Announcement

Collapse
No announcement yet.

صرخة ضد القضاء الفاسد ( رأس الآخرين ) لمارسيل إيميه

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • صرخة ضد القضاء الفاسد ( رأس الآخرين ) لمارسيل إيميه

    «رأس الآخرين» لمارسيل إيميه: صرخة ضد القضاء الفاسد





    مسرحية «رأس الآخرين» تدين حكم الإعدام الذي ندد به الفلاسفة والمثقفون ورجال القانون
    أبو بكر العيادي
    بعد احتجاب جوائز موليير التي كانت تتوّج سنويا الأعمال المسرحية وفنانيها، خلفتها منذ العام الماضي جوائز «بومارشيه» برعاية جريدة «لوفيغارو» التي اتخذت من إحدى مقولات هذا الكاتب شعارا لها «دون حرية اللوم، لا مجال لمديح وإطراء» . وقد احتفى رجال المسرح منذ أيام بحفلهم السنوي الجديد في مقر الجريدة بباريس، حيث أسندت جائزة أحسن ممثلة لفرنسواز جيلار عن دورها في «أنتيغون»، وجائزة أحسن ممثل لغريغوري غادبوا عن دوره في «أزهار لألجرنون»، وجائزة أحسن مؤلف لجويل بوميرا «توحيد الكوريتين» ( التي سبق لنا تقديمها هنا )، وجائزة أفضل عرض لمسرحية «رأس الآخرين» موضوع هذه الورقة.
    هذه المسرحية التي تتولى إخراجها ليلو بور في مسرح «التّمراد القديم»، هي من تأليف الفرنسي مارسيل إيميه (1902 – 1967) صاحب «حكايات القط الجاثم «الشهيرة، وقد كتب الرواية والقصة القصيرة، وكتب أيضا نصوصا مسرحية تعادل في جرأتها نصوص جان أنوي (1910 – 1987)، مثل «لوسيانْ والجزار» و «كليمنبار». ولكنها لم تجد العناية التي حظيت بها أعماله السردية، بل إن «رأس الآخرين» لم يقع إعدادها للمسرح إلا مرة واحدة منذ العام 1952، وكادت تُمنع، نظرا لتصديها لمسائل حارقة لم يكن المجتمع الفرنسي، الخارج من أتون حرب مدمرة، واحتلال مهين، مهيأ للخوض فيها، كالتواطؤ مع العدو النازي أثناء الاحتلال، وفساد القضاء، وخصوصا حكم الإعدام الذي ندد به المثقفون من فكتور هوغو إلى سارتر وكامو، ورجال القانون من شارل لوكا إلى روبير بادنتر ، ولم يقع إلغاؤه إلا في عهد الرئيس فرنسوا ميتران عام 1981.
    ورغم أن إيميه جعل مسرح الأحداث بلدا وهميا يدعى بولدافيا، فإنه لم يسلم من ردود أفعال عنيفة، خصوصا من قِبل القُضاة، الذين رفعوا ضده قضية بتهمة التطاول على السلك القضائي ، وطالبوا دون جدوى بمنع العرض، لأنه شنّع بهم في شخص مايار نائب الحق العام وزميله برتولييه، مما دفع الكاتب إلى تنقيح الفصل الثالث من المسرحية عام 1956 وحذف شخصية المافيوزي.
    يُرفع الستار عن صالون بيت بورجوازي، يظهر على جلاّسه أثر الترقب. زوجة القاضي مايار وبعض الأصحاب وهم يترقبون في شوق بالغ خبرا يطفئ غلتهم، وكذلك الأبناء الذين يغالبون النوم لمعرفة ما إذا وفّق والدهم في الظفر برأس ثالث سوف يتدحرج تحت المقصلة. وما إن يدخل مايار، ونور الظفر على محياه، حتى تعم الفرحة وتعلو صيحات النصر : «وهذا رأس آخر!». ويمضي الرجل في التباهي بقدرته الفائقة على تفنيد إنكار المتهم ودحض حجج المحامين لإقناع المحكمة بإصدار العقوبة القصوى على الماثل أمامها، وسط إعجاب أهله وأصحابه. ويضيف في اعتداد كيف استطاع هذه المرة أن ينتزع من المحكمة حكما بالإعدام ضد رجل لم تثبت إدانته، بفضل فصاحته وإلمامه بأدق تفاصيل النصوص القانونية. فيثني عليه زميله وصديقه برتولييه بقوله : «أن تتوصل إلى إدانة بريء… هذا لعمري شيء رائع !» ذلك أن برتولييه مقتنع هو أيضا ببراءة المتهم فالوران، عازف الجاز ، إذ كان برفقته في غرفة أحد الفنادق عند وقوع الجريمة، ولكنه يسكت عن الحق بسبب علاقته المشبوهة بفالوران، وخضوعه – مثل زميله مايار – لابتزاز أليسّاندروفيتشي، وهو رجل أعمال مافيوزي واسع النفوذ لا يمسك بخناق رجال القضاء وحدهم، وإنما يتحكم أيضا في مصائر رجال الدولة يوجههم حسبما تقضي به مصالحه، بواسطة المال الفاسد والغواني اللاتي يعملن تحت إمرته، وكذلك بحيازته أسرارا خطيرة عنهم. كل ذلك يفضحه فالوران الذي استطاع الفرار ، ثم اقتحام بيت مايار لمواجهته بدليل براءته، وتهديده بفضح علاقته بروبيرت، عشيقته، إن لم يتراجع عن حكمه.
    تناول إيميه تلك المسائل الحساسة بأسلوب يقرب من مسرح البولفار، حيث الوتيرة متسارعة، والأحداث متقلبة، والمواقف في بعض أوجهها مضحكة، والسخرية جلية ساطعة أو كامنة طيّ الكلام. وقد وفّقت المخرجة في وضع الأحداث داخل إطارها التاريخي، مع الحرص على راهنية الخطاب في ما يشهده القضاء الفرنسي اليوم من فضائح، كالرشوة ومحاباة ذوي الشهرة والجاه والانبطاح للسلطة التنفيذية، مثلما وفقت في اختيار بنية بوليسية تحيل على أفلام هوليوود في تلك الخمسينات.
    لقد اختار مارسيل إيميه الكوميديا اللاذعة لإدانة القضاة الفاسدين، واستهانتهم بأبسط القيم الإنسانية، وتلاعبهم بأرواح البشر، إما لغاياتٍ شخصيةٍ أو ذاتِ منفعةٍ، وإما بدعوى السهر على احترام الخطوط الكبرى التي اتفق المجتمع على وضعها لتحقيق أمن أفراده وحماية حرمتهم المادية والمعنوية، وعبّر بأسلوب ساخر عن موقفه من إعدام الناس، جناة أم أبرياء، لأنه يرى فيه مراسا يعود بالإنسان إلى عصوره البدائية ويشبع نزعته الحيوانية.
Working...
X