Announcement

Collapse
No announcement yet.

بدر شكر السياب - ‏‎Faisel Laibi Sahi

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • بدر شكر السياب - ‏‎Faisel Laibi Sahi

    • قام ‏‎Faisel Laibi Sahi‎‏ بمشاركة ‏صورة‏ ‏محمد مظلوم‏.


      ومنذ ان كنا صغاراً كانت السماء
      تغيم في الشتار ويهطل المطر
      وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
      ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
      مطر .. مطر .. مطر
      سلاماً ابا غيلان ،عبر برازخ الظلم والقهر والإستبداد
      في ذكرى رحيلك المأساوي.



      السياب في ذكراه...
      الليل المدفون بالمطر
      نشرت هذه المقالة في الذكرى الأربعين لرحيل السياب.. في العام 2004..
      قد لا تجد صورة العراق في راهنه، وربما في أي زمن آخر، أفضل من بدر شاكر السياب (1926 ـ 1964) من يجسد إلى حد بعيد، خلاصة محنته، إذا كان بالإمكان مقاربة أزمات البلدان بمحن أبنائها.
      وان يصبح شاعر عاش مريضاً ومات باكراً، في السابعة والثلاثين كالسياب، وأحدث كل هذا التغيير في جادة القصيدة العربية، حتى أضحى تاريخاً جديداً للشعر العربي يفصل ما قبل عما بعد بمسافة نوعية، أن يصبح شاعر كالسياب معادلاً موضوعياً لصورة بلاد، فهو حسبه أن يقرن مجده، بما تدور عليه قرون البلاد، وإن جاء بصيغة مأساة كأفصح توصيف.
      وحسبه بعد هذا أن يتصل مجده ذاك لا بما أنجزه من التغيير الجذري في مسار القصيدة العربية فحسب، بل وفي طبيعة التجربة الحياتية التي جعلت من تجربته القاسية تلك أبعد من مجرد مثال نموذجي يحتذي به الشعراء، وأوسع من محض حيّز لمادة حيّة للباحثين عن الصلات بين تجارب الناس وأوطانهم.
      قد تكون هذه الصورة التي جرى النظر من خلالها للسياب واحدة من العناصر الأساسية التي أمدت شعره، بظلال إضافية متناسلة، وجعلته يُقرأ اليوم وسيُقرأ غداً، لا مناص، بهالة غير مقطوعة الصلة عن بعدها الجمعي ملتصقة بصورة العراق ومتماهية به إلى أقصى درجة ممكنة.
      لا يمكن أن يحسد السياب على ( هبة ) كهذه بالتأكيد، لكن واقع الأمر يشير إلى إنه ما فتئ يحظى بهذه القراءة التي تنمو طبقاتها مع نمو معضلة العراق أرضاً وشعباً وتاريخاً، بينما لا يقرأ شاعر سواه، لا قبله ولا بعده، بمثل هذه القراءة.
      حتى في تحوله من شيوعي هارب من الملاحقة، وطريداً في القرى الإيرانية الحدودية المتاخمة للبصرة، ثم عودته قومياً، مناهضاً لحكم قاسم، وموقفه المعروف بتأييد انقلاب البعث في العام 1963، ضد الشيوعيين وعبد الكريم قاسم، ظل السياب في تلاطمه غير اليقيني في هذا الخضم معبراً عن مرحلة مهمة من مراحل العراق وعياً ومزاجاً، وانقساماً أيديولوجيا وصراعاً سياسياً، لم يخل من عنف معهود.
      وعندما يستعير السياب صورة أيوب وعذاباته، وجلجلة المسيح وآلامه النفسية والجسدية معاً، وصليبه الذي (يجرّه) هذه المرة في المنفى، فإننا لن نجد مسافة واضحة بين ما هو شخصي، وما هو عام، حتى تختفي الحدود الواضحة بين المواطن في وطن جريح، والوطن الذي لم يعد صالحاً حتى أن يكون عيادة للإسعافات الأولية!
      مقاربة السياب من العراق، لا تنطبق فقط على راهن اللحظة التي تبدو مثالية تماماً لتأكيد هذه الصلة. ذلك أن أية قراءة لأشعاره، قد لا نجد فيها ما يجعل هذه الصورة عن العراق، تتغير أو تهتز أو حتى تزاح ولو قليلاً من كادرها الدامي، هذا الكادر المخطط بفحم النكبات والحرائق، وبقصائد كثيرة ليس السياب سوى واحد من راسميها.
      ولأنه شاعر الموت بامتياز، فإن مناسبة رحيله صارت مع توالي الذكريات والسنوات تبدو اليوم كعيد ميلاد آخر له، يجري إحياؤه خلالها من جديد، وبعثه لكن على صورة واحدة وأن تقلبت الأوجه: صورة الميت وقد تشوهت الحدود الحقيقية بين ميلاده وموته، وذابت الجغرافيا بين منفاه ومأواه.
      ربما لهذا يعرف جميع المهتمين بشعره ذكرى رحيله ( في الرابع والعشرين من كانون الأول 1964) مثلاً بينما لا يهتم الكثيرون في توثيق ذكرى ميلاده، أعني مجيئه للحياة!
      وأبرز ما يذكر من حياته في بغداد أنه دخلها بقدمين كسيحتين، وربطة عنق تجعله يبدو كمشنوق يمشي بعنق مائلة وهو يسحب ظله المريض في شوارع العاصمة وحدائقها وباراتها ومقاهيها، ولا يتردد في وصفها بالمبغى الكبير. وهكذا فقد صنع بدر منفاه بيديه إذن، بإرادته قبل أن يريدها له الآخرون أو القدر، أو تدابير الشيطان، مع أنه ظل يحلم بالعودة للمدينة التي هجاها، حتى ولو عابراً للمرة الأخيرة، بيد انه لم يفلح في العودة لها حتى ميتاً، أو محمولاً على آلة حدباء، يترك شيئاً من رائحته وظل جنازته في الشوارع. فخريطة العودة لجثمانه كانت أقصر من طريق المرور أو الحج إلى بغداد، فنقل من الكويت المجاورة ليدفن في البصرة المبدأ والمآل، بينما بقيت بغداد بعيدة، بل ومستحيلة.
      الصدى الذي أكل اللؤلؤ!
      ومثلما جرى اختزال السياب في الثنائية المأسوية المتواشجة: الشاعر/ الوطن، جرى اختزال شعره إلى حد بعيد بنمذجة نصية مثلتها قصيدته الأشهر "أنشودة المطر".
      وعلى إيقاع هذه النمذجة الاختزالية، شمر النقاد عن سواعدهم وانشغلوا باستخراج كل ما يمكن وما لا يمكن من هذه الأنشودة.
      فثمة من رأى في أنشودة المطر قصيدة غزلية متأسياً بمطلعها (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر) وراح يرصد افتراق هذه القصيدة عن الأخلاقية الفنية المتوارثة للقصيدة الغزلية في الشعر العربي.
      وثمة من رأى فيها قصيدة مائية مستفيداً من الأنهار والأمطار المنهمرة منها بكثرة إضافة إلى الدموع طبعاً.
      وثمة من رأى فيها تزويجاً للشعر العربي بصهر جديد هو الشعر الإنكليزي، فعقد مقاربات مقرناً أجواءها بأجواء إليوت واديث سيتول.
      وثمة من استقصى في أنشودة المطر البعد الأوديبي عبر تظهير نزوع السياب إلى رسم صورة الأم ومطر ينزل على قبرها.
      وثمة من ركز على البعد الصوتي في القصيدة فانتبه إلى تسكين السياب لمفردة المطر:
      مطر
      مطر
      مطر
      في الحشو وفي العروض معاً، لكي يثبت تناغماً بين إيقاع المطر وهو ينزل وبين إيقاع الرجز في حالة الخبن العروضي، أي حذف الثاني الساكن من تفعيلته (مستفعلن ـ متفعلن).
      ولم ينس أصحاب هذا الرأي أن يشيروا إلى حذف السياب لمفردة اللؤلؤ من تكرار الجملة في جواب الصدى:
      أصيح بالخليج "يا خليج
      يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!.."
      فيرجع الصدى
      كأنه النشيج:
      "يا خليج
      يا واهب المحار والردى.."
      لقد أكل الصدى مفردة اللؤلؤ حقاً، لكن ما هو لافت أن التركيز انصرف إلى اللؤلؤ وأغفل المحار (بمعنى أن تأويل سبب حذف اللؤلؤ هو الذي حظي باهتمام النقاد دون المحار مثلاً!).
      وثمة من اعتبر أنها نشيد الانبعاث بعد الموت، على أننا نعرف تماماً أن السياب هو شاعر الموت بامتياز، الموت بشقيه العضوي والمادي، على الرغم من أن جبرا إبراهيم جبرا كان يؤكد لبدر أنه شاعر الحياة ولا ينبغي للموت أن يتسلل إليه بسهولة بعد أن شم رائحة الموت مكثفة في رسائلهما المتبادلة، خصوصاً تلك التي كان السياب يكتبها لجبرا وغيره من الأصدقاء من على سرير المرض في لندن.
      ولعل من المفارقات المحزنة، أن موت السياب نفسه عقد موعداً، بطريقة ما، مع جبرا بالذات، فكانت آخر مقالة يكتبها الأخير عن السياب تمهيداً للمشاركة في إحياء واحدة من مناسبات ذكرى رحيله خلال التسعينات، فترك المقالة في المنزل، ولم يأخذها إلى البصرة، بل ذهب إلى السياب ليلاقيه بنفسه، في مكان آخر، بعد ثلاثين عاماً!

      لم يشدد النقد العربي مثلاً على "الجوهر" في بنية القصيدة لدى السياب عموماً في كونه استطاع أن يخرج بالقصيدة من الغرضية الأحادية التي درجت عليها القصيدة العربية إلى المناخ الشعري، لتصبح القصيدة عالماً تتداخل فيه عناصر شتى، وليس محض وعاء لمادة محددة.
      لكن تداخل الأغراض، أو فضاء المناخ الواسع الذي تتحرك فيه قصيدة السياب لم يرْقَ بقصيدته إلى نزوع ملحمي تماماً. إنه جعلها تستطيل فحسب، وتتسع عبر بناء لا يخلو من إحكام، ما يشير إلى أن حداثتنا الشعرية في طورها الأولى قامت على الإطناب، وتعكزت على وتره، وحبل خبائه، فما يستلزم البناء هو المعمار، ومعمار قصيدة السياب يقوم على التكرار والتداخل كما هو شان أغلب قصائده منذ "أنشودة المطر".
      وبعد هذا لن تبدو الأسطورة التي "رصّع" بها السياب آلامه، ليزينها من الخارج، سوى نوع من تمثلات غير تامة الهضم لعناصر مثاقفة بدت في تلك الفترة وكأنها لازمة تحديثية نوعية. والواقع أن تجربة كتجربة خليل حاوي في استحضار الأساطير داخل القصيدة في مشروع الريادة تبدو أكثر تماسكاً من تجربة السياب. ولعل جبرا إبراهيم جبرا الذي أغرى السياب وسواه بالالتفات إلى الأساطير لاستثمارها في الشعر لم يكن بأحسن حالاً في استخدامها في أشعاره هو الآخر، مع إنه حاول التمكن من الأسطورة من خلال تمكينها في ديوانه الأول "تموز في المدينة".
      أهمية تجربة السياب لن يجدي البحث عنها في هذه الترصيعات الخارجية بالتأكيد، والتي، على العكس، قد تحجب العصب الأساسي لتلك التجربة، أعني البيئة التي جسدها شعر السياب، ليست بيئة النخل والماء والطين والمشاحيف، فحسب، وإن حضرت أحياناً في سياق رومانسي يتناسب مع شخصية بدر، بل في البيئة المحلية العيانية والفورية التي يصطدم بها السياب نفسياً فلا يتردد في مقاربتها بصيغة لا تجدها لدى من سبقه من الشعراء. فكان توظيفه للفولكلور الشعبي المحلي، وخصوصية الأمكنة التي عرفها، والبلاغة المأخوذة من لغة العين لا من لغة القاموس.
      الاهتمام المبالغ فيه بأمطار السياب أغفل أيضاً الكثير من ليله، وتأويلاته الممكنة: ففي قصيدة "أغنية في شهر آب" مثلاً ثمة إنجاز متقدم للسياب لا ينحصر في الشكل الشعري "الجديد" للقصيدة، بل بالتشكيل المبتكر للصورة، والأسلوب والمضمون معاً، مشفوعاً بشعرية طافحة:
      تموز يموت على الأفق
      وتغور دماه على الشفق
      في الكهف المعتم والظلماء
      نقالة إسعاف سوداء
      وكأن الليل قطيع نساء
      كحل وعباءات سود
      الليل خباء
      الليل نهار مسدود.
      من المهم هنا المسارعة إلى أهمية استبعاد "تموز الأسطورة" عن تأويل مستهل النص الذي يرسم فيه بدر هذا المشهد الأسود لفاتحة شهر آب ونهاية شهر تموز، والتركيز على ما يضفيه من بلاغة خاصة على العناصر المكونة للصورة، في مزجه بين طبيعة اللون ودلالة الإحساس المختلف بالأشياء. فالنهار يشبه الليل من خلال علاقة شعرية نوعية تستجيب تماماً للبناء المحكم للقصيدة: "الليل نهار مسدود".
      وهناك ليل آخر للسياب غاب في احتفالية المطر، ففي قصيدة إقبال والليل يقول السياب:
      أين الهوى مما ألاقي، والأسى مما ألاقي؟
      يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق!
      أنا ميت مازال يحتضر الحياه
      ويخاف من غده المهدد بالمجاعة والفراق
      إقبال مدِّي لي يديك من الدجى ومن الفلاه
      جسي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنانْ
      بك ما أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه
      وطوى الزمان بساط عرسك والصبا في العنفوان
      فهذا المقطع هو الكلمات الأخيرة من قصيدة "إقبال والليل" وهي أخر ما كتبه السياب قبل رحيله كما ترجح الأوراق الأخيرة التي تركها ونشرت بعد رحيله في ديوان "إقبال" و"شناشيل إبنة الجلبي" إذ أن قصيدة "نفس وقبر" التي سبقت هذه القصيدة والمكتوبة على سرير موت الشاعر في المستشفى الأمير بالكويت تحمل تاريخ 10/11/1964 بينما رحل الشاعر في 24/12/1964.
      وهذا المقطع كما هو واضح ليس من المقاطع التي يراد بها الإشارة إلى ريادة السياب وعلو قامته الشعرية! لكنه جزء حقيقي من طبيعة تجربة السياب مع المرض والذبول وإحساسه المفزع بالفناء.
      وفي جل الكتابات النقدية التي قرأت المشروع الريادي للسياب ثمة إصرار على تحاشى الخوض في هذا الهبوط البياني ـ إن صحَّ التعبير ـ في هذا المشروع أو تشير في أحسن الأحوال إلى أن هذه القصائد التي كتبت على سرير المرض لا تمثل السياب وكان من الأفضل عدم نشرها بعد رحيله! وكأن الكتابات النقدية غير معنية بالتجربة ـ صعوداً وتألقاً وانحداراً ـ وإنها مهتمة بانتقاء ما تريد دون النظر إلى قراءة تجربة الانحدار والهبوط الفني بوصفها تمثيلاً حقيقياً لتجربة الذبول الجسدي للشاعر.
      ففي مجموعة السياب الأخيرة ثمة حضور قوي لفكرة "الليل" مفردة ودلالة وكانت تجربة "الليالي" أساسية فيها حيث "ليالي السهاد في العراق ولندن وباريس" و"في الليل" و"ليلة انتظار" وسواها شكلت الوصيد الأخير الذي قطعه الشاعر في الرحلة إلى فجر أخير وأبدي.
      ومما لم تحرص عليه الكتابات النقدية التي قرأت تجربة السياب هو تشخيص وجهين للموت في قصائده: الوجه الأول هو الوجه الوجودي الذي تأمل فيه شاعرنا ملياً بوصفه إشكالية فلسفية وسؤالاً ميتافيزيقياً حياً يمثل عنصراً مهماً في الحياة نفسها وحافزاً قوياً على محاورتها بعمق، أما الوجه الآخر فهو الموت العضوي الذي يمثل شعوره الطبيعي بالنهاية والزوال تحت وطأة المرض وذبول الجسد، فكان تشخيص وجه أحادي للموت لدى السياب هو الذي خلق الجدل الدائر حتى الآن والسؤال الأثير عن مدى ريادته أو "حداثيته" في هذا الجانب مقارنة مع البياتي وبلند الحيدري على سبيل المثال. ولهذا أفترض أن معالجة السياب لهذا الموضوع في شعره هي شهادة حقيقية لمسار تجربته الشخصية بالوجهين اللذين أشرت إليهما.
      فالرؤيا إلى الموت في المقطع الذي أوردته تختلف جذرياً عن رؤية السياب في قصائد مثل "النهر والموت" و"أغنية في شهر آب" و"أنشودة المطر" و"نسيم من القبر" وسواها، إذ أن الموت في هذه القصائد يرتبط بعناصر شعرية من طبيعة الحياة وعناصرها الأساسية ـ الماء بشكل خاص ـ.
      أضحى السياب منذ أربعين عاماً نوعاً من المحفوظات، ليس بين أكثر الشعراء الذين يقرأونها بتلقينية لا تخلو من شبهة التواطؤ، بل حتى بين السياسيين الباحثين عن بعد جمالي للمأساة والقضية معاً!
      إذن ما الذي يبقى من السياب في ذكراه الأربعين، كي لا تكون غزلاً على منوال ما مرَّ منذ أربعين عاماً؟
      ولكي نضع السؤال في جادته الحقيقية: كيف يمكننا أن نقرأ السياب بعد أربعين عاماً إذا نحينا قليلاً صورة العراق الدامية اليوم، وأزحنا، قليلاً أيضاً، التنويع على أنشودة المطر وهو ينهمر ويثير الحزن، ودققنا ملياً في الليل الذي تركه خلفه، هل سنجد ما يضفي ظلاً آخر على الصورة؟





Working...
X