Announcement

Collapse
No announcement yet.

الباحث ( موسى سامح ربابعة ) كاتب وأديب وناقد من الإردن

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الباحث ( موسى سامح ربابعة ) كاتب وأديب وناقد من الإردن

    موسى ربابعة
    ولد موسى سامح ربابعة في قرية كفر راكب في إربد في الرابع عشر من تشرين أول العام 1975. درس المراحل الإبتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس محافظة إربد، التحق بجامعة اليرموك وفيها تخرج في قسم اللغة العربية بدرجة البكالوريس عام 1980، ثم واصل دراساته العليا في جامعة اليرموك نحصل على درجة الماجستير منها عام 1983، أوفد في عام 1987 إلى جامعة جيسن في ألمانيا فعاد منها عام 1987 بعد أن حصل على درجة الدكتوراة في الأدب القديم. يتقن بالإضافة للعربية الإنجليزية والإسبانية.
    عمل في مركز الدراسات الأردنية في جامعة اليرموك في مجال توثيق الأدب الأردني لمدة ثلاثة أعوام منذ عام 1980-1983، ومحاضراً غير متفرغٍ قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة. وبعد عودته من إسبانيا عام 1987 عُين أستاذاً مساعداً في قسم اللغة العربية ثم أستاذاً مشاركاً في القسم نفسه، فأستاذاً مشاركاً في قسم اللغة العربية في جامعة العلوم التطبيقية وأخيراً أستاذاً في قسم اللغة العربية في جامعة اليرموك وكان ذلك عام 1997. حاز على جائزة العلوم الإنسانية من مؤسسة عبد الحميد شومان عن مجمل أعماله عام 1997. قدّم العديد من البحوث المتخصصة في الندوات والمؤتمرات الأدبية على الصعيدين المحلي والغربي، ولعل من أبرز هذه المؤتمرات مؤتمر النقد الدولي بالقالدة.
    مؤلفاته:
    * الدراسات الأدبية والنقدية:

    1. قراءة النص الشعري الجاهلي، مكتبة حمادة للطباعة والنشر، إربد، 1998.
    2. الاستشراق الألماني المعاصر والشعر الجاهلي، مكتبة حمادة للطباعة والنشر، إربد، 1999.
    3. تشكيل الخطاب الشعري، ودراسات في الشعر الجاهلي، مكتبة حمادة للطباعة والنشر، إربد، 2000.
    4. التناص في نماذج من الشعر العربي الحديث، مكتبة حمادة للطباعة والنشر، إربد، 2000.
    5. جماليات الأسلوب والتلقي، مكتبة حمادة للطباعة والنشر، إربد، 2000.
    6. قراءات أسلوبية في الشعر الجاهلي، مكتبة الكتاني، إربد، 2001.
    جماليات الأسلوب والتلقي
    دراسات تطبيقية

    أ.د. موسى ربابعة
    جامعة اليرموك
    المتوقع واللامتوقع: دراسة في جمالية التلقي
    أولاً: مدخل إلى المفاهيم
    اهتمت الدراسات النقدية العربية القديمة بظاهرة التلقي التي اقترنت أول ما اقترنت بمقولة "موافقة الكلام لمقتضى الحال"، وقد انبثقت أحكام نقدية كثيرة من هذه المقولة، وذلك في المعالجات التي كانت تشير إلى معنى المعنى والغموض والجرأة والمحال وتأثير ذلك في القارئ ودوره في تفسير مثل هذه الظواهر، ولما كان هدف هذه الدراسة معالجة ظاهرة المتوقع واللامتوقع في الدراسات النقدية الحديثة فإنه سيكتفي بالإشارة إلى بعض الدراسات التي تناولت دور القارئ في النص التراثي النقدي والبلاغي.
    اتخذ الاهتمام بدور القارئ في دراسة النص الأدبي حيزاً كبيراً ومهماً في الدراسات النقدية الحديثة، وقد اختلفت نظرة هذه المدارس إلى القارئ باختلاف منطلقاتها وتوجهاتها التي تنطلق منها، فقد تم تجاوز النظرة السائدة التي كانت تنظر إلى العلاقة القائمة بين المبدع والقارئ على أنها علاقة منتج ومستهلك، ولا تتعدى ذلك إلى حدود التفاعل والمشاركة، ولكن النظرة إلى القارئ بدأت تتغير، فالقارئ لم يعد مستهلكاً، ولم يعد النص هو الذي يمارس السلطة على القارئ وإنما يقوم القارئ هو الآخر بممارسة سلطة على النص حتى يستطيع أن يدخل إلى عالمه ويشارك في إكمال ما هو غائب في النص.
    لقد أدركت الدراسات التي تتعامل مع النص تنظيراً وتطبيقاً أن المنشئ يدعو القارئ لتقبل العمل، ودون هذا التقبل لا وجود للنص ولا يمنحه مشروعيته، فالتلقي أضحى عنصراً مهماً في دراسة النص وتأويله، لأن دراسة النص دون تفاعل بني النص والقارئ تغدو دراسة مبتورة وناقصة، وهذا يعني "أن النص نصان: نص موجود تقوله لغته، ونص غائب يقوله قارئ منتظر".
    ومن أهم الفاعليات التي تتعلق بالقارئ دوره في الكشف عن أمور لم يصرح بها النص مباشرة، وهذا الكشف لا يتم إلا بالتفاعل العميق بين القارئ والنص، "فالعمل الأدبي بخصائصه الأسلوبية واندراجه التاريخي ضمن جنس أو نوع وإنما يتحدد باستقباله وما يتحقق جمالياً بالقراءة، وتلك مهمة المتقبل الذي يذهب إلى النص بذخيرته كما يداهمه النص نفسه بذخيرته، وعبر هذا التفاعل يتم اكتساب العمل الأدبي ملموسية ما نفتقدها في الدراسات التي تقف عند حدود التقبل ولا تتفحصه".
    وانطلاقاً من هذه الرؤى التي تمنح القارئ دوراً أساسياً وفاعلاً في عملية القراءة، لم يعد القارئ مرسلاً إليه فقط، وإنما أصبح متلقياً قادراً على الدخول أو العبور إلى النص أو الاندماج فيه. وقد تطورت النظرة إلى القارئ عبر الدراسات التي قامت حول الأسلوبية والألسنية والشعرية ونقد استجابة القارئ ونظرية التلقي أو الاستقبال.
    ومن خلال استقراء موقف هذه المدارس من القارئ يبدو هناك خيط يجمع هذه المواقف بشكل موح، وذلك من خلال بعض الصفات أو المسميات التي تتصل بدور القارئ وموقفه مما يقرأ، فقد ظهرت بعض المسميات منها: المفاجأة والتوقع والانتظار الخائب أو المحبط، والانحراف والصدمة والفجوة أو الفراغ والتوتر ومسافة التوتر وأفق التوقع، وكل هذه العناصر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاركة القارئ في استخراج خبايا النص والوقوف عند المدهش والمثير فيه، ولذلك لم يعد دوره مقتصراً على ملامسة سطح النص، وإنما غدا دوره كامناً في الكشف عن أعماق النص بشكل يجسد تفاعلاً خلاقاً بين النص والقارئ.
    جاءت كلمة "المفاجأة" في النقد الأسلوبي وفي الشعرية بشكل واضح، وهي تعني ذلك الأثر الذي يخلفه نص أو عبارة من نص في وعي القارئ أو ذلك الاستنفار الذي تثيره المنبهات في القارئ وتجعله مستنفراً. وقد اعتمدت نظرية ريفاتير في تحديد مفهوم الأسلوب على عنصر المفاجأة ويتمثل هذا فيما يحدثه تجاوز النمط أو السائد أو المعروف من مفاجأة لمتقبل الرسالة، "وتتناسب قيمة كل ظاهرة أسلوبية مع حدة المفاجأة التي تحدثها تناسبا ًطردياً، بحيث كلما كانت الخاصية غير منتظرة كان وقعها على نفس القارئ أعمق".
    فالمفاجأة التي يثيرها النص هي اختراق وتجاوز لها هو متوقع ومنتظر، فالمتوقع أو المنتظر لا يثير شيئاً ذا بال في وعي القارئ، بينما تثير العناصر غير المتوقعة وعي القارئ وتستنفره. وعلى هذا الأساس ارتبطت المفاجأة بعملية التقبل، وهي عملية جعل ريفاتير القارئ أحد أسسها إلى جانب المرسل والسياق، ولذلك أصبحت المفاجأة وصفاً لردود فعل القارئ إزاء المنبهات والمثيرات الكامنة في النص، وفي ضوء هذا حدد ريفاتير السياق الأسلوبي "على أنه نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع".
    إن "غير المتوقع" هو ذلك العنصر الذي يشكل المفاجأة عند ريفاتير، وإذا ما أهمل القارئ العناصر التي تجذب الانتباه إليها فإن هذا يعني تشويه النص؛ لأن المنبهات الأسلوبية ترتبط بالبعد العاطفي أو المؤثر للغة، وهذا ما أكده بالي مؤسس علم الأسلوب الذي قال عنه: "إنه علم يفهم من خلال فهم الوظيفة العاطفية والتأثيرية للغة"، وقد تطور هذا الفهم للأسلوب إلى ما عرف عند ستانلي فيش بالأسلوبية التأثيرية Affective Stylistics.
    ولما كانت الدراسة الأسلوبية تركز على ردود فعل القارئ فإنها تحدثت عن بعض العناصر التي تصف البعد التأثيري للنص في القارئ، وهو بعد لا يستهان به في عملية القراءة وبخاصة تركيز الأسلوبية على ما هو لافت للقارئ ومدى تأثيره فيه، حتى أن الأسلوب كان يعرف عند بعض الباحثين "بأنه حصيلة ردود فعل القارئ في استجابته لمنبهات النص".
    ومن العناصر التي ركزت عليها الدراسات الأسلوبية بالإضافة إلى المفاجأة عنصر التوقع Erwartung، وحاولت أن تدرس هذا العنصر من خلال علاقته بالقارئ، ولذلك فإن عملية التلقي تقوم في الدرجة الأولى على التفاعل بين المتوقع واللامتوقع وردود فعل القارئ إزاء ذلك، ولكن هذا التوقع مشروط بمعرفة القارئ وخبرته، فربما يكون ما هو غير متوقع عند قارئ متوقعاً عند قارئ آخر، ولذلك "فإن استرجاع الأسلوب يتحدد في المقام الأول من خلال توقع القارئ كما يرتبط –من جانب آخر- بمعارف القارئ السابقة مثل خبرات القارئ ومعرفته بالأعمال الأدبية الأخرى وأخيراً بتصوراته عن الكيفية الأدبية والمقاييس الجمالية".
    يصطدم القارئ وهو يتابع الجمل والصفحات التي يقرؤها بعناصر غير متوقعة ويرسم القارئ حدود المتوقع واللامتوقع من خلال معرفته وخبرته، ولكن الذي يثيره هو أن يتصادم مع تركيب أو عبارة أو فكرة أو وزن أو فضاء نصي لا يتطابق مع معرفته الأولية، ولذلك فإن هناك إثارات يتعرض لها وعي القارئ، وإن هذه الإثارات هي التي تستطيع أن تفتح أمامه آفاقاً للتفسير.
    ويجد القارئ نفسه مندهشاً بالعناصر غير المتوقعة في النص، وهي عناصر تشكل السلطة التي يمكن أن تمارسها هذه العناصر على القارئ، "فالأدب سلطة يوجه تجربتنا، لأنه فن يقطع ويتصادم مع تلقينا اليومي وآليته عن طريق جدة أشكاله، ولأن سلطة الأدب مؤلف فني جديد يتنازع ويتعارض عن خلفية قرائية لأشكال فنية أخرى ولتجربة الحياة اليومية.
    فالقارئ عندما يدخل إلى عالم النص تحوم في نفسه جملة من الأشياء وحتى مجرد أن يمسك بالنص وتقع عليه عيناه. ولذلك فإن القراءة يمكن أن تكون لدى القارئ "عبارة عن جملة من الافتراضات والآمال والأحلام التي تعقبها يقظات، فالوعي القارئ عند شروعه في القراءة يتوقع وينتظر، يتوقع نهاية الجمل والصفحات التالية...".

    وقد استخدمت الشعرية مفهوم التوقع وقد جاء ذلك عند Klopfer الذي تحدث عن مبدأ كسر معيار التوقع، وهذا هو الأمر الذي ركز عليه كمال أبو ديب وسماه "خلخلة بنية التوقعات"، وإن كان كمال أبو ديب يتحدث عن الشعرية دون أن يربطها بعملية التلقي.
    وفي إطار الدراسات الشعرية لعملية التلقي أو لدور القارئ في النص
    عرف ياكبسون الأسلوب بأنه الانتظار المحبط، defeated expancy، وهو مفهوم ركز عليه في دراساته للشعرية يقول: "إن اللامتوقع والفجاءة والذهول تشكل بدورها جزءاً جوهرياً من المفعول الفني أو بعبارة أخرى التابل الضروري لكل جمال، لكن عملنا قد وطف – منذ حوالي سبعين سنة- هذا التابل في الشعرية توظيفاً واسعاً تحت تسميتي التوقع الخائب أو الانتظار المحبط".
    وليس هناك من شك في أن النقد الذي يركز على دور القارئ ويصر على إبراز دوره يعمد إلى أن يؤكد ما هو غير متوقع، فالمتوقع لا يثير، وكلما واجه القارئ تصادمات وتعارضات مع موقفه ووعيه وذوقه، فإن ذلك يخلق لديه إمكانية الانفعال بالنص، وهذا انفعال كفيل بخلق الحس الجمالي لدى القارئ، وهذا الحس الجمالي هو نتاج التأثير الذي يمارس على القارئ، ولذلك يستطيع اللامتوقع أو التوقع الخائب أن يشكل لذة التقبل لدى القارئ، وهي لذة تقوده إلى ملازمة النص ومعايشته ومحاولة استبطانه بشكل موحٍ ومؤثر.
    لقد ركزت بعض الدراسات على استجابة القارئ، فنقاد استجابة القارئ "نقلوا اهتمامهم من العمل الأدبي بوصفه بناء منجزاً من المعاني إلى استجابة القارئ، وهو يتبع بعينه الصفحة التي تحوي النص، وبهذا التحويل في المنظور يتحول العمل الأدبي إلى نشاط في عقل القارئ، وإن ما كان يعتبر في التحليل النقدي الاعتيادي خصائص للعمل نفسه- يصبح الآن عملية زمنية ارتقائية تتكون بصورة رئيسية من التوقعات ومن إحباط وتأجيل وإشباع تلك التوقعات في مجرى تجربة القارئ".
    فالتوقعات أو الانتظارات الخائبة عناصر أساسية من العناصر التي ترتبط بدور القارئ، حتى إن الأسلوبية ركزت على هذين العنصرين إلى جانب عناصر أخرى، فقد "حدد الأسلوب قبل كل شيء باعتباره قائماً على سلسلة من التفضيلات والاختيارات والعدولات والمفاجآت والانتظارات الخائبة".
    وقد ارتبط عنصر التوقع والمفاجأة والانتظار الخائب أو المحبط بمفهوم شاع في الدراسات الأسلوبية والشعرية والألسنية وهو مفهوم الانحراف Deviation، وهو مفهوم حظي باهتمام كبير لأنه يشكل مخالفة واضحة لتوقعات القارئ وافتراضاته وآماله، فقد اهتمت بعض الدراسات الأسلوبية بهذا المفهوم حتى عرفت الأسلوب بأنه انحراف كما اهتمت به الشعرية التي ترى أن اللغة الشعرية هي الأخرى انحراف عن اللغة النثرية.
    ومما تجدر الإشارة إليه أن الدراسات التي حاولت أن تبرز دور القارئ من خلال عناصر التوقع والمفاجأة والانتظار الخائب، وغيرها من العناصر المتشابهة تصطدم بالحقيقة التي تبرزها بعض النصوص التي لا تكون فيها هذه العناصر هي الأساسية، بالإضافة إلى أن النص نفسه يمكن أن يحوي عناصر متوقعة وعناصر غير متوقعة، فإذا كانت العناصر غير المتوقعة هي التي تثير القارئ فإن ذلك يعني أن العناصر المتوقعة يمكن أن تبقى مهملة، ولذلك فإن الأسلوب عُرف بأنه "العناصر أو الخصائص غير المتوقعة" البارزة فقط".
    وقد تطورت النظرة إلى القارئ ودوره الفاعل في قراءة النص عند الناقد الألماني فولفقانغ إيزر Wolfgang Iser وهو أحد أصحاب نظرية التأثير والاتصال Wirkungs-und Kummanikations- Theorie.
    يرى إيزر أن "العلاقة بين القارئ والنص ليست علاقة تسير في اتجاه واحد: من النص إلى القارئ حيث يقوم القارئ عند استقبال النص بفك شفراته وفقاً لاتجاه من الاتجاهات النقدية السائدة مثل الاتجاه البنيوي أو السميولوجي أو الاجتماعي ونحوها، وإنما هي علاقة تبادلية تسير فيها عملية القراءة في اتجاهين متبادلين: من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص، وبذلك يصح القول بأن النص أثر بالقارئ وتأثر به على حد سواء".

    ولكن كيق تتم عملية التبادل بين القارئ والنص في ضوء نظرية التأثير والاتصال؟ لقد استطاع إيزر أن يتجاوز ما فعله غيره في التركيز على العلاقة بين النص والقارئ فقط بما أسماه بالفراغات أو الفجوات Leerstellen وجعلها أساس نظريته.
    وعلى هذا الأساس فإن القارئ لا بد له أن يتفاعل مع النص ليكون مشرفاً في تشكيله واستبطانه بصورة تحقق قراءة أقرب إلى عالم النص وقصيدته ورؤيته، "ولذلك فإن النص الأدبي يسيطر جزئياً – بوصفه نتاجا ًلأفعال الكاتب القصدية على استجابة القارئ ولكنه يحتوي دائماً – إلى درجة ازدادت بصورة عظيمة في الأدب الحديث- على عدد من الفجوات أو العناصر غير المحددة، ويجب على القارئ أن يملأ هذه ذاتياً بطريقة المشاركة الخلاقة مع ما هو معطى في النص الذي أمامه، إن تجربة القراءة عملية ارتقائية من التوقع والإحباط والتأمل وإعادة البناء".
    وإن القارئ الذي يطلب منه ملء الفراغات لا بد أن يكون قارئاً متمرساً وليس قارئاً عادياً يكتفي بملامسة سطح النص، فالقارئ المتمرس يمتلك قدرة على ملء الفراغات التي يتركها المبدع لذكاء القارئ وفطنته، ووفقاً لهذا فإن القارئ "لا بد أن يتوقف مع النص الجيد الذي لا يستهلك نفسه، وذلك عن طريق ترك فراغات على نحو معتمد لكي يملأها القارئ، وعادة ما تنجم هذه الفراغات من حيل أسلوبية لا يكتشفها ولا يفهم أبعادها إلا قارئ متمرس".
    ومما تجدر الإشارة إليه أن المقصود بالفراغات هنا هو ما سماه كمال أو ديب في كتابة "في الشعرية" الفجوة – مسافة التوتر Spannungsweite، ولذلك يبدو أن هذين المصطلحين اللذين جعلهما كمال أبو ديب أس الشعرية دون أن يعمد إلى تناولها في علاقتها بالقارئ قد جاءات من الدراسات الغربية للأسلوبية والشعرية، وقد أشار أبو ديب نفسه إلى تطابق مفهوم الفجوة عنده مع مفهوم الفراغات عند إيزر وذلك في هوامش كتابه في الشعرية.
    إن الفراغات التي أشار إليها إيزر تسهم في إبراز دور القارئ، فإذا كان المبدع يركز على الجانب الفني، فإن القارئ لا بد أن يظهر البعد الجمالي للنص، وذلك من خلال عملية ملء الفراغات الموجودة في النص، وعندما يملأ القارئ هذه الفراغات فإنه يحقق التواصل بينه وبين العمل الفني، وتتصل الفراغات باللامتوقع من خلال تشكيلها عن طريق الحيل الأسلوبية التي يعمد إليها المبدع.
    وقد تطورت النظرة إلى القارئ من خلال مفهوم جديد جاءت به نظرية الاستقبال Rezeptionstheorie على يد الناقد الألماني هانز روبرت ياوس Hans Robert Jauss وهذا المفهوم سماه ياوس "أفق التوقع": Erwartungshorizont، يرى ياوس أن الماركسية والشكلانية قد قبيتا القارئ، فالماركسية مثلاً نظرت إلى القارئ بشكل لا يختلف ع نالمؤلف، أما الشكلانية فإن نظرتها إلى القارئ لم تتجاوز كونه ذاتاً –مدركه-.
    وكان للدراسات التي قدمها هانزروبرت ياوس أهمية كبيرة في التركيز على توقع القارئ، وذلك ضمن معطيات جديدة تقوم على تجسير الهوة بين ما هو تاريخي وبين ما هو جمالي في دراسة النص الأدبي، معتمداً في ذلك على مفهوم أفق التوقع، "وهو مفهوم أخذه ياوس من علم الاجتماع، وهو مفهوم أساسي وجوهري لتاريخانية التأثير للنصوص الشعرية، فبالنسبة إلى طبقة القارئ المحددة ضمن إطار ثقافي معين، فإن ظهور عمل فني في فترة ما يشكل توقع القارئ، وهو توقع يتأسس من خلال الأعمال الأخرى المتشابهة والمتقاربة ومن خلال الوضع التاريخي العام".
    ويبدو أن أفق التوقع مفهوم أوسع من مفهوم التوقع الذي شاغ في الدراسات الأسلوبية والألسنية والشعرية، لأن مفهوم أفق التوقع لا يتعامل مع جزئيات في النص الأدبي فقط، وإنما قد يمتد ليشمل النص كله، فيما إذا كان منسجماً مع أفق توقع القارئ أم لا.
    ومن هنا فإن العمل الأدبي – ضمن إطاره التاريخي الذي أفرزه – يمكن أن يمارس سلطة توجه تجربة القارئ الجمالية "Asthetische Erfahrung"، ولذلك فإن أفق القارئ قد ينسجم مع العمل وربما لا ينسجم، وقد سمى ياوس تصادم أفق التوقع للقارئ مع أفق النص بالمسافة الجمالية Asthetische Distanz وهي مفهوم يقوم على التعارض بني ما يقدمه النص وبين ما يتوقعه القارئ، فالنص ربما يطابق أو يخيب أو ينقض ما يتوقعه القارئ، ولكن النص الذي لا يتطابق مع أفق القارئ قد يمتلك قدرة على تغيير أفق هذا القارئ، وهذا ما أسماه ياوس "بتغيير الأفق Horizontwandel".
    ومما هو لافت أن أفق التوقع الذي قدمه ياوس قد تأسس على ما كانت الشكلانية قد أسمته بكسر التوقع أو خلخلة بنية التوقعات، لكن ياوس وسع من دائرة هذا المصطلح وقدمه ضمن إطار تاريخي؛ لأن الفترة التاريخية لظهور العمل الفني مهمة جداً بالنسبة إلى توقع القارئ، ومع ذلك فإن ياوس "وسع مفهوم كسر التوقع وجعله مبدأ مرناً لا يقف عند حدود الانزياحات الأسلوبية المفردة، ولكنه مفهوم يتسع ليشمل العمل كله، فإذا كان كسر التوقع عند الشكليين ملمحاً أسلوبياً يقف عند الدال وإدراكه يصبح أمراً ثابتاً، بينما أفق التحول يظل متحولاً ومتغيراً مع تحول وتغير القراء".
    وعلى هذا الأساس يمكن أن ينظر إلى البعد الجمالي للعمل الفقني من خلال قراءاته التي تتعدد حسب طبيعة القارئ وخبرته السابقة التي "يجمعها وهو يتهيأ لقراءة النص، وإن استجابة القارئ التي تشكل بالنسبة إليه المعنى والخصائص الجمالية للنص هي النتاج المشترك لـ"أفقه" الخاص من التوقعات اللغوية والجمالية، ولما تؤكد أو تحبط أو تنكر هذه التوقعات عندما يتم تحديها من قبل خصائص العمل نفسه".
    ثانياً: الجانب التطبيقي
    لقد ارتبط عنصر التوقع والمفاجأة وأفق التوقع والانتظار الخائب والفجوة ومسافة التوتر وكسر التوقع بالمتلقي، وهي عناصر استطاعت أن تمنح عبر تطورها دوراً أساسياً للقارئ فلم يبق القارئ في الظل، وإنما استطاع من خلال توقعه هو وما يقدمه النص أن يقيم علاقة تفاعلية بينه وبين النص، فلم يعد دور القارئ مرتبطاً بالاستهلاك وإنما أصبح دوره دوراً تشاركياً، لأنه يحاول أن يتفاعل مع ما يقرأ، وهذا التفاعل تخلقه أو تشكله تلك العناصر التي أشارت إليها الدراسة، وهي عناصر تقوم على المتوقع واللامتوقع ومدى تأثيرهما في القارئ ودفعه إلى المشاركة في البحث عن رؤية النص وقصديته متجاوزاً القراءة الخارجية محاولاً القراءة الاستبطانية للنص.
    ومن الأمثلة التي تكشف عن التفاعل بين القارئ والنص – من خلال عناصر المتوقع اللامتوقع والفجوة والانتظار الخائب وغيرها – التناص والحذف وإيحائية اللغة، واللغة العامية أو اليومية، وهذه الأمثلة يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة، ولكن طبيعية البحث تقتضي أن يشار إلى نماذج شعرية تدرس في إطار المتوقع واللامتوقع من خلال أمثلة يقوم بها الجانب التطبيقي:
    التناص:

    يشكل التناص مظهراً من مظاهر إنتاج النصوص وتناسلها، وهذا يعين أن القارئ ينبغي أن يكون على معرفة بالنصوص التي تتداخل وتتعانق وتتعاضد أو تتنافر حتى يتحقق تفاعله مع النص المدروس، لأن النص "يمكن أن يكون عبارة عن لوحة فيسفسائية مليئة بالاقتباسات".
    وعلى الرغم من أن "التناص" يبدو مصطلحاً جديداً إلا أنه مفهوم قديم أشار إليه بعض النقاد العرب تحت مصطلح أسموه "التضمين"، وفصَّل هؤلاء النقاد في أشكاله وألوانه بشكل يؤكد على تنبه التراث النقدي والبلاغي لمثل هذه الظاهرة مصطلحاً ومفهوماً، فقد عرفه ابن الأثير قائلاً: "وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاماً آخر لغيره قصداً للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود".
    لقد اعتمد الشاعر العربي المعاصر على التراث واستوعب بعض عناصره التي رآها تغني نصه وتثريه، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة الشاعر فاضل العزاوي التي جاءت بعنوان "من صحراء لصحراء قصائد إلى أمئ القيس"، يقول العزاوي في إحدى هذه القصائد التي جعل عنوانها "لا تبك يا أمرأ القيس":
    لا تقف أيها الشاعر باكياً
    من ذكرى حبيبٍ ومنزل
    ولا تهك أسى
    فالذين رحلوا سوف يعودون ثانية
    على مطيهم إلى الرسوم الدوارس
    ولسوف تسمع ضحك الفتيات في الهوادج عند الغروب
    يسترقن النظر إليك من وراء الحجبات
Working...
X