Announcement

Collapse
No announcement yet.

كيف تم معالجة القضايا الوطنية والقومية في السينما السورية - بشار إبراهيم

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • كيف تم معالجة القضايا الوطنية والقومية في السينما السورية - بشار إبراهيم

    القضايا الوطنية والقومية
    في السينما السورية

    دمشق - تشرين
    دراما -
    بشار إبراهيم
    إذا كانت الولادة الأولى للسينما السورية تعود إلى العام 1928، وذلك عندما تمكنت مجموعة من هواة السينما من الشباب المغامرين من تأسيس شركة «حرمون فيلم» وتقديم الفيلم السوري الأول «المتهم البريء» الذي تولى إخراجه أيوب بدري، على ما تتفق عليه جميع المصادر، فإن الولادة الحقيقية للسينما السورية، إنما بدأت بإنشاء «المؤسسة العامة للسينما في سورية»، الذي جاء بناء على المرسوم التشريعي، رقم 258 والصادر بتاريخ 12/11/ 1963، فعلى يد المؤسسة العامة للسينما ولدت وتطورت وتقدمت السينما السورية.
    وما بين الولادة الأولى، والولادة الحقيقية، لم تشهد السينما السورية، سوى محاولات محدودة فردية مغامرة، لم تستطع أن تنجز إرثاً سينمائياً حقيقياً، من دون أن ينقص هذا من احترام وتقدير هذه المحاولات، التي أشارت لمواهب حقيقية، وإرادات ورغبات قوية، ولكن لم يكتب لها النجاح والاستمرار، للعديد من الأسباب الذاتية والموضوعية، التي تكافلت فيما بينها، لمنع نجاح واطراد تلك المحاولات.. وإذا كان من غير اللائق محاكمة ذاك النتاج السينمائي، على اعتبار أنه كان محض محاولات فردية ومغامرات لمجموعات من الهواة، بمعنى أنه لم يكن ضمن نسق فكري وثقافي وإبداعي، يستطيع أن يشكل تياراً متبلوراً، ولم يكن جزءاً من ظاهرة ثقافية عامة.. فإننا لن نعدم بعض اللفتات الفنية التي تشي بمحاولات ملامسة الشأن الفلسطيني، عبر الشريط السينمائي..‏
    في هذا المجال، يُذكر أن الرائد السينمائي السوري أيوب بدري أنجز فيلمه «نداء الواجب» عام 1937، كما تروي بعض المصادر التاريخية، وعلى ما اتفقت، فإن بدري قام بتصوير فيلم، عن ثورات فلسطين ضد الإنكليز، أدخل عليه مقتطفات أخذها من الأفلام الأجنبية، ويُروى أنها كانت تمثّل مشاهد من حروب، مثل انفجار قنابل، وسير دبابات، ومناورات عسكرية.. ويُحكى كذلك، عن فيلم بعنوان «الجيش السوري في الميدان» لأحمد عرفان 1948، كما حاول زهير الشوا عام 1963 إنجاز فيلم بعنوان «وراء الحدود» عن قضية فلسطين، من دون أن يكتمل إنجازه، برغم تحضيرات استغرقت سنتين، وانتهت إلى لا شيء، وقيل لعدم توفر الإمكانات اللازمة.‏ ‏
    ولكن النهضة الحقيقية، والبحث الجاد، في فضاء السينما السورية، لن يتناما إلاّ عندما ستبدأ المؤسسة العامة للسينما عملها، مع مطالع عقد السبعينيات من القرن العشرين، فعبر أكثر من أربعة عقود، مضت حتى اللحظة، ترسّخ حضور المؤسسة العامة للسينما، في مجال الإنتاج السينمائي، في حين تقاعست الجهات الأخرى، عن الدلو بدلوها، خصوصاً في مجال الإنتاج الروائي الطويل، من دون أيِّ إنكار لمساهماتها، ونعني بذلك التلفزيون العربي السوري، خاصة في مجال الإنتاج التسجيلي والروائي، القصير والطويل، ومساهمات محدودة لقسم السينما في إدارة التوجيه السياسي والمعنوي في الجيش والقوات المسلحة، بعد تجربة استوديو الجيش، الذي تأسَّس في الخمسينيات، وتخرج منه عدد من رواد السينما التسجيلية السورية.. ‏ ‏
    قبل ذلك، وفي نظرة متأنية، وموضوعية، لما حاول القطاع الخاص في السينما السورية أن يقدّمه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، سنكتشف مدى البؤس الفني، من جهة، والنيات الحسنة (إذا افترضنا حسن النيات)، من جهة أخرى، في الأفلام التي أُنجزت منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين، على قلّتها. ففي العام 1969 قام القطاع الخاص في السينما السورية بتقديم فيلمين روائيين طويلين، هما «ثلاث عمليات داخل فلسطين» من إخراج الفلسطيني محمد صالح كيالي، و«عملية الساعة السادسة» من إخراج سيف الدين شوكت. وهذان الفيلمان ينتميان طبعاً إلى نسق الأفلام التجارية، التي تناولت العمل الفدائي الفلسطيني، على نحو يبني بطولات فذّة، ويظهر الفدائي رجلاً خارقاً، فوق العادة، يستطيع أن يحقّق انتصارات على الشاشة، أين منها هزائم الواقع؟.. وهو ما يجعلهما ينتميان إلى «سينما التعويض»!..‏ ‏
    وفي جانب آخر تماماً، وإذا قلنا إن البداية الحقيقية للسينما السورية بدأت مع المؤسسة العامة للسينما، فإن المسيرة التاريخية للإبداع السينمائي السوري بصدد القضية الفلسطينية تؤكد ذلك، ففي هذا الإطار يُعدُّ فيلم «إكليل الشوك» للمخرج نبيل المالح 1969، بداية مناسبة للحديث عن القضية الفلسطينية في السينما السورية، وهو فيلم ينتمي إلى السينما الروائية القصيرة (مدة الفيلم 20 دقيقة)..‏ ‏
    الفيلم ببساطة، يتابع أحلام وأماني فتاة فلسطينية، في سن اليفاعة (تؤديها فايزة شاويش)، كانت تعيش في ذاك المخيم، القريب والملاصق لمدينة دمشق، فتشاء لها الأحداث أن تزور المدينة وتكتشفها، ففي تجوالها في شوارع المدينة الفارهة، سترى الفارق الكبير بين حقيقة المدينة العربية التي تدير الظهر لها، برغم أنها تعيش على هامش تلك المدينة، وواقعها في مخيم البؤس والحرمان، مخيم اللاجئين الفلسطينيين، وطموحها كفتاة فلسطينية في امتلاك لعبة تؤانسها.. ليكشف الفيلم حجم المفارقة بين واقع البؤس الذي يشهده المخيم الفلسطيني، من جهة، والواقع العربي العابث واللاهي، من جهة أخرى..‏ ‏
    وسيعود المخرج نبيل المالح، لتناول القضية الفلسطينية، من خلال مشاركته في إنجاز ثلاثية «رجال تحت الشمس» 1970، بإنتاج المؤسسة العامة للسينما، وبإخراجه بالاشتراك مع المخرجين محمد شاهين ومروان مؤذن، حيث كانت مشاركته عبر فيلمه الروائي القصير الذي جاء بعنوان «المخاض» والذي يدور حول ولادة الثورة الفلسطينية، وانبعاثها من قلب المعاناة، وتحولها إلى بارقة الأمل، ومعقد الرجاء.. وهو الموضوع الذي سيقدمه على نحو رمزي دلالي، يبين أنه وعلى الرغم من كل الممارسات الصهيونية الوحشية، والقتل والتدمير، فإن الثورة الفلسطينية ستعبِّر عن ذاتها، وتمضي إلى أهدافها.‏ ‏
    تبدأ ثلاثية «رجال تحت الشمس»، بالفيلم الروائي القصير: «اللقاء» لمروان مؤذن، وهو أحد الأفلام السورية التي حاولت التعبير عن حياة أفراد المقاومة الفلسطينية، من الفدائيين، ومخاطبة الرأي العام العالمي، وقام بذلك من خلال حكاية لقاء يحصل بين أحد أفراد المقاومة الفلسطينية، وفتاة أجنبية، بعد مقتل الصهيوني الذي كان يقود السيارة التي كانت تقلُّها.. وستبقى تلك الفتاة الأجنبية (تؤديها ريجينا أولبريشت) إثر ذلك بمنزلة رهينة لدى ذلك الفدائي الفلسطيني (يؤديه خالد تاجا).. ومن خلال حوار ونقاش متبادل بينهما، ستبدأ الفتاة بعملية إعادة النظر في مواقفها، والبدء بقراءة القضية الفلسطينية، وفق طريقة جديدة، لا علاقة لها بالصورة المسبقة الصنع لديها، نتاج التشويه المستمر من قبل وسائل الإعلام الغربية، فتجد الفتاة نفسها تحاول أن تتفهَّم، من خلال هذا اللقاء، حقيقة القضية الفلسطينية، وعلى نحو مختلف. ‏
    ‏ ‏
    أما فيلم «الميلاد»، من إخراج محمد شاهين، وهو الجزء الثالث من ثلاثية «رجال تحت الشمس»، فقد حاول التعبير عن ولادة الفلسطيني الجديد، في ظل المقاومة، بعد شوط من القلق والتردد، فنرى المعلم الذي يعيش قلقاً وتذبذباً، قبل أن يحسم قراراته، أخيراً، وينتمي إلى العمل الفدائي المسلح، بعد فترة من الصراع والقلق الذي يعتمل داخله..‏ ‏
    وفي العام 1970 سنشهد فيلمين سوريين روائيين قصيرين هما فيلم «الزيارة» لقيس الزبيدي، وفيلم «اليد» لقاسم حَوَل، وهما مخرجان عراقيان عملا في إطار السينما السورية والفلسطينية، وحققا حضوراً لافتاً خلالهما.. فكالعادة التي سنلحظها في أعمال المخرج قيس الزبيدي، سنرى اهتماماً فائقاً بالتجريب على مستوى الشكل ووسائل التعبير، فنراه في هذا الفيلم يعتمد من أجل الحديث عن عودة اللاجئين الفلسطينيين، على الشعر والصورة والفن التشكيلي والموسيقا من خلال قصائد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، ولوحات نذير نبعة وعبد القادر أرناؤوط، وموسيقا صلحي الوادي، ليقدم وثيقة جمالية إبداعية ذات مضمون واضح.. كذلك فيما يخص فيلم قاسم حَوَل «اليد» الذي تمتع بالإيقاع الشعري والأحاسيس العميقة.. ‏ ‏
    أما المخرج خالد حماده، فقد عمد إلى الاتكاء على رواية «ما تبقى لكم» للروائي الفلسطيني غسان كنفاني ليقدم لنا فيلم «السكين»، عام 1972، وقد التزم المخرج فيه بحدود العمل الروائي. والأمر الأكثر أهمية، هو أن هذا الفيلم يأتي في بدايات الإنتاج السينمائي الروائي الطويل للمؤسسة العامة للسينما ليفتح (أو يساهم بفتح) الطريق أمام العلاقة بين السينما والأدب..‏ ‏
    وفي العام 1972، ستنتج المؤسسة العامة للسينما في سورية أحد أهم الأفلام العربية التي تناولت القضية الفلسطينية، وهو فيلم «المخدوعون» الذي أخرجه المخرج المصري توفيق صالح. والفيلم كما هو معروف مأخوذ عن رواية «رجال في الشمس» للروائي غسان كنفاني، فمن خلال ثلاث شخصيات فلسطينية مشردة في منفى إجباري، إثر نكبة فلسطين، وتحاول الهروب نحو منفى آخر اختياري، بحثاً عن فرصة عمل، وعبر عملية تهريبهم في صهريج قاتل، بقيادة الخصيِّ (أبو الخيزران) وتنتهي بموتهم، يكشف العمل عن الكثير من جوانب القضية الفلسطينية، والدلالات المتعلقة بها.. ‏ ‏
    وسيحقق فيلم «مئة وجه ليوم واحد» لكريستيان غازي جائزة النقاد السينمائيين في مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب 1972، وهو فيلم يستند إلى قصة عاملين فلسطينيين، ينتظمان في صفوف الثورة الفلسطينية، ومن خلال قصتهما يدين الفيلم الشرائح البرجوازية، ويمجّد الطبقات الكادحة، التي هي بالطبع صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والنضال، لنجد أن الفيلم يتبنى رؤية طبقية لمسألة الصراع العربي- الصهيوني، ونضال الأمة وسعيها للتطور والوثوب.. وقد كانت هذه الرؤية أحد المذاهب الأيديولوجية الشائعة، حينذاك.. ‏
    وبُعيد حرب تشرين 1973، ستتواصل الأفلام السينمائية السورية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، منظوراً إليها من خلال الترابط الجدلي بين حرب تشرين ومسألة الصراع العربي الصهيوني.. وليست حرب تشرين سوى واحد من أهم عناوين المواجهة ضد العدو الصهيوني، والانتصار عليه، وسينتج التلفزيون العربي السوري العديد من الأفلام، ذات العلاقة بهذا الحدث الفريد، من دون أن ننسى بالتأكيد مساهمة قسم السينما في الجيش والقوات المسلحة.‏ ‏
    وستقدم المؤسسة العامة للسينما عام 1974، بالتعاون مع مؤسسة السينما اللبنانية، فيلماً على غاية من الأهمية والبراعة، هو فيلم «كفر قاسم» من إخراج اللبناني برهان علوية، وهو يتناول المجزرة الرهيبة التي ارتكبها الصهاينة ضد أهالي قرية كفر قاسم عام 1956.. ويستند الفيلم إلى قصة صاغها عاصم الجندي، وبنى الحوار لها عصام محفوظ، فيما كان السيناريو للمخرج ذاته.. ‏ ‏
    فيلم «كفر قاسم» وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على إنتاجه، ما زال فيلماً رفيعاً شكلاً ومضموناً، إذ استطاع برهان علوية، بموهبته الفائقة، أن ينسج فيلماً، على الرغم من أنه فيلم روائي، إلاّ أنه سيصل إلى مصاف الوثيقة السينمائية، التي تكشف حقيقة العدو الصهيوني، وواقع الفلسطينيين.‏ ‏
    ونتوقف أمام فيلم «المطلوب رجل واحد» إخراج اللبناني جورج نصر، وهو الإنتاج الروائي الطويل اليتيم لنقابة الفنانين في سورية، عام 1974. فهذا الفيلم، وإن كان لا يتحدث مباشرة عن القضية الفلسطينية، فإن جذر القصة ودلالاتها وإسقاطاتها ذات علاقة بها. يشير الفيلم، في بدايته، إلى أن أحداثه تدور في قرية ما شمال سورية، وسنجد من خلال الأحداث، أن أهالي هذه القرية ينقسمون إلى أسر وعوائل، تعتمل فيما بينهم الخلافات وقضايا الثأر.. ومما يعزز هذه الخلافات والتصادمات، ويصعّدها، وجود غريب قوي ماكر وخبيث هو (موسى بيك) الذي يعزز انقسامات الناس، ويثير بينهم الخلافات والفتن، ليبقى هو مسيطراً حاكماً متملكاً..‏ ‏
    ويناقش «الأحمر والأبيض والأسود» من إنتاج المؤسسة العامة للسينما وإخراج بشير صافية عام 1977 عبر ثلاثة فتية على مفتتح عتبة الوعي والنضج والفهم الحياتي، المرحلة التاريخية على بوابة حرب تشرين.. إنه شوط الآلام والأحلام، في تلك الفترة المترعة بترقب أمل انتصار. وسنرى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حضوراً للمرأة الفلسطينية الأرملة (تؤدي دورها الفنانة منى واصف) التي نتبين معاناتها المريرة، التي تتقاسمها مع النازحين السوريين، من الجولان، إثر نكسة 1967.. هنا اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون يتشاركون معاناة التشرد وينتظرون جميعاً تلك اللحظة التي يستطيعون فيها العودة إلى الديار.‏ ‏
    أما المخرج مروان حداد فيقدم فيلمه «الاتجاه المعاكس» عام 1975 وفيه مناقشة جادة، وأول مرة، في السينما السورية، لانعكاسات هزيمة حزيران، وأثرها على الشباب العربي عموماً، والسوري والفلسطيني في سورية، تحديداً.. نحن في هذا الفيلم نشهد شخصيتين أساسيتين، الشخصية الأولى (يؤديها الفنان عبد الهادي الصباغ) شاب ذهبت به النكسة بآثارها نحو الإحباط والانكسار واليأس.. إنه يرى اللاجدوى واللااهتمام والفوضى والعبث، وينتمي إلى الكحول أكثر من انتمائه لواقعه، فقد أودت به الهزيمة نحو اغتراب فظيع، ولم يعد يرى من العالم إلاّ وجهه البشع. أما الشاب الآخر (يؤديه الفنان بسام لطفي) فهو شاب متوازن، ومتماسك، يدرك حقائق الأمور، ويبحث عن السبل لتغيير هذا الواقع المرير. إنه وبرغم الانكسار لا يرى أن الصراع العربي- الصهيوني انتهى بهذه الهزيمة، وإن كانت نكراء، أو أن المعركة حسمت بها، برغم قسوتها وجسامتها. وسنراه يذهب في عملية استشهادية، مختصراً كل الكلام، بمقولة عدم وجود حلّ آخر، أي في دعوة واضحة المغزى، حول خيار الكفاح المسلح، والعمل الفدائي.‏ ‏
    وفي «الأبطال يولدون مرتين» للمخرج صلاح دهني عام 1977 نجد فيلماً يقدم الواقع الفلسطيني مباشرة، إذ تدور أحداث الفيلم، في مخيم فلسطيني، من المفترض أنه يوجد في قطاع غزة، بعد أن وقع تحت الاحتلال الصهيوني. في هذا الفيلم ثمة رصد لهذه الحياة، والوقائع المريرة، التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، وممارسات جند الاحتلال الصهيوني. يستند الفيلم إلى قصة «سرّ البري» لعلي زين العابدين الحسيني.‏ ‏
    ويتصل فيلم «حادثة النصف متر» للمخرج سمير ذكرى، عام 1980، بالشأن الفلسطيني من خلال الخلفية التاريخية التي تدور في ظلالها حياة بطل الفيلم الدمشقي «صبحي الحلونجي»، فنراه يذهب نحو المخيم الفلسطيني، ويشهد حوارات، ويحضر جلسات نقاش تتعلق بالقضية الفلسطينية، والصراع العربي- الصهيوني، ومتعلقاته، وضرورة الكفاح المسلح.. ولكن الفيلم يصبّ اهتمامه، أولاً وأساساً في سياق رصد رحلة بطله البورجوازي الصغير، وقلقه وارتباكه، من منطلق طبقي واضح، ومع ذلك فإن الفيلم امتلك نافذة أطل منها على الشأن الفلسطيني، في مرحلة تاريخية معينة، وبيّن ارتباط هذا الشأن وتأثره بمجمل التفاصيل الحياتية المجتمعية والفردية، للواقع العربي، وتأثر هذا به أيضاً..‏ ‏
    كذلك الأمر بشأن فيلم «أحلام المدينة» لمحمد ملص 1984 حيث نرى أن أحداثه تدور بين مدينتي دمشق والقنيطرة، بدءاً من مطلع الخمسينيات في القرن العشرين.. وسنجد في خلفية المشهد حضوراً متكرراً، ولكنه غير مؤسَّس عميقاً للشأن الفلسطيني، فعند مطلع الخمسينيات تنطلق أحداث الفيلم لتنغلق عند الوحدة بين سورية ومصر التي قامت في العام 1958 ومن خلال قوس الأحداث الممتد في الفيلم بين هذين التاريخين، تطل القضية الفلسطينية، تارة كحجة للانقلابات العسكرية، وتارة ذيلاً ختامياً للبيانات والشعارات، وتارة أخرى حيث فقد أحدهم ضوء عينيه.. وتتقدم الوحدة بين مصر وسورية، والشوارع فارغة، في مشهد لافت!..‏ ‏
    ففلسطين حضرت غائبة، وغابت حاضرة، في هذا الفيلم، وهو الأمر ذاته الذي تكرَّر في فيلم «الليل» لمحمد ملص أيضاً عام 1992 حيث نشهد قوافل المتطوعين يذهبون نحو فلسطين، ويعودون منكسرين، مهزومين، محطمين.. فهناك خلف تلال لا تبين، توجد فلسطين، وهنا (في مدينة القنيطرة) ثمة أحداث سياسية، وتحولات، وانكسار، وحطام، وموت..‏ ‏
    وفي تسعينيات القرن العشرين، كانت الأفلام السورية، في أغلبيتها ذات علاقة، عابرة دالّة، أو مباشرة متأنية، وهي تكشف عمق العلاقة بين المواطن العربي السوري، حيثما كان، من جهة، وقضية فلسطين، من جهة أخرى.. ففي عرس شعبي يُقام في أقصى شمال سورية، وفي بيئة فلاحية بكر، نجد فيلم «نجوم النهار» للمخرج أسامة محمد 1988 وهو يدفع بطفلين ينشدان (بابا شرالي هدية.. دبابة وبندقية.. أنا ويّاك طفل صغير.. ندخل في جيش التحرير.. جيش التحرير علمنا.. كيف بنحمي وطنّا.. تسقط، تسقط إسرائيل.. تعيش الأمة العربية) وهو نشيد طفولي، تربت عليه أجيال من أطفال العرب.
    ‏ ‏
    وفي فيلمي «ليالي ابن آوى» و«رسائل شفهية» لعبد اللطيف عبد الحميد، وعلى الرغم من محليتهما العميقة، على صعيد البيئة الساحلية السورية، يحضر الشهيد، والعسكري، وحرب حزيران، وذاكرة العسكري المتقاعد، والجبهة في الجولان، والقصف الليلي.. إنها البعض من مفردات الواقع العربي السوري، في مراحل تاريخية متعددة، منذ اغتصاب فلسطين. وهي إشارات لما هو كامن في عمق الوجدان العربي، سواء بوعي متبلور وناضج، أو بعفوية وبدائية وسذاجة، ولكنها دالّة في كل الحالات، وهذه إحدى السمات في السينما والواقع السوري، إذ إن الشأن الفلسطيني، يأخذ صفة الاهتمام اليومي في سورية، وهذا ما عبرت عنه السينما السورية، عند تجوالها في بنية المجتمع السوري، حتى في أقصى جغرافيته نأياً عن خطوط المواجهة. ‏ ‏
    ويتصل فيلم «شيء ما يحترق» لغسان شميط بالقضية والصراع العربي الصهيوني من خلال تناوله لقضية الجولان العربي السوري، الذي احتل إثر النكسة الحزيرانية عام 1967.. الفيلم سيتكئ على هذا المفصل التاريخي المرير، ليبني قصة أخرى، تحاول رصد واقع النازحين السوريين، ومعاناتهم، والتحولات التي حصلت في حياتهم.. فبموازاة الشخصية الإيجابية الذي يمثلها الأب أبو رمزي (يؤديه يوسف حنا)، نجد الشخصيات السلبية مثل رمزي الابن (بسام كوسا) والخال (عبد الفتاح المزين) وتاجر المهربات (خالد تاجا)..‏
    وفي العام 1997، يقدم المخرج ريمون بطرس فيلمه الروائي الثاني «الترحال» الذي تدور أحداثه في مرحلة مفصلية، نقصد العام 1948.. أي تماماً عندما شهدت المنطقة العربية كارثة قومية، تجسدت في نكبة فلسطين، واغتصابها، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين، فيرصد الفيلم سيرة نحات سوري من أبناء مدينة حماه (أبو فهد) وأسرته، ولكن دونما انغلاق، إذ تبدو هذه الأسرة العربية السورية، المسيحية الديانة، متشابكة العلاقات والمصير، وفي حالة توحّد وتواشج، مع الهمّ العربي في بعديه الوطني والقومي.. وتبدو فلسطين في فيلم «الطحين الأسود» لغسان شميط 2001، مكاناً آخر، كأنما هي في نهاية النفق، الذي ربما لا يدري أحد كنهه.‏ ‏
    وكعادته لا يترك المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الحديث عن فلسطين، حتى وإن كان يغوص في بيئة مغرقة في محليتها، في كونها بكراً ومنعزلة عن العالم بكل ما فيه.. هنا في فيلمه «قمران وزيتونة» 2001، فلسطين تحضر بقوة!.. إنها السبب الحقيقي الذي جعل رب الأسرة يرقد عاجزاً في سرير القهر. لقد نالته إصابة خلال حرب فلسطين (1948)، وتحوّل من رجل مناضل ثائر، أو متمرد، إلى رجل العجز وقلة الحيلة، في رعاية زوجة شابة تترع أنوثة إلى حد الوحشية، وتنطحن بين حجري رحى: واقعها الذاتي، وهموم أسرتها.‏ ‏
    وعلى الرغم من تشابك الخطوط الدرامية، ووصول بعضها إلى درجة الانغلاق، إلا أن الخيط الدرامي الواضح، والذي لا جدال فيه، في فيلم أسامة محمد «صندوق الدنيا» 2002، هو الاتجاه الذي يمثله أحد أفراد الأسرة من الجيل الثاني، جيل الآباء (يؤديه فارس الحلو). ذاك الرجل الذي يخرج من جيبه صورة جمال عبد الناصر، ويروي بعشق كبير رؤيته الشخصية له (ربما يقصد خلال زيارة جمال عبد الناصر لمدينة اللاذقية عام 1958).‏ ‏
    يرتبط حضور عبد الناصر في السينما السورية بحلمين كبيرين ومترابطين: حلم الوحدة التي كانت خيط النجاة ومبعث الرجاء للعرب، رداً على النكبة. وحلم تحرير فلسطين التي أذلت جيلاً عربياً كاملاً رأى نفسه عاجزاً ومحبطاً ومهزوماً أمام شراذم من العصابات الصهيونية، التي جاءت فلسطين واستلبتها من بين أيديهم دون أن يستطيعوا فعل شيء..‏
    عودة المحارب مهزوماً، تبدو الصورة المتكررة في أفلام السينما السورية، وهي تتحدث عن فلسطين. إنه «على الله» في فيلم «الليل» لمحمد ملص عام 1992، وهو من جهة أخرى «أبو فهد» في «الترحال» لريمون بطرس 1997، مع اختلاف بيِّن. كما يعود المحارب في «صندوق الدنيا» ملوثاً بالوحل، من الخارج والداخل، تماماً، ويروي قصة هزيمته بطريقة ذاهلة، وهي عودة الأب في «أيام الضجر»، لعبد اللطيف عبد الحميد، 2009، ملفوفاً بالشاش الأبيض، بشكل شبه كامل.‏ ‏
    وإذا كان التعلق بعبد الناصر، وحلم الثورة، سيكون حاضراً في فيلم «رؤى حالمة»، للمخرجة واحة الراهب، عام 2003، ولكن هذه المرة من خلال شخصية فتاة، تتعلق بأحلام والدها المجهضة، وتسعى كي تخطّ دربها على درب الثورة، والتحرر.. فإن عودة الفتى شهيداً في فيلم «ما يطلبه المستمعون»، لعبد اللطيف عبد الحميد، عام 2005، وعودة الفتى ليستشهد في فيلم «الهوية»، لغسان شميط 2006، لن تكون إلا في إطار تفاصيل التداخل العميق بين الحال السورية، والقضية الفلسطينية، باعتبارها عنوان القضايا الوطنية والقومية التي ستنشغل بها السينما السورية، في غالبية أفلامها، إلى الدرجة التي لا نكاد نعدمها تفصيلاً، أو خطاً درامياً، أو شخصية حاضرة، بشكل أو بآخر، في الضوء أو في الظل، عابراً كما في فيلم «حسيبة» لريمون بطرس، وجوهرياً فاعلاً في فيلم «أيام الضجر» لعبد اللطيف عبد الحميد، عام 2007، وذلك قبل أن توقف السينما السورية فيلماً كاملاً أخيراً من إنتاجها، بمناسبة «القدس عاصمة الثقافة العربية»، اتكاءً على رواية فلسطينية، بعنوان «بوابة الجنة»، كتبها السيناريست الروائي حسن سامي اليوسف، وأخرجها ماهر كدو، بالعنوان نفسه عام 2009، دون أن ينجح في الارتقاء إلى مستوى «المخدوعون»، أو «كفر قاسم».‏ ‏
    يبقى من المهم جداً الانتباه إلى أحدث إنتاجات القطاع الخاص للسينما السورية، متمثلاً بفيلم «دمشق مع حبي»، للمخرج محمد عبد العزيز، عام 2010، وهو فيلم أمكن له بتميز الاقتراب من تشابكات وطنية وقومية، وإن لم يكن هذا همّه المباشر، تماماً كما فعل المخرج جود سعيد في فيلمه «مرة أخرى». هنا مخرجان شابان يتناولان شؤوناً من الواقع الوطني والقومي، لا تكاد تبتعد أبداً عن جوهر الصراع، ومصيريته، وإن لم يقولا ذلك صراحة. ولكنهما في كل حال بقيا على وفاء كبير لجدية السينما السورية، وعمقها في تناول الشأن الوطني والقومي، بقوة. وهو ما يبشرنا أن الجيل الجديد في السينما السورية، سيكون له قوله في الصدد، وبطريقته المختلفة، والمميزة.‏‏
Working...
X