Announcement

Collapse
No announcement yet.

السخرية والموضوعية والذاتية في السرد في حكايا زكريا تامر

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • السخرية والموضوعية والذاتية في السرد في حكايا زكريا تامر

    السرد في حكايا زكريا تامر

    الموضوعية والذاتية


    السرد نوعان: موضوعي، وآخر ذاتي، والراوي في السرد الموضوعي راوٍ محايد، لا يتدخل في تفسير الحدث، بل يصفه وصفاً موضوعياً، أو كما رُويَ، أو كما يستنطقه في أذهان شخصيات سرده، ولذا سمي هذا السرد موضوعياً.
    أما السرد الذاتي – والذات لها علاقة بالأنا، والأنا تظهر عبر ضمير المتكلم – فإن الحكي فيه يتم غالباً على لسان راوٍ مشاركٍ في الحكاية، ونتعرف على الحدث من خلال ما تراه عيناه، وهو من يفسر لنا كل خبرٍ في الحكاية: «أيقظني من نومي صيَاحٌ آتٍ من الزقاق أطلقه بائع متجولٌ صوته خشنٌ عريض، تمنيتُ لو أنهض من فراشي وأطلّ من النافذة وأصب فوقه سيلاً من الشتائم... لكن خوفي من أن تصل الضجة إلى مسامع والدي يمنعني من تحقيق أمنيتي، فلابد أنه الآن يجلس في باحة الدار وراء نرجيلته، منتظراً استيقاظي من النوم ليأتي ويمد كفه وهو يقول: هاتِ» (صهيل الجواد الأبيض، ص63).

    ما بعد الموضوعية والذاتية



    دمشق الحرائق


    على أن السرد الموضوعي الذي تتسم به أكثر قصص زكريا تامر يعني أيضاً، كي يكون موضوعياً، أن يكون الراوي مطلعاً على كل شيء، حتى على الأفكار السرية عند شخصيات سرده، وأن نرى المكان والزمان والشخصية والحدث بعينيه هو، عندها ينصهر الذاتي بالموضوعي لينتج عنهما سردٌ تم تطويعه للدلالة على موقفٍ من عالم حقيقي، لكنه عالم قائم على العقلاني واللاعقلاني، نراه في اليقظة والحلم، ونحسه بالشعور واللاشعور، ونتلمسه في المعيش والمتخيل: «أقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلةً مقطوعةَ الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتُها السماء والأشجار، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثال من نحاس لرجل يشهر سيفاً، ويقف فوق قاعدة من حجرٍ مطلاً شامخ الرأس على حديقة المبنى. واجتاحت الاستغاثة تمثال النحاس مريرةً ضارعة، ففقد صلابته شيئاً فشيئاً، ثم تحول إلى رجل يمشي ويتكلم ويغضب ويصرخ» (الاستغاثة، من «دمشق الحرائق»).

    الخاتمة في أدب زكريا تامر


    إن خواتيم قصص زكريا تامر ليست شبيهة بما تختم به الجدة حكايتها، ولا شبه لها بالحكمة التي يطلقها الحكواتي ليختم بها السهرة «وهكذا يا سادة يا كرام...» إنها أشبه بستارة المسرح، تسدل على الخشبة في المشهد، لتترك القارئ المشاهد مشدوهاً يلملم أشلاءه متأملاً، مثلاً، هذه الخاتمة: «وألصق ظهره بحائط ترابي بينما كانت أصابعه تمسك الرغيف بضراوة» (الرغيف اليابس، من «دمشق الحرائق»).

    بنية القصة عند زكريا تامر


    تقوم بنية القصة عند زكريا تامر على المفارقة، والمفارقة «paradox» ينتجها عادة أحد عناصر أربعة: 1) عنصر لغوي 2) عنصر ذهني مفهومي 3) عنصر مرجعي يستند إلى المكان والزمان 4) عنصر سردي تنتجه بنية الشخصية القصصية بما تحمله من مكونات وتناقضات وما يصدر عنها من سلوك. وكل واحد من هذه العناصر يشكل حافزاً «motive» من حوافز السرد وأهمها الفضاء المكاني والزماني والشخصية والحدث والثيمة.
    ففي العنصر الثاني من عناصر المفارقة، أي العنصر الذهني المفهومي، رأينا أن قصة زكريا تامر اعتمدت على مزج المنطقي باللامنطقي، وتوتر بنية الشخصية فيها بسبب لوَبانها بين الأسطوري والواقعي، ولعل البرهة التي تتوسط بين هذين البعدين المتفارقين، أو المتباعدين، أن تكون البرهة الأكثر حضوراً والأقدر على إشباع الأعماق، وتلكم هي العلة النفسية أو الفلسفية لسر نجاح زكريا تامر، الذي استطاع فعلاً أن يؤسطر الوقائع، أو أن يُوَلِّفَ توليفاً ممتازاً بين الواقع والأسطورة. إن أسطرة الواقع بحيث يستجيب لتوتر الإنسان بين العياني والمفارق، بين المعيش اليومي والأسطوري الخيالي هي السمة الأساس في بنية المفارقة عند تامر، وهي قصة دائمة البحث عن عوالم مفارقة مترعة بالخيالي واللاواقعي.

    السخرية في أدب زكريا تامر (أنموذجاً للمفارقة)


    1) جريمة الشرف


    ولعل إبداع زكريا تامر وإن تعددت تجلياته فسيكون أبرزها كما أسلفنا الذكر بنية القصة عنده التي تشغلها المفارقة، فهذه المفارقة إحدى أهم تجلياتها السخرية، كما نرى مثلاً في قصة «الأدغال» من مجموعة «الحصرم» حيث تجري مهاترة في المقهى بين لاعبَيْن للكونكان اغتاظ رشيد منهما وصاح بمعروف أن عليه أن يخجل لأن كل رواد المقهى يعرفون جسم أخته أكثر من أمه. ويتوتر الحديث في القصة ليستل معروف سكينه بحركة سريعة ليطعن رشيداً في صدره وعنقه ثلاث طعنات: «وغادر معروف المقهى هارباً ويده لا تزال ممسكة بالسكين التي تقطر دماً، وتنبه وهو يركض بأقصى سرعة إلى أنه وحيد أبويه، ولا أخت له ولا إخوة».

    2) سخرية المكان


    المفارقة المكانية في قصص زكريا تامر تبدو كالأعمال السوريالية، مليئة بالمفارقات والألغاز، وهي تقوم على تضاد تربط عناصر المكان بعضها ببعض لتنشأ المفارقة من التضاد بين مكانين. تبدأ قصة «ظلمات فوق الظلمات» من تضاد مكاني: «لمحنا جارنا يطل من شرفة بيته في الطابق السابع من المبنى الضخم الذي نسكن في أقبيته، فأغرانا ما نعرفه عنه بأن نلوح له بأيدينا مطلقين الصيحات التي تناديه وترجوه أن يهبط من أعلى إلى أسفل لأمر مهم للغاية لا يحتمل التأجيل، ولم ندهش عندما سارع إلى تلبية ندائنا، وقلنا له: ماذا تفعل وحدك فوق؟ ألم تضجر؟ فقال لنا متسائلاً بمرح: وأنتم ماذا تفعلون تحت؟».

    شخصيات قصصه


    إن شخصيات زكريا تامر نمطية، فهنالك شخصيات تتكرر في غالبية هذه القصص: الشاب الطويل النحيل ساكن القبو، الشرطي، الطفل، الرجل ذو اللحية الطويلة وهذه الشخصية سنصادفها كثيراً في مجموعته «الرعد الذي لا يمطر» كما سنرى لاحقاً، والمرأة الحلم التي نجدها في كثير من القصص. كلها شخصيات تتقابل لتتفارق، يتقابل الرجل النحيل (أو سليمان الحلبي، أو طارق ابن زياد، أبو حسن...) مع الشرطي لتكون مفارقة، وتلتقي المرأة مع الرجل النحيل والشرطي لتكون مفارقة، وتتغير الأقنعة التي ترتديها الأنماط الأربعة (الشاب، الشرطي، المرأة، الطفل) فتتغير الشخصيات، وهناك شخصيات تاريخية تتم عصرنتها لاستخدامها في التعبير عن الواقع المعاصر مثل عنترة وهولاكو وكافور الإخشيدي والمتنبي والشنفرى وعباس بن فرناس وشهرزاد وجنكيز خان والمأمون والرشيد وغيرها، لكن مهمتها الأولى أن تكون طرفاً من طرفي المفارقة (يوسف العظمة/رئيس المخفر) التي تنتهي بأن يسمع يوسف العظمة البطل القادم ملبياً لاستغاثة، صوتاً يقول: «ستُقتل، ستُسجَن، اهرب. فقال يوسف العظمة بنزق: السجن للرجال، والموت لا مهرب منه. وتهالك على الأرض ممزق الجسد، وتحلق حوله الأعداء المنتصرون، فها هو يوسف العظمة سقط أسيراً. وأغمض يوسف العظمة عينيه، وأحس بأن شرايينه تمتلك آلاف الأجنحة التواقة إلى فضاء رحب، فأطلق استغاثة التقت بالاستغاثة الآتية من أرض يحتلها الأعداء، وامتزجتا في صراخ مديد تبدد في ظلمة الليل المهيض على دمشق النائمة» (الاستغاثة، من دمشق الحرائق).
    وليس غريباً أن يكون للشخصيات التاريخية حضور واسع في قصص تامر، خصوصاً في مجموعة «نداء نوح»، حيث نقرأ العناوين الآتية: «عبد الله بن المقفع الثالث»، «عنترة النفطي»، «نبؤة كافور الإخشيدي»، «يحكى عن عباس بن فرناس»، «شهريار وشهرزاد»، «يوم غضب جنكيز خان»، «حكايات جحا الدمشقي» ...الخ. إذ يأخذ الرجوع إلى التاريخ البعيد دلالات متعددة، ففي العودة إلى الماضي بحثٌ في دلالة الحاضر في زمن غابر أكثر وضوحاً، واحتجاجٌ على حاضر ينصر المشوه والمرذول، ويعاقب السوي الفاضل.

    الثيمة


    الثيمة مكون أساسي من مكونات قصة المفارقة، والثيمة – بمعنى آخر – تكاد تكون مرادفاً للفكرة التي تسيطر على النص لتكون مبرر وجوده، قبل أن تكون التجربة هي مبرر هذا الوجود، فالنص المفارق تعبير عن ثيمة قبل أن يكون تعبيراً عن تجربة.
    كتب زكريا تامر يقول: «الصدق مفقود محتقَر، والكذب مبجّل، والدعيّ يحتل كرسيّ الأصيل، والأصيل منبوذ مهان تطارده الكلاب، ودماء الأبرياء تُسفَك كل صباح ولا منتقم لها، والأخ يقتل أخاه إذا كان سيفوز بفردة حذاء، والفاسد له الصدارة والتمجيد والصالِح يعامَل كأنه قاتل أمه، والصديق وقت الضيق لا وجود له إلا في الحكايات الكاذبة...».
    بناءً على هذا بوسعنا أن نتفق مع بعض النقاد الذين يطلقون على قصته «الواقعية التعبيرية» وآخرون عدّوه «شاعر القصة القصيرة» كما يشير الكاتب خليل صويلح الذي يذكر قول زكريا تامر: «لم أكن يوماً في خندق أحد. كان النقاد الماركسيون يشتمونني وكانت السلطة غاضبة مني، ولم أشعر بالأذى»، ويردِف: «ما كان يؤذيني حقاً هو وجع الناس وكيفية التعبير عنه بعمق وصدق».


    الرعد


    هنا نستطيع أن ندلف إلى ثيمة أساسية في قصص زكريا تامر هي ثيمة «السلطة/الاستبداد» فقد تمثلت هذه الثيمة في تصوير السلطات السياسية العربية، سلطات اختصاصها الجوهري تنظيم الإذلال وقمع الإنسان في خلقه الأول، وأن ترده من طبيعة أولى قوامها البراءة والعدالة والصواب إلى طبيعة ثانية طافحة بالتشوه والقبح والاعتلال. أما زمن السلطة المستبدة، فيمتد في الماضي والحاضر معاً، ليشكل زمناً سلطوياً جوهرياً يتأمله تامر في بدايته ومآله، ويندد به فهو زمن راهن راكد متجانس مع أزمنة بعيدة تشبهه أو يشبهها كما لو كان حاضر السلطة آية على الماضي الذي انتهى إليه. وكأن تامر يخلط الأزمنة المستبدة إعلاناً عن هجاء الاستبداد الجوهري بنقد ساخر، يكون لأسطرة التاريخ والواقع العربيين دور كبير فيه. يقول الوزير في قصة «عبد الله بن المقفع الثالث» من مجموعة «نداء نوح»: «قال الوزير: ما عمل الحاكم الصالح؟ أليس عمله التفكير بدلاً من الناس الذين يحكمهم؟ إذا تعوّد الناس التفكير وحدهم فلن يحتاجوا إلى حكامهم [...] قال أحد الوزراء: إنه رجل خطر فقد يؤلف كتاباً يمدحك فيه، ولكنه سيستمر في الوقت نفسه في تأليف كتب أخرى تحرض الناس على التفكير. فتجهم وجه المنصور وقال بصوت صارم: [...] الجائع لا يُفكر. وإذا فكر سيفكر في الحصول على قوته اليومي فقط [...] من يرغب في التفكير فليفكر كما يحلو له. التفكير ليس ممنوعاً مادام السيف أقوى، وأنا الذي يملك السيف. فصمت الوزراء معجبين بحكمته ولكن رأي الأحفاد في جدهم أبي جعفر المنصور كان مختلفاً».
    أخيراً وليس آخراً، يسعى تامر في تناوله ثيمتي العنف والجنس إلى تصوير البنى النفسية التي شوّهتها المجتمعات القمعية والتحريمية، ويدمج زكريا الأمراض النفسية بأسسها الاجتماعية المبثوثة بثاً متقناً شبه خفي في حركة الأبطال وفاعليتهم، وكأن أبطالهم المُدمِّرين والتدميريين لا يحققون ذواتهم، ولا يؤكدون وجودهم وشخصياتهم، إلا من خلال العدوانية والسادية. وهذا ما سنراه في قراءة بعض قصصه من مجموعة «الرعد الذي لا يمطر».
Working...
X