Announcement

Collapse
No announcement yet.

القصة القصيرة جدّا تشكل الواقع لتحقيق الإمتاع والإقناع لدى المتلقّي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • القصة القصيرة جدّا تشكل الواقع لتحقيق الإمتاع والإقناع لدى المتلقّي

    الكاتب العراقي جاسم خلف إلياس
    تشكيل الواقع في القصة القصيرة جدّا


    العرب أونلاين- عبد الدائم السلامي

    كثرة كثيرة من المقترحات التي قدّمها المهتمّون بضبط الملامح الكبرى للقصّة القصيرة جد، على غرار المغربيين جميل الحمداوي وحميد لحمداني والعراقي جاسم خلف إلياس، والتي سعوا فيها إلى "توطين" هذه القصّة القصيرة جدّا في تربة الحقل البحثي، انتهوا في أغلبها إلى إقرار بأنّ تلك القصّة هي نمط أدبي راهنيّ يسعى إلى أن تكون له ملامحه الجماليّة وتقنياته الكتابيّة ما به تصير بنية سردية يجتهد كاتبها طاقته في تأطيرها بوسائل فنيّة لتحقيق الإمتاع والإقناع لدى المتلقّي.
    يعيش المشهد السردي العربيّ الراهن على إيقاعات جنسٍ حكائيّ جديد موسوم بـ"القصة القصيرة جدّا"، وهي نوع حكائيّ يذهب المهتمّون به إلى اعتباره النمط الأدبيّ الأكثر قدرة على تقطيع الواقع الراهن وتمثّل تفاصيله قصد بناء معنى له شعريّ يخفّف من ثقل الهزائم اليوميّة فيه. ويبدو أنّ للقصّة القصيرة جدّا أسلوبها الخاص في تمثّل الواقع وحكايته.

    فلئن كان تاريخ السرد العربيّ الحديث قد سار على خطى تاريخ السرد الغربي من حيث بناؤه ومن حيث محاملُه إلاّ في القليل النادر من الاختلافات، فلبس السّردُ فيه لبوسَ الواقع حينا ينقله كما يتبدّى للرائي بأمانة وصدق، ونوّع أحيانا من كيفيّات تمثيله، خاصة في مجال الرواية، فإنّ الذي يتبدّى من علاقة القصّة القصيرة بالواقع هو أنّها تسعى إلى التمرّد عليه بغاية إعادة بنائه بما يتماشى ومطامح كتّابها في تحويل واقعهم من مستواه الماديّ المحسوس إلى مستوى شعريّ مجرّد ومضغوط، حيث يصير بمستطاعهم تفتيت المعيش اليومي إلى أقاصيص قصيرة جدا تمثّل كلّ واحدة منها صورة أو مشهديّة أو سُرّة معنويّة، يُعنى فيه كاتبها بتحديد ملمح من ملامح ذاك المعيش ويبنيه سرديا.

    ويبدو أنّ تنامي سرعة وقائعنا اليوميّة، وما يصاحبها من تنوّع في تلويناتها النفسية والسياسية والثقافية، يجعل من بلوغ جميع مضامينها فعلا صعب المنال إلاّ متى اكتفينا منها بملمح واحد ينصبّ عليه اهتمامنا الحكائيّ بعيدا عن إكراهات ثقل كتلة الواقع وضاغطاته الماديّة.

    لذلك، تسعى القصّة القصيرة جدّا، على عكس الرواية مثلا، إلى تخيّر زاوية نظر حادّة تباشر منها رؤيتها لمنظورات الواقع، فتراها تفكّكها وتنقّيها من شوائبها وتنتقي منها أصلحها للسرد ولإحداث الإدهاش لدى المتلقّي. ومن ثمّة، فإنّ كلّ قصة قصيرة جدا هي عمل فنيّ كبير جدّا من جهة قدرته على تحويل عناصر الواقع الخامّ وتفاصيله من مستواها الواقعي المحسوس إلى مستوى مجرد مادته التخييل، يضمن لكلّ صورة أسباب الانقرائية ويجعل علاقتها بالقارئ تتحوّل من حدث للتلقّي بما هو فعل أحاديّ التأثير، إلى حدث للتلاقي بما يحيل إليه من حميميّة وتواصل واندماج، ويتحول تقطيعها للواقع تجميعا لتفاصيله الدقيقة يكون فيها مخالفا لصورته في مأثور المحكيات، وقد تكتفي في حكايتها بحركة شخصية واحدة هي في الأصل اختصار لجموع غفيرة ممّن تكتظّ بهم الحياة.

    وعليه، فإنّ البحث في شعرية الواقع في القصّة القصيرة جدّا محيل بالضرورة إلى البحث في كيفيات تصوير كتّابها لتفاصيل المعيش اليوميّ فيه. وهو تصوير، وقفنا على بعض ملامحه عند أغلب كتّاب هذا الجنس الأدبيّ الناشئ، من خلال مجموعة من نصوصهم القصيرة جدّا. وصورة ذلك أنّ الكاتب من هؤلاء المبدعين ينطلق في بناء نسيجه السرديّ من المشهد الخامّ المرجعيّ ليرقى به إلى مراتب عليا من التأويل وذلك عبر تحرير الحدث المحكيّ من ضاغطات الزمان والمكان وكثرة الشخصيات والانفتاح به على احتمالات الممكن التخييلي الذي لا يحفل كثيرا بمنطق الحكاية ولا بلحمتها السردية.

    ولكنّ الحديث عن التشخيص الواقعي في القصة القصيرة جدا يضعنا أمام لفظتين لهما معنيان يبدوان في الظاهر متناقضين، بل ومتنافرين، لا بل وتحكمهما علاقة ضديّة، حيث يسعى المحمول الدّلالي لكل واحدة منهما إلى إقصاء محمول الأخرى، فلفظة التشخيص تشير بطرف خفي إلى أنه "فعل ينصبّ على الشيء فيعيّنه ويميّزه ويدققه ويبيّنه ويشرحه ويحدّد أوصافه" وهو إذ يفعل ذلك يعتمد الموضوعية والحياد أسلوبين في التعامل مع الظاهرة المشخَّصة، ومن ثمة فهو فعل شاهد يسعى إلى كشف حقيقة ما قد تكون اجتماعية أو تاريخية أو لغوية أو غيرها، وهو الأمر الذي يجعله خاليا أو يكاد يخلو من كل "ملمح فنيّ". بينما نجد لفظة "القصصيّ" مشحونة بطاقة معرفية عقلية ومحكومة بأشراط فنّية ضمن رؤية جمالية تؤطرها وتضمن فيها هدف الإمتاع وتحقيق البعد الجمالي باعتبار القصة القصيرة جدا إبداعا ينجزه الكاتب بغاية تصنيع الشعري باللغة وبما توفّره له عبقريّتها الفذّة من قدرة على التخييل والتكثيف.

    إلا أن هذا التنافر الدلالي الظاهر بين اللفظتين يبطن علاقة حميمة بينهما، علاقة تمتزج فيها الدلالات وتتواءم حتى الاندماج، لتتحول إلى كائن معنوي متوحّد ينصهر فيه التوثيق والتبيين والشرح والتفصيل مع التخييل والنمذجة والابتكار انصهارا مخصوصا يصير معه التشخيص القصصي فعلا "يعيد [فيه] الأدب إنتاج مرجعه الاجتماعي بشكل من الأشكال" وبناء على هذا الفهم، يدنو التشخيص في القصة القصيرة جدّا من الواقع/ المرجع إلى حدّ الإيهام بنقله أحيانا، وهو إذ يدنو يفتح المجال أمام التخييل لممارسة حرّية الكتابة وفق ما تقتضيه قواعد الإبداع السردي، فتنهض اللغة، عبر وسائلها الفنية الجمالية، بناء مستقلا بذاته يوهم بتقريب الواقع ونزع قشرته وتعريته حتى يظهر جليّا وتنكشف حقيقته للقارئ.

    والظاهر أن التشخيص موضوعة أثيرة لدى أغلب كتّاب القصة القصيرة جدّا، مهما تنوّعت مشاربهم الثقافية ومهما اختلفت تياراتهم الفكرية وتمايزت أساليبهم الكتابية، إذ نجد جل نتاجاتهم القصصية القصيرة جدّا، تمتح من عناصر الواقع مادّتَها وتغترف من أحداثه رُواءها ومغامرتها.

    ومن هنا تصير غاية التشخيص في القصّة القصيرة جدّا ليست التماثل بين النص المكتوب والنص الدنيويّ، وإنما هي إبداع عالم لغوي مواز تمّحي فيه المسافة بين الأدبيّ والواقعيّ، بين الحقيقة والتخييل، وبذلك "يتحقق التحول الذي يجعل من العالم المتعدّد المبعثر واحدا موحّدا" عالما تصنعه استراتيجية فنية تسعى إلى تقويض المنمّط والمألوف لتجعل الكتابة القصصية فنّا منفتحا على التأويل، باحثا عن شكل له جديد وعن رؤية متجددة تصبح "مجالا لمحاورة الإيديولوجيات ووضعها موضع تساؤل من خلال التقاط المعيش والمستجد واستثمار العلامات والرموز واللغات الملتصقة بفضاء المجتمع الجديد: فضاء الصراع والتجابه والتعدّد في الرّؤى".

    ويتمّ كلّ ذلك عبر سبيل بناء فني للقصة القصيرة جدّا يجعل منها محمَلا لمضامين قضوية يتخيرها الكاتب من محيطه المعيش لتعركها ذائقته بما تتوفر عليه من قدرة على التنويع في خيوط نسيجه القولي وإخراجه في إهاب سردي يقوم على التلميح والاختزال والتكثيف هو فيه قريب من فنّ الشعر في معمارياته الرمزية والاستعارية والشكلية.
Working...
X