/2003 المهندس جورج فارس رباحية
    المفــــــردات :
    1- الحرب العالمية الأولى بدأت في 28/تموز/ 1914 وانتهت في 11/ تشرين الثاني/
    1918
    2- الملقي : الشخص الذي يقوم بإدخال خيوط ( الرَشَق) الحريرية بين أمشـاط النّول
    وتجهيزه للتركيب على آلة النول .
    3- الدشمان : العدوّ باللغة التركية
Working...
X