Announcement

Collapse
No announcement yet.

الباحث ( فؤاد جريس القسوس ) قاص وأديب وروائي أردني من الرعيل الأول

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الباحث ( فؤاد جريس القسوس ) قاص وأديب وروائي أردني من الرعيل الأول

    فؤاد القسوس
    ولد فؤاد جريس القسوس في الكرك في الثالث والعشرين من كانون أول عام 1929، درس الصيدلة والكيمياء في انجلترا للمرحلة الجامعية الأولى ثم عاد وحصل على درجة الماجستير في الكيمياء العضوية المتطورة من البلد نفسه،عام 1967، تنقل من أجل الدراسة بين دمشق وانكلترا والولايات المتحدة الأمريكية. أتقن اللغة الإنجليزية، ترجم إليها قصة العودة من الشمال، كما أتقن الروسية وترجم لها مجموعة من القصص القصيرة.
    عمل في مجال تخصصه في وزارة الصحة الأردنية رئيساً لقسم الصيدلة ثم رئيساً لمختبرات الصحة العامة التابعة لوزارة الصحة. وبالإضافة لعمله في وزارة الصحة.
    شارك القسوس في عضوية بعض الهيئات والاتحادات الثقافية الأردنية والعربية، مثل: رابطة الكتاب الأردنيين، الاتحاد، الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
    شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية المختلفة، وهو حاصل على جائزة الدولة التقديرية عن روايته العودة من الشمال، وهو كاتب صحفي في العديد من الصحف والمجلات المحلية، مثل أفكار، الدستور، الرأي، وقد كتب المقال العلمي والأدبي، وما يزال ممارساً لهذا النشاط.
    مؤلفاته:
    * الأدبية:
    1. العودة من الشمال/ رواية، 1978، عمان، وزارة الثقافة.
    2. تلك الأيام (مجموعة قصصية، 1995، عمان، وزارة الثقافة).
    3. العودة إلى الشمال، مجموعة قصصية، 1995، عمان، وزارة الثقافة/ ترجمة.
    4. قصص قصيرة من الأدب الروسي/ ترجمة.
    * في حقله التخصصي (الكيمياء).
    1. دنيا المخدرات وعالم الهلوسة 1972 سنة الكتاب الدولية.
    2. حقيقة المخدرات، 1980.
    النموذج المختار تلك الأيام.
    -1-
    فؤاد القسوس
    تلك الأيام….

    عندما رفض جسمه الانصياع إلى أفكاره ورغباته، أدرك أنه وضع قدميه على حافة الشيخوخة، فأدار ظهره للعالم واكتفى بمتعة الجلوس في شرفة منزله المطلة على شجيرة ورد وحيدة مع فنجان قهوته وصحيفة الصباح، واستقبال أصدقائه الذين آثروا حياة الهدوء والدعة بعد كفاح طويل في رحلة العمر ودروب الحياة، أو زيارة أحدهم على الرغم من آلام مفاصله التي تثور عليه أحياناً.
    أما متعته الحقيقية فهي التحدث إلى أحفاده ومداعبة الصغار منهم على الرغم من تنفسه الذي يصبح لهاثاً إن أطال المداعبة.
    يخلو إلى نفسه أحياناً فيهيم في عالم الذكريات هرباً من حاضره أو خوفاً من مستقبله، ويعجب كل العجب كيف تغدو ذكرياته الممعنة في البعد واضحة جلية كأن ما حدث قد حدث البارحة أو قبل أيام. ويستسلم إلى حلاوتها ويمتلئ صدره بالطمأنينة الوادعة، ثم تهفو نفسه إلى زيارة الأماكن التي شهدت طفولته وأحلام شبابه.
    ويمر أحياناً في غفقلة منه، شريط من الذكريات أمام عينيه حاملاً صوراً عزيزة شتى: كلية الحقوق، والحديقة المحيطة بها.. زملاؤه الذين نسي أسماء معظمهم.. والزميلات القليلات اللواتي اقتحمن ميدان الحقوق على الرغم من استنكار الطلاب. ويبتدي له بين تلك الوجوه، وجه "بشرى"… فيبتسم، ثم يتمتم بصوت خافت: "بشرى معشوقة الطلاب". وتتسع الابتسامة ويتساءل:
    - أي هي الآن يا ترى؟
    بشرى الحلوة التي لفت أنظار جميع طلاب كلية الحقوق حتى أنظار الأساتذة أنفسهم بقامتها الممشوقة وعينيها الدعجاوين، والدلال الأنثوي الصارخ أن تحدثت أو تمشت في حديقة الكلية.. وغنجها عندما تفاجئ زميلاً بسؤال ما حول مادة أو محاضرة فيسعد الاختيار ويهيم في عينيها قبل أن يدرك حقيقة سؤالها. ويتحدث إن كان يعرف أو لا يعرف ليطيل زمن الوقوف معها والتحدث إليها.
    "معشوقة الطلاب بشرى" انقطعت فجأة عن الكلية وانقطعت صلة الطلاب بها بعد أن تزوجت من نأحد أساتذتها، واعتبر عشاقها الطلاب عملها هذا نوعاً من الخيانة، وحقدوا على زوجها الذي اختطفها من بينهم.
    اختفت بشرى من عالمهم، ولكن بقيت ذكراها تتوهج أحياناً فتهز الأعطاف وترعش القلب، كالعطر الذكي الذي تتركه فاتنة تمر عابرة ثم تختفي وتبقى هالة العطر دالة على أثرها مثيرة شتى الخيالات والصور.
    عشقها الطلاب وهاموا بجمالها ودلالها، وعشقها معهم وإن أنكر ذلك العشق، وكم أقنع نفسه أن ما به ليس عشقاً بل إعجاباً بالجمال.. ويردد: "إن الله جميل يحب الجمال" وينشد أحياناً مبرراً:
    قلبي ميال إلى ذا وذا
    يهيم بالحسن كما ينبغي
    ليس يرى شيءئاً فيأباه
    ويرحم القبح فيهواه
    ويضحك أحياناً من ذلك العشق الذي كان يسميه: "العزف المنفرد على أوتار القلب".
    ويعود إلى دنياه، وشرفته وصحيفته، ويلتفت إلى زوجته وهي تقدم إليه فنجان القهوة في أحد الأيام ويقول بود لم تفلح تقطيبة الشيخوخة في إخفاء عمقه:
    -أحلم في هذه الأيام بزيارة كلية الحقوق والتجول في حدائقها.. حلم يلح عليّ.. وأرغب في تحقيقه، فتقول بالود نفسه مشجعة:
    - الطقس جميل في هذه الأيام.
    ثم يقول كالمتذكر:
    - وإن نقوم بزيارة إلى "حديقة العائلات" حيث كنا نؤمها طلاباً ونذاكر دروسنا فيها. فتبتسم قائلة:
    هذا إذا بقيت الحديقة في مكانها، ولم تتحول أرضها إلى عمارة أو ناطحة سحاب.
    صمت وهو يرجو أن لا يكون ذلك قد حدث فعلاً.
    تصمت قليلاً ثم تسأل متصنعة النسيان:
    - ما اسمها تلك التي تحدثني عنها وكنتم تدعونها معشوقة الطلاب؟
    فيقول بسرعة:
    - بشرى.
    ويضحك الاثنان.
    ***
    يمر بهما الطلاب والطالبات دون اهتمام أو اكتراث… شيخ وقور وسيدة وقورة، بيمناه يتكئ على عصاه، وبيسراه يمسك يمنى زوجته.
    يشير بطرف عصاه إلى مجموعة من الأشجار الوارفة ويقول:
    - لا أذكر وجود هذه الأشجار في هذا المكان.
    يتأمل البناء بوجد وإن خاله قد صغر قليلاً، وتهب أنسام حاملة شذا الأزهار كأنها رسالة سحرية من الماضي فيمتلئ بها صدره وتجيش عواطفه.
    يجلسان على أحد مقاعد الحديقة يراقبان زرافات الطلاب والطالبات.. يهمس في أذن زوجته.
    - الله.. ما أحلى تلك الأيام.
    شباب غض متوثب.. والطالبات ما أجملهن يتنافسن في الجمال واللباس. شيء ما يدفعه لأن يستوقف من يمر أمامه وأن يقول:
    - كنت طالباً في هذه الكلية.
    ثم يخشى أن يسأله أحدهم:
    - منذ متى يا عم؟ فيحجم ويفتر حماسه.
    وتطفو الذكريات من أعماق الذاكرة فيهمس في أذن زوجته.
    - كنا نجتمع هنا بعد المحاضرات ونخرج في مظاهرات صاخبة ضد الأفرنسيين.. تطوعنا لمحاربتهم وتدربنا على استعمال السلاح.. كنا مجموعة صغيرة من الطلاب من العراقي إلى الشامي إلى المغربي.. وكانت دمشق وطناً للجميع.
    ثم يتابع الهمس قائلاً كأنه ينتقص من رجولة الطلاب الذين يمرون أمامه بقمصان مفتوحة الصدور، والساعات الذهبية تزين المعاصم، وكولونيا بعد الحلاقة تفوح من خدودهم المتوردة:
    - كنا رجالاً في تلك الأيام… نحمل أرواحنا على أكفنا ونحن نحمل السلاح لمحاربة الأفرنسيين.
    فتقول مشفقة ومؤاسية:
    - لكم زمانكم ولهم زمانهم.
    يغرق في الصمت العميق كأنه الصلاة في محراب الماضي، وينسى رحلة الحياة الطويلة وتزغرد في أعطافه سنوات الشباب الريان الزاخرة بالعواطف والعشق. ويمر بعض الساعه، ثم يستقيظ على صوت زوجته تدعوه، فيقوم بتثاقل مستنداً على عصاه ويهتف بوجد:
    - … ما أحلى تلك الأيام.
    ويحبس دمعة كادت أن تطفر من عينيه.
    ***
    وقادهما النادل مخترقاً مناضد الرواد، وأجلسهما قرب نافورة تتوسط بركة صغيرة.. الحديقة مكتظة بالرجال والنساء والأطفال. الجو عبق بأنفاس الخزامى والياسمين، وشقشقة العصافير بين الأشجار تمتزج بصوت فيروز وهي تغني:
    …. يا جارة الوادي طربت…
    فيستخفه الطرب.. ينظر إلى زوجته وفي نفسه رجاء أن تطرب لطربه.. فتشاركه صادقة، وتصفو روحه، ويشع وجهه بفرح سماوي، ويعود ماء الشباب إلى وجنتيه.
    تأخذها الدهشة وهي تصغي إليه مردداً مع فيروز:
    يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك.
    يرنو إلى زوجته مداعباً:
    - أيهما أجمل صوتي أم صوتها.. ويضحك الاثنان.
    وتلتفت سيدة مفرطة في السمنة تجلس مع أفراد أسرتها نوهما مستطلعة، ثم تعود إلى الحديث مع طفلة صغيرة… يرقب الطفلة بفضول بعد أن ذكرته بأحفاده.. ولكن العينان!! لمن هاتان العينان الدعجاوان؟
    يقوم أفراد الأسرة منصرفين.. وتعتمد السيدة بيديها الاثنتين على حافة المنضدة لتستطيع القيام، وتلتفت ثانية إليهما.. الشعر أبيض، والظهر شديد الانحناء.. وطاقم الأسنان يتحرك وه يتنادي أحد أفراد أسرتها.. والعينان غائرتان تحت أجفان متهدلة. تعتمد بيدها على كتف أحد أفرادها أسرتها، وتنظر إليهما نظرة عابرة.
    وكوميض البرق… تلوح صورتها.. تاهت عنها العينان فدل عليها القلب، ويكاد يصرخ:
    - بشرى!!
    زلزل القلب وتصدع وتناثرت شظاياه.
    يعود إلى صمته وترقبه زوجته بفضول وإحساس عميق صادق.. تومئ نحوها مستفسرة فيحرك رأسه موافقاً.
    - بشرى!
    يعود إلى صمته، وبعد فترة يتمتم بصوت خافت:
    أليس وعدتني يا قلب إني
    فها أنا تائب عن حب ليلى
Working...
X