Announcement

Collapse
No announcement yet.

لا أحد يموت في القافلة ولا القافلة تصل في رواية غسان زقطان الجديدة

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • لا أحد يموت في القافلة ولا القافلة تصل في رواية غسان زقطان الجديدة

    غسان زقطان في روايته الجديدة: لا أحد يموت في القافلة ولا القافلة تصل
    كتب: يوسف عبد العزيز/ صحيفة الاتحاد

    هذه هي الرّواية الثّانية للشّاعر الفلسطيني المعروف غسّان زقطان، بعد روايته الأولى (وصف الماضي) التي كان قد نشرها في أواسط التّسعينيّات. في هذه الرواية "عربة قديمة بستائر جديدة"الصّادرة حديثاً عن الدّار الأهليّة في عمّان، يواصل الشاعر غسان زقطان تتبّع ما يمكن أن نسمّيه مطر الحنين، ذلك المطر الذي يدفق في الأعماق، ولا يجد له متّسعاً ليلمّه في القصائد التي يكتبها.

    العودة.. العودة الأخرى
    في أواسط التسعينيّات عاد الشاعر إلى فلسطين، وأقام في مدينة رام الله، ولكنّه سرعان ما يكتشف أنّ تلك العودة لم تكن مكتملة. هنا "بدت الحكايات ناقصة، الأحلام والمواعيد التي لا تتمّ، الحرب ناقصة، والمياه التي تجري في وادي القلط ...".
    بموازاة تلك العودة الهشّة التي تحطّمت على أرض الواقع، حيث الوطن ما يزال محتلاً، والحواجز تمزّق جسد التراب الفلسطيني، كان لا بدّ من اجتراح عودة أخرى، عودة رمزيّة تحفر أخدودها العميق في أرض الرّوح، وتدمغ المكان بكلّ ما تحمله من روائح وذكريات. هذا ما حاوله الشاعر من خلال رحلة الأمّ التي جاءت من عمّان إلى رام الله لتزور قريتها المدمّرة (زكريا)، ثمّ من خلال رحلته هو إلى القرية، حيث يتحوّل إلى واحد من العابرين في ذكريات الأمّ، ويحقّق حلمها في ما يشبه العودةً الرمزية إلى فلسطين المحتلّة عام 1948.
    تتّكئ الرواية على مجموعة من المحطّات التي تتداعى فيها الوقائع وتتشابك، لتؤلّف فيما بينها ذلك المجرى السّحري الذي يهدر بالأشواق، والذي يرتطم في نهاية الرواية مثل صاعقة مفاجئة من الغبطة. وهي محطات يمكن تسميتها كالتالي: المحطة الأولى: حاجز أريحا أو بوابة الدّخول/ الخروج، المحطة الثانية: رام الله / التباس العودة/ الحب، المحطة الثالثة: زكريا/ المطعم/ سكة الحديد.

    أريحا.. حاجز العذاب
    في هذا المكان السوريالي، الذي لا يوجد له مكان شبيه على وجه الأرض، نشاهد المسافرين الفلسطينيين وقد تكدّسوا في طوابير طويلة، حيث يجري تفتيش الداخلين إلى الوطن والخارجين منه بشكل دقيق وبطيء من قبل الجنود الصهاينة. الجنود هؤلاء لا يتورّعون عن توجيه الإهانة المادية والمعنوية إلى المسافرين، بما في ذلك السّباب والشّتائم. مثل هذه العذابات المريرة كان بطل الرواية يعانيها ويلمسها كلّما دخل أو خرج من هذا المعبر: "انتبه على الرنين المتواصل للبوّابة الإلكترونية في مدخل القاعة، حيث يصطفّ طابور آخر يتقدّمه رجل عجوز، كان الرجل يحاول المرور عبر البوّابة بحذر شديد، ... ومجنّدة تصرخ بنفاد صبر خلف حاجز زجاجي، وأصوات تشجّعه قادمة من الطابور خلفه، ونظرات رجل المخابرات المسلّح في الجهة اليسرى من البوّابة، فيما الرجل يحاول أن يتخفّف من عصاه".
    ثمّة سؤال يخطر على البال هنا: ترى ما الدّاعي لكلّ هذه الغطرسة مع رجل عجوز مسالم يريد أن يعبر إلى وطنه؟ كلّ ذلك كان يثيره وهو يتأمّل تلك القاعة المكتظّة بالمسافرين كيوم الحشر، وأولئك الجنود الحاقدين الواقفين في هيئة استنفار دائم: "كان يحبّ أن يفكّر (بهم) على الجسر كما (هم) مجموعة من المراهقين الدّيوك، ومراهقات كئيبات ونافدات الصّبر، يمثّلون إمبراطورية شرسة ومحتلّة".
    لا يلبث بطل الرّواية أن يكتشف أنّ تلك القسوة المبالغ فيها في التّعامل مع المسافرين الفلسطينيين، ما هي إلا القناع الذي يتخفّى تحته وجه القاتل المذعور. اتّضح ذلك الاكتشاف أكثر من خلال رفيقته هند، التي سردت على مسامعه حكايتها على الجسر، مع ذلك الجندي المدجّج بالسّلاح، حين أخطأت في عبور الممرّ: "يا مدام من هون لو سمحتِ"، كانت الحروف المنطوقة بالعربية مهانةً تماماً، هي خلاصه ووسيلته ليس للتّحدّث معي، ولكن لإنشاء علاقة مع التلال الملحية البيضاء المحيطة بالمكان، ومع نخلات قصيرة وسخيفة للزينة تناثرت حوله،... كان يحاول أن يفهم، ويواصل التّراجع والضّغط على بدن بندقيّته، وكأنّما ليؤكّد وجوده لي، أو ليتأكّد من مكانته التي تهتزّ وتتفكّك".

    رام الله.. التباس العودة
    في رام الله سيقيم الشّاعر العائد، ولكنّها ستكون إقامة مربَكَة، وسوف يكتشف بمزيد من الألم إلى أيّ حدّ يخرّب المحتلّون الحياة في وطنه! من خلال تدخّلهم في شؤون النّاس اليومية، ومن خلال الحواجز التي يقيمونها في كلّ مكان والقوانين التي يفرضونها: “لمّ الشّمل هو الدّرجة الأعلى في مراتب التّصاريح، تلك المراتب التي تبدأ من تصريح المرور، وتصريح الزيارة وتصريح التّجارة وتصريح زيارة المعتقلين وتصريح العمل وتصريح المطار وتصريح الجسر وتصريح الصّلاة وتصريح العلاج”. وهذه كما يقول البطل “تصاريح تتنوّع وتتكاثر وتتفرّع بحيث تشكّل شبكة تغطّي الحياة فيما يشبه نظاماً غامضاً ومتداخلاً”.
    مقابل ذلك الخراب الذي يتدحرج أمامه، يظهر له الحب كمخلّص. في رام الله يلتقي البطل بهند، ابنة الخمسة والثلاثين ربيعاً، والعائدة إلى الوطن. هند هذه سوف تتجوّل به من خلال القصص التي تسردها، في عدد كبير من الأمكنة، وسوف تفتح له باب الغواية. في شقّة الشاعر حيث يلتقي البطل بهند، سوف نسقط على مشهد حب بسيط وساحر، ولكنّه سيكون كافياً ليحملنا على موجة عارمة من اللذاذة. في ذروة القتل الذي يتناسل ثمّة جسدان يشتعلان. هنا تحدث المعجزة، وتزهو روح الفلسطيني لتنتصر: "بدت عندما احتضنها أقصر وأصغر وأكثر هشاشة، وكان في مكان ما من تنهّدها ثمّة لهفة تتقدّم دون توقّف وتندفع من كتفيها إلى يديها وأصابعها مثل عربة خفيفة بجناحين".
    في رام الله سوف يدخل البطل في حوارٍ داخليّ مع نفسه، مع الناس والأمكنة، وذلك في محاولة جادّة منه للتّعرّف على ملامح هذه العلاقة الجديدة مع الوطن. من أجل ذلك سيتجوّل الشاعر في وطنه، وسيذهب في مشاوير خاصّة إلى الأمكنة الأولى التي نشأ فيها، وسيختار منها بيت جالا حيث ولد وترعرع، ثمّ المنطقة القريبة من أريحا خصوصاً دير السّان جورج الواقف فوق جبل قرنطل ووادي القلط الذي يصل أريحا بالقدس. في ذلك المكان "كان يمشي بموازاة ذكرياته التي تتراكم إلى جانبه مثل حصّادة نشيطة، وكان يستطيع أن يراهم جميعاً وهم يواصلون السّير إلى جانبه، الموتى والأحياء، لا أحد يموت في هذه القافلة ولا القافلة تصل". تلك هي النتيجة الغرائبية التي يصل إليها البطل في تأمّله لتراجيديا العودة الفلسطينية التي قال عنها الشاعر محمود درويش مرّةً: "لا يصل الحبيب إلى الحبيب، إلا شهيداً أو شريدا".
    بالإضافة إلى تلك المشاوير، يلجأ الشاعر إلى تأمّل عدد من تجارب العودة ومحاورتها. في هذا المجال يختار الشاعر أربعة نماذج من هذه التّجارب، هي تجربة كلّ من: نعيم قطّان صاحب رواية (وداعاً بابل)، وهو اليهودي العراقي الذي غادر بغداد في الأربعينيّات إلى كندا، وتجربة إميل حبيبي صاحب رواية المتشائل، وتجربة فتى (إمره كيريتس) الكاتب المجري في روايته (لا مصير)، ثمّ تجربة الشّاعر محمّد القيسي الذي عاد هو الآخر إلى رام الله. في هذا الحوار سوف يكتشف البطل مخاتلة نعيم قطّان في التّخلّص من وطنه الحقيقي، من أجل الفوز بالمنفى كوطن بديل. أمّا إميل حبيبي فقد ظلّ حتى خلال مجريات النّكبة متشبّثاً بوطنه، وحين عاد إلى بيته في حيفا بعد أيّام من مغادرته، وجد مستوطناً يهوديّاً قد أقام في البيت: “لم نتبادل كلمة واحدة يقول إميل حبيبي، واصلت التّحديق في عينيه، وكان ينظر إليّ، وعند منتصف الليل نهض وغادر البيت”. بالنّسبة لبطل إمره كيريتس فقد كان الشاعر حريصاً على تتبّع عودته إلى بيته في بودابست، تلك العودة التي كانت محفوفة بالرعب، والتي تشبه في صورتها المضمرة عذاب الفلسطيني في الرجوع. أمّا الشاعر محمد القيسي فيتوقّف به غسّان عند ذلك المشهد الذي دلف فيه القيسي إلى بيت أمه حمدة في مخيم الجلزون، حيث وجد إحدى الأسر الفلسطينية وقد أقامت فيه. قال له رب الأسرة “لم نكن نظنّ أنّكم ستعودون”، فيردّ عليه القيسي: “معك حقّ، لم نعد”. هذه التّجارب التي حاورها الشاعر ألقت بظلالها عليه كعائد نصف عودة، ودفعت به إلى توجيه الرواية باتّجاه مسار جديد.

    زكريا.. سكّة الذاكرة
    إزاء عودة الشاعر الناقصة، كان لا بدّ هناك من اجتراح عودة أخرى أكثر حميميّةً وذهاباً باتّجاه الجذور، وهذا ما تحقّق من خلال تلك الرحلة الرّمزية التي قامت بها الأمّ إلى قريتها المدمّرة في فلسطين المحتلّة عام 1948.
    منذ البداية شكّل حضور الأمّ منعطفاً مهمّاً في مسار الرواية، وهي التي كانت مشغولة طوال الوقت بالحديث عن قريتها / قريته (زكريا) الواقعة إلى الجنوب الغربي من القدس. في عمّان حيث كان يلتقيها، كانت تصف له القرية قبل الخروج من الوطن، البيت، الحوش، والعلّيّة. كانت تحدّثه عن محطّة سكّة الحديد في قرية عرتوف المجاورة، وعن مشاويرها إلى تلك المحطّة، لتنتظر عريسها (والده) المسافر إلى يافا ليحضر لها الهدايا. في إحدى المرّات سردت على مسامعه قصّةً مثيرة لأحد العشّاق، الذي تتبّع طريق حبيبته، وكان يدلق زجاجات العطر مكان خطواتها.
    كانت أحاديثها تمتلك عليه أحاسيسه، وتدفعه إلى الذهاب لزيارة القرية، وبالفعل فقد زارها عدّة مرّات وصوّرها، ولكنّه آثر ألا يرسل لأمّه الصّورة، فقد كانت البلدة مدمّرة ممّا قد يسبّب لها الألم.
    في أثناء زياراته المتكرّرة، كان الشاعر دائم البحث عن سكّة الحديد القريبة التي حدّثته عنها أمّه، ولكنّه فشل في العثور عليها. قريباً من القرية كان ثمّة مطعم تديره مستوطنة يهوديّة من المغرب. في زياراته كان الشاعر يأوي إلى المطعم، ليطل على الحرش الذي يحضن القرية. أخيراً ذهبت الأمّ إلى الوطن من خلال تصريح زيارة أعدّه الشاعر، ومضت بصحبة صحافيّة أميركية لتزور القرية. لم تجد في القرية شيئاً يُذكر، ولذا حاولت جاهدةً البحث عن سكّة الحديد ولم تجدها أيضاً.
    غادرت الأمّ إلى عمّان، واستمرّت مشاوير الشاعر إلى القرية. ثمّ في لحظة عاصفة، لحظة هي بين الحلم والحقيقة، وأثناء ما كان الشاعر يتفرّس المنطقة المحيطة بالمطعم، وقعت عيناه فجأة على سكّة الحديد. لقد التمعت السّكّة من خلال تلك الأعشاب الهائجة التي غطّتها، أمّا المطعم فيكتشف الشاعر بمزيد من الدّهشة أنّه لم يكن سوى الأجزاء المتبقّية من عربات القطار القديم.

    ذاكرة تحرس المكان
    كان هذا الكشف والذي خبّأه غسان حتى آخر صفحتين من الرواية، بمثابة ضربة سحريّة للعازف الشاعر. لقد بدت الرواية مأزومةً في البداية، بسبب غياب سكّة الحديد. والآن اشتعل كلّ شيء وأضاء، وقد أماط هذا الكشف اللثام عن المكان، فاندلعت في أنحائه أصوات أهله القدامى ووجوههم الغابرة التي طواها الزّمن. في ذروة ذلك المشهد العاصف، “بدا أنّ العربات القديمة الفارغة للحكايات بدأت بالتّنفّس، وأنّ ستائرها تهتزّ هناك في ذكريات أمّه، وقلقها الغريب على السّكّة، كما لو أنّ والده القادم من الساحل هبط لتوّه من عربة القطار وواصل طريقه إلى البيت". فيما المستوطِنة التي استولت على القطار وحوّلته إلى مطعم “تحدّق فيه بصمت شديد، وكأنّها تشهد جنازة الأشباح التي وصلت للتّوّ".
    في رواية غسّان هذه التي يهديها إلى الشاعر محمود درويش ثمّة اشتباك خاص نلمسه مع قصيدة درويش "على محطّة قطار سقط عن الخريطة". إذ نلاحظ في الرواية أنّها تتقمّص روح القصيدة، وتسرد ـ ولكن على طريقتها الخاصّة ـ الوقائع التي تبثّها ذاكرة الفلسطيني، بما يتّصل بقطار ومحطّة طمستهما الحرب. غير أنّ تلك الذاكرة من القوّة إلى الحدّ الذي تستطيع فيه أن تنظّف المكان من أيّ أثر للمحتلّ. هكذا يصعد المكان الفلسطيني بقوّة الذاكرة من تحت الأنقاض، تماماً كما يفعل طائر الفينيق الذي ينبعث من رماده.
Working...
X