سنتاول في هذه الزاوية بعض المواقف النقدية الأصيلة عبر تاريخنا الزاهر...نتيمن عبرها بالألى الذين كانوا وما زالوا وسيبقون مصابيح الهدى للإنسانية قاطبة
الحلقة الأولى: عمر بن عبدالعزيز..والشعراء
(..ووفد الشعراء على عمر بن عبدالعزيز فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم ،فساءهم ذلك وهموا بالرجوعِ إلى بلادهم ، فمر بهم (رجاء بن حيوة) فقال له جرير:
يا أيها الرجل المرخي عمامته=هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
فدخل ولم يذكر لعمر من أمرهم شيئا. فمر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير منشدا:
يا ايها الراكِب المرخي مطيته=هذا زمانك اني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه=أني لدي الباب كالمصفودِ في القرنِ
لا تنس حاجتنا لاقيتَ مغفرةً=قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
ودخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال:
-يا أمير المؤمنين..الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة.
- ويحك يا عدي، ما لي وللشعراء
-يا أمير المؤمنين ..إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه ، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحة فأعطاه حلة.
- أتروي منها شيئا؟
-نعم..
رأيتك يا خير البرية كلها =نشرتَ كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا=عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهانِ أمرا مدلسا=واطفأت بالقرآنِ نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا=وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه=وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرشٍ إلهنا=وكان مكان اللهِ أعلى وأعظما
فقال عمر: من بالباب منهم
-عمر بن أبي ربيعة
- أليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعابا=طفلة ما تبين رجح الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت=ويلنا قد عجلت يا بن الكرامِ
أعلى غيرِ موعِدٍ جئت تسري=تتخطى إلى رؤوس ِ النيامِ
ما تجشمتَ ما تريد لأمرٍ =لا ولا جئت طارقا لخصامِ
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم َ وستر على نفسه- لا يدخل واللهِ أبدا فمن بالبابِ سواه؟
-همام بن غالب( الفرزدق)
-أو ليس هو الذي يقول في شعره:
هما دلياني من ثمانين قامة=كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرضِ قالتا=أحي يرجى أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطنا وهو كاذب. فمن سواه بالباب ؟
-الأخطل
-أو ليس هو الذي يقول:
ولست بصائمٍ رمضانَ طوعا=ولستبآكِلٍ لحمَ الأضاحي
ولست بزاجِرٍ عيسا بكورا=إلى بطحاء مكة للنجاحِ
ولست بزائرٍ بيتا بعيدا=بمكة أبتغي فيهِ صلاحي
ولست بقائمٍ كالعيرِ أدعو=قبيل الصبحِ حي على الفلاحِ
ولكني سأشربها شمولا=واسجدُ عندَ تبليجِ الصباحِ
واللهِ لا يدخل علي وهو كافر أبدا. فهل باباب سوى من ذكرت؟
-نعم الأحوص.
-أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها=يعزمني بها وأتبعه
فمن هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره؟
-جميل بن معمر.
-الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت=يوافق في الموتى خريجي خريجها
فما أنا في طولِ الحياةِ براغِبٍ=إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو اللهِ تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ويتوب ، واللهِ لا يدخل علي أبدا. فهل بالباب أحد سوى ذلك؟
-جرير
-أما أنه الذي يقول:
طرقتكَ حاصدة القلوبِ وليسَ ذا=حين الزيارةِ فارجعي بسلامِ
فإن كانَ ولا بد فأذن لجرير.
فأذن عدي بن أرطأة لجرير ، فدخل على عمر وهو يقول
إن الذي بعث الإله محمدا=جعل الخلافةَ للإمامِ العادِلِ
وسع الخلائق عدله ووفاؤه=حتى ارعوى وأقام ميل المائلِ
إني لأرجو منكَ خيرا عاجِلا=والنفس مولعة بحب العاجِلِ
-إتقِ الله يا جرير فيما تقول
واستأذن جرير من عمر بن عبدالعزيز في مدحه فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشد قصيدة طويلة يمدحه بها، فقال له:
-ويحك يا جرير ..لا أرى لكَ فيما هنا حقا
-وإني لمسكين وعابر سبيل
-وإنما ولينا هذا الأمر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبدالله مائة، وابنها مائة ، وقد بقيت مائة.
فأمر له عمر بها ، فخرج جرير على الشعراء فالتفوا به وقالوا:
-ما وراءك يا جرير؟
-ما يسوءكم ، خرجت من عندِ أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء ، وإني عنه لراضٍ.
ثم أنشد يقول:
رأيت رقى الشيطانِ لا تستفزهُ=وقد كان شيطاني من الجنِّ راقيا
(منقول لأعضاء المفتاح )
Comment