Announcement

Collapse
No announcement yet.

بقلم : خالدة مختار بوريجي - قصة (( لوحة.. بزمنين ))

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • بقلم : خالدة مختار بوريجي - قصة (( لوحة.. بزمنين ))

    لوحة.. بزمنين
    بقلم : خالدة مختار بوريجي

    مجلة صوت الشمال

    نظرت – بلامبالاة - إلى قروي يتحدى مدينة بهندامه الريفي..
    يمشى الهوينى أمام حديقة الساعة الزهرية بأحد اكبر شوارع العاصمة، واثقا جدا من وسامته وهيبته، كأنما يحاول إقناع النساء من حوله –والرجال أيضا- برجولته التي اصطحبها معه من قريته..متفضلا بكبريائه على الجميع.. بشاربه المفتول.. بعمامته الصفراء.. بفقره المفضوح في ثيابه شبه الشتوية.. القديمة.. الفصل صيف.. والنساء المارات أمامه –كما الرجال- في ثيابهن الخفيفة الضيقة، ولامبالاتهن به.. لا احد يبالي بأحد في المدينة الكبيرة، لم يلتفتن إليه بنظرة، عدا شلة من المراهقات شيعنه بقهقهات عالية..

    لا ادري ما الذي جعلني أطيل النظر إليه، وأتفحص شكله، وأنا التي صرت انظر إلى رجال العالم بلامبالاة تامة..
    تابعت بعدها طريقي.. ماخوذة.. حتى ولجت بيتي، وألقيت على عتبة بابه شتاءاتي واصيافي المتعاقبة، دخلت ردهته دون زمن أو تقويم، افعل هذا كل مساء، كلما دلفت وقابلتني تلك اللوحة التي بدأنا رسمها ذات يوم.. معا.. ولم نكملها.. لوحة بلا زمن هي الأخرى ولا معالم.. بالأبيض فقط.. عزمنا ان نعلقها في آخر الردهة بالأبيض فقط، وان نضع زينتها في اللقاء القادم، لكن اللقاء القادم لم يأت.. شهور ولم يأت.. وصار البيت الذي طالما انتظرنا محتبس الزمن، واللوحة البيضاء احتبس بياضها أيضا.
    لعل ما جعلني أطيل النظر إليه طوله الفارع..
    أتذكر طولك الفارع، ومحلات الألبسة التي أتعبتها كثيرا قامتك..
    تلك القامة التي أشعرتني دوما بالطفولة، وبحاجة مستمرة إلى اقتناء أحذية عالية الكعب.. كانت قامتك المديدة، مهما ازداد ارتفاعي عن الأرض، تظل تسترسل في الطول، وتشد الرحال نحو الأقمار والنجوم، كنت أواجه عناء دوما للوصول إلى عينيك، وببراءتي لم أدرك ان الوصول إليهما ضرب من الرجوع المجازف إلى الذات..
    أو لعل عينيه هما ما استرعى فضولي اللامبالي..
    اتساعهما.. وبريقهما.. وزخم الحكايات المخبوء في سوادهما.. أسرارهما المخلوطة بغموض قاس، وأوجاع أزمنة تعاقبت عليهما، كانتا واسعتين وبراقتين عيناك.. ولكنهما لم تستطيعا ان ترياني بوضوح، وضيعتاني في أرشيف دهري من النساء اللاتي قابلت منذ التبرعم.. لكل منهن قصة واختلافات ضاربة في الاختلاف، وتقاطعات شديدة التقاطع.
    لم تستطيعا ان ترياني بوضوح، ان تريا امرأة لا تضع مساحيق التجميل، ولا تحفل بالألوان الصارخة، امرأة تكتفي ببياضها المسمرّ، وبالتأنق في حدود البساطة، وتأبى ان تضيع في دوامة الأشكال الأنثوية المستحدثة.
    صارت الساعة تشير إلى السابعة.. ولم اشرب قهوتي المسائية بعد..
    استلقيت على سريري بثياب الخروج.. بحقيبة يدي أيضا، وصورة الكهل البدوي لم تفارق عقلي..
    أتذكرك بعد هذه الأشهر، يذكرني بك فجأة رجل قروي، ما يجمعكما من صفات اقل بكثير مما يفرقكما..
    رجلان تحديا مدينة – كالعاصمة - بهنداميهما الصارخين..
    أولهما قدم إليها من قرية مغمورة بالشمس وبالسنبل، تخلى عن بساطته بمجرد ان دخلها، غير على أعتابها ملابسه، وصوب بندقية نحو لهجته البدوية..
    ثم طمح إلى الوصول إلى قلب فتاة من المدينة، بالتحديد من العاصمة، من سيدة المدن، كان ذلك أقصى أمانيه، وكنت أنا فتاة تسكن العاصمة البيضاء، وتتمظهر بجمال تاريخها المغيّب، لم أكن الأجمل فيها.. ربما الاسذج..
    حـُلم بامرأة من المدينة، من سيدة المدن، أقصى أمانيه التي أراد ان يمحو بها ماضيه القروي الجميل، كنت أنا أداة محو أبجديات القرى الجزائرية التي أتعشقها، كنت امحوها من نفسه دون ان أريد ذلك حقا، بل دون ان ادري أبدا..
    هو حينها كان.. بطالا في مدينة تحفل بالقصور، لم يفزعني أبدا جيبه الفارغ، طوال أشهر من الحب، وبعد تلك الأشهر نجح في امتحان إحدى اكبر الشركات الأجنبية باروبا ذات الفروع الأخطبوطية في بلدان النفط، امتلأ الجيب الفارغ، ومرة أخرى صوب بنادق جيش كامل نحو لغته، مع أول سفر إلى..الشركة المستخدمة، وطبعا نحو هندامه..
    صرت بعدها اكلمه بجوالي فأحس إني اكلم شخصا آخر، بل شعبا اروبيا بأكمله.. شعب كامل يستوطنه، بلغته وعاداته وفلسفاته.. بحضارته وتفتحه، ونرجسيته أيضا..
    وأنا.. دائما أنا.. امرأة لا تضع مساحيق التجميل ولا تحفل بالألوان الصارخة.. امرأة تكتفي بياضها المسمرّ، وبشهادة جامعية تدين بها للوحة من خشب عتيقة، كتب عليها بحبر صوف الغنم المحروق، ولم يكن شيء يمحوها كما كان يفعل صلصال الجبال القريبة..
    أتذكرك فجأة.. هكذا..
    أتذكرك وأنا أراه، أتذكر بالتحديد عودتك إلى المدينة البيضاء، مترفعا عنها.. ملتحفا احدث ما صممته دور الأزياء الأروبية.. طقم لم يسوق بعد في عواصم الضفة الجنوبية كما فاخرت.. تحديت به جميع الرجال في المدينة السيدة –ومن خلالها جميع المدن المسودة- وحاولت إقناع النساء بجاذبيتك ورجولتك الجديدة التي اصطحبتها معك من مزارك، الذي تحول في الخفاء إلى وطن بديل..
    وأنا.. استشعرت الغربة في الوطن البديل، الذي طلبت مني ان أتلون بعشبه وأقحوانه، كي أُمنح تأشيرته وجنسيتك..
    أخبرتك –ثم رحلت عنك- ان كلا منا صار يشوش على الآخر، صرت تزعج فيّ هدوء بضع وعشرين عاما، وقد أسيء أنا معاملة عقود مقبلة من السنين واعدتك منذ فترة..
    وسرتُ.. دون ان نتذكر مصير اللوحة، التي احتبس بياضها..
    وصارت الساعة السابعة.. جاءت أمي بقهوتي الصباحية، وعاتبتني على إني استلقيت الليل كله على سريري بثياب الخروج، بحذائي وبحقيبة يدي أيضا.
    بعد ساعة خرجت إلى عملي وتعمدت ان أمر بحديقة الساعة الزهرية..
    وكما أملت: كان الكهل البدوي يشرب قهوة، لا ادري هل قضى الليل في فندق ما من فنادق "الزوالية"، أم بات ليلته في الشارع، لكنه كان يجلس على احد الكراسي الخشبية، المتناثرة على جنبات الطريق، في كامل ثقته، يتحدث إلى شاب من الحي..
    ابتسمت في أعماقي..
    لم تكن مدينتي تمانع في ضمك إلى أمومتها وذاكرتها مثلما تضم هذا القروي الآن.. لكنك فضلت ان يكون لكل زمنه، لكل شتاؤه وصقيعه.. وصيفه وزوابعه..
    قررت أن أعود في المساء إلى بيتي لإتمام رسم اللوحة.. أفكر جدا بملامح الرجل القروي..
Working...
X