Announcement

Collapse
No announcement yet.

في لوحات أمين شاتي توظيف الأساطير السومرية

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • في لوحات أمين شاتي توظيف الأساطير السومرية

    توظيف الأساطير السومرية في لوحات أمين شاتي






    مفردات الحضارة السومرية تعود في لوحات تتنفس عطر الحاضر
    عدنان حسين أحمد
    يوظّف الفنان أمين شاتي الأساطير السومرية في بعض أعماله الفنية، ولعل لوحة «آنكي» هي خير أنموذج لهذا التوظيف الخلاق، وللتلاقح الإبداعي المثمر. ولو تمعّنا في لوحة «آنكي» لوجدناها تتألف من ثلاثة «فيغرات» رئيسة وهي «آن» إله السماء، و «كي» آلهة الأرض، و «إنليل» إله العواصف والأعاصير، وهي الصورة القاسية التي تشكّلت عنه في أذهان السومريين آنذاك على الرغم من أنه كان إلهاً «للهواء» أو «للنسيم» قبل أن يتحول إلى آلة بطش إلهية قاسية.
    لقد أسسّ شاتي هذه اللوحة على خلفية ثقافية لابد من معرفتها للغوص في تفاصيل هذا العمل الفني الذي يدفع بمتلقيه إلى مراجعة بعض الأساطير السومرية كي يفهم المناخ العام لهذا العمل أو غيره من الأعمال الفنية المذيّلة بتوقيعه. لا شك في أن العيون السومرية الواسعة تشكّل ملمحاً لافتاً للانتباه في هذه اللوحة إلى الدرجة التي يوازي فيها حضور الآلهة الثلاثة الذين يهيمنون بحضورهم الطاغي على اللوحة، ويتمردون على الإطار الافتراضي لهذا العمل الفني. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن شاتي يحطِّم هذه الأطر ويعتبرها قيوداً صارمة تحبس العمل الفني وتحدد حركة شخوصه التي يجب أن تكون حرة طليقة من وجهة نظره. فالعيون السومرية الواسعة المدهوشة تحيط بالعمل الفني من جانبيه الأيمن والأيسر لتأخذ مدلولات عديدة في كونها طائفة من المتفرجين على الآلهة الثلاثة سواء أكانوا في معبد أم في مكان عام.
    توحي هذه اللوحة بأنها مرسومة بتقنية «عين الطائر» الذي يرصد الأشياء من علوٍ شاهق، إنها ذات الزاوية التي يتطلع منها المسافر الذي يرى الأرض بأشكال هندسية آسرة تتضاءل فيها التضاريس إلى الدرجة التي تبدو فيها البيوت وكأنها مكعبات هندسية متناهية الصغر، فيما تبدو الجبال وكأنها نتوءات منتظمة تزيّن وجه الأرض، أما الأنهار فتبدو وكأنها خيوط فضية لامعة تتماوج تحت خيوط الشمس المتوهجة.
    يسعى شاتي سواء في هذا العمل أم في غيره من الأعمال إلى تبسيط الفيغرات والأيقونات والعلامات المكوِّنة للسطح التصويري، غير أن هذا التبسيط لابد أن يكون مقروناً بصعوبة تقليده من قبل الآخرين، وربما تنطبق على أعمال شاتي الفنية مقولة «السهل الممتنع» التي لا يتمكن منها إلاّ الفنان المبدع. ثمة عودة في مجمل أعمال شاتي إلى النبع الأول، وإلى العالم البدئي الذي يتيح للطفولة أن تأخذ مداها الحر في رسم الأشكال التي تعتقد أنها مناسبة لهذا العمل الفني دون ذاك، وربما يتجسد ذلك في صور الحيوانات التي اجترحها من مخيلته المُستفَزة ونفذها بجرأة الأطفال الذين يغامرون في تخطيط ما تمليه عليهم مخيلاتهم السوريالية الشجاعة التي لا تخشى الفشل.
    تمتد هذه الجرأة عند أمين شاتي إلى الرؤوس المجازية التي ابتعدت عن معناها الحقيقي فأخذت شكل القِرن تارة، وشكل الزورق تارة أخرى، وهيئة الهلال تارة ثالثة، الأمر الذي يضعنا أمام تأويلات متعددة من بينها أن الرأس سواء أكان بشرياً أم إلهياً، إنما هو رمز للقوة، وحاضنة للتأمل والتفكير، كما أنه هلال من جهة ثانية لكي يمنحه صفة سماوية غامضة لا نفهم من تجلياتها إلاَ أشياء بسيطة لا تعيننا في النهاية على فك طلاسم هذا الرأس الغامض. إن هذه الأخاديد والتضاريس الخشنة التي تبدو على السطح التصويري هي محاولة للتقرّب من الفنان السومري الذي كان يرسم على جدران الكهوف والمغاور والرُقم الطينية وغيرها من الأسطح المتاحة، كما أنها محاولة ذاتية لشحن أعماله الفنية ببعض الدلالات والإشارات الطبيعية والتاريخية والمثيولوجية. يعتقد شاتي أن العمل الفني السومري هو الوسيلة الإعلامية والفنية التي كان الفنان يعرض بواسطتها تقاليده الاجتماعية، وشعائره الدينية، ومنظومة أفكاره الثقافية الرائجة آنذاك.
    قد يبدو بعض الفيغرات عفوياً لبساطته الشكلية، لكنه في واقع الحال مدروس دراسة متأنية مثل المرأة التي تحمل سلّة الفاكهة، والجو المشمس، والحيوان الأسطوري الذي يشبه الديناصور الصغير. أما الفيغر الكائن في جهة اليسار الذي يشبه رأس «غوديا» فقد حمّله الفنان بدلالات كثيرة منها التأمل، والتفكير، والقوة، والعطاء، كما منح بعض معالمه كاللحية مثلاً أكثر من دلالة إشارية فهي النهر، والخير الوفير، وتدفق الحياة. تحتفي لوحة شاتي غالباً بالتوازن الفيغري المؤسس للوحة وبين التناغم اللوني ويكفي أن نشير هنا إلى اللون الأحمر الذي منح العمل هذا التناغم اللوني الذي يقصده الفنان مئة بالمئة، فهو لم يأتِ اعتباطاً، وإنما جاء نتيجة لدراسة بصرية معمقة ومقصودة.
    لقد عرف الفنان السومري هذه الألوان الصريحة واستعملها في بعض الأعمال الكبيرة مثل الثور المجنح، وهي ذات الألوان الخزفية التي استعملت في العهد العباسي، لكن سر خلطتها مات بموت مجموعة العوائل التي كانت تمتلك سر المهنة. لابد من التنويه باستعمال شاتي للكتابة الصورية التي تنجم عنها أشكال غرائبية ربما تقودنا إلى مرحلته الأولى التي كرّسها لدراسة «الحلم» من جهة، واليقظة» من جهة أخرى، و»حلم اليقظة» من جهة ثالثة حينما كان طالباً يدرس على يد الفنان الهولندي ثيو فان بيرخن في جامعة سانت يوست في بريدا حيث أنجز العشرات من اللوحات الفنية ذات المسحة التجريدية والتجريبية في آنٍ معا.
Working...
X