Announcement

Collapse
No announcement yet.

المبدع / فرحان بلبل / الكاتب والمخرج السوري - مدير فرقة المسرح العمالي بحمص -الكاتب : محمد بري العواني

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • المبدع / فرحان بلبل / الكاتب والمخرج السوري - مدير فرقة المسرح العمالي بحمص -الكاتب : محمد بري العواني


    فرحان بلبل.. الكاتب والمخرج - محمد بري العواني

    أولاً: الكاتب الرؤية المسرحية الأولى‏

    تمهيد :‏

    ليس هذا البحث سوى إشارة سريعة، ربما تصلح كمدخل لدراسة تجربة الكاتب المسرحي الأستاذ فرحان بلبل وتطورها. وقد ترك - حتى الآن - بين أيدينا أربع عشرة مسرحية، عشر منها طوال، وأربع ذوات فصل واحد. وهذا لا شك - إلى جانب اهتماماته بالنقد المسرحي والشعري يمنح القارئ والدارس طريقاً واضحة المعالم، لكنها صعبة نتيجة لتعدد أنواع الكتابة الإبداعية غير أنها ستضيء وتتمم بعضها بعضاً.‏

    وهذا البحث سيعتمد على مسرحية (البيت والوهم) ذات الفصل الواحد، المنشورة في مجموعة “العيون ذات الاتساع الضيق” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 1980. والمسرحية نفسها من نتاج عام 1969. وأهمية هذا التاريخ تكمن في أن المؤلف قدم في العام نفسه مسرحية (الجدران القرمزية) كتابة وعرضاً. أي أنها التعبير النظري والتط بيقي لآراء المؤلف عموماً على مستويي الكتابة والعرض. لذا وجبت الإشارة إليها والوقوف عندها.‏

    ما يلفت النظر أن فرحان بلبل قد طرح آراءه بوساطة أشخاص المسرحية المتحاورين، وقد وزع نفسه عليهم. بعضهم يتبنى الآراء التقليدية في طبيعة المسرح ووظيفته، وبعضهم الآخر يتبنى الآراء الجديدة التي يؤمن بها فرحان نفسه.‏

    تقوم حكاية المسرحية - البيت والوهم - على أسرة مؤلفة من أبٍ وثلاثة أبناء هم (سمير) و(أحمد) و(أسماء). وتعاني الأسرة من أزمة حلت بها. فالأم مريضة في المشفى. وتحتاج إلى عملية لإنقاذها من الموت. ولكن أين المال؟ هذا هو الخط الدرامي الأول. أما الخط الثاني الموازي والمتقاطع مع الأول - في آن واحد - فهو أن أحمد يملك بيتاً كان اشتراه من تعبه وعرقه ليتزوج فيه من سلمى. وها هو الآن في أزمة أيضاً، لأن سلمى رفضت الزواج منه، فوقع في ألم وحيرة. وإذ يتعرف الجميع على مأساة الأم يقر ر بعضهم (الأب - سمير - أسماء) أن يبيع أحمد البيتَ لإنقاذ الأم. وبذلك يضعونه أمام خيار صعب: (اسمع يا أحمد. من أجل سلمى، أمامك أحد حلّين: إما أن تقدم إليها بيتك وجثة والدتك، أو تتقدم إليها برجولتك وحياة أمك. فأيهما تختار سلمى؟.. ص 25). هكذا يقول سمير، محدداً القضية بالصراع بين الحب والواجب.‏

    هذا الخيار الأخلاقي الصعب يضع أحمد في دوامة قاتلة. وهنا يتحول الخط الموازي الثاني إلى خط درامي متقاطع مع الأول بفعل موقف أحمد. فهو يرفض بيع البيت، لأنه حلم المستقبل الممزوج بالجهد والتعب. لكن هذا الخيار يطلق لسانه ليكشف لنا - دفاعاًً عن موقفه الرافض - ماضي أبيه الذي كان مسرفاً، ولم يحسب حساب الزمن الآتي، وماضي أخيه سمير، المعلم اللامبالي، والمستهتر. وكأن موقف أحمد هذا إدانة لموقفي أبيه وأخيه اللذين ينسجمان بصورة ما مع المثل الشائع (اصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب).‏

    إ ذن ينهار الحلم، ويصبح البيت وهماً. بيد أن كل القيم الخيرة تصبح مشكوكاً فيها. فالمال يغوي الإنسان، ويمنعه من مساعدة الآخرين. بل إنه - كقوة - يجعله فوقهم فيدوسهم ويسحقهم. ومع أن المسرحية لم تقدم حلاً للحكاية بعد أن تعقدت أزمتها، بالرغم من إشاراتها إلى كل المقدمات الأخلاقية، فإن هدف المؤلف من حذف النهاية هو دفع المتفرج إلى وضع حلٍ أخلاقي يتناسب مع تلك المقدمات، وكأنه بذلك يعلمه كيف يجب أن يكون سلوك الإنسان في حياته، خيِّراً لنفسه وللآخرين. ومع أن النهاية التي يرغمنا عليها المؤلف هي - أخلاقياً - بيع البيت لإنقاذ الأم، إلا أن أموراً كثيرة تجعلنا ننظر إلى موقف أحمد نظرة فيها الكثير من العطف والتأييد، لذا فإنني أقدم هذه الملاحظات.‏

    أولاً : إن البيت هو حصيلة تعب سنوات طويلة وكدح مستمر، وهذا يعني أن أحمد عامل مجد وكادح. (انظر ص 20).‏

    وثانياً : إن حلم أحمد ببيت الزوج ية حلم مشروع، ولا يمكن أن يكون وهماً بالرغم من رفض سلمى له، وبالرغم من إصراره على الزواج منها.‏

    ثالثاً : إن مفهوم الرجولة الذي يطرحه سمير قائلاً (رجولتك أن تقدم إليها نفسك مصقولة بالتضحية... ص 24) هو مفهوم المفلس، المستهتر، والذي أصبح مثالياً بناء على الموقف العائلي. ولو كان سمير يملك بيتاً - ولا بد هنا من الانتباه إلى قضية الملكية الخاصة - لاختلف الأمر كثيراً.‏

    رابعاً : إن قيمة الإنسان ورجولته تتحددان بالعمل. وبما أن المسرحية لم تقدم أحمد مختلساً ولا مهرباً ولا... الخ.. فإن دفاعه عن ملكيته الخاصة في هذه الحال حق مشروع له أمام مجموعة بشرية أقل ما يقال فيها: إنها سيئة أخلاقياً واقتصادياً في تنظيم أمور حياتها اليومية، وعدم تفكيرها بالمستقبل، كون مستقبل الأسرة - كما يبدو من السياق الدرامي والاجتماعي - منوطاً بأفراده لا بالدولة، وبالعمل الجاد لا بالاستهتار.‏

    إن مسألة الملكية الخاصة في هذه المسرحية تثير قضية الأثرة والإيثار على نحو واضح في مجتمع طبقي. فهي تنمي نزعة حب التملك والاستئثار به من دون الآخرين. وتدفع إلى التعالي، وتكوين قيم أخلاقية جديدة تتناسب مع حجم الملكية ونوعها، فتطبع السلوك الإنساني بطابعها، وتعكسه خارجاً في العلاقات الاجتماعية.‏

    والمسرحية هنا تقدم البيت على أنه مال مكدس يغري بكل أنواع الشرور. بيد أنه - المال - لا يمكنه فعل ذلك حين يكون الإنسان على درجة من الوعي توجهه نحو الخير. وأما أن يكون الخير في مجتمع متفاوت القوى - كما في المسرحية على مستوى الأشخاص - فإن الخير يصبح أضعف من أن يقف على رجليه حين تكون العلاقات الاجتماعية متنوعة ومتصارعة، وحين يستطيع كل واحد أن يدعي لنفسه فعل الخير، إلا ما كان مرتبطاً بمفهومات دينية هي بطبيعتها تكريس للتفاوت الطبقي.‏

    غير أن المقصود حقيقة في المسرحية هو وَهْمُ أحمد. وكأني بالمؤلف يريد أن يطابق بين وهمين. الأول هو (وَهْمُ) الممثل التقليدي الأناني الذي يسلب المتفرج كل قواه العقلية والعاطفية، والثاني (وَهْمُ) المتملك الذي يدفع عن الآخرين كل خير لصالحه هو. وإذا كان البيت قد انقلب الآن إلى سكين تطعن الأسرة في حال عدم بيعه، فإن هدف المؤلف ذا الحدين يشير إلى تشتت الأسرة ودورها. وهذا هو الشر، وإلى لمّ شملها في حال البيع وهو الخير. هذا الهدف - كما يتضح من السياق العام والخاص - قد أسقط من حسابه ما تفعله الملكية الخاصة في صاحبها. أما أن يكون الجميع على درجة واحدة من القوة الاجتماعية، وذلك بإلغاء تلك الملكية فأمر لا نلمح له أثراً. ولكن بديله، أعني الحل الأخلاقي هو السائد.‏

    إن هذه النظرة الأخلاقية - المثالية - لإمكانية تحويل الملكية الخاصة - ضمن علاقات مشكوك فيها - إلى الخير نجدها لدى فرحان بلبل في أغلب أعماله، مع ترجحات بين تحو يلها إلى الخير، وإلغاء المال من بين يدي الإنسان الفرد ليستوي الجميع. ومع ذلك يبقى لدى مفهوم فرحان بلبل أن المال سبب لكل الشرور كما في سائر مسرحياته: (الجدران القرمزية - العيون ذات الاتساع الضيق - الحفلة دارت في الحارة - الممثلون يتراشقون الحجارة - قطعة العملة - الميراث).‏

    استناداً إلى ما تقدم حول مضمون مسرحية (البيت والوهم) وبنيتها الدرامية الموصوفة سابقاً، نتمكن الآن من الدخول إلى صيغة البيان المسرحي. ونحن نركز على الهدف التعليمي الذي يصبو إليه المؤلف، باعتباره هدفاً يُنتج عبرة ويشكل أمثولة !!.‏

    أول سؤال يطالعنا بحدّة وجدية يجيء على لسان أسماء وهي تخاطب الممثلين (ماذا تفعلون هنا؟ ص 14). وإذن فهو سؤالُ: ماذا يفعل الممثلون على خشبة المسرح؟ هل يمثلون على الجمهور؟ (ص 14)، أم يمثلون للجمهور؟‏

    في السؤال الأول المرفوض من قبل المؤلف حتماً، تختلط الحقيقة بالوهم فيضيع المتفرج ويغرِّرُ به (ص51). وأما السؤال الثاني... (هل يمثلون للجمهور؟) فيلغي كل ما تقدم، وتتوضح حقيقة المسرح ووظيفته لدى فرحان بلبل. فالمسرح (ليس وهماً - يخبر بحقيقة ما يفعل الممثل - لا يَخْدَع - يؤدي الممثلون ما كتبه المؤلف - يترك فسحة للمتفرج للتفكير والتقرير والتقويم، ويدعوهم إلى كل ذلك وغيره - الجمهور طرف هام في العرض المسرحي، وهو على درجة من المعرفة والثقافة والوعي، وأنه ليس غبياً - المسرح يقدم الفائدة والمتعة معاً... ص 15-16). ولسوف يؤكد فرحان بلبل لاحقاً صدقِيَّته وإيمانه بكل ذلك في نصوصه وإخراجاته التالية.‏

    تلك هي حقيقة الآراء المطروحة على صعيد النظرية، والتي تستدعي - بالضرورة - تقنية فنية في الكتابة تنسجم معها، وتبرزها، على حقيقتها فكان أن اعتمد المؤلف على الوسائل والتقنيات التالية:‏

    أولاً: قطع الحدث المسرحي - إيقاف التمثيل - من قبل أسماء، (من ص 14 وحتى ص 16)، والذي يتم على مستويين. الأول صعودُها إلى خشبة المسرح من الصالة لقطع الاندماج التمثيلي للممثليْن الآخريْن، والثاني حديثُها النظري الفكري الفلسفي عن فن التمثيل الذي قطع تسلسل حوار الشخصيتين في الحكاية الأصلية التقليدية، الأمر الذي يدلل على اتفاق ضمني مسبَّق، هو لعبة التمثيل نفسها.‏

    ثانياً: إقامة حوار مع المتفرج (ص 15)، كشفت فيه أسماء حقيقة اللعبة، وقدمت للمتفرج نفسها، وأخبرت عن علاقتها بالعمل - العرض - وعن مكان تواجدها السابق كشخصية مسرحية، وعن دور المتفرج في المشاركة بالعرض المسرحي، وصياغة الأحكام في النهاية. فتكون أسماء بذلك راوية وممثلة في آن واحد.‏

    ثالثاً: كشْفُ بعض جوانب العمل المسرحي. فمن حيث التمثيل فإن الأشخاص الذين نراهم الآن أمامنا هم ممثلون، يقومون بتمثيل - تشخيص - أدوار مقرَّرَةٍ لهم من قبْلُ، لا أكثر. وأن ما يجري للشخصية من أزمات لا علاقة للممثلين بها. ومن حيث التأليف فإن على الكاتب المسرحي أن يحترم المتفرج، وأن يقدم له فائدة ومنفعة إضافة إلى المتعة، وإلا كان المسرح وَهْمَاً. وهذه قضية فكرية هامة سوف يشتغل عليها فرحان بلبل كثيراً وباجتهاد محمود.‏

    رابعاً: استخدام الشعر الحديث بكثرة.. (ص 15-25-26).‏

    خامساً: ترك النهاية مفتوحة أمام المتفرج عن طريق استخدام الشعر كمحقق لأثر صداميٍّ بسبب الإيقاع الشعري اللاهث، والمكثف لغوياً:‏

    (سادتي‏

    لا تسمحوا للكاتب المسكين يوماً‏

    أن يسوق الحل، أنتم‏

    أحسن الكتّاب دوماً)... (ص 26)‏

    ملاحظات على التقنيات:‏

    يستطيع القارئ، أو المتفرج - أن يحكم ببساطة على قسرية القطع الفني الذي قامت به أسماء حين أوقفت مسار الحدث المسرحي وقطعت استمرارية وتدفق الحوار بين الممثليْن الآخرين. وأكثر ما يتضح ذلك يبدو من خلال مناقشتها الواضحة والحارة حول وظيفة المسرح ودوره التعليمي.‏

    وإذا كنا نسلّم بأن من حق أي مؤلف، أو مخرج، أن يقطع مسار الحدث بغية طرح قضية ما، أو كشف قضية أخرى، فلا بد من الانتباه إلى أن التمثيل قد أخذ منحى آخر. وما نلحظه في هذه المسرحية.. (البيت والوهم).. أن التمثيل نفسه، بما هو تمثيل اندماجي، ما زال مستمراً ومتدفقاً. إنه دخل في الوهم أكثر بكثير مما هو مطلوب، حتى لقد بدا مبالغاً فيه. فأسماء تهاجم الممثليْن وتفضح طريقتهما الفنية الإيهامية. وفي الوقت نفسه تعلن عن الموقف الصحيح - من وجهة نظرها - للفن بوساطة حوار مع الممثليْن الآخرين. وهذا يعني أنهم جميعاً، كممثلين أولاً، قد دخلوا في صراع درامي مع بعضهم بعضاً، نتيجة دفاع كل منهم عن آرائه. فأسماء تسعى إلى كسب تأييد المتفرج لها ولآرائها، وتسفّه في الوقت نفسه الآراء المضادة. وإذن فإنها قد مارست ”فعلاً مسرحياً” قوامه الصراع. فاختلط التمثيل الإيهامي في الأول المرفوض، باعتباره وهماً (!!)، بتمثيل إيهامي جديد من قبل أسماء على الأقل، وهي الراوية هنا - والممثلة لاتجاه جديد في التمثيل، لا يخدع ولا يوهم ولا يكذب - بحجة الدفاع عن الآراء الحديثة الثورية. وسبب هذا - في رأينا - هو الحماس الزائد من قبل المؤلف، بالرغم من كل الحوار مع المتف رج، واختصار زمن تمثيل الحكاية الأصلية التقليدية بما هي ذريعة للمؤلف ليقول ما يقول من أفكار مسرحية واتجاه درامي، وإعلان أسماء نفسها عن مكان تواجدها قبل الظهور على خشبة المسرح - كما قدمنا - أو بالأحرى أمام المتفرجين.‏

    وأما بالنسبة للشعر، فإن أقل ما يقال فيه: إنه شعر يشفُّ عن وجدان نبيل، وحزن عميق، كونه - أي الشعر - يرهص بمأساة الأسرة التي نتعاطف معها مسبَّقاً، استناداً إلى مورثنا الاجتماعي، الأخلاقي، الديني. وبذلك ندخل - نحن المتفرجين - في تناقض آخر هو أن الشعر يحرك العاطفة، ويثير الوجدان، ويدعو - رغماً عنا - إلى الاندماج في الحدث العائلي، باعتبار أن المسرحية - دراما عائلية - إذا لم يكن ذاك الشعر نابعاً من موقف فكري هادف. وسبب ذلك هو استخدام المؤلف لألفاظ رقيقة ذات معان مؤسية من جهة، ولأن أسماء‏

    لا يمكن لها إلا أن تتعاطف مع مضمون الشعر لأنه إنساني النـزعة، رق يقها. ولأن أسماء كشخصية مسرحية كانت مع بيع البيت لإنقاذ الأم والحفاظ على شمل الأسرة (!!)، وبذلك يكون هذا الشعر غنائياً وأثره العاطفي فعّال ومثير للتعاطف !!.‏

    لنقرأ معاً هذا الشعر، مسبوقاً بهذه الجملة النثرية التمهيدية التي يقررها النص، ذات الدلالة الكبيرة في السياق، والتي يقررها القارئ أو المتفرج بناء على سياق النص والحدث المسرحي وطبيعة الشعر المستخدم.‏

    “وهذه العائلة المسكينة”‏

    (أفرادُها يتمزقونْ‏

    وَهُمُ - كطيف الأغنيات يهزُّهم - يتخاصمون‏

    وعلى بساط الأرض يجري حظُّهم، مستهتراً حيناً، وحيناً‏

    لاهثَ الخطوات أعرج‏

    كالليل في كانون يعنُف راعداً، بالخوفِ، يلهجْ‏

    من طينة الدنيا ينوح بكاؤهم وصراعُهم‏

    فإذا بهم، عبرَ الليالي، يضحكون... (ص 15).‏

    كما يبدو في هذا النص، يجهد فرحان بلبل ليقدم مأساة الأسرة عبر حكاية شعرية وعبر وصف حزين، ممزوج بالتصوير الحسي القائم على الت شبيه بكامل أدواته عموماً، ودعوةٍ غير مباشرة إلى التعاطف والاندماج في مأساتها. فإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الشعر لم يفعل فعله التغريبي الكاشف لحقيقة موقف اجتماعي يفسر ويؤوِّل مشكلةَ الفقر والغنى - مثلاً - كظاهرتين في المجتمع. بل إن هذا الشعر لا يفعل أكثر من إثارة الندب والرثاء واستدرار العطف، والتمنيات لهذه الأسرة بأموال وفيرة في المستقبل (!!) بسب غنائيته الباهظة.‏

    وإذا كان (بريخت) قد استخدم الشعر في أعماله فلأن هدفه كان ربط الوعي الفردي بالوعي الاجتماعي في سياق التطور. وأما الشعر الذي بين أيدينا، فإنه لم يُستخدم ذاك الاستخدامَ لكونه - على الأقل - غنائياً من الطراز الأول، وموهماً عاطفياً، أو مستدراً للعطف.‏

    إن كل الآراء التي طرحها فرحان بلبل لا غبار عليها نظراً لأنها معمول بها ومتفَقٌ عليها. وقد أرسى (بريخت) دعائم مسرح عظيم حين قدم هذه الآراء عبر تجارب مسرحية كثيرة. ولكن، وبما أن أكثر المسرحيين السوريين - على الأقل - لم يشاهدوا عرضاً مسرحياً لبريخت، فإنهم يؤولون - وربما ينفذون - آراءه كما يفهمونها هم أنفسهم نظرياً من جهة، وبمعزل - أو بانقطاع - عن المنهج الفكري والفلسفي الذي نبعت منه هذه الآراء. فيُسقِطون عليها من فكرهم ما يشاؤون، وبذلك يحصل التناقض الخطير، وتقوم المشكلة الصعبة بين الفهم والتجريب. وإذا كان فرحان بلبل مؤمناً بتلك المبادئ النظرية - وهو حقاً كذلك - فإن تطبيقه العملي يكشف عن أهم مخالفة لبريخت وأخطرها، وهي مسألة الاندماج وتعاطف المتفرجين، وهذا ما سوف يعززه فرحان بلبل بفاعلية شديدة وعلى الدوام في كل عروضه، مما يثبت أنه واع بما يفعله في مخالفته لبريخت، كاجتهاد شخصي محترم.‏

    إن فرحان بلبل في مسرحية (البيت والوهم) يمزج الاندماج بالتمثيل اللااندماجي. فهو من جهة مثلاً يقطع الحدث المسرحي ليحدثنا حديث الراوي. ولكنه من جهة ثانية يبني القطع على حدث مسرحي - وعلى دراما تقليدية - حين يحاورنا كمتفرجين، فيكون الممثل قد خرج من اندماج إ يهامي ليدخل في اندماج إيهامي آخر وكلاهما واحد فنياً مع اختلاف طبيعة الموقف وحواره. وبذلك لا يخلق هذا الصنيع مسافة بين الخشبة والصالة. وعلى ذلك فإن ما نتوهمه تغريباً لا يعدو أن يكون تمثيلاً من خارج الشخصية في بعض لحظاتها - أعني تمثيلاً خارجياً، وهذا مشكوك فيه، بحيث ينـزع هذا التمثيل إلى تجسيد الشخصية بكامل حركاتها وسلوكياتها دون أن يعاني الممثلُ الشخصيةَ نفسها. وإذا كان الأمر كذلك - وهذا غير صحيح بالنسبة لنا أيضاً - فإن التغريب الذي يطمح إليه فرحان بلبل لا يمتلك مصداقيته الفنية والفكرية، وتنهض في المقابل أسلوبية الصنعة الخارجية، التي ستصبح لازمة رئيسية من لوازم إخراج فرحان بلبل المستقبلية.‏

    إن هذه الإشارة إلى تقنية الاندماج، وعدمه - أي إلى التوليف بين الضدين - نراها واضحة المعالم في مجمل أعمال فرحان بلبل على صعيد تقنية النص والعرض المسرحيين. ولسوف نبين ذلك من خلال متابعتنا لآرائه النظرية وإبداعه العملي، خاصة إخراجه المسرحي في القسم الثاني من البحث.‏

    وإذن فإن مسألة التطبيق - أي العمل - هي التي في حاجة إلى اهتمام وعناية الدارسين، لأنها تكشف عن أسباب التناقض القائم في العرض المسرحي البلبلي، جراءَ تناقض الرؤية الفكرية الفنية الفلسفية - إن وجدت - وتقاطعها المتناقض مع التقنيات البريخيتة. وأظن أنه لا أحد يستطيع إنكار أن المنهج العلمي الذي يؤمن به بريخت لـه وسائله وأدواته، كون المنهج والأدوات متلازمين أيما تلازم.‏

    وبما أن فرحان بلبل رجل مسرح، فإن الدعوة إلى عدم الفصل بين النص والعرض - على الأقل، ورغم زوال صورة العرض - كونهما تلازما على مدى أكثر من ثلاثين سنة، هي بالضبط ما أراد هذا البحث أن يشير إليه ويدعو. ولكن لا بد أيضاً من التذكير بأن هذا البحث يتناول الرؤية المسرحية الأولى والتي سوف تتطور كثيراً بسبب تملُّكِ خبرة مضاعفة، ليعرج في مرة قادمة على المرحلة التالية، نصاً وتفكيراً وعرضاً وتنظيراً، وتضع ذلك كله في سياق التطور الموضوعي الذي آل إليه تطور فرحان بلبل المسرحي الكاتب والمنظر والمخرج، بعد اتخاذه رؤيته المسرحية الأكثر اكتمالاً في السنوات الأخيرة، سواء من حيث إبداع النص المسرحي، أم حيث العرض المسرحي، أم تنظيره، ومن ثم قيادته لفرقة المسرح العمالي بحمص، وانتهاء بكونه أستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.‏

    الرؤية المسرحية الثانية :‏

    ما بين الرؤية الأولى في مسرحية (البيت والوهم) والرؤية الثانية، عدةُ مسرحيات يتوجها نص (الممثلون يتراشقون الحجارة) الذي يكشف فيه فرحان بلبل عن مجمل أوراقه الفنية باقتدار ليحقق - ربما - هدفين اثنين: أحدهما إبداع نص مسرحي ذي تقنيات فنية وحيوية معاصرة، والثاني هو التنظير - على خجل - ربما - لرؤية فنية - فكرية مسرحية تصبح نهجاً ليس له وحده، بل وللآخرين تساهم في البحث عن مسرح - أو في تأسيس مسرح - عربي. وبذلك يتفاعل الهدفان (إنجاز النص والتنظير) مع بعضهما بصورة تد عو إلى الإعجاب ونحن نقرأ نص ”الممثلون يتراشقون الحجارة”.‏

    إن تأملاً قصيراً في عنوان النص يضعك مباشرة أمام - بل في - دهشة اللعبة. فتدخلها مزوداً بأسئلة ملحة عن الموضوع والمضمون والشكل، وعن مقاربتها لنصوص عربية أو عالمية. لكنك ترى مباشرة أن موضوع فرحان بلبل - وهذا همّ تنظيمي لديه - هو قصة معاناة فرقة مسرحية من الهواة في زمن الاستهلاك والتجارة وتردي القيم والذوق. وأما المضمون فبحث لائب في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي تحكم حياتنا عبر تقاطع الحاضر بالماضي - وهذا ما سوف نراه في النص المدروس - وربما عبر الإسقاط التاريخي. وأما الشكل فنهج معاصر أفاد فيه مما أنجزته الدراما الحديثة من أشكال وتقنيات. لكنه أنجز شكله الفني الذي يميزه عن غيره من المسرحين السوريين على الأقل.‏

    في (الممثلون يتراشقون الحجارة) سعيٌ حثيث ودقيق لفرحان بلبل من أجل ترسيخ ثلاثة م ستويات تقنية تُجادل بعضَها عبر وحدة النص الفنية، ويمكن توضيحها على النحو التالي:‏

    الأول: هو مستوى حكاية ومشكلات الفرقة المسرحية الهاوية التي يتضمنها نص مسرحية الممثلون يتراشقون الحجارة.‏

    الثاني: هو مستوى حكاية عبد المطلب التاريخية، سواء ما تعلق منها بموقف قريش والتجار عموماً منه، أو ما تعلق بالكعبة - وزمزم - وهجوم الأحباش عليها. وهو مستوى هام كما سنرى لأن نص”الممثلون... الخ”سينتهي به.‏

    الثالث: هو مستوى يتألف من المستويين السابقين: حكاية الفرقة الهاوية، وحكاية عبد المطلب، وفق تقنيات التغريب. وهو مستوى كلي يقدم لجمهور حقيقي هو نحن.‏

    إن المستويات المذكورة أعلاه تشكل - لا شك - تقنية بالغة التعقيد تختلف اختلافاً بينا عن مسرحية (البيت والوهم). فنحن في (الممثلون... الخ) بعيدون عن الخطاب المباشر للجمهور الذي كانت تضطلع به (أسماء) بطلة الرؤية الأولى. لكننا هنا نجد أنفسنا أمام خطاب من نوع آخر كالإعلان عن تأخر المخرج المسرحي نصف ساعة وإحضار ثياب المسرحية التاريخية والإعلان عنها ومن ثم تدفق الممثلين إلى التدريب على التوالي.‏

    هنا، يلغي فرحان بلبل الرواية المباشرة ويستبدلها بأسلوب آخر يقوم على حكاية الممثلين لمشكلاتهم بأنفسهم وقدومهم إلى المسرح مثلهم مثل المتفرجين تماماً.‏

    الآن ينجز فرحان بلبل نصاً اختار شكله وموضوعه ومضامينه هو بنفسه، واختارت الفرقة الهاوية نصها المسرحي التاريخي - عرضها - بنفسها. وإذا كان الهدف الأخلاقي قد وحَّد الممثلين فإن فرحان بلبل يتوحد معهم، وبهم أ يضاً ليس لأنه خالقهم بل لأنه فعلاً لا يزال يؤكد على الهدف الأخلاقي للمسرح خاصة , وللفن عموماً. وهذا ما سوف نلحظه واضحاً في كتابة ”المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة” وفي نصوصه المسرحية الأخرى.‏

    ولئن كان فرحان بلبل يحكي قصة السياسة والاقتصاد والأخلاق من خلال الفرقة الشابة الهاوية فلأن هؤلاء الممثلين - كفنانين - يمتلكون حساسية وحيوية تمكنان من إظهار عمق المأساة التي يعيشونها ويعيشها المجتمع لحظة بلحظة وقد انعدمت القيم الأخلاقية وتفشى الفساد هنا. وفي جعل الشخصيات ممثلين يحقق فرحان نوعية مميزة من الشخصيات المسرحية لأنه يجعلهم، بسبب حساسيتهم وحيويتهم وفكرهم، أقربَ إلى الأبطال المأساويين المعاصرين أي أنهم يعيشون المأساة حقيقة، ويمثلونها لنا فيما بعد.‏

    وإذا كان النص التاريخي (قصة عبد المطلب مع قريش ومع أبرهة) يتحدث عن شأن مضى فإن فرحان بلبل لا يأبه للحادثة الت اريخية كما جرت لأنه ليس مؤرخاً، بل يبدل فيها بما يراه هو... وبما يخدم هدفه الفكري - الفني -. فعبد المطلب لم يركن إلى بيته يلوذ به، بل اندفع وقاتل أبرهة الحبشي ورده عن الكعبة فانتصر الزعيم والقائد بفعله المادي - الحرب - ولم ينتصر بفعل يأتي من خارج الإرادة الإنسانية والحس العالي بالمسؤولية القيادية.‏

    هكذا يقاطع فرحان بلبل بين الماضي والحاضر بقوة وبفنية عالية. أو ليست قريش هي العرب المعاصرون؟ أو ليست حرب العرب ضد الأحباش الغزاة تشبه، أو تماثل أو تماهي حرب العرب مع إسرائيل؟ تلكم هي اللقطة البارعة سياسياً وفنياً إذ جعلت الماضي حاضراً والخاص عاماً.‏

    ها هنا، وفي العمق، يحفر فرحان بلبل في مستويي الحاضر والماضي. تارة يماشيهما متوازيين وتارة متقاطعين حتى يصل بنا إلى الحدث المفجع الذي يدمر الفرقة المسرحية. إنه المال وربما - هذا مؤكد - الحاجة والفاقة. لكن موضوعة المال هنا تختلف عما في (البيت والوهم) التي تحتضن دماراً لجانب واحد هو الفرد وإن كان أمّاً. أما في (الممثلون...) فنرى الدمار الأخلاقي الأعتى. إنه دمار الواحد للكل.. للمجتمع. دمارٌ يقوم على الاستثمار والاستغلال. وبذلك يطور فرحان بلبل مقولته عن المال بأسلوب أكثر مأساوية وحيوية وكاشفاً في الوقت نفسه عن عمق نزعة التدمير لدى المنتج المسرحي ”عصمت”، ومبرزاً الأسبابَ الاقتصادية والأخلاقية والموقف الملتزم والواعي الذي يدافع عنه فرحان نفسه حتى النهاية ممثلاً بشخصية (سعيد) الذي - بصموده - يماثل عبد المطلب بمواقفه المبدئية الصارمة. ولعل نقطة المفارقة الجميلة أن فرحان بلبل لم يجعل سعيداً يلعب دور عبد المطلب بل جعل النقيضين يتبادلان الأمكنة، ليس خوفاً من الاتهام بالمطابقة بين الأخيار والأشرار، بل لأنه - وهذا واضح - يريد التأكيد ما أمكنه على مهزلة الحياة التي تجعل السيء يقوم بدور البطل. وبذلك تظهر المفارقة العجيبة عبر هذا الأسلوب الدرامي المفارق الذي يجيده فرحان بلبل، على الرغم من أن هذا الأسلوب بعضُ حيل الميلودراما عموماً. وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى كيفيات المماثلة بين (هاني) و(أبي رغال) الخائن، وبين (عصمت) المنتج المسرحي ال ذي غزا الفرقة بأمواله ونزعته الاستهلاكية اللاأخلاقية، وبين (أبرهة) الحبشي المدجج بالأفيال. وإذا كان الاثنان يختلفان من حيث طبيعة السلاح فإن وجه الشبه بينهما هو الطغيان والغزو وهدفهما واحد هو السيطرة على الآخر واستعباده - تدميره - ليصبح شيئاً.. مجردَ شيء يدور في فلك استعمالاته (استثماراته).‏

    إن تلك المماثلات لم تكن أبداً مقصودة لذاتها، ولكنها سيقت للتدليل على مدى التطور الخلاق الذي قطعه - أنجزه - فرحان بلبل منذ (البيت والوهم). وهو يطبق حتى الآن تكنيك قطع الحدث المسرحي في أثناء التدريب على النص التاريخي. وها هو يلجأ ثانية إلى الشعر في افتتاح الفصل الثاني عبر روايتين متوازيتين ومتوازنتين. وإذا كان فرحان بلبل قد شفَّ في شعر (البيت والوهم) وأنجز نصاً مباشراً في مضمونه، فإنه هنا يلجأ إلى الرمز لجملة أسباب. فهو يريد اختصار الزمن الواقعي بآخر مسرحي. ويريد أن يخبرنا بحقيقة ما جرى وما يجري الآن، فيخلط الماضي بالحاضر عبر سرد روائي متبدل من ضمير الجمع (نحن) إلى ضمير الغائب المؤنث (هي) إلى ضمير المخاطب المؤنث (أنتِ) متنقلاً ببساطة بين الماضي والحاضر والمستقبل لأن هذه الأزمنة قد اختلطت من جهة، ولأن الضمائر أدت مهمتها بنجاح، فحصلنا على مشهد روائي حكى عن تقدم جيش أبرهة الحبشي بأسلوب تخييلي نحن (كمتفرجين) معنيّون به أولاً، وهو تخييل إيهامي بنيتُه الدرامية هي اللغة الشعرية ثانياً، الأمرُ الذي جعل من اللغة فعلاً مسرحياً كاملاً بما يفسح المجال رحبا للمتفرج كي يمارس فعل التخييل فيرى الماضي بعين الحاضر ويربط بين الزمنيين. وإذن فنحن - والحال كذلك - ننتقل فنياً من الرواية التاريخية للروايتين إلى المشهد التاريخي - الفني الذي تخلقه اللحظة في أنفسنا.‏

    هكذا يساوق فرحان بلبل حكايتين منفصلتين في الظاهر ملتحمتين في الباطن. غير أن أهم ما يهتم به - وهذا أصيل لديه - هو لعبة المسرح داخل المسرح منطلقاً من رؤية فنية تقوم على كسر الوهم بالوهم نفسه. (لنتذكر دائماً أن فرحان بلبل لا يفارق هذا المبدأ أبداًً، بل هو رؤيته الحقيقة) فالفرقة المسرحية تمثل علينا (كمتفرجين حقيقيين) - توهُمِنا - أنها تمثل (أو كقراء فقط) لأن فرحان بلبل لا يرى المسرح بعيداً عن المتفرج الذي هو ركن المسرح الهام. وبذلك يحقق - فرحان - إيهامه الأول المنظم. وأما ثاني إيهام فهو أن الفرقة تمثل - توهِمُ - أنها تمثل مسرحية تاريخية... (حكاية عبد المطلب... الفرقة المسرحية.. ممثلون ومخرج ومؤلف وآذن... الخ..) يمثلون أطرافاً شبه مستقلة داخل النص وأعضاء محايدين بالنسبة للقارئ أو المتفرج فيقطعون الاسترسال الدرامي، والحدثَ لتحقيق تأثير التغريب الملحمي بأسلوب إيهامي وهذا هو الإيهام الثالث.‏

    هكذا تستمر اللعبة الإيهامية دوّارة، الأمرُ الذي يحقق متعة لذيذة. ولكنه يشي بحقيقة هامة هي أن فرحان بلبل لا يملك سوى أسلوب واحد في كتابة - إبداع - النص المسرحي، وفي الشكل التقليدي بالرغم من كل التقنيات المستخدمة.‏

    إن حل تلك المسألة بسيط للغاية، فأنت حينما تنفي التغريب بتغريب إيهامي اندماجي فإنما تثبِّت - بما لا ي دع مجالاً للشك - الإيهامَ كتقنية رئيسة، وتصبح بذلك كاتباً تقليدياً. ومع أنني أذهب هذا المذهب فإنني أنفي نفياً قاطعاً التقليل من أهمية نص (الممثلون...) أولاً، وأهميةِ فرحان بلبل كمؤلف يمتاز بهذه القدرة على التوليف الصعب لهذه التقنيات الصعبة ثانياً.‏

    ولكن.. إذا كان فرحان بلبل لا يملك في الحقيقة سوى هذا الأسلوب الإيهامي فما شأنه بكل تلك اللعبة المعقدة؟ بالنظرة الفاحصة يتضح لنا أن فرحان بلبل لا يريد سوى نص إيهامي باعتبار أن الإيهام روح المسرح. وإذا كان قد استعان بوسائل وأدوات غير إيهامية فلأن طبيعة اللعبة المسرحية الجميلة التي لجأ إليها في هذا النص بالذات (الممثلون...) وهي أن يمثل الممثل دوراً في مسرحية داخل مسرحية، استدعت تقنياتها. هذه المسرحية تحتم عليه وعلى غيره استخدام جملة التقنيات تلك، خاصة وأن انتقال الممثل من الحاضر إلى الماضي (من المعاصرة إلى التاريخ) وبالعكس يشكل أحد أساليب التغريب الملحمي (لنتذكر أن عقدي الستينات والسبعينات شهدا كثرة تأثر المسرحيين العرب والسوريين خاصة بمنهج بريخت وأسلوبه الملحمي).‏

    ولعل مسألة الإيهام المسرحي لا تشغل بال فرحان بلبل مباشرة (لكونه يخفيها بالتقنيات الملحمية). لكنها تقع في الصميم من تفكيره المسرحي. ففي مسرحية (البيت والوهم) يعلن على لسان بطلته أسماء (لا تدعوا المؤلف يسوق الحل) لكن فرحاناً هنا (في الممثلون..) يغلق مسرحيته إغلاقاً نهائياً وغير متوقع، ولا يسمح للمتفرج بالمشاركة في الحل كما صرح في بيانه الأول، ولهذا جملة أسباب.‏

    يشكل الزمن الدرامي عنصراً رئيساً في بناء نص مسرحي مهما كان نوعه. وأي استهتار به يؤدي ولا بد إلى تناقضات شتى مما يجعل مبررات النص واهية، أو معدومة بسبب التناقض نفسه. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن كل جزء من النص مهما ضؤل يحكمه الزمن سواء أكان مادياً أم نفسياً. وها نحن نرى لدى فرحان بلبل ما يثير العجب والدهشة، فنص (الممثلون...) يبدأ من الزمن الحاضر، زمن حضور الممثلين إلى مسرحهم للتد ريب، ثم يتناوب زمنان في النص هما الحاضر الحقيقي والماضي التاريخي في قصة عبد المطلب... الخ. وإذا بنا في النهاية - وتلك هي الصاعقة - نعيش في الماضي، في التاريخ فقط لأن النص ينتهي هنا ولا يعود إلى الزمن المعاصر.. الحاضر.‏

    وعلى الرغم من أن فرحان بلبل قد أجاد لعبته تلك إلا أنه نقض ما كان أسَّس له طويلاً من تقنيات التغريب لصالح المتفرج الذي هو شريك في الحل. وهو يعرف تمام المعرفة أن ما فعله في أمر النهاية لا يوقِعُ المتفرجَ في أية مشكلة، خاصة وأن الحكاية التاريخية قد لعبت الدور الرئيس في إبعاد المتفرج عن الحاضر بسبب معرفته لها من جهة، وبسبب الرؤية (التفسير) الجديدة لها. فكان ذلك لصالح الماضي لكونه يتضمن درساً تعليمياً ينفع للحاضر. وفي الحقيقة فإن هذا الدرس اخترعه فرحان نفسه، لأنه يريد أن ينتصر للفرقة المسرحية، وربما للحاضر المعاصر. لكنه يربط هذا الانتصار بالكشف عن القوى الخلاقة والعظيمة للبطولة الممثِّلة للخير والحق والعدل بالاستناد إلى الواقع المادي. وكأن عبد المطلب هو رجل هذا الزمان، أو هو رجلنا المعاصر (قائدنا) فيندغم الحاضر بالماضي، أو المعاصر بالتاريخي فيصبحان كلا واحداً هو الواقع كما ينبغي أن يكون. ولهذا نرى إلحاحاً على طرح علاقة المؤلف بالمخرج بالممثل، بل وبإنتاج العرض المسرحي لكون ذلك يعني لدى فرحان إنجاز نهج فني - فكري موحد (وللفرقة أيضاً) لا يرى الحاضر منقطعاً عن الماضي ولا عن المستقبل. وهنا بالتحديد تبزغ إلى النور مسألة الديمقراطية التي تحلِّق فوق النص من بعيد، لكنها تؤكد حضورها كلما دارت الحوارات حول حل المشكلات الخاصة والعامة، ويدلي كل واحد برأيه، الأمرُ الذي يؤكده علاقة رجال قريش بعبد المطلب أيضاً. وبذلك يصبح الخاص عاماً. من الفرقة إلى المجتمع.‏

    إن مسألة الديمقراطية تلك تشير بقوة إلى أن فرقة مسرحية لا يوحِّدها فكر واع ومنظم لا تستطيع اختبار حاضرها ولا ماضيها. فإذا مارست حقوقاً فإنها تعين ليس على إبداع عرض مسرحي فقط بل وعلى تفسير الحياة. وبذلك يظهر الشكل الديمقراطي الإبداعي، وهو شكل عملياتي ربما أراد فرحان أن يخرجه من إطاره الخاص في فرقة مسرحية (يسقطه) إ لى المجتمع بالنظر إلى أن جميع الناس أفراد منتجون، أي مبدعون وخلاقون.‏

    ينمو إيمان فرحان بلبل بدور الفن المسرحي باتجاه الإعلان المباشر عن ذلك. فهو في (البيت والوهم) يحذر المتفرجين وينبههم إلى أن ما يجري هو تمثيل (إنه يعلم هنا) مما يدل على رغبته في أن يكون أميناً للمتفرج وليس مزيِّفاً أو مزوِّراً. وهو هنا في (الممثلون...) يعلن صراحة أن الكتاب الملتزمين هم كتاب حقيقيون، وغيرهم تجاريون يربحون على حساب المسرح والفكر والفن - ولعل هذا الأمر يشي بأهمية موضوعات ومضامين مسرح فرحان بلبل باعتباره كاتباً حقيقياً لأنه ملتزم (وربما كان الكاتب سياسياً). وإذن فنحن أمام مسرح جاد ضد مسرح استهلاكي تجاري.‏

    هكذا يؤسس فرحان بلبل لخلق تقاليد فنية من جهة، وتنظيمية من جهة ثانية مما يسمح بالقول: إن في هذا الاتجاه موقفاً تعليمياً مضمراً هو أثر من آثار الرؤية الأولى (لنتذكر أنه كان مدرس اً، أي معلماً..).‏

    إن الاعتقاد الأخير هو أن فرحان بلبل قد حشد الكثير من التقنيات الحديثة لإنجاز نص مسرحي معاصر، مطوِّراً إنجازه الأول وما تلاه. وإذا كنا قد أتينا على بعض ما ورد وهو الأهم، فإن كثيراً من التقنيات، مثل (الفلاش باك) والتزامن الدرامي وغيرهما، تسحق الدرس. وأما تجاوزها الآن فلأن دراسة النصوص الواقعة ما بين المرحلة الأولى والثانية سوف تأتي على ذلك بالتحليل والتفسير. لكن الجوهري في هذه الدراسة هو أن هذه الكثرة من تقنيات التغريب لم تكن سوى شكل خارجي وظَّفه فرحان بلبل بذكاء لخلق تنويعات فنية على تقنية أساسية، هي تقنية النص التقليدي الإيهامي، وبذلك وصلت الدراسة إلى مقولتها في أن فرحان بلبل لا يملك سوى أسلوب واحد هو الأسلوب الإيهامي بالتحديد، وهو أسلوب تقليدي، لكنه ميَّزه عن غيره من الكتاب الآخرين.‏

    ثانياً: المخرج الرؤى الإبداعيَّة والتفكير الإخراجي عند فرحان بلبل‏

    1- يشكل الحديث عن فرحان بلبل (مُخْرجاً) ورطةً عويصةً ومحرجة غير أنها جميلة، لأنها سوف تعيد إلى الذاكرة شريط إبداع كادت صورته البصرية أن تزولَ بفعل تقادم الزمن.‏

    والحديث إياه يبدو - حقيقة - أمراً محفوفاً بالمخاطر والمزالق لاعتباراتٍ كثيرة، ينهض في مقدمتها أن تلك العروض توارت في طيات الزمان، ولم يبق منها في الذاكرة الشخصية سوى القليل، بسبب الافتقاد إلى توثيق بصريّ من خلال أشرطة ”فيديو” وما شابه ذلك. ولعل هذا الأمر أحدُ أهمِّ مآسي المسرح وأعظمها في آنٍ واحد.‏

    وما دام المرءُ لا يستطيع أن يتذكر إلا ما كان بالغ الأهمية - وهذا قليل جداً - فإن البقايا لن تعطيَ إلا أحكاماً جائرة، ولن تقدم إلا رؤىً مخادعة، مما يشكل مصادرةً على و ثوقية ومصداقية كل قولٍ، أو رأي، أو حتى مجرد تفكير.‏

    لكنْ، ومع ذلك، يستطيع المتابع الجاد لمسرح فرحان بلبل، ولغيره أن يستدل من مجمل عروضه المسرحية على طبيعة ووظيفة تفكيره الإخراجي. وهذا المنحى يسمح للدارس أن يتأمل في نسقين: نسقِ التفكير والتنظير المسرحيين، ونسقِ الإبداع المسرحي نصاً وإخراجاً. ومن المؤكد أننا هنا لن نتطرق إلى النصوص المسرحية.‏

    وبعيداً عن نشاط الذاكرة واسترجاعاتها لعروض فرحان بلبل، فإن المرءَ لن يجد ضالته في الصحف والمجلات التي كتبتْ عن عروضه، ولا في الكتب المخصصة للنقد المسرحي وقد تناولت تلك العروضَ بفجاجة وتسرّع دون أن تقارب الإخراج المسرحي إلا بالاسم فقط، كون كلِ تلك النقودات كانت تركِّز شغلَها على النص المسرحي، لتمدحه أو تذمّه، أو تقارب بعض مقولاته السياسية أو الاجتماعية أو قضاياه الفنية وغير ذلك، وبحسب المزاج الصحفي النـزقِ بعامةِ، خاصة ما يتعلق بالكتابة عن المسرح.‏

    ومن المؤكد أنه في ظل غياب نقد متخصص بالمسرح، فإن حركة المسرح نفسها ستبقى هشّة لأنها تتحول إلى قضية يتم التفكير فيها كحالة إبداعية بصرية، وهذا ما أكده فيسفولد مايرخولد على الدوام معتبراًً أن المسرح خلق إبداعي في ذاته، وليس مجرد تجسيد لنص درامي (1). ويبدو أن فرحان بلبل قد وعى ذلك. لكنه وعاه بما ينسجم مع طبيعته هو، وطبيعة فرقته المسرحية - فرقة المسرح العمالي - حين كرّس جهدَه الإبداعي لها تحديداً. بل لقد وعى فرحان بلبل ذلك كله - وبدقة - حين كتب عن عروض المسرح القومي في دمشق منذ بداية السبعينات، حين ناقش نصوص العروض محدّداً أفكارها وأهدافها الهامة، وجدواها في الوضع الاجتماعي السياسي الراهن، لينطلق إلى العرض المسرحي من منظور الإخراج، ثم ليناقش عناصر الديكور والإضاءة والتمثيل. وهذا يعني وعياً طيّباً بتكاملية العملية المسرحية التي تبدعها الجماعة، وليس الفردُ الواحد. والجيد في الأمر النقدي لدى فرحان بلبل أنه يعرف ما يقول، ويقول ما يعرفه بوضوح. ومنذ ذاك الحين، أي م نذ عام 1969 - 1970، بدأ يتكون مشروع فرحان بلبل المسرحي، متخذاً سمت التطور النظري والعملي، النقدي والإبداعي، عبر مقالاتٍ ودراساتٍ وعروض مسرحيةٍ تمَّ تقديمها دون انقطاع على مدى أكثر من ثلاثين سنة. وهذا كله هو الذي يبرر للباحث حين مناقشة إخراج فرحان بلبل أن يعود إلى كل أفكاره النظرية وعروضه ليستخرج رؤىً إبداعية إخراجية وسمات مخصوصة بهذا الإخراج.‏

    2- تبدأ أفكار فرحان بلبل الواسمة لطبيعة ووظيفة فكره الإخراجي بالظهور عام”1969”وهو زمن تأريخ مسرحيته ”البيت والوهم”(2) ذات الفصل الواحد، حيث يجري حوار بين شخصيات المسرحية: أسماء وسمير وأحمد عن طريق قطع الإيهام والدخول في حوار فكري لا علاقة له بالحدث الدرامي على الإطلاق. وفي هذا الحوار يحتل الجمهور - الناس بعامة - بؤرة الحوار بين الشخصيات بما هو صراع فكري في الدرجة الأولى، ليعلن فرحان بلبل عن وعيه - إيمانه - بأن الدرامي خاضع للفكري أولاً بأول. وهذا بطبيعة الحال ينبع من موقف سياسي تتبناه ”أسماء” لسان حال المؤلف المسرحي، وبخاصة حين تعلن أن التمثيل الإيهاميَّ الذي يقدم الأحداث على أنها حقيقية هو كذب ودجل وتزييف لوعي الجمهور وللفن باعتبار دوره الاجتماعي. وبذلك يعلن فرحان بلبل عن موقفين فكريين فنيين:‏

    الأول: أن علاقة المسرح بالجمهور هي علاقة وعي وإدراك بالعملية المسرحية نفسها، وأن ما يجري على خشبة المسرح هو فن.‏

    الثاني: أن الحكايات المسرحية هي فن مقترح مستقل عن الواقع وإن كانت مرجعياته واقعية. والمطلوب ليس التماهي والاندماج في ذلك، بل مراجعة ما يجري نقدياً والحكم عليه. وهذا يجعل من الجمهور شريكاً فعّالاً في إبداع العرض المسرحي ونقد الحياة، وليس مجرد متفرج سلبي منفعل. ولعل هذا هو الذي يقود إلى ممارسة فعل التغيير.‏

    إن فرحان بلبل المفكر المسرحي والناقد يعلن مبكراً ”منذ عام 1969” أن من واجب المسرح دعوةَ الناس إلى التفكير (ص 16 - البيت والوهم). ومنذ هذا الزمن أيضاً يؤمن فرحان بلبل أن الجمهور ليس غبياً ”لا يفهم”(ص16.. نفسه). وهذا ما سوف يدافع عنه بإسهاب وحيوية - فيما بعد - في كتابهِ الجيد ”المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة” الصادر عن وزارة الثقافة عام 1984)، والذي يخصص فيه قسماً كبيراً، عديدَ الصفحات لدراسة علاقات المسرح بالجمهور، وخصوصية المسرح وعمومية الجمهور (3).‏

    وإذا كان مفهوم ”الجمهور” في مسرحية ”البيت والوهم” ما يزال مفهوماً عاماً يشمل الناس جميعاً، فإن هذا المفهوم سوف يتم تفصيله ببراعة في كتابه ”المسرح العربي...” التنظيري، والذي سوف يعطي تعريفاً واضحاً للجمهور ينبع من إيمانه العميق بدور المسرح الاجتماعي في التعليم والتغيير الاجتماعيين. ولهذا يعلن فرحان بلبل موقفه الثابت بكل وضوح إذ يقول:‏

    (وإذا كان لا بدّ للمسرحِ أن يمسَّ حياة الناسِ، فإنه لن يحقق دوره الاجتماعي إلا إذا تعرّضَ لواقع الحياة، لا بوضعه القائم فحسب، بل بصيرورته أيضاً. أي إنه يجب أن لا يكتفي بعرض ظواهر الحياة الاجتماعية، بل يعني أن يربطها بأسبابها، وأن يحللّها إلى عواملها المحركة لتطور المجتمع. وهذا يعني أن المسرح لا يكون فاعلاً في المجتمع إلا إذا عبَّر عن درجة تطوره. ولا يأخذ قيمته الحقيقية إلا إذا كان قادراً على شدّ الجمهور إليه بفنه السحري أولاً، وقادراً على دفعه إلى فهم الواقع للمشاركة في بناء المجتمع ثانياً. ولن يستطيع المسرح القيام بهذه المهمة إلا إذا أظهر الطبقات الاجتماعية المتصارعة، وناصر حركة التقدم بأن يقف مع الطبقات الاجتماعية الصاعدة، داعماً لمواقفها، مقنعاً الناس بها (4)).‏

    إن هذا المقطع الطويل مقصود لذاته، كونه يفصح بجلاء، ودون مواربة، عن طبيعة التفكير السياسي والمعرفي والاجتماعي لفرحان بلبل، والذي سوف يكرسه في جميع إخراجاته المسرحية بقوة وحيوية. بل إن هذا الموقف الصريح سوف يتكرر بألفاظ مختلفة في الكتاب نفسه، وفي الأعم الأ غلب من اللقاءات الصحفية وغيرها، ناهيك عن شهادة عروضه نفسها وتوقيعه عليها.‏

    وما دام كتاب ”المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة” قد عالج قضية الجمهور فإنه كان قد عالج أزمة المسرح القومي من خلال علاقته بجمهوره الغائب، كما يعالج قضايا تأصيل المسرح العربي، ليختمه في النهاية - وعن قصد ذكي - بما يشبه بياناً مسرحياً عملياً تطبيقياً، هو بالتحديد مشروع فرحان بلبل المسرحي من خلال فرقة المسرح العمالي في حمص، والذي لا يشكل الحديث - في هذا البيان - عن العمل الجماعي للفرقة، والبطل الطبقي، وإقصاء النجم، أي الممثل، وغيرِ ذلك أهميةً عظمى، كون ذلك كله يدخل في النظرة الإيديولوجية. لكنّ ما هو جدير بالتأمل هو ذاك التنظير الفني للرؤية الإخراجية التي تنطلق دائماً من النص الأدبي، وليس من خارجه. وهنا سوف نلحظ لدى فرحان بلبل نظرياً وعملياً أن الأصل للنص الأدبي، تماماً كما أن البطل الطبقي هو الأصل في البطولة الدرامية. وبذلك يمكن القول: يتطابق النص الطبقي مع البطل الطبقي. ومن اللافت للانتباه أن قضية النص المس رحي سوف تنتج بعد زمن طويل كتاباً هاماً لفرحان بلبل هو (المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً) (5) الصادر عام 1998 في القاهرة عن مهرجان المسرح التجريبي، حيث ما يزال فرحان بلبل ينظر إلى المسرح باعتباره نصاً أولاً. وخارج هذا الشرط يصبح المسرح مجرد تقانات من خارج المسرح، لأن عروض المسارح التجريبية لا تعدو أن تكون سيناريوهات فقيرة، ضعيفة، تشكل جسراً هزيلاً لإنتاج صورة مبهرة وحسب. وهذا - بحسب رؤية فرحان بلبل وهو محق في ذلك - سمح بطرد الجمهور من المسرح، فعاش المسرح المعاصر - التجريبي - عزلته وغربته.‏

    وكون النص المسرحي الأدبي - على الدوام - نتاجاً إبداعياً اجتماعياً، باعتباره يعالج قضايا الناس في زمان ومكان محددين، فإن ذلك يستدعي - بالضرورة - علاقةً ما بالجمهور.‏

    وإذا كان النص المسرحي يدخل في حالة سكونٍٍ وسُباتٍ بعد الفراغ من كتابته، فإن العرض المسرحي هو الذي يعيد إليه الحياة في كل مرةٍ في المكان والزمان، ويحوّله إلى تاريخ مستمرٍّ وفعّال. ووعي هذه القضية هو في الحقيقة مسؤولية المخرج الذي يدفعه تفكيره الفني ويحرضه على طرح أسئلةٍ معرفية تتعلق بطبيعة الجمهور وتفريد سماته المكونة له وتمييزه من جمهور آخر في زمان ومكان آخرين. ولهذا كان لا بدّ من طرح سؤال: مَنْ هو الجمهور؟ ليحدد هويتَه بما هي انتماء واصطفاف طبقي. وبذلك يتم تحديد ثقافته واستجابته وحساسيته تجاه العرض المسرحي. وهذا يعني أنّ كل عرض مسرحي لا بد أن يُزرَع في بيئته كي ينبت ثمراً طيباً.‏

    وعلى تحديد هوية الجمهور ينهض سؤال آخر ليس أقل شأناً من السؤال الأول هو: ماذا نقدم لهذا الجمهور؟. ومن المؤكد أن سؤال ”ماذا” يتضمن بالقوة سؤالاً عن النوع، نوعِ المادة الفكرية والسياسية والفنية والاقتصادية... الخ. وهذا يعني أنه لا بد من تقديم موضوعات ومضامين لا تتحدث خارج إطار التجربة الاجتماعية التاريخية كي يتمكن المتفرج من تذوّق ووعي هذا المسرح، ومن ثم مناقشته ونقده باعتباره انعكاساً للواقع الاجتماعي. ومن ه نا يبدأ التفكير في نقد الواقع نفسه والعمل على التغيير فيه !!.‏

    وإذا كان سؤال ”لماذا أقدِّم هذا العرضَ دون غيره" أقلَّ فعالية من سؤال ”ماذا”، فإن التفكير في تبرير تقديم عرض مسرحي مشروعٌ على الدوام، خاصة إذا تم السؤال على النحو التالي: لماذا هذا العرض الآن وليس ذاك لهذا الجمهور تحديداً، والموصوف بأنه مجموعة معينة من الناس محددة طبقياً؟ لكنّ السؤال في جوهره يبرر العرض المسرحي في علاقته بالزمان / الآن، وفي المكان / هنا. وهذا يعني أن يرتبط جدلياً بسؤال ماذا؟ فلا يكون زائداً عن الحاجة كما يتبادر إلى الذهن.‏

    غير أن ما يبدو أكثر أهمية من تلك الأسئلة لدى المبدعين وعلى أهميتها، هو سؤال (كيفَ؟) الذي شكَّل على الدوام تطويرات باهرة ومدهشة في تاريخ المسرح بخاصة، والفن بعامة، لأنه سؤال في جماليات ودلالات أدوات وعناصر وأساليب ومكونات إبداع العرض المسرحي وكل إبداع جمالي، لأ ن المتفرج / المتلقي/ سيرى ذلك ولا شيء سواه، لأن النص سوف يسمعه، بأذنيه. ومن المؤكد أن صورة بصرية جيدة تغني عن مئات من الكلمات. وعلى ضوء ما يفجره سؤال “كيف” من رؤى لدى المسرحيين، فقد اختلفت آراؤهم في كثير من قضايا الفن المسرحي وتباينت إلى درجة أنها شكلت، وبصورة إيجابية اتجاهاتٍ ومذاهبَ ومدارس أغنت العرض المسرحي إغناءً باهراً. غير أنهم في الأعم الأغلب قد اتفقوا على الصورة البصرية. ولهذا لم يتوانَ المخرجُ المسرحي جوردن كريج من أن يقدم تعريفاً للدرامي الجيد بأنه ذلك الذي يعرف أن العين هي أقوى الحواس وأكثرها قابلية للتأثير (6) . بل إن جروتوفسكي يدرب ممثله تدريباً خاصاً إذ يقول:‏

    (وتدريب الممثل في مسرحنا ليس مجرد تعليمه شيئاً. بل إننا نحاول أن نقضي على مقاومة جهازه لهذه العملية النفسية. والنتيجة هي تحريره من الفارق الزمني بين نوازعه الباطنية وردود أفعاله الخارجية بحيث تصبح هذه النوازع متطابقة مع ردود الأفعال الخارجية. وعندما تتزامنُ النوازع وردود الأفعال يتلاشى الجسدُ ولا يعود المتفرج يرى أمامه سوى نوازع مجسّدة يمكن رؤيتها رأيَ العين) (7).‏

    إن العين - وكما يبدو - تشكل العضو الرئيس والفعال في تلقي العرض المسرحي باعتباره سلسلة من الصور المترابطة والمنسجمة مع بعضها بهدف إنتاج موضوعٍ ما عن طريق الإيماءات والإشارات والدلالات.‏

    وما دامت تلك الأسئلة ”مَنْ هو - ماذا - لماذا - كيف”؟ على ذاك القدر من الأهمية والمكانة في الإبداع بعامة، والجمالي منه بخاصة، فإن غياب تلك الأسئلة، أو بعضها، عن قصدٍ أو جهل، يلغي العملية المسرحية بما هي إبداع مقصود من جهةِ مبدعه، وموجّهٌ إلى الآخر كجمهور، وذلك لتحقيق أهدافٍ ذات طبيعة اجتماعية. ولا يخفى الآن أن الفن كجمال لا يمكن وعيُه خارج وضعه الاجتماعي. ولهذا ترتبط الأسئلة الموصوفة ارتباطاً فعالاً بالعملية الإبداعية. وهنا - بالتحديد - يحتلُّ المخرج المسرحي موقعَه الفريد في العملية المسرحية كلها، بدءاً من تصورها الأول وحتى توالي عرضها على الجمهور.‏

    لا يتخلّفُ فرحان بلبل في رؤاه الفنية عن رؤى المخرجين الجادين في طرح الأسئلة الكثيرة والملّحة. ولهذا فإنه يرى أن سؤال ”لمن سيتوجه المسرح”؟ ينقل الخلاف إلى الفن والفكر و (طريقة الأداء المسرحي والديكور والإضاءة وغير ذلك. ص 109 - المسرح العربي المعاصر). وإذا كان الجمهور زئبقياًً رجراجاً، لا ضابط له ولا مقياس ولا يمكن تحديدُ علاقة معينة بينه وبين المسرح (نفسه ص 112)، فإن تعريف الجمهور يؤكد من جديد وعيَ فرحان بلبل بوظيفة العرض المسرحي بكل مكوّناته. فالجمهور هو (مجموعة من الناس تعاني من أوضاع اجتماعية معينة، ولها طموحات اجتماعية معينة.... ص 112 نفسه). ومن الواضح أن المجموعة هنا لا تعني كل المجتمع، بل تعني جزءاً منه. غير أن هذا الجزء موصوف بطبقيته وبوضع سياسي محدد، وتطمع هذه المجموعة إلى تحقيق هدف اجتماعي محدد تُغيِّر من خلاله مصيرَها الكائن إلى مصير أفضل. وإدراكُ هذا الأمر يحلّ مشكلات المسرح مع الجمهور، من حيث أنْ يكون العرض المسرحي متحرّكاً، لا ساكناً وثابتاً، م ع حركة المجتمع. وبذلك يغدو المسرح حركة إلى الأمام ونصيراً للتقدم. وهذا الوعي يثبت لدى فرحان بلبل أن طبيعة العرض المسرحي نفسه، وبما يحتوي من أفكار وأساليب فنية، هي التي تحدد نجاحَه - العرضُ - أو فشله عند الجمهور.. (نفسه ص112 ) ولكن بعد الإجابة عن الأسئلة المطروحة سابقاً، وقبل البدء بأيّ عمل إخراجي !!.‏

    -3 هكذا يدافع فرحان بلبل - شأنه شأن غيره ممن سبقه - عن الجمهور بما هو ”طبقة” ليرفع عنه صفة ”عدم الفهم” التي وصمه بها مسرحيون آخرون، أو نقاد. وهو يقترح في دفاعه مفهوماً بديلاً هو ”جمهور لا يعرف”(نفسه ص118). وما دام هناك فرق كبير بين الغباء بما هو عدم فهم، والجهلِ بما هو قلة معرفة بسبب الظروف التاريخية الاجتماعية التي تتحكم بالمعرفة، فإنّ المسرحي يتحول إلي معلّم إذا كان مؤمناً بالجمهور - الطبقة -. وبهذا التحديد الصريح والواضح تبرز أول سمة من تفكير فرحان بلبل الإخراجي، أعني ”التعليمية” في المسرح التي أكد عليها مسرحيو الواقعية الاشتراكية وعمل بها - وعليها - مخرجون كثر أمثال: راينهاردت وبسك اتور وبريخت وبيتر فايس.. الخ. ولسوف تتوافر هذه السمة - وعلى الدوام - في إخراجات فرحان بلبل، حتى في أرقى عروضه كشكل فني مقترح، كعرض ”القرى تصعد إلى القمر” عن نص له، وكعرض ”تأخرت يا صديقي” عن نص معدّ..!!.. هو ”إنسوا هيروسترات” لمؤلفه غريغوري غورين (8).‏

    يؤكد فرحان بلبل هذه القضية الملّحة بالنسبة إليه في مسرحيته ذات الفصل الواحد ”البيت والوهم”(9)، والمكتوبة عام 1969، حيث يصوغ أول بيان مسرحي من خلال تقنية ”المسرح داخل المسرح” والتي تسمح للقارئ والمتفرج بتأمل مستويي العملية المسرحية الجارية بالمقارنة بين ناسخ ومنسوخ. وسوف يتجلى صريحاً حين يجاهر فرحان بلبل في نصه بصوت المؤلف - المخرج والمنظِّر، وبتعليمية صارخة، أعني مكشوفة إلى حدّ تحويل المسرح إلى حوار في فلسفة المسرح من حيث وظيفته الاجتماعية من جهة، ومن حيث فنيته وتقنياته من جهة ثانية. واللافت للانتباه والنظر أن مفجِّر الأسئلة والاعتراضات على المنسوخ هو امرأة يسميها فرحان بلبل ”أسماء” التي ما إن تظهر في المشهد حتى تقطع ”تمثيل” أخويها سمي ر وأحمد وتسألهما (ماذا تفعلان؟‏

    ص 14)، ثم تطلب منهما - وقبل البدء بأي حوار - أن يتجها معها أولاً بأول إلى الجمهور (ص 17)، لتكرر سؤالها لهما: ماذا تفعلان؟ وحين يجيبها أحمد بأنهما يناقشان أمور البيت، تعلن أسماء مفسِّرة، (أي إنكما تمثلان على الجمهور. ص 14). ومن المؤكد أن قراءة الجملة بلهجة ونغمة دون تهكّم وإدانةٍ - كموقف فكري فني منها - يجعل اعتراضها لغواً لا طائل منه، وبالتالي يُخرِجُ التعليمية من وظيفتها، وهذا ما لا يريده فرحان بلبل الواعي بالقيم الوظيفية والجمالية لدلالات كلماته، وكيفيات نطقها ضمن أنساق لغوية وإيقاعية مخصوصة، نتج عنها فيما بعد كتابه الجيد ”أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي”(10).‏

    يطور فرحان بلبل موقفه من المسرح، ومن الجمهور في النص نفسه، وتلك التعليميةَ التي يلحّ عليها بقوة حين يجعل ”أسماء” تسأل أخويها ما إذا كانا قدْ أخبرا الجمهور بأنهما يقدما ن له مسرحية، فيجيبها ”سمير” معترضاً (هل تتوقعين أن نقول هذا؟ ص 15)، ويبرر ذلك قائلاً: (الممثلون يتصرفون كأنهم حقيقيون. ص 15)، فيقرر بذلك أن الأصل في المسرح هو قانون ”الإيهام المسرحي”. غير أن فرحان بلبل الذي يرفض هذا القانون يُنطق ”أسماءَ” بما يراه صواباً، بل حقيقة علمية. فإذا بها تعلن بقوة وثقة أن الجمهور - استناداً إلى الإيهام - لا يعرفُ الحقيقة من الوهم.. (ص15)، على الرغم من اعتراض أحمد بأن (الوهمَ أساس المسرح.. ص 15). لكن هذا الاعتراض بحسب موقف ”أسماء” - بل بحسب فرحان بلبل - (هو الوهمُ بعينه.. ص 15).‏

    ما يجدرُ التنبه إليه في هذا النص تحديداً ليس إنتاجَه لمقولات نظرية من حيث طبيعة المسرح ووظيفته وحسب، بل إن هذا النص يفترض نفسه كعرض مسرحي يتم تقديمه ”الآن” أمام جمهور محدد موصوف، كما سبق وذكرنا، مما يمكّن الباحث - أو المتأمل - من رؤية وجهة نظر ومكونات فرحان بلبل الإخراجية أيضاً.‏

    أما ما هو جليّ وواضح فهو أن فرحان بلبل - ومنذ عام 1969 - يعلن إيمانه المطلق بمسرح جماهيري تعليمي، لا يوهم الناس ولا يخدعهم، بل يروي لهم حكايات مشروطة بأنها مجرد حكايات، وأن عليهم كجمهور أن يتأملوها ويفكروا فيها ليدركوا مغازيها ودلالاتها، ومن ثم عليهم - فيما بعدُ - أن يثوروا ويعملوا ضد ما هو منافٍ لكرامتهم وسالبٌ لحقوقهم وكابحٌ لحرياتهم. ولسوف يتجلى هذا النـزوع التعليمي بشكل فعّال في جميع عروض فرحان بلبل التي أخرجها لفرقة المسرح العمالي بحمص، فكان وفياً بإطلاق لهذا المبدأ.‏

    ولأن التعليمية تتوجه في جوهرها إلى الجمهور الذي ”لا يعرف” أولاً بأول بسبب خداعه وتجهيله المقصودَيْن، فإن الإغراق في الرموز والتقنيات المعقدة - بحسب فرحان بلبل (11) تلتبس على الناس وتُشكِل عليهم، وتدفعهم نحو الغربة. وانطلاقاً من هذه الفكرة - القناعة - ينقدُ فرحان بلبل المسرح السوري منذ السبعينات باعتباره كان بعيداً عن الحياة العربية من جهة، وعن مدارك الناس ووعيهم من جهة ثانية، ويعدُّ ذلك عيب اً من عيوب الإخراج. أما العيب الثاني - والكلام لفرحان بلبل - فإن الإخراج لدى أكثر المخرجين السوريين صار مظهراً لإبداعهم الفردي، دون أن يصير وسيلة لتواصلهم مع الناس. (المسرح العربي المعاصر ص 123).‏

    إن تأملاً بسيطاً لتلك الآراء الجريئة والصريحة والحادة في آن واحد، يكشف - ليس عن نقد الإخراج السوري، وتحديد عيوبه وحسب، ولكن - عن الاتجاه المعاكس الذي يتبنّاه فرحان بلبل في مشروعه المسرحي كمشروع كلي وفي إخراجه المخصوص، حيث يتبدى ذلك كله في عرضه المسرحي القائم على: البساطة والوضوح، بعيداً عن الترميز، والتشفير والتعقيد، والتخييل حتى. وهذا يشكِّل السمةَ الثانية لإخراج فرحان بلبل. وإذا كانت هذه الآراء مصيبة في جزء منها فإنها في أعمها الأغلب تحتاج إلى حوار طويل وعميق. ولعل ما أنجزه الألماني ”برتولت بريخت” إخراجياً من خلال عروضه، الضاجة بالرموز والإشارات والدلالات وغير ذلك يشكل مثالاً باهراً وفريداً في تاريخ المسرح التعليمي - الملحمي، مما حَدا بنا قدٍ كبير هو ”رولان بارت” الفرنسي إلى كتابة مقالات خاصة وهامة عن الإشارات والرموز والدلالات الباهرة في عروض بريخت التي ترسلها مكوناتُ العرض المسرحي كالملابس والديكورات واللوازم وحركة الممثل وغير ذلك كثير. وقد جعل مقالاته هذه في كتاب خاص (12). بل إن ”رولان بارت” يعلن صراحة قائلاً: (أجل، إن مسرح بريخت هو مسرح العلاقة) (13).‏

    ولكي يكتمل نسق التفكير الإخراجي لدى فرحان بلبل فإنه كناقدٍ ومنظرٍ يوصِّف الإخراجَ من خلال متطلبات الإخراج نفسه. إذ على المخرج أن يدرك الأبعاد النفسية والعاطفية والفكرية للمواطن العربي، وأن يُخضِع كل أدواته الفنية إلى الذوق الفني السائد عند الناس، مع ملاحظة تطوير هذا الذوق وتنميته. وهذا ما يمكِّن حصرَه في الإيماءةِ... والموقف.. (المسرح العربي المعاصر ص 124) الأمر الذي يشكل السمةَ الثالثة لإخراجه.‏

    وإذا كان يمكن لنا قبول ذاك الكلام باعتباره صائباً في عموميته، فإنه من زاوية أخرى يدعونا إلى الشك في مصداقيته. وذلك لأن فرحان بلبل نفسه كان قد دعا من قبلُ إلى جمهور مخصوص محدد السمات. وهو الآن في حديثه عن النفسية والعاطفية والفكرية للمواطن العربي يعمم مقولاته إلى درجة تجعل المجتمع العربي مجتمعاً طبقياً موحد الأهداف والملامح، وأن الجغرافيا الشاسعة للوطن العربي تشكل بيئةً واحدة ومنسجمة، والأمر ليس كذلك. وأما حديثه عن تطوير الذوق وتنميته وحصره في ”الإيماءة والموقف” كسمةٍ من سمات إخراجه، فإن فرحان بلبل في الحقيقة لم يوضح ولم يفسّر مضمون كلمتيه اللتين ذكرهما هكذا دون شرح وتوصيف !!.‏

    إن محاولة جادة لاستحضار شكل الإيماءة التي يتم الحديث عنها يبدو صعباً. لكن تأملها فكرياً يقودنا إلى استبيانها من خلال اللغة أولاً. فالإيماءة في اللغة هي الإشارة. وهي إحدى أدوات الإبلاغ والاتصال دون كلام. ولعل فرحان بلبل يقصد من الإيماءة دلالة الإيحاء وحسب، وليس ما ينتج عن فن البانتوميم من إشارات ورموز ودلالات، لأن فرقة المسرح العمالي لم تشتغل بذلك، ولا على ذلك، بالمرّة، خاصة وأن التمثيل الإيمائي يبدأ من الشغل على الممثل. يؤكد هذا الاتجاه في التفكير قول جروتوفسكي:‏

    (ومعظم الممثلين في ”المعمل المسرحي” قد بدأوا في تحقيق هذه العملية. ففي عملهم اليومي لا يركِّزون على التدريبات الروحية وإنما على تركيب الدور والعناصرِ المكونة للشكل والتعبير الإيمائي، أي على حرفة الممثل. ولا يوجد تناقض بين تكنيك التدريب الداخلي أو الروحي وبين الحرفة، أي تجسيد الدور بالإشارات الخارجية...) (14).‏

    ما ينبغي ملاحظته هنا أن التعبير الإيمائي لدى جروتوفسدكي يقوم على تجسيد الدور بالإشارات الخارجية. وإذا كانت الإشارة: (عبارة عن مهيّج، يسميه علماء النفس منشّطاً... ويظهر أثرُه على الجهاز العضوي حيث يثير صورة ذهنية لمنشّط آخر... (15)، وإذا كان ما يحدث في الطبيعة هو إشارات محكومة بعلاقات طبيعية فإن الإشارات الاجتماعية ليست كذلك لأنها تقوم على تواضع بين أفراد المجتمع الواحد وثقافته الواحدة. و هذا يعني أن الإشارة الاجتماعية تصبح أداة اتصال اجتماعي) (16).‏

    غير أن كثيراً من علماء الدلالة والمسرحيين يرون أن السلوك الاجتماعي الطبيعي الشائع بين عامة الناس يشكل قناعاً يخفي مضامين غير ما هو ظاهر. ولكي يقدم المسرح ما هو حقيقي فإن جروتوفسكي يجتهد بدأب قلّ نظيره على هذه القضية انطلاقاً من إيمانه العميق بأن المسرح هو علاقة ممثلٍ بجمهوره. وخارج هذه الثنائية كلُّ شيء زائد، ليغدو تكنيك الممثل هو جوهر الفن المسرحي.(17) لكن جروتوفسكي لا يوفر حديثه عن منهجه في تدريب الممثل وعلاقة ذلك بإنتاج الإشارات قائلاً:‏

    (فنحن نركّب الدور على أنه نظام من الإشارات الدالة على ما وراء القناع الذي يراه الإنسان العادي بالعَيْنِ المجردة: أي الدالة على ديالكتيك السلوك الإنساني. ففي لحظة صدمة نفسية أو لحظة فزع أو خطر داهم أو سعادة غامرة لا يسلك الإنسان سلوكاً ”طبيعيّاً”. والإنسان عند ما يمرّ بحالة نشوة روحية يستخدم إشاراتٍ ذات إيقاع محدّد فيبدأ في الرقص أو الغناء والإشارة. وليست الإيماءة العاديّة.


Working...
X