Announcement

Collapse
No announcement yet.

جعفر علي مكي السادة - الصحة النفسية بين الفرد والمجتمع

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • جعفر علي مكي السادة - الصحة النفسية بين الفرد والمجتمع

    الصحة النفسية بين الفرد والمجتمع
    جعفر علي مكي السادة


    من أبرز العقبات التي تواجه النمو النفسي والانفعالي للأفراد: الاسقاطات السلبية للأنماط السلوكية التقليدية للأسرة والبيئة والمجتمع، فمسيرة التربية النفسية للأفراد على وجه الخصوص تخطو بشكل ارتجالي عفوي، يشوبها تشوش واضطراب للرؤية، في ظل غياب برامج واضحة مقننة لأبسط قواعد الأسس النفسية، ومما يزيد الأمر سوء غفلة الآباء والأمهات والمسؤولين التربويين عن معرفة حاجات أبنائهم النفسية وإشباعها، فضلا عن جهلهم بدورهم في الحفاظ على صحة وتنمية نفسياتهم.

    ينصب اهتمام أفراد المجتمع في مجال التنشئة الاجتماعية للجيل الجديد على إشباع الحاجات والميول المادية والجسدية، بصفتها دوافع ظاهرة سهلة التعرف عليها ويدركها الجميع دون عناء يذكر، فحاجة الإنسان للأكل والشرب واللبس والنوم وغيرها من الحاجات الجسدية في متناول اهتمام الجميع، في حين تكون حاجات الإنسان النفسية بمنأى عن ذلك كله، ولا تشكل رقما ذا أهمية، رغم دورها المؤثر في تكامل وصقل شخصية الفرد لتؤهله بعيدا عن العقد والمشاكل النفسية والاضطرابات السلوكية.

    فالمجتمع يبدي تفاعلا مع فرد مريض جسديا اكثر من تفاعله مع آخر يشعر بالوحدة والعجز في تكوين الصداقات والعلاقات، أو يشكو من العجز وعدم القدرة على الدراسة، أو من آخر يعجز عن تكوين هدف مهني لمستقبل حياته، أو فرد يعاني من عدم قدرته على التكيف الاجتماعي أو الأسرى أو المهني.

    حضارة القلق


    سمة المجتمع المعاصر انه ملئ بالضغوطات والصراعات والأزمات والمطامح وتعقيدات المدنية التي تتزايد مشاكلها يوما بعد آخر إزاء عالم يعج بالمتغيرات المتسارعة في جوانب الحياة المختلفة، وهذا بدوره ينعكس على حياة الأفراد وقدرتهم على التعاطي مع المستجدات ومتطلبات الحياة العصرية الجديدة.

    إن التغيرات الأسرية التي طرأت على المجتمع اليوم وتزايد مشاكلها، واشتداد الصراع بين الأجيال، وتداخل الثقافات المختلفة وما يرافقه من تغير في الاتجاهات والقيم ومظاهر للسلوك وأساليب الحياة، ألقت بظلال من الشك والارتياب والحيرة والتشوش الذهني وعدم الثقة في الإنسان المعاصر، فليس القلق وحالات الوسواس والإرهاق النفسي، الذي هو مرض العصر، والمزاج المتقلب والشعور بالإحباط والاكتئاب، إلا نتيجة لأمراض الحضارة وما تحمله من معادلات معقدة آخذة في التصاعد، بين ما ينشده الإنسان من توازن داخلي، والضغوطات الخارجية التي تفرزها المدنية الحديثة، في ظل ضعف الإيمان وغياب الوعي .

    على هذا النحو، فإن الإنسان بحاجة الى أن يمتلك ميكانزمات معادلة العالم المتغير لكي يستطيع إن يقهر العقبات والمصاعب التي تعوق مسيرة عطائه في سبيل حياة عامرة بعمل الخير والعطاء، وفي مطلعها الشعور الإيجابي بقدراته وإمكانياته على التكيف مع المحيط من حوله، فالوعي بالصحة النفسية والحفاظ عليها من ركائز التعاطي والتعامل مع الأزمات والمشاكل التي هي صيرورة هذه الحياة.

    الصحة النفسية ومعاييرها


    تلاحظ الصحة النفسية من خلال قدرة الفرد على التوافق مع نفسه ومع مجتمعه الذي يعيش فيه ، فبذلك يكون قادرا على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكانياته إلى أقصى حد ممكن، ويكون قادرا على مواجهة مطالب الحياة، حيث تتلخص معايير الشخصية السوية من وجهة نظر علم النفس في الآتي:

    1ـ المحور العبادي

    يشكل الإيمان بالله سبحانه وتعالى والالتزام بالقيم السماوية العمود الفقري في بناء الجانب النفسي للفرد، إذ إن عدم الإيمان بالله عز وجل يترتب عليه مختلف أنماط الاضطراب السلوكي والنفسي، كما إن اقتراف الخطايا والذنوب يساهم في بناء الشخصية غير السوية لما يشوبها من هلع وجزع وتشاؤم. قال الله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

    2 ـ تقبل الذات

    فالشخصية السوية تنسج نظرة واقعية لإمكاناتها قوة او ضعفا، بحيث تتقبل ذاتها بما هو واقعي فيها، فلا تبالغ في إمكاناتها ولا تقلل منها أيضا، فإذا بالغت في ذلك وقعت فريسة لتورم الذات، وداخلتها أوهام العظمة والكبرياء والزهو، وإذا قللت من تقديرها للذات، وقعت فريسة لمشاعر الضعة والهوان.

    3 ـ تقبل الواقع

    فالشخصية السوية هي التي تتعامل مع الواقع الذي تواجهه على حقيقته، فلا تتجاوزه بما هو خارج عن الحدود، ولا تتهرب منه. فإذا تجاوزت إمكانات الواقع أصبحت فريسة لتعامل وهمي أو مثالي لا حقيقة له، وإذا تهربت منه انسحبت إلى داخل ذاتها وتعطلت كل إمكاناتها التي ينبغي إن تستثمر في التعامل مع الموقف الذي تواجهه. وفي الحالتين يصبح كل من تجاوز الواقع والهروب منه سلوكا شاذا لا يتفق مع معايير الصحة النفسية.

    4 ـ تقبل الآخرين

    وهذا المعيار يعني إن الشخصية السوية لديها استعداد لان تخرج من أسوار ذاتها و تتجه إلى التفاعل مع الذوات الأخرى، أي أنها تتنازل عن ذاتها وتؤجل إشباع حاجاتها، وتعنى بإشباع الآخرين، بمعنى أن تُحب وأن تَحب أيضا .

    هذه المهارت الاجتماعية والقدرات الفردية المختلفة، ما هي في واقعها إلا حصيلة للتفاعل بين الفرد وبيئته، تشارك التنشئة الأسرية، والعوامل الثقافية، والظروف الاجتماعية بدور بارز في تحديد معالمها ومنحى اتجاهها. فالأسرة التي تولي اهتماما للجوانب النفسية لأفرادها تكون قد سعت في تكوين شخصية فاعلة متزنة قادرة التعامل مع المتغيرات والظروف المختلفة، ومن هنا نرى الإسلام أولى جل عنايته للأسرة وحرص على استقرارها، لان ذلك يعني الحفاظ على استقرار الأجيال وحمايتهم من الاضطراب السلوكي و الضياع والانحراف.

    فالطفل هو مرآة الأسرة، يتقولب وفق نظام العلاقات السائدة فيها بين الوالدين أنفسهما، وبينهما وبين أبناء المنزل الواحد، حيث تتشكل صورة الطفل عن ذاته حسبما يتركه الأبوان من بصمات على شخصيته. فقد يرى نفسه محبوبا أو منبوذا أو قد يشعر بالثقة في إمكانياته أو بالنقص والهوان. لذلك كانت الأسرة العامل الذي يستحوذ النصيب الأكبر في إكساب الأفراد العادات والاتجاهات السلوكية والاستعدادات الانفعالية، مما له الأثر على النمو النفسي والانفعالي للأفراد في باكورة حياتهم. ومن هنا رفع رواد التربية الحديثة مبدأ تربية الآباء قبل الأبناء، الأمر الذي أكده الإمام الصادق (عليه السلام) منذ زمن بعيد: (يحفظ الأبناء بصلاح آبائهم).

    فالأطفال قد يجنى عليهم من قبل آبائهم ومربيهم، لما يكسبونهم بوعي منهم أو غير وعي، من مشاعر النقص وعدم الثقة والاعتمادية والعصبية، فتكون حياة الطفل مسرحا للصراعات والتوترات النفسية. فكما إن الآباء يورثون أبناءهم لون بشرتهم، فانهم يكسبونهم سمات شخصياتهم وطبيعة نفسياتهم أيضا. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما) و(رحم الله والدين أعانا ولدهما على برهما).

    نظرة المجتمع للصحة النفسية



    مازال الغموض والقصور وعدم الجدية سائدة إلى الان في نظرة المجتمع للصحة النفسية وعلم النفس بشكل عام، فعدم قدرة الأفراد في الإفصاح عن حاجاتهم النفسية، مع صعوبة التعرف عليها أحيانا، يدفع المجتمع إلى التركيز على إشباع الجوانب الجسدية والمادية للأفراد اكثر من إشباعه لحاجاتهم النفسية. فالحب والتقدير، والصداقة، والتعبير عن النفس، ومعرفة الذات، والاحترام، والقبول، والكرامة، والاستقلال، وغيرها، تأتي في المرتبة الثانية في سلم أولويات المجتمع، هذا إذا لم تكن في عالم النسيان.

    ويرجع ذلك إلى قلة وعي المجتمع بتأثيرات الحاجة النفسية على الصعيد الحياتي للأفراد، فلا يهم في نظر الكثيرين إلى حد بعيد ما يعانيه أبناؤهم داخليا، وما يقاسونه من عدم التوافق الاجتماعي، ماداموا في صحة جسدية جيدة، وذلك لان قدرة المجتمع للتعامل مع المرض الجسدي اسهل بكثير من الأعراض والمشكلات النفسية، فالأول لا يحتاج إلا إلى الذهاب إلى العيادة، بينما يحتاج الآخر إلى مهارات متميزة، وثقافة خاصة وخبرات تحتاج إلى البحث والمطالعة والاستشارة، الأمر الذي ترى فيه كثير من الأسر: الإحراج والمشقة في إشراك غريب في حل مشكلة ابنهم النفسية.

    إضافة إلى هذا، فإن المجتمع لا يفرق بين الأمراض النفسية، والأمراض العصبية حيث يخلط كثير من الناس بين النوعين، فالأمراض العصبية هي التي ترجع إلى أسباب عضوية أو جسمية، إما الأمراض النفسية فإنها ترجع إلى أسباب نفسية بحتة، أي أنها أمراض وظيفية، وتعرف هذه الأمراض باسم الأمراض العصبية. ومن هذه الأمراض القلق والهستيريا، ومن أعراض هذه الأمراض الشعور بالقلق والتوتر والاكتئاب والشكوى من آلام جسمية، لا يوجد أي سبب حقيقي لها، والخوف الزائد على الصحة والشعور بالهبوط والخوف، وغير ذلك من الأعراض.

    قد يلاحظ أن كل واحد منا، يشعر بعرض أو اكثر من هذه الأعراض، ولكن ليس معنى ذلك إننا كلنا مرضى، ولكن هذه الأعراض لا تعتبر مرضية إلا إذا كانت حادة ومزمنة، تقعد الفرد عن القيام بمتطلبات الحياة العادية.

    وقد يكون المجتمع هو أولى من غيره للحصول إلى استشارة أو خبرة أو ثقافة نفسية، ففي مجتمعات العالم الثالث تكون فيه أهمية الفرد وآرائه وفرص التعبير عن ذاته، أقل بروزا واحتراما بالقياس مع غيره من مجتمعات العالم المتقدم، وفاقد الشيء لا يعطيه.

    لماذا الصحة النفسية ؟


    لا تقتصر انعكاسات الصحة النفسية على الفرد، بشعوره بالراحة، وضبط النفس، وتحمل المسؤولية، وفي قدرته على مواجهة الأزمات والتحديات والتعامل مع المتغيرات، وإقامة العلاقات الاجتماعية، ليس هذا فحسب.. بل تتعدى ذلك إلى المجتمع نفسه لكون الِفرد لبنة من لبناته وما يصيب أحدهما يتأثر به الآخر.

    فالمجتمع الذي يسوده الحقد والضغينة، وتسيطر على كيانه العداوة والبغضاء، هو مجتمع مريض نفسيا، تتحكم به الخلافات والانشقاقات، مما يصيب وحدته وتماسكه بالتصدع والانهيار، فالأفراد الذين لا تتسع صدورهم للرأي الآخر، ويضيقون بمن يخالفهم الرأي.. أفراد متخلفون نفسيا، ويساهمون من حيث لا يعلمون في زرع بذور الشقاق والشحناء بين أفراد المجتمع الواحد، ويصيبون نظام التواصل الاجتماعي بالشلل، مما يعوق قدرات الأفراد في بناء شخصيات سوية تستطيع إن تخرج من أغلال الحسد والبغض والهوى والتبعية، إلى فردوس الغبطة والحب وحرية التفكير والاستقلال بالرأي.

    في سبيل تحقيق الصحة النفسية


    يتحقق الوعي، بإشباع الحاجات النفسية للأفراد في مختلف الأعمار، فلكل شريحة عمرية حاجاتها النفسية الخاصة بها، بدءً من مرحلة الطفولة وسن المدرسة ومرحلة المراهقة وسن الشباب حتى مرحلة الشيخوخة، مع وضع الحاجات الفسيولوجية والمادية والنفسية على قدم المساواة، لكونها حاجات ضرورية لبناء الشخصية السوية.

    وبما إن الطفل يتقمص سلوك من حوله، تأتي القدوة الحسنة في الأقوال والأفعال كبرنامج يساهم في إحساس الطفل بالحب والأمن والقبول والطمأنينة التي هي بمثابة أكسجين النمو النفسي والانفعالي للطفل، بعيدا عن أساليب التجريح والسخرية والتهميش والتحقير، خاصة أمام الأقران والآخرين، الأمر الذي يعزز قدرة أفراد المجتمع في تكوين علاقات طيبة خالية من مشاعر النقص أو الدونية أو التعالي أو الحقد أو السيطرة أو العدوان أو السلبية، مما يسمح بإقامة علاقات متوازنة بين الأفراد ومحيطهم خالية من الإرهاق والصراع النفسي من اجل السعادة وراحة البال.


    --------------------------------------------------------------------------------

    :الهوامش


    1 ـ دراسات في علم النفس الاسلامي د. محمود البستاني.

    2 ـ الطفل بين الوراثة والتربية محمد تقي الفلسفي.

    3 ـ علم النفس المعاصر في ضوء الاسلام د. محمد محمود محمد.

    4 ـ كيف تسعد ابناءك، محمد الكاتب.

    5 ـ علم النفس العام، د. عبد الرحمن العيسوي.

    6 ـ الخوف الاجتماعي، د. حسان المالح.

    7 ـ ولدك هذا الكائن المجهول، ترجمة د. امين رويحة.

    8 ـ مشاكل الاطفال النفسية، د. ملاك جرجس.

    9 ـ مشكلات طلبة المرحلة الاعدادية وحاجاتهم الارشادية.
    كاتب
    أنا بنت الهاشمي أخت الرجال
    الكاتبة والشاعرة
    الدكتورة نور ضياء الهاشمي السامرائي
Working...
X