Announcement

Collapse
No announcement yet.

الدكتور خليل الشيخ أستاذاً للأدب العربي وأديب أردني

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الدكتور خليل الشيخ أستاذاً للأدب العربي وأديب أردني

    خليل الشيخ
    يعمل الدكتور خليل الشيخ أستاذاً للأدب العربي في جامعة اليرموك، وسبق أن عمل في عدة أقطار عربية. وقد قدم دراسات وأبحاث عدة في النقد الأدبي، نشر أغلبها في الصحف والمجلات العربية، كما شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والدولية.

    مؤلفاته:
    1. الانتحار في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1977.
    2. باريس في الأدب العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدعم من رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1998.


    "خارج المكان"

    سيرة التحرر من المنفى
    ليس من المبالغة أن يُقال إن "خارج المكان" قد انبثقت في وجدان إدوارد سعيد لحظة أن أدرك إصابته بسرطان الدم. فقد تجلت هذه السيرة المكتنزة بالشخصيات والأحداث والامكنة والتجارب والتحولات في محيلة إدوارد سعيد، وإن كان قد شرع بعد حوالي ثلاث سنوات من معرفته بالمرض في تدوينها. إن انبثاقة منذ بدايات وعيها حتى لحظة التدوين، تحت وطأة الإحساس باللحظة الحدية الحاسمة أمر عادي في تاريخ السير الذاتية. فهذه اللحظات سواء أكانت واضحة مثل لحظات المرض، أو خفية كالأزمات الشخصية أو المعرفية، تتآلف في لحظة الكتابة، لتغدو الأنا محور تجربة كتابية، أهم ما يميزها هذا الميثاق الذي تنطوي عليه السيرة، ويقود إلى لون من التعاقد بين المؤلف والقارئ، يتمثل في بوح الكاتب بتجاربه وذكرياته والحفر في ماضيه، والتنقيب في المناطق الحساسة التي يسعى المرء عادة، للأبتعاد عنها وعدم لفت الأنظار إليها. ويبدو أن هذا التعاقد غير المكتوب قد صنع من "خارج المكان" سيرة صريحة، كما يتجلى في تلقيها الذي أشار إليه إدوارد سعيد في مقدمته الترجمة العربية، عندما أوضح أن زميلاً عربياً قال له: "إن بعض ما ورد في سيرته لا يُسر به المرء إلا لطبيبه النفساني". ومن جهة أخرى فإن هذا التعاقد ينبغي أن يقود بوعي وقصد إلى بناء معالم الذات وتشكيل ملامحها، وتبيان تجاربها التي أسهمت في تشكيلها. ومن البين لقارئ "خارج المكان" أن هذه السيرة تتبع سيرة صاحبها منذ ميلاده حتى حصوله على درجة الدكتوراه عام 1962، وترسم في هذا المدى الزمني الذي يمتد لسبع وعشرين سنة طفولة إدوارد وشبابه، ملتحمة بشخصيتين مركزيتين هما الأب والأم، ومتصلة بتارخه التعليمي، وموضحة التي عاش فيها وعلاقته فيها ومقدار تأثيرها في تكوينه.
    يشير إدوارد سعيد إلى لحظة المرض تلك في "خارج المكان" غير مرة، وتجيء الإشارة في أحايين كثيرة مرتبطة بتاريخ العائلة الحزين مع المرض نفسه، لكن ما يعنينا في هذا المقام هو شعور إدوارد سعيد أن تلك اللحظة التي بدأت في مطلع أيلول عام 1991 تشكل حداً اصلاً بين زمنين، فإذا كان إدوارد سعيد الباحث والمفكر الذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ مطلع الخمسينات مشغولاً بقراءة الخطابات الفكرية والنقدية الغربية، مرتبطاً مع واقع تلك الخطابات ورؤى العصر ومستقبله بعلاقة قوية تدرك مرامي تلك الخطابات وما تهدف إليه، فإن تلك اللحظة استطاعت أن تجعل حركة السهم ترتد نحو الماضي الذاتي كاشفة بذلك عن رغبة عميقة في التحرر من المنفى، منقبة في ذلك التاريخ الشخصي عن لحظات أخرى تقع خارج شقاء اللحظة الحاضرة، لهذا يقول:
    "كان جوابي الثابت على مشقات مرضي المتزايدة هو الإكثار من الاستكارات ومحاولات إحياء نتف من حياة عشتها، أو استحضار بشر غابوا" ص268.
    يلفت النظر أنه وبعد مرور شهر على تشخيص المرض، وجد إدوارد سعيد نفسه متورطاً في كتابة رسالة إلى أمه التي كانت قد توفيت قبل سنة ونصف. يشير إدوارد سعيد بوضوح إلى أن كتابة الرسالة قد تمت على نحو لا إرادي، وأنه أوقفها وهو يعاني شيئاً من الحرج والارتباك.
    إن الكتابة إلى الأم التي درج عليها إدوارد، كما يقول، منذ عام 1951 في اللحظات الحرجة التي كان يمر بها، تؤشر على طبيعة اللحظة الحدية تلك، ففي تلك اللحظة يجيء الأرتباط بالماضي ورموزه وأحداثه عميقاً، وتعلو الرغبة في البوح، ومن خلال هذا البوح تسعى الذات إلى تحرير نفسها من سطوة اللحظة الحدية وقسوتها ووقوعها بين الموت والحياة. فضلاً عن أن معاناة الأم مع السرطان وقبلها معاناة الأب، والعمة نبيهة مع المرض نفسه تربط إدوارد الإنسان بجذوره العائلية، لهذا جاءت الكتابة للأم واستعادة دورها، في إطار محمل بالدلالات. وتبين الافعال التي قام بها إدورارد في السياق نفسه، وفي الحقبة الزمنية نفسها عن هذا التشاكل الذي كان يبغي العودة إلى النبع والفرار من تلك اللحظة القاسية.
    لقد قام إدوارد سعيد بمجموعة من الأفعال تشير إلى ما أفرزته تلك اللحظة من تحولات في حياته:
    -التفكير بالأنتقال إلى بوسطن -المدينة التي عاش فيها سعيداً يوم كان طالباً. وقد أدرك سعيد أن هذه الغربة في الأنتقال تجسد في واقع الأمر البحث عن مكان ليدفن فيه بعيداً عن نيويورك التي يصفها في "تأملات حول المننفى" بأنها القلقة والمضطربة المتنوعة بغير انقطاع والمفعمة بالطاقة والمتقلبة والمقاومة والقادرة على الاستغراق والامتصاص." ص9.
    -زيارة فلسطين للمرة الأولى بعد خمس وأربعين سنة مع زوجته وولديه. وقد حرص سعيد على زيارة المنازل المرتبطة بتكوينه الذاتي، فزار منزل عائلته بالقدس الغربية، ومنزل والدته هيلدا الشماس في صفد.
    -زيارة القاهرة عام 1993، بعد ثلث قرن من مغادرتها، هذه المدينة التي يراها إدوارد سعيد قائمة على التوافق والتكيف، والتي ظلت متماسكة على الرغم مما نزل بها من منغصات. وللقاهرة دور مهم ةفي تشكيل شخصية إدوارد سعيد النقدية المدهشة في الربط بين تحولات المجتمع المصري وتحولات جسد تحية كاريوكا في سيره من الرشاقة إلى الترهل.
    لقد تم ذلك كله قبل أن يشرع إدوارد سعيد في الخضوع للعلاج الكيميائي في آذار عام 1994، وهي أفعال تجميع بين التعلق بالحياة والشعور باقتراب الأجل، لهذا رأى سعيد أن هذه المرحلة الحدية في حياته هي أشبه بخروج آدم وحواء من الجنة إلى غير رجعة. ولعل هذا الشعور بالخروج من الفردوس هو الذي تجسده "خارج المكان" عندما تخضع بنيتها العامة للتأويل. لهذا لم يكن غريباً أن يشرع إدوارد سعيد بالكتابة في أيار عام 1994.
    لقد كانت الكتابة كما أشار إدوارد سعيد نفسه لوناً من ألوان الصراع مع تلك اللحظة الحدية. وكانت تلك اللحظة تستدعي لحظة أخرى أو لحظات أخرى. وفي أثناء ذلك الاستدعاء بدأت ملامح ذات ثانية مطمورة تحت سياقات اجتماعية كثيرة بالبروز، وبدأ وعي إدوارد سعيد النقدي المتميز في استعادة ملامح تلك الذات، ووقائعها ومشاهد حياتها. مثلما بدأ بوعي واضح التنقيب في علاقته مع الأب والأم والمدرسة والأصدقاء والأمكنة والمرأة والجسد، وفي أثناء تلك التجارب كانت تبرز ثنائيات كثيرة لعل من أهمها ثنائية المنفى والهوية، فضلاً عن رصد إدوارد سعيد لنموه المعرفي والفكري والإنساني، الذي بدأ يتداخل مع الوعي السياسي والنقدي، ليصنع إدوارد سعيد خطاباً نقدياً منذ نهاية السبعينات يفكك الخطاب الاسشراقي وخطابات ما بعد الأستعمار الأخرى، التي غذت نزعاته الهيمنة على الآخرين واختزلتهم في أنماط بعينها، لتجعل الحديث عنهم بشراً أو أمكنة أو ثقافات مسألة نمطية سهلة، ولتستطيع تحويلهم إلى "موضوعات" قابلة للتهميش أو السيطرة أو الإقصاء. لهذا كان "خارج المكان" تجسيداً لرحلة الذات ومعاناتها، مرتبطاً بفكرة الرحيل الدائم التي صنعت حياة إدوارد الشخصية، فقد كان إدوارد يعيش ضمن أسرة كثيرة التنقل بين القاهرة والقدس ولبنان والولايات المتحدة، وضمن حياة مدرسية قلقة هي الأخرى، تقوم على الصراع أكثر مما تقوم على التوافق والاندماج، وهي مسألة ستغدو بعد عام 1948 فلسطينية بامتياز. لكن انبثاقة هذه السيرة من تلك اللحظة الحدية الفاصلة، وارتباطها بفكرة الرحيل، وتعدد البيوت ابتداءً من منزل الأسرة في الطالبية في القدس، مروراً بشقة الزمالك في الطابق الخامس بشارع عثمان عزيز، وبحياة لبنان في الصيف وما كان فيها من تجارب، مروراً كذلك بمدرسة الجزيرة الإعدادية، في القاهرة، ومدرسة القديس جورج في القدس، ومدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين، وفكتوريا كوليج- القاهرة حتى ذهابه عام 1951 إلى "المنفى الأمريكي" ص 168، على حد تعبيره، لا يعني أن "خارج المكان" مسكون بمشاعر الخيبة أو الإحساس بالفشل. صحيح أنها سيرة غير متصالحة مع الواقع، تضج بالعديد من ألوان المعاناة، لكنها معاناة تأتي في إطار صقل الذات وتجهيزها لمهمتها الثقافية التي تصدت لها على نحو متميز: لذا لم يكن مفاجئاً أن يقتطف إدوارد سعيد أبيات كوليردج المفعمة بالرضا عن المنجز وتحقيق الذات:
    ولا تحت هذه العريشة،
    عريشة الزيزفون الصغيرة
    حققت الكثير مما يبلسم جراحي
    لكن انبثاقة تلك الذات الأخرى تجيء في "خارج المكان" ضمن بنية متنامية تتألف من أحد عشر فصلاً، وهي فصول تخلو من العناوين أو المحطات البارزة. لهذا كان من الطبيعي أن تخضع عملية السرد لارتدادات، وتقاطعات، وأن تجيء مسألة التذكر ملتحمة ببنية الوعي الذي يميز كتابات إدوارد سعيد، فتتجلى الذاكرة بوصفها مرآة للوعي وتطوره، مشخصة في تلك الأثناء صورة الصراعات التي كان على ذلك الوعي أن يعشها سواء مع سلطة الأب أو المدرسة أو الأصدقاء أو المناهج، وقدرة ذلك الوعي على الخروج من آفاق الثنائيات المة التي كان عليه أن يعانيها. وفي الوقت نفسه يقوم الوعي وهو يستعيد الحدث ويعيد بناءه بتفكيك بنيته نفسها، ويجعل هذا الوعي قابلاً للتأويل والقراءة. وإذا كانت مسألة الذات والرحيل تشكل الجوهر المتعالي للكتاب، فإن هذا الجوهر يمكن أن يشير في تأويلاته الأكثر عمقاً إلى حضور إدوارد سعيد الباحث والأستاذ الجامعي والمفكر على نحو يجمع بين الوعي بالمسؤولية، والشعور بالحرية في نقد الخطابات المعرفية وتعريتها؛ هذا النقد الذي أربك أوهام المركزيات.
    وهي مسألة ستأخذ أبعاداً واضحة في ثنائية اللغة والمكان.
    يفتتح إدوارد سعيد السيرة على النحو التالي:
    "تخترع جميع العائلات آباءها وأبنائها وتمنح كل واحد منهم قصته وشخصيته ومصيره بل إنها تمنحه لغته الخاصة. وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع (....) هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على "إدوارد" وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنكليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق سعيد أسم عائلة العربي القح".
    واضح أن هذه البداية تشير إلى المنظور الإشكالي الذي كان يتحتم على إدوارد سعيد أن يرى العالم من خلاله. صحيح أن هذا الإشكال يبدو لغوياً، لكنه شديد الاتصال بالهوية، واسلطة (سلطة الأب المطلقة الحريصة على استبدال اسمها باسم أمريكي) وسلطة الإستعمار، فقد سمي أدوارد تيمناً باسم أمير ويلز البريطاني يومها، الذي كانت دولته تستعمر فلسطين ومصر، مكان الميلاد والإقامة لإدوارد وعائلته. وقد ظل هذا البعد يثير في نفس إدوارد العديد من الأسئلة، والإجابات، راسماً الطرق التي تحاول الخروج من ذلك المأزق الذي كان يتجلى في السؤال عن هوية ذلك الفتى الذي يجمع النقيضين "هل أنت أمريكي؟" لكن سعيد أسم عربي "لا يبدو شكلك أمريكياً. أنت عربي في نهاية المطاف. ولكن من أي نوع؟ هل أنت بروتستانتي؟" غير أن هذا المنظور الإشكالي كان بعيداً في تلك الحقبة عن المسائل السياسية، وكان وعي إدوارد الطفل والفتى به ينتمي إلى عالم المشاعر الغامضة، أكثر مما ينتمي إلى عالم الوعي القادم من جذور الإيديولوجيا. لم يكن إدوارد الفتى يحس في تلك الآونة بالإنتاماء إلى جماعة حقيقية أو متخيلة. فقد كان ينتمي إلى أسرة إشكالية هي الأخرى في علاقتها بالمسألة نفسها. كان والده يكره القدس لأنها مدينة تذكره بالموت، وهو -أعنى الأب- مقبل على الحياة، معجب بالأسلوب الأمريكي في العيش، راغب في التجارة، أما الأم فهي امرأة تلقت تعليماً راقياً، وكانت ميالة إلى الحديث بالإنجليزي، أكثر من الحديث بالعربية، وهي من المحصلة النهائية تسعى بجدية للانسجام مع عالم الزوج، وتسويغ شخصيته. ويكون على أدوارد أن ينتظر حتى عام 1948 ليدرك أنه ينتمي انتماء إنسانياً غامضاً إلى جماعة لها وطنها المفقود، وأبطالها القوميون. لكن ذلك الانتماء الذي أثارته فيه عمته نبيهة، تلك الشخصية الإنسانية الفذة في رغبتها في المساعدة وتفانيها في خدمة الناس، فضلاً عما أثارته فيه شخصية الدكتور وديع حداد وابنه فايز، وهما شخصيتان سيعود إدوارد للتنقيب عنهما في حقبة متأخرة، وتبيان المصير التراجيدي للثاني الذي عاش حياته قديساً على المستوى الفكري والإنساني. يقول إدوارد سعيد:
    "بفضل عمتي نبيهة اختبرت فلسطين أول الأمر تاريخياً وقضية من خلال الغضب والاستنكار اللذين أثارهما في عذاب اللاجئين "هؤلاء الآخرون" الذين أدخلتهم هي إلى حياتي" 159.
    لقد بدأ وعي إدوارد الفتى بهذه المسألة بالتفتح من خلال بعض التفصيلات اليومية كالخلاف بين أبيه وأبناء عمته على بعض المسائل المالية للشركة في فرع القدس، ومن خلال وثيقة سفر أمه الفلسطينية ومعاناتها في السفر، وحضور بعض جوانب هذا الصراع في مدرسته في أمريكا من خلال مقولة (ستة ضد واحد) وهي عبارة تشير إلى معاناة إسرائيل في مواجهة ستة من جيوش الدول العربية. لهذا فإن منظور إدوارد الواعي بهذه المسألة قد بدأ فعلاً بهزيمة حزيران عام 1967، ليخرج إدوارد من إطار تلك التشابكات والرؤى البسيطة إلى إطار فكري عميق. لكن ما يتبقى من هذه الإشكالية في السيرة يتجلى في فقدان إدوارد سعيد للشعور بالأمان في المنفى والبحث عن المكان الاليف. فقد صرح إدوارد بأنه كان يصطحب في أية رحلة يقوم بها، حتى لو كانت إلى المركز المدينة، حقيبة محشوة بأغراض تفوق ما يحتاج إليه. وإذا كان إدوارد سعيد يعلل باكتئاب السفر الحضاري، فإن إنعدام الشعور بالأمان في المنفى هو الذي يفسر مثل هذا الشعور.
    *من كتاب "السيرة والمتخيل: قراءة في نماذج عربية معاصرة".
Working...
X