Announcement

Collapse
No announcement yet.

قصة لـ عاطف عبيد - أبطال تحت الجسر

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصة لـ عاطف عبيد - أبطال تحت الجسر

    قامت ‏‎Azza Ragab‎‏ بمشاركة ‏صورة‏ ‏صفحة القاص عاطف عبيد‏.


    أبطال تحت الجسر
    قصة لـ عاطف عبيد
    بين جدران المدرسة.. أنزوي خجلاً عندما ينادونني باسمي.. الكل يعرف أن أبي ذلك المجنون الذي يمشي بالليل في حواري القرية الضي
    قة.
    أعود إلى البيت.. أمي لم تعد تسألني عن سبب ضيقي.. يأكل معنا غائباً عن كل شيء.. يتّفحص لقمات الخبز بعمق.. يبتسم.. ثم يكف عن الابتسام محاولاً بْلع ما في فمه.. يقفز نحو الباب .. يعود إلينا وقد امتلأت ثيابه عرقاً أو مطراً.. أو ماء سكبه عليه المتسكعون في الطرقات.
    تتناوله أمي بالعناية.. يدخل إلى حيث أجلس بعد أن هدأت نفسه قليلاً.. يشرب معي الشاي.. أشكو إليه الظلم.. يبتسم.. الأولاد في المدرسة يضربونني كل يوم يا أبي، ومنهم من يسكب الماء على ملابسي في الفناء.. يبتسم.. ثم ينام على الأرض ويشخَص ببصره نحو سقف الغرفة البعيد.
    أخبرتني أمي أنه كان من جملة الجنود الذين أسرتهم إسرائيل في سيناء
    عام 1973.. ثم تنهّدت وحكت لي كيف راحت تستقبله مع جملة العائدين من الأسر.. وكيف أنه يومها لم يعرفها.. تبكي.. يبتسم.. أهل العائدين معه يبكون.. ليته لم يعد.. أنا رفيقة عمرك.. وأم ولدك.. يبتسم.. تبكي.. ثم أخبرها أحد العائدين معه.. أنهم ضربوه على رأسه حتى سال الدم منها مختلطا بشعره الأسود الناعم.. ثم عادت أمي به على أمل أن تنصلح الحال. في يوليو من كل عام.. تذهب أمي به إلى أحد مستشفيات القاهرة حتى يتأكدوا من أنه لا يزال مريضاً؛ وإلا يسد في وجوهنا آخر ثقب يمر منه الرزق، وتضيع جنيهات قليلة ترمى في وجوهنا مطلع كل شهر ثمناً لعقل أبي الذي ضاع مع جملة ما ضاع.
    تدور أمي على سائقي القرية والقرى المجاورة لعلها تقنع أحدهم بالذهاب معنا إلى القاهرة هذه المرة.. الكل يعرفه، ويعرف أن الذهاب به مغامرة غير مضمونة.. كلهم يتذكرون كيف هرب من أحد السائقين في شوراع القاهرة العام قبل الفائت، وكيف أن القاهريات كن يضحكن عليه من النوافذ وأمي تجري خلفه بردائها الريفي الأسود.. ثم وافق أخيراً أحدهم على الذهاب معنا إلى القاهرة بعد أن ضاعفت له أمي الأجرة.. وفي الصباح ركبت أنا بجوار السائق بينما ركبت أمي في المقعد الخلفي، وقد بدا جوارها أكثر هدوءاً، كانت تمسك بيده لتُشعره بالأمان من ناحية، وحتى تُطمئن السائق الذي رمى بعيونه في حِجر المرآة المثبتة أمامه مترقباً حالة فزع بين لحظة وأخرى. لم يكن يلتفت إلينا، وضعت له أمي طعاماً في فمه فأعرض عنه.. ثم أعطته ماءً فشرب وفكره شارد..ثم بدا يسعل سعلات خفيفة.. وعيون السائق تملأ حِجر المرأة التي بدأت ترتعش كبقية أجزاء السيارة.

    لم تكن لدى السائق خبرة كافية بشوارع القاهرة.. فهو ممن باعوا أرضهم السمراء واشتروا سيارات ملونة.. وقد بدأت علامات الحيرة تزداد على وجه السائق كلما اقتربنا من القاهرة.. وما إن ابتلعتنا شوارعها المزدحمة.. سأل السائق أحدهم عن طريق المستشفى.. قال القاهري: لابد أن تعبر النيل من على جسر السلام ثم تجد المستشفى بعد السفارة الإسرائيلية بأمتار قليلة.

    وقبيل الجسر المزدحم النائم فوق النيل.. همس أبي في أذن أمي بهدوء: هل لهم سفارة في مصر؟ انتهزت أنا فرصة الوعي.. أخبرته أن الأولاد يضربونني، ويسكبون الماء على ملابسي في فناء المدرسة.. ابتسم.. ثم قفز بسرعة من باب السيارة رافضاً عبور الجسر متجها ناحية الأرض.. وأمي تجري خلفه بردائها الريفي الأسود.. والقاهريات يبكين على امراة وبقايا رجل.
Working...
X