Announcement

Collapse
No announcement yet.

سائر جهاد قاسم - كاتب حمصي - قصص المسافر هكذا هي الحياة - دار التوحيدي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • سائر جهاد قاسم - كاتب حمصي - قصص المسافر هكذا هي الحياة - دار التوحيدي

    سائر جهاد قاسم
    قصص المسافر


    المؤلف في سطور
    سائر جهاد قاسم
    كاتب سوري من مدينة حمص
    صدر له :
    ( المسافر ) دار التوحيدي.
    ( صائدو الأحلام ) وزارة الثقافة.
    تحت الطبع :
    ( مرايا الدمع ) مجموعة قصصية.
    (أطياف من القصة العربية المعاصرة ) إعداد.
    حائز على عدة جوائز :
    جائزة اتحاد الكتاب العرب بحمص 2003.
    جائزة عمريت بطرطوس 2004.
    جائزة عبد الباسط الصوفي بحمص 2005.
    شارك في مجموعات قصصية مشتركة :
    قصص مدينتين - حمص وحماة 2002.
    قطوف قلم جريء 2004.
    شارك بالعديد من الأمسيات القصصية في سوريا.
    أجرى عدة حوارات مع نخبة من الأدباء والمثقفين في سوريا.
    ينشر نتاجه في المجلات والصحف السورية والعربية.
    صورت إحدى قصصه لمسلسل مرايا ياسر العظمة 2004.
    المسافر
    هكذا هي الحياة..
    غابة للنسور المحلقة فوق فنن الأشجار العالية وفي الأرض سلام للأقوى
    وما الحرف سوى ذلك السيف الذي يجرد من غمده لحظة الهدوء حتى توشحه الدماء لتطهره من رجس سقط ذات مرة بغفلة عن فارس الأحلام.
    سائر قاسم
    سائر جهاد قاسم
    المسافر

    قصص
    جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
    المسافر
    قصص
    سائر جهاد قاسم
    الطبعة الثالثة 2009 م
    الإشراف الفني: مكتبة الشمالي
    سورية - حمص
    هاتف: 2614371/ 031 فاكس: 2635046/031
    الإهداء ..
    إلى المسافر الذي أضاع نفسه وأضاعنا معه.. والدي.
    إلى التي قضت عمرها في التعب والشقاء.. والدتي.
    أختي الغالية فاتن.
    عائلتي الصغيرة
    ( زوجتي الحبيبة سلام.. وابني مارسيل )
    دفء الرجل .. دفء النصوص
    المقدمة بقلم الأديب الدكتور : حسن حميد
    -1-
    لم أكن من قبل قد قرأت شيئاً لكاتب اسمه ( سائر قاسم ) بل لم يلفت أحد انتباهي إلى هذا الاسم الذي يكتب القصة القصيرة . و لم أقرأ له شيئاً إلا عندما جاء إليّ يحمل بين يديه مخطوطته القصصية الأولى ، شاب في مقتبل العمر ، هادئ هدوء شيخ ، صامت على الدوام ، حيي و خجول . ينظر إلى محدثه بعينين لا تخلوان من الشرود و التشتت .. طلب إلي أن أقرأ قصصه ، و أنا أكتب مقدمة لها لأنه يود نشرها إن وجد تشجيعاً . و لا أدري ، وأنا في فوضاي العجيبة التي أكرهها كثيراً ، كيف ضيعت مخطوطته دون أن أقرأ منها حرفاً .. فتألمت كثيراً متخوفاً من أن تكون النسخة الوحيدة لهذا الشاب قد ضاعت . و حدث أن هاتفني بعد أكثر من أربعين يوماً و سألني عن المخطوطة ، فاحترت ماذا أقول له ، فأحس الرجل بارتباكي ، و قال لي منقذاً : سأسألك بعد أسبوع . قلت : طيب . و رحت من لحظتي أبحث عن المخطوطة فلم أجدها . و انتظرت هاتفه مرة أخرى ، لكنه و بعد أسبوع جاءني و معه نسخة جديدة من مخطوطته القصصية و فرحت به و بها معاً .
    قدمت بهذا لأقول :
    إن ( سائر قاسم ) ليس نزقاً ، و لا برماً ، و لا هو من أصحاب المذهبيات المسبقة التي تسيء الظن بالمتقدمين عليهم بالتجربة ، من الناحية الزمنية في الحد الأدنى . و لا هو من الذين يتجاهلون المشهد الثقافي جملة و تفصيلاً . إنه قاص يريد أن يرى قيمة نصوصه و صورها في مرايا الآخرين . يريد أن يدرك أدراك المتصوفة للمعنى ، هل أدى الوظيفية ، و حبّر المتعة ، و جسد الإقناع في نصوصه ، أم أنه يطير على أكف الأصدقاء و المقربين بعدما مدحوه و اثنوا عليه . لهذا جاء بقصصه لأقول فيها كلمة . و لا أدري إن كان قد قدمها لأحد من أصحاب التجارب الأدبية أو النقدية .. غيري .
    المهم ، هو أنني توسمت في دفء هذا الرجل دفئاً مستجراً إلى نصوصه ، و هكذا كان فعلاً ، فـ ( سائر قاسم ) قاص يعي غايات النص القصصي ، كما يعي موجباته من إتقان للغة ، و التقاط المؤرق و الموحي و المتواري ، و التخلص من جهامة الموضوعات الكبيرة ، و صنع حياة لها طقوسها ، و ناسها ، و هواؤها ، و أرواحها النائية ، و ألوانها .. على قد الأحداث ، و وفق جولان النفوس القلقة العطشى لنهارات ملأى بالضوء ، و الحرية ، و الغايات الدانية كعناقيد العنب .
    -2-
    قصص ( سائر قاسم ) ذات رشاقة بادية ، جملة قصيرة و موضوعاته حيوية ، تمضي دونما عثار إلى خواتيمها السامية . ثمة وعي في الاستهلالات تجميلاً ، و تزويقاً ، و شداً للانتباه ، و ثمة ثنائيات متصادمة ما بين الخير و الشر ، و الضحية و جلادها ، و العادات و التمرد عليها ، و الموات و الثورة .. الخ . كما أن القصص طراً متخففة من ثقل الأفكار تجسيداً و حواراً .. فهي أقرب في تكوينها إلى حديقة صغيرة مشغولة بأيدي بستاني عينه اليقظى ، و يده الماهرة تعملان دائماً في تشذيبها ، و مدها بالرواء ، و هي بذلك تعطي انطباعاً طيباً عن قاص يتقدم بثقة ، و قد وعى دور الأدب ، و قيمة الإبداع كرسالة في الحياة .. يكرز لها ، و يعمل عليها ، لتصير أشد تأثيراً و فاعلية في الذات الإنسانية المصابة بحمى الوقت ، و الذوبان ، و الرخاوة ، و الانطفاء المؤسي . قصص تقارب الواقع و تحتفي به تخوفاً من غمره بالأنفاس الحامضية المستلة من ( ثقافة المادية ) و إفرازاتها الغثة المتكاثرة يومياً ، و هي بذلك ترتب لنفسها موقعاً في خندق المدافعين عن القيم النبيلة ، و الأرواح التي جرحها الجري اللاهث تلبية للدوافع العضوية كالطعام و الماء و الأمن .. الخ .
    -3-
    قصص ( سائر قاسم ) المجموعة في هذا الكتاب أشبه بيد مرفوعة و صوت يتعالى .. علامتها الأبرز الإعلان عن تشوف أدبي ، و حضور في المشهد الثقافي و الإبداعي .. يراد له أن يكون مسيجاً بالانتباه العميق و الصحو الدائم ، و المساهرة الإنسانية لعذابات الروح و قد صارت كلاماً يضيء بعض مواضع العتمة ، و قلقاً يهز القناعات المريضة ، و معنى تجتمع عليه من اجل الحياة المشتهاة .
    د. حسن حميد

    المســافر
    ينعطف في الشارع و بيده حقيبة ، فيها كل أوراقه و ما جنته يداه . تطالعه الحشائش اليابسة على أسطح المنازل ، لا شيء تغير ، كل شيء كما تركه ، يصعد الدرجات ، يمد يده إلى جيبه ، ثم إلى الحقيبة ، يتذكر أنه لم يأخذ المفتاح معه .
    يهبط الدرك و ينعطف يمينا ليسأل جيرانه .
    يقرع أول باب ، يسمع صوتا من الداخل ، يدخل ، امرأة تجلس على المصطبة ترف بيدها :
    _ من .. أنت ؟ الحمد لله على السلامة .
    كان صامتا كأنه اخرس ، مكتفيا ببعض العبارات التي لم تسمعها المرأة ، لكنها لم تقف . اقترب منها بناء على طلبها ، قبلته على لحيته البيضاء الكثيفة ، عرف أن سمعها قليل :
    _ كيف حالك يا ... و رفع صوته بما ينسجم و الحالة التي هو فيها .
    _ ماتت و لسانها ينطق باسمك .
    أحس بأن يدا تقبض على عنقه ، و ثمة دمعات نفرت من عينيه ، حاول ألا تلاحظ المرأة هذه الدموع ، وأشاح بوجهه قليلا .
    قالت :
    _ حين تبكي الرجال تصاب النساء بالخيبة .. لا تبكي أمامي فأنا لا أستطيع المقاومة .
    كفكف دمعاته . و مدت المرأة يدها إلى عبها ، و أخرجت كيسا مصنوعا من القماش معلقا في عنقها . راحت يداها المرتجفتان تبحثان في زوايا الكيس ، و أخرجت مفتاحا ذا لون اصفر .
    _ يا حسرتي .. قالت لا تعطيه لأحد غير ابني إذا عاد !. و ها أنت قد عدت .. عليك بالصبر .
    لم يحسن تقديم الشكر ، انحنى إلى حقيبته ، حملها ، ثم اخذ المفتاح و عاد .
    يفتح الباب ، تطير العصافير داخل البهو ، تخرج من نافذة صغيرة دائرية تستعمل لبواري المدفأة .. ثمة ثوب نسائي معلق ، يقترب منه ، يدفعه شيء بداخله لشم رائحته . الكرسي الخشبي الوحيد الذي يمكنه أن يجلس عليه ، يهزه، يتطاير الغبار مشكلا سحابات راحت تنتشر في أرجاء الغرفة تتعلق على خيوط العنكبوت المتأرجحة في الزوايا.
    يفتح النافذة ، يقع نظره على أصيص الورد ثمة زنبقة كانت قد تحولت إلى يباس . يتقدم باتجاه صنبور الماء ، يحاول فتحه ، كان جافا و قد بنت الحشرات في داخله مساكن لها .
    يقترب من المرآة ، ينظر بداخلها منع الغبار إظهار الصورة يرفع منديلا من جيبه يمرره على وجه المرآة ثم يدعه يتأرجح نحو الأرض ككل الأوراق الصفراء . يحدق من داخل الخط الذي مسحه إلى داخل المرآة .. رجل في الخمسين من العمر .. ذو لحية بيضاء يتخللها بعض السواد و عينين دامعتين فيهما كآبة . يرفع قبعته بدا الجبين عاليا ، أما اللحية فقد غطت الحفر غير أن كرسي الخدين ظهرا لامعين تحت عينين معذبتين . راح يتلمسهما فيما أفكاره ، رحلت إلى خمسة و عشرين عاما خلت .
    هنا كانت تجلس والدته سألته :
    _ أكان يجب أن تذهب هكذا و تتركنا ؟
    _ أنا لا أترككم يا أمي سوف ابعث لكما ما يكفيكم لتعيشوا بسعادة .
    _ نحن سعداء بوجودك .. فكر في قلب أمك .. أبوك كاد يطير عقله حين سمع قرارك هذا .
    _ أبي و أنت و من لي غيركما .. أما السفر فهذا لأجلنا جميعا .. هل تريدين لابنك أن يعيش العوز فيما غيره من الشباب يؤسس حياته .
    _ برضاي عليك .. لا تنسانا .
    أيقظته حركة من وراء المكتبة عرف أنه فأر . كتبه ما زالت داخل الزجاج حبيسة فوق المكتبة اتكأت آلة موسيقية في زنزانتها ( حقيبتها السوداء ) .
    صرخ بأعلى صوته :
    _ اللعنة !
    و رفع الكرسي و ضرب زجاج المكتبة فانهارت القطع صارخة ، ضحكت من داخلها الكتب ، كل كتاب راح يصرخ كان يسمع الصرخات و كأنها صرخات داخل نفسه التي امتشقت ساعتئذ . مد يده من بين الكتب إلى مصنف كان يستعمل لجمع الصور ، فتحه ، هذه صورته وجهه مجدور طلب من المصور أن لا يضع عليها أية رتوش ، هذه أمه ، و هذا أبوه . راحت الصور توقظ سيل الذكريات ، غير أن حركة الفأر ما زالت وراء المكتبة الخشبية . جثا إلى الأرض محاولا طرده ، لكنه تركه ، و فتح أول درج ( لقد تكدست رسائله التي تركتها أمه ) حمل أعلاها ، و فض الغلاف ، كانت بقايا مذكراته ، و ثمة رسالة كان قد خطها بقلمه ( إلى حبيبتي ريم ) و انفتحت شفتاه عن ابتسامة سرعان ما انكمشت ، أين أصبحت ؟ من تزوجها ؟ لا بد أنها تزوجت . فض الرسالة و قد تراخت يده وسقطت الورقة تتأرجح في أرجاء الغرفة .
    خلع سترته البيضاء الأنيقة و قذف بها بعيدا ، لم يعد يهمه أي شيء ، غير أن نداءا محموما كان يسمعه من عوالم مجهولة تخيلها و كأنها صدى لأوتار كمان ، امسك به ، و أنزله ، و فتح الحقيبة ، ثم وضع ذقنه على مسنده ، واحتوته الآلة .
    امسك بالقوس ، و راح يجر أولى النغمات التي لم تعزف من قبل ، كانت الآلة فرحة بتحررها غير أنها انصاعت لإرادته لتنتج صرخات اقرب ما تكون إلى صرخات ثكلى ..
    و مع حركة القوس راحت الأوتار تترجم حالته ، و ترحل إلى بيوت الجيران الذين عرفوا انه عاد ، و ما أن تجمعوا و قرروا أن يرتقوا الدرجات ويقدموا له التعزية بوفاة والديه ، و يقدمون له التهنئة ، حتى سقطت الآلة من يديه ، و ثمة ورقة مكتوبة مؤرخة بتاريخ قديم منذ خمس و عشرين عاما ، و بقايا صور ، دخل الجيران .. لم يستطيعوا تقديم التعزية .

    صاحبة القبعة الصفراء
    ما إن عصفت في رأسه تلك الأفكار الهوجاء ، ورفع رأسه عن الوسادة المليئة بالغبار حتى دب السعال في حنجرته ، وكأنها قطاع طرق تصادر قوافل تتدفق نحو المدينة ليعاد إلى تصديرها في صناديق مغلقة لا يفتحها إلا ذوي الألباب . ولكن ما هي إلا لحظات حتى هدأ السعال ، وعادت الأفكار تخب في محيط الذاكرة قارعة طبول الحرب ، وكأني بها كانت تدرك حالة صاحبها الذي أشعل لفافة وراح يعب منها .
    وقف متجهاً صوب ألوانه وريشاته الملقاة بعشوائية . كثيراً ما لام نفسه . غير أنه أمسك لوناً قاسياً ثم أعاده، و أخذ حوجلة أخرى وصب منها ، وحرك ريشته ثم صب قليلاً من أخرى وراح يحركها حتى تلونت بذلك اللون الأرجواني. فغط منها ورفع يده و شطب بريشته ، فإذا هي شكل لشعاع .. هبطت يده إلى الأسفل وغير اللون ، فصعدت شمس من خدرها ، رسم أهرامات كسراب ثم ما فتئ يمزج ويلون ، وهو يعب من لفافته تارة ويجرع الخمرة تارة أخرى . وبين مزج الألوان والخمرة راحت تنتصب خيوطاً و وشائجاً داخل ذهنه ، هكذا حتى هدأت حركة الأشياء وصمت الكون من حوله ، وأسدل الليل ستائره. ولم يبق غير ذلك الضوء من جهاز الإسقاط يضيء داخل المرسم بقعة ضوء دائرية ، ورجل يتحرك فيما تتشكل سحابات من دخان فوق رأسه . لقد شرب حتى أحس بثقل في رأسه ، وتمددت في تلك اللحظة أنامل النعاس تدب في عروقه فانتفض كيف ينام وغداً صباحاً سيقرع الباب ذلك الوغد يطلب إيجار المرسم .
    اتجه إلى صنبور الماء ، بلل رأسه ، ثم عاد إلى ريشته ولكن عبثاً تنطق الألوان .
    التفت إلى اللوحة ، شطب شيئاً وعاد إلى سيجارته التي راحت تحترق في مكمنها ثم وضع قطعة من الثلج في الكأس والتي راحت تدور في بحر لا قرار له . وبحركة انفعالية سكب كل ما في الكأس داخل جوفه وكأنه يقول : ( لتنفجر هذه الجمجمة التي لا تستحق إلا فأساً يطيح بهذا العالم في داخلها ) .
    وسط الغرفة عبرت في خاطره تلك الأسطورة : ( في الزمن غير المكتوب على رقم أو جلد ثمة نحات كانت الفتيات يجتمعن حوله و يسألنه :
    ـ من منا الأجمل .
    غير أنه كان صامتاً لم يبد رأيه ، فأصبح سخرية بالنسبة لهن . و في يوم من الأيام نحت تمثالاً وراح يكلمه صارخاً فلتخرج الصورة من الصورة فيما يمسد جسد التمثال ويحف به بجميع ما لديه من أدوات ، حتى إذا رأى الرخام يستظل بالحمرة شيئاً فشيئاً نطق التمثال ، قيل أن هذا النحات كان بجمالون ) .
    و لكن ما هي إلا لحظات حتى أحس بدبيب نمل وخدر في شفتيه وأوداجه .. و نطقت الخمرة قائلة : ( هيه ، هيه ) واقترب طيفه يمسك يده التي تقبض على الريشة .
    و هو ينظر بعينين واسعتين متفحصاً اللوحة وما آلت إليه ، فكان يكلمها كما لو أنها إنسان يسمعه . وفجأة سمع ذلك الصوت الذي هبط إليه من غيهب مجهول، بدأ ينظر حوله لا أحد، وما إن عادت نظراته إلى اللوحة حتى وجد فتاة جالسة على سراب الأمواج ، وبيدها كتاب ممزق .
    ارتعشت الريشة بين أصابعه ، ثم اقترب يخط خطوطاً خفيفة من سحابات الذاكرة التي راحت تمطر عرقاً ، وتنفث روحاً ما فتئت تتكامل حتى لتكاد تصرخ به ( أكملني ) .
    في الصباح حمل لوحته وأغلق المرسم وهبط الدرك ميمماً وجهه صوب الجسر . هناك حيث السياح والأجانب يبتاعون ما هو جميل و خلاق .
    أسند اللوحة على السور ، ووقف ينتظر قدوم من يشتري اللوحة ، فيما كانت دوائر من الدخان ترتسم فوق رأسه مشكلة صوراً خرافية ، ما فتئت تترادف لتشكل جيشاً في سراب مغمور بالآهات .
    و من بعيد ومن وراء رؤوس المارة ، بدت سيدة قادمة .. ترك اللوحة وراح يتأملها ، وجهها المشحون بالفتنة .. قامتها الفارهة .. عيناها اللتان تظللهما قبعة صفراء ، و تحت ظل بدا كالغسق لمعت شفاه كرزية وشعر ينساب كشلال مياه لونته الطبيعة بألف لون ، على عنق صافٍ يحمله صدر عارم، اندفع منه نهدان يشدان الثوب ، كل ما فيها ينطق حتى حركاتها العفوية كانت توحي بأنها امرأة غير عادية .
    تنحَّى لتعبر ، غير أنها توقفت تتأمل اللوحة، تبتعد عنها تارة و تقترب تارة أخرى . سيدة جاءت من وراء البحار تبحث عن معنى جديد للحياة ..
    اقترب قائلاً بلسان أجنبي :
    ـ هل أعجبتك اللوحة .
    لكن اعترته الدهشة عندما أجابته بلغة عربية فصيحة :
    ـ هل أنت صاحب هذه اللوحة ؟
    ـ نعم سيدتي أنا صاحبها .
    ـ هل أستطيع أن أشاهد بعض أعمالك ؟
    ـ بالطبع ، بكل سرور .
    و بفرح أشار إلى سيارة عابرة ، حمل اللوحة و صعدت السيدة داخل السيارة . أغلق الباب وجلس هو قرب السائق .
    في مكان قصي يشرف على البحر وحقول التبغ والزيتون ، كانت السيارة تعبر حتى إذا ما توقفت فتح الباب وهبطت السيدة تحمل بيدها حقيبتها . ركض باتجاه الباب، فتحه ودخل الاثنان في صمت .
    و قفت السيدة و الدهشة ترتسم على محياها . كان المرسم عبارة عن غرفة واحدة ، وثمة نافذة تشرف على البحر .
    في ركن هذه الغرفة سرير قديم وقربه مكتبة صغيرة وضعت عليها منفضة معبأة برماد السجائر . كان كل ما في المرسم يوحي بالفوضى و الفقر ، غير أن اللوحات المعلقة في كل مكان أضفت على المكان السكينة و بعض الجمال . كانت السيدة تتوقف عند كل لوحة ، ثم تنتقل إلى لوحة أخرى . و حين انتهت قالت :
    ـ اسمي ريم وأنت ؟
    ـ مارسيل .
    ـ آه أنت فنان كبير سيد مارسيل .
    ـ شكراً .
    ـ سأشتري كل هذه اللوحات .
    ـ كلها ؟
    ـ هل هناك من مانع ؟
    ـ لا . المرسم كله على حسابك سيدتي .
    لم تهدأ عيناها عن الإبحار في تلك اللوحات المعلقة .
    ـ كم تريد ياسيدي ؟
    وقف عن النطق . غير أن السيدة فتحت حقيبتها و أخرجت مبلغاً مغرياً وقدمته ، لكنه أغلق يدها على ما تقدمه وتوقف .
    كانت تعاين حركاته ، يده المرتجفة عندما امتدت لتغلق كفها ..
    ـ لا سيدتي ولكن لا أستطيع بيع جميع اللوحات .
    ـ ولم ؟ أنت سترسم غيرها ، أليست جميعها من إبداعك ؟
    ـ بلى و لكن ..
    ـ إن كلمة ولكن تزعجني .
    ـ لا ، أنا لا أريد إزعاجك ولو قدر لي أن أبيع جميع اللوحات لتخليت عنها دون أن آخذ قرشاً واحداً .
    صمتت السيدة تشغلها الحيرة ، وامتنعت الكلمات عن التعبير .
    قدم لها الكرسي لترتاح . جلست السيدة فقال لها :
    ـ ماذا تشربين سيدة ريم ؟
    ـ لا بأس بالقهوة .
    وضع على سخانة كهربائية دلة القهوة ووضع البن وراح يصنع فنجانين .
    و عندما شعرت السيدة بالراحة وبدت عليها الطمأنينة أحس أنه فعل شيئاً جميلاً ، وبينما كانت ترفع الفنجان إلى شفتيها ، كانت تنظر إليه متأملة هذا الرجل ( لا بد أنه رجل مختلف ) .
    في الجانب الآخر من جمجمته ثمة من كان يصرخ به : ( المبلغ مغر هو يكفي لبناء مرسم وبيت فخم ، بع أيها المتسكع على هامش الحياة )
    أما في عقله الحاضر فكان ثمة من يقول : لا ، الفن لا يكون للبيع . الفن ليس للارتزاق . قطع الحوار في داخله كلام السيدة :
    ـ أنا أقدر الفنان وأعلم أن الفن ليس للارتزاق غير أن الحياة تحتاج للمال ، و أنت لا مال لديك . ليوناردو دافنشي قبض ثمن لوحاته .
    ـ أنا لم أقل أنني لا أقبض ثمن ما صنعت ، ما هكذا يجب أن تفهمينني سيدتي . صحيح أنا إنسان بحاجة للمال ، و لكن أي انفصام في عالم الروح حين أجد نفسي أبيع كل شيء . خذي بعضها ليس لدي مانع ، ولكن جميعها يجعلني أنشطر هل تفهمينني سيدة ريم ؟
    ـ نعم معك حق ولكن خذ هذا المبلغ أولاً .
    كانت السيدة تضع حزمة المال على المرسم وتتأهب للرحيل .
    ـ هذا غير معقول سيدتي .
    ـ إذن أعطني ماشئت من اللوحات على أن تكون هذه اللوحة بينهم. وأشارت إلى اللوحة التي اصطحبها معه إلى الجسر .
    ـ هأنذا أتركك لتنتقي ما شئت .
    راحت تحمل بعض اللوحات وتضعها إلى جانب جدار قريب ، حتى فرغت الجدران ولم يبقَ إلا ثلاث لوحات وانبرت قائلة :
    ـ هذا يكفي ؟
    هز رأسه موافقا ، ودعاها لشرب كأس شمبانيا و هو يعيد المال . فامتدت يدها وأخذت حزمة المال و حشرتها داخل حقيبتها ، غير أنه استأذنها ليتناول من حانة قريبة زجاجة شمبانيا ، وحين خرج أفرغت حقيبتها من المال ، وضعته على المرسم و خرجت .
    حين عاد وجد المال واللوحات جميعها باستثناء اللوحة التي اصطحبها إلى الجسر . خرج إلى الشارع لكنه لم يجدها .
    و قف يتأمل ما جرى معه ، كان يرتجف من الداخل وسيماء الغضب قد ارتسمت على وجهه ، وهو ينظر إلى حزمة المال التي بدت إليه كأفعى تطوقه . فأمسك بزجاجة الشمبانيا وقذفها لتنكسر وتلوث المكان . راح يلتقط قطع الزجاج المتكسر بأصابعه ، و في لحظة بين ارتجاف أصابعه وإرادة الصبر خدشته أحد القطع ، فسال الدم . حاول إيقافه ، اقترب من حوجلة الألوان محاولاً رفعها ليعود إليها ثانيةً وقد امتلأت الحوجلة بالدم ، فأمسك بإصبعه وضغط على الجرح وخرج ليعالج جرحه الذي لم يتوقف عن النزيف .
    حين عودته كانت الشمس ترفل للمغيب ، وثمة خطوط حمراء تشد قرص الشمس ، غير أنه دخل المر سم و أمسك بريشته ، غطها في الحوجلة المملوءة بالألوان والممزوجة مع دمه وراح يرسم لأيام متتالية .
    انتهت اللوحة من الرسم وخرج حاملاً رأسه الذي فرغ ، وذهب يبحث عن مكان يأوي إليه بعد عدة أيام من العمل المضني .
    وهناك قرب منعطف عبرت سيارة يقودها أحمق ، فسحبته وسقط رأسه على حافة الرصيف .
    و بعد أن غسلت عجلات السيارات دمه من الطريق ، طلب صاحب الغرفة من الشرطة فتح المرسم .
    فاجأتهم لوحة ما زالت على المرسم ، عبارة عن حديقة غناء فيها جميع أنواع الورود بمختلف الألوان وخلف هذه الحديقة أبنية تدل على وصول الحضارة إلى حالتها في هذا العصر .
    و في الحديقة تقف فتاة تضع قبعة صفراء وحولها أطفال ، لوث هذه اللوحة صوراً لأوراق نقدية غطت جمال اللوحة ، فبدت كأنها تكلم موضوعاً عن جمال حضارة متألقة شوهها المال .

    لقاء لم يتم
    كانت الدقائق تمر سريعة و عقارب الساعة التي ما فتئت تتقافز مع دقات رتيبة منتظمة تحثه على الإسراع ، كانت المرآة أمامه مصقولة و قد الفت ذلك الوجه المجدور و هو يوارب وجهه و قد انشغل في ترتيب أدوات الحلاقة و الماء الساخن و بين الفينة و الأخرى يطل الوجه من داخل المرآة مبتسماً تارة و عابسا تارة أخرى فيما خيوط الشمس الذهبية التي توشي الأرض بدوائر غير منتظمة راحت تشكل في داخله مجموعة من المرايا الخفية لتدفع الإرهاصات الداخلية إلى سطح الشعور فتبدو شخصيته أمامه كأنها شخصية أخرى لا علاقة له بها لاسيما و أنه دائما كان يقف يتجرد عن محيطه ليرى ما إذا كانت ثمة عيوب في الشبيه فيتلقاها و يعود منغمسا بكل أفكاره التي تطرق على سندان مخيلته فتنتشي الآمال و تتبرج الذات في لحظات تعيدها إلى تماسكها .. كل ذلك و موسيقا ( عمر خيرت ) تنساب في البيت ناعمة حريرية موشاة بالحب و المواعيد الوهمية التي يفتقدها ذلك الذي لم يعرفها .
    وضع كأس الماء الساخن و بلل الفرشاة و راح يمررها على شعر ذقنه التي راحت تتحول إلى لون ابيض ليرى شبيهه و كأنه لبس ثياب ( بابا نويل ) كانت آلة الحلاقة الحادة تكشط الصابون عن هضبات الجدري فتسحب تلك الشعيرات لتحول جلدة الوجه إلى قطعة مغسولة تظهر تحتها براءة لم يرها من قبل فتعود الطفولة إليه و كأن عشرين سنة قد زالت فيها ذلك العبث الطفولي يعود إليه فيغفل للحظة و فجأة تميل الآلة فتجرحه فيشعر بوخذة أعادته إلى حيث هو أمام المرآة يحلق ذقنه و قد فرت الطفولة هاربة إلى عشرين سنة خلت . وقف و نظر إلى قطرات الدم التي سالت مشكلة خيطا أحمر داكنا فوق هضاب الثلج الموشى بالسواد فسأل نفسه ( لماذا أتأنق ؟.. أنا لست على موعد معها.. البارحة التقيت بها و لم اكن متأنقا .. تراني أرغب في الترتيب خوفا من ملاحظة .. أم ثمة قلق ينتابني على تلك المجموعة القصصية ؟؟.. ) لا بد أنه الخوف من الفشل فأستاذ جليل لا بد أن يكون للمظهر الخارجي شأن عنده و قال : ( لا .. لا .. أنها مجرد أوهام فهو يهمه الجوهر و ليس المظهر فالجوهر في القصص التي كتبتها بأحرف من لهاث و لا بد أن أحافظ على الشكل الإبداعي فكما يقولون أن الكاتب لا يكتب سوى ذاته .. قرأت عن كتاب يرشون العطور قبل أن يجلسوا على طاولة الكتابة .. إذا لا بد من صلة وصل بين الكاتب و محيطه ذلك المحيط الذي ينقله الكاتب إلى الآخرين بواسطة الحرف المزين بالأمل و الحب .
    عاد إلى المرآة .. أزال بواسطة الكحول آثار الجرح البسيط و تأمل نفسه جيدا .. و راح يحسن من ياقة القميص فحمل الحقيبة و مضى حريصا على ألا ينخدش ذلك الأمل و ما زالت أفكاره تسبقه إلى الناقد تراه ما سيكون موقفه من الوصف ؟.. و ما موقفه من الحبكة ؟.. تراه هل سيتساءل عن مغزى قصصي آواه .. هاأنذا أتخيل و قد نظر إلي من تحت نظارتيه يتفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي و أنا مندفع صوبه أتأمل خيرا .
    في تلك اللحظة ظهرت الحافلة في أول الشارع فبدأ قلبه يدق دقات الساعة الجدارية فتلمس صدره لا خوفا بل محاولة لاطمئنان الآخر فيه و فجأة تنفث الحافلة غبارا و هي تتوقف بفعل الفرامل يفتح الباب و يصعد محاذرا ألا يزعج أيا من الركاب و ها هو يجلس بأريحية مستدعيا أحلامه إليه محملة بباقات الزهور راحت تنثر عبقها في نفسه فتظهر على سرائر وجهه و تنفلت ابتسامة قطعها المعاون يطلب أجرة الحافلة و بهدوء دفع الأجرة و أشاح بوجهه إلى النافذة يستطلع محيطه الذي بدا كأن الربيع قد حل فرأى الرصيف يتحرك و ثمة ابتسامات راحت تتوزع على الأرصفة و جذوع الأشجار الهاربة فيما الحافلة تأكل الإسفلت بعجلاتها فتمضي معها الذكريات ( لقاءاتي معها قليلة فكل شيء مقيد بعلاقتي معها .. فهل أستطيع أن اجلس و أحدثها في الشارع و التقاليد سلسلة تقيد كل شيء من حولنا حتى الأشجار و الزهور و الياسمين كل شيء مصادر فإذا كنت كتبت فلأنها هي صاحبة تلك القصص التي ترفدني بحركاتها ألم تكن هي صاحبة القبعة الصفراء ؟.. سوف يأتي ذلك اليوم الذي ستقرأني من خلال تلك القصص و لكن الأستاذ و رأيه هو الذي سيمهر علاقتي بتوقيع قلمه .. آواه .. ما أجمل تلك اللحظات التي سأقدم نفسي إليها مكتوبا في كتاب ‍.. و افتر فمه عن ابتسامة سرعان ما غرته سعادة حقيقية و هو يسمع أغنية لم يدر لمن تكون غير أنها كانت تتخلل مسامات وجهه و جلدته فتبعث أملا دفينا راح يدغدغ كل شيء في كيانه .. و فجأة بدأت الحافلة بالتأرجح ذات اليمين و ذات الشمال و عند حاجز الجسر تقتحم الحاجز و تهوي .. ثوان تتغير الأغنية ، تعيده إلى تلك المقطوعة الموسيقية لعمر خيرت ( اللقاء الثاني ) ثوان مضت سريعة اختصرت خمسة وعشرين عاما و هو يهوي مع الحافة و يهوي و صوت الاستغاثة يأتيه من كل حدب و صوب أما هو فكان يودع حروفه بكلمة الوداع الأخيرة ..
    (( ملاحظة : في المشفى سلمت الجثة إلى ذويها و حقيبة فيها بطاقة شخصية و صورة لفتاة كتب عليها من الخلف ريم و بعض الأوراق و التي كانت تتحدث عن لقاء لم يتم )) .

    الشــاغر
    كان محبطاً حين وضع سترته وخرج هارباً من المدينة والازدحام ..
    و في الحقول التي تحيط بالمدينة ، استظل تحت شجرة وارفة .. ثم استلقى على ظهره، فيما الغيوم تركض لتشكل أرخبيلاً ما فتئت تتجمع لتشكل لوحةً راح يقرؤها، وكأنها علامات طالعه ، و مع تفكيره وهاجسه بالعمل ، ارتسمت الغيوم لوحةً رائعةً لقراءة أفكاره . قال : ( العمل .. العمل ) .
    إلى متى سأظل أقترض من أبي ..كان يقول لي : اقرأ تحصل ، و من طلب العلا سهر الليالي ، و سهرت الليالي و حصلت على الشهادة و لكني حتى الآن بدون عمل .. إلى متى ؟
    امتدت غيمة كأنها كف آدمي تشير بسبابتها إليه راحت أفكاره تغزو بتعرجاتها غير أن قطعاً من الغيوم راحت تتراكض مشكلة بمجموعها رقماً .. قرأه . انبهر ..كان الرقم هو ذاته رقمه التأميني للحصول على الوظيفة .. هبَّ واقفاً ، كاد أن ينسى سترته ، غير أنه حملها وراح يعدو نحو شاطئ الأمل .
    مرَّ إلى البيت .. سألته أمه سؤالاً لم ينتبه جيداً ، ومضى و هي تناديه .
    يعدو مدفوعاً بالرقم الذي علق عليه آماله كونه ذات الرقم التأميني في بطاقة الترشيح للوظيفة ، وصل مكتب العمل .. قفز الدرجات الصخرية . واحتكَّ جسده بالباب الخشبي الذي يكلم الدهر ، بينما يافطة المدخل تحدق إليه ساخرةً . كأنها عجوزٌ رقطاء لكثرة الصدأ الذي حولها إلى نقوش .
    حين وصل إلى حيث اللوائح معلقة ، و جد اسمه في اللائحة .. فدخل إلى الموظف المسؤول وحمل أوراقه ، و خرج و هو يقبض على استمارته كأنـه يقبض على مصيره . كان يبتسم ، لقد فتحت أبواب الحياة .. هاهي بوابة الفولاذ قد فتحت ، فأي خبر ؟.. أية بشرى سأقدمها لأمي .
    سبقته روحه إلى البيت ووقفت أمام والدته أول راتب سأجلب لك هدية . آه يا أمي .. سأجعلك أميرة . و فتح الإضبارة وراح يقرأ :
    الاسم .... العنوان .... الشهادة التي يحملها ....
    قرأها عشرات المرات ليتأكد من أنه خارج الأحلام . و صل إلى آخر موقف للسيارة ، و نزل . رأى نفسه يركض .. يدخل البيت ، يبحث عن أمه ، تحول إلى طفل .. هاهو يجد ضالته .. أية فرحة .. الأرض ، الغرف لم تعد تتسع لحركاته ورقصاته .
    خرجت والدته من المطبخ وقالت :
    ـ الله يعطينا خيرك .. ماذا أصابك ؟
    ـ توظفت .
    و اندفع يحتضن أمه التي راحت تقبله مهنئةً .. و عند أقرب مكان للجلوس ، تراخى وجلس، وما زالت أحلامه تسبق تلك اللحظة بعشرات السنين ، وتراءت إليه السعادة على شكل حمامة طائرة .
    قال مكلماً ذاك الحلم الذي كثيراً ما فكر به .. غداً سيكون أول أيام الدوام .. سأعمل كما فعل جارنا .. حصل على بيت من البنك .. سأدفع أقساطه ولن أتأخر قسطاً واحداً . ولماذا أتأخر ؟
    بعد ذلك سأذهب لأتقدم لخطبة ريم ابنة أبو محمد . و سأدخل بيتهم وستقابلني بذات الابتسامة ، وسأقول لأبيها : هأنذا جهزت بيتاً ولي راتب ، وأنا على ما يرام ولا ينقصني سوى ابنة الحلال ، التي أعيش وإياها تحت سقف واحد .
    نعم .. هذا ما يجب أن يحصل. عندئذٍ أرتاح من تلك النظرات المختلسة التي تسرقها عيناي من عينيها ، وكأن ثمة آلاف الأميال بيننا ...
    آه متى سأضمها إلى صدري في رحلة الحب .
    في الصباح استيقظ نشيطاً معافى ، نظف أسنانه ، لبس ثيابه وسرح شعره ، و لم ينس أقلامه وودع أمه متجهاً إلى وظيفته . قاسماً بشرفه بينه وبين نفسه أنه سيعمل بجدٍّ وإخلاص .
    وكان بين الفينة والفينة ينظر إلى ساعته قائلاً :
    ( هكذا يجب أن أبدأ .. يجب ألا أتأخر ، كم أعجب من أولئك الذين يتغيبون .. الواحد منهم ينتظر طويلاً كي يحصل على العمل ، وما إن يبدأ حتى يتغير .... ) .
    يدخل الدائرة ، الفتيات يتضاحكن ، يدخلن الغرف و يخرجن و المزاح هنا وهناك . وثمة امرأة تركت الأوراق على طاولتها مكدسةً ، وراحت تنظر في مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبتها لتطمئن بأنها مازالت الأجمل . فيما كان رجل خلف الطاولة المجاورة قد أمسك بجريدة ، وراح يبحث عن الكلمات الضائعة .. سأله :
    ـ بالله عليك لمن أقدم هذه الأوراق .
    رماه بنظرة من تحت نظارته ومد يده متناولاً الإضبارة .. بحث فيها وثمة ابتسامة ساخرة خرجت من شفتين تقبضان على سيجارة مازالت تحترق. أشار له إلى غرفة مجاورة محاطة بالرخام .
    فتقدم وقرع الباب ثم فتح ليدخل ، كان ذلك الرجل صغير الجسد يجلس على كرسيه الدوار ، يتأرجح تارةً ويتمايل تارةً أخرى .
    راحت عيناه تجوبان الغرفة ، كان الرجل يمسك سيجاراً و يدندن أغنيةً لم أفهم كلماتها .
    لم تكن إلا يده اليسرى ظاهرةً من وراء الطاولة ، تقدم من اليد ببطء و قال :
    ـ هذه الأوراق .
    أدار كرسيه إلى وضعه الصحيح .. تنحنح ثم أخذ يتفحصه بنظرات الازدراء ، والانزعاج بادٍ على هيئته .
    ـ أية أوراق .
    فتشها .. وأجاب بلهجةٍ فيها شيءٌ من السخرية :
    ـ لا يوجد شاغر .
    ـ لا يوجد شاغر!! .. و هذه الأوراق وهذا الختم .. و أمي .. و ريم .. و .. و ...
    لكن الرجل وقف صارخاً : ألا تفهم لا يوجد شاغر .
    ـ ورقم الترشيح المعلن في اللوائح .
    ـ ما هي إلا عبارة عن إحصائية لعدد العاطلين عن العمل .

    البرقيـــة

    في التماعات الفضاء ، انشطر القلب ، وخيمت سحابة فوق الحافلة ، فأسند ساعده على حافة النافذة. وفي العمق ، وراء أصوات العجلات وضجيج المحرك صوت ينحني فيتمدد، ويلهو بالصمت ، و هذا الأصيل المبلل بالذكريات يدفعه إلى خلوة تقيمها أعراف السفر ، فيعدو وراءها خلف الصدى ، يسافر في الغيم و يضرم النار في جذوة الروح فيشتعل المدى علها تحرق الهشيم والرتابة .. علها تزيل الغبش الليلكي من أمام ناظريه .. عله ينام ، و كيف ينام و صورة تلك الطفلة تدخل إليه و جدائلها كسعف النخيل ، سألته :
    ـ أين ابنتك ؟
    يحملها بين ساعديه ، ويهبط حذراً من انزلاق قدمه أو اصطدام جسدها بحافة الباب الخشبي و حين وصل إلى وسط الشارع يفاجأ بأمها و اقفة ببابها تناديها .. غير أنه تابع إلى أن وصل إلى البقال في أول الشارع .. ابتاع شيئاً للطفلة و عاد يقرع باب البيت .
    خرجت مكللة كزنبقة الندى.. قال :
    ـ كم تشبهك .
    و أنزل الطفلة ودفعها برفق نحو أمها ، هزت الأم رأسها موافقة و تذكرت أن عليها أن تقدم له التعزية .
    ـ كانت نعم الأمهات ، رحمة ..
    و غصت ببقية الكلمات فاحتضنت ابنتها و دخلت إلى بيتها ، فيما وقف هنيهةً وعرج نحو بيته ، كانت الكلمات الأخيرة من الأم التي كان يريدها عشيقةً وزوجةً بمثابة وخزة أحس بها وهي تدخل إلى الصدر ، كما يدخل عصفورٌ إلى عشه ..
    قال في نفسه : ( ماذا سيفعل طيرٌ إذا فاجأه المطر ) و اندفع في الشارع يرمي آخر النظرات إلى بيته الذي يشرف على الانهيار ذلك البيت الذي ما إن تصعد الدرجات حتى تصل إلى باب خشبي ، فإذا أردت الدخول لا تدفع الباب بقوة فلربما سقط الباب وقد ينهار السقف ، وبمحاذاة الباب غرست دالية امتد جذعها نحو الأعلى و انتشرت فروعها على قضبان حديدية ، فإذا أردت التمتع بمنظر الطبيعة فقط اجلس تحت تلك الدالية، فتشعر بالراحة و أنت تشاهد الأفق ، فيما الشمس تسحب خيوطها وكأنها شباك صيد من البحر .
    لم يكن يملك غير تلك الحقيبة التي أودعها قرب الجدار فحملها ومضى ، و ثمة حكاية خاوية كانت تقطن أديم القلب ، فإن أطلق سرب الضلوع ، راحت تخفق ممزقة سكينة الوقت . كان يبكي مشهراً حزنه ، مختفياً في ضفائر وهمية كانت ذات يوم تمرح في تلافيف دماغه مشكلة أملاً في صحارى الجسد ....
    ذلك الجسد الذي أدركه اليباس وقطعت مروجه حافلة تنقل الأحزان في الأماسي الراعفات . الحافلة تسبح فوق الطريق الإسفلتي ، و حزنٌ يواكب حزناً جاء مع أول بارقة للشمس ، بعد أمطار الليل الذي ألف بحيرات صغيرة على جانبي الطريق فغدت كعيون محملقة تناديه قائلهً له بلغة الإيماء ، وربما لغةً أخرى : ( عد .. فليس لك طاقة باغتراب الحنين .. ما الزمن إلا سبيكة قاسية جبلت من عروق الانتظار ) فيما مضى قالت له أمه :
    ـ سأخطبها لك ولو كلفني ذلك أن أعمل خادمة .
    ـ لا يا أمي لن أدعك تكونين إلا سيدة منزلنا الجميل .
    التقى بها بعد حواره مع أمه ..كان يدرك أنه أخطأ في بوحه لها بحبه ، كان يمكن للفاجعة أن تردم تحت ذرائع معينة .. ولكن هل كان يدرك أنه مجرد احتياط ...
    كان يحترق بذاته ، تكتنفه بلحظة العزلة وترخي ستائرها الأرجوانية على صفحات مضت وانطوت في تلاشي الزمن ...
    هاجر أبوه و لم يكن قد دخل الحلم . ترك له بيتاً حجرياً وأماً حنوناً وأختاً ..
    راح يعمل ، عمل أجيراً لدى فران ، باع الصحف و قد تورمت قدماه و هو يركض خلف السيارات الفارهة ، ليقدم وردة لفتاة تجلس قرب سائقٍ أرعن، غير أن أحجار البيت كانت تنزاح و تتخلخل في صمتها بينما تنمو الدالية وتزداد اتساعاً .. و تتقدم أخته فتغدو صبيةً و تتزوج ، و يخطف الموت أمه .... يتركه و حيداً مغموراً بالحزن و الحاجة ، متصدعاً مع تصدع جدران المنزل الذي كان يشرف على الانهيار .
    وراء زجاج نافذة الحافلة ، ترندح الشمس غبطة و إشراقاً و تهاجر نحو القبة السماوية ، غير أن الريح تدفع السحب مشكلةً ستاراً رمادياً راحت تتكسر من خلاله ، وعلى أطراف الحواشي خيوطاً مصحوبةً بجلجلة رعد ما فتئ يدوي خلف الأفق .
    بقايا ورود ذابلة مازالت في أصيص فخاري تركن في الزوايا ، وثمة جوربان تركتهما الأم قبل أن تنهي حياكتهما وبقايا قلب محطم هاجر ، وكانت الهاجرة ترنو مبددة ظلمة الظلال ، إلا ظلمة قلبه الذي أغلق برتاج قوي .
    و تنفس الصعداء حين الحافلة هدأت من سرعتها لتتوقف في استراحة على الطريق .
    لم يكن يشتهي أي طعام ، كل ما فعله فنجان قهوة مع حبة دواء لصداع الرأس . و من خلال الجلبة ، و الضوضاء ، و الازدحام ، انبثقت الأهوال، جاءت مع رعدٍ قاسٍ ارتجف الكأس أمامه لهوله .. و صعباً بدا الجواب على كل ما مر في حياته ..كل ما يذكره الوجه البريء الذي جاء يسأله عن ابنة له مفترضة ، و لم يكن غير الوهم و الوهن يحمله في ترحاله الذي لم يعد يوقن متى ينتهي .. و ثمة عبارة هوت مصادفة فوق الطاولة ، قرأها على ورقة التقويم ( خذني أيها الهارب إلى بلادٍ لا حزن فيها ) .
    و تهاوى رأسه على الطاولة و ثمة صرخة بعيدة وصلته ( نعم .. نعم .. و ليأت الطوفان ) . غير أنه كان في قلب الطوفان ، و هاهي الحافلة تطلق العنان لأبواقها ، تدعو المسافرين إلى الصعود . يحمل ما تبقى من حبات آلام الرأس ، يحشرها في جيبه ويغادر بهو الاستراحة .
    انكشحت السحب عن فراغات تتيح للنظر أن يعبر السماء و على ضفاف السحب كانت الشمس تغسل جدائلها قبل انسكاب الدموع . تعبر الحافلة جسراً فوق نهرٍ ، و ثمة صور و أعلام و زينات ، بعد ذلك هبطت ستائر سوداء غطت الكون ، و لم يبق إلا بعض ذبالات لمصابيح بعيدة كانت ترتجف وراء خيوط المطر الذي علق على النافذة كشلالات، فأوحت له بذلك اليوم الذي التقى به لأول مرة مع من كانت تسكن القلب ...
    في ذلك الزمن الذي كانت تفوح منه رائحة الأمل و الحب و العذرية و العذوبة قال لها :
    ـ أنا لا أريد لك غير السعادة .
    ـ وأنا لا أريد لأحد أن يشاركني حبي .
    ـ مهلاً ... هناك أمي .
    ـ هي أمي أيضاً .
    ـ وأختي .
    ـ ستكون أختاً لي .
    و لأنه كان سادراً في الذكريات أيقظه نادل الحافلة يقدم له كأس ماء ارتشفه دفعةً واحدة ، و أعاده و قدم الشكر .. ثم انطفأت أضواء الحافلة ، و رنا صمتٌ في الظلام الدامس .
    في السر ، في الجانب الآخر ، ثمة رجل اشترى مدية ، بحث عن مكان خالٍ من بني البشر ، رفع مديته نصب عينيه ، ثم هوى بها نحو أحشائه . انتفض كطائر أصابه طلق ناري و هو يحلق في الأعالي ، و ها هو يهوي و يرتطم على الأرض . لكنها كانت مجرد فكرة عابرة ، مضت كما تمضي قصته مع الذكريات ..
    و ها هي الحافلة من جديد تهدئ من سرعتها استعداداً للوقوف ، و ما هي إلا برهة حتى ناداه الخفير للمثول بين يديه . هبط متجهاً صوب غرفة كانت تضم مجموعة من شرطة الحدود .
    ـ ما اسمك الثلاثي ؟
    ـ مفيد محمد الدرويش .
    ـ اسم أمك ؟
    ـ سعدة .
    ـ أعطنا جواز سفرك .
    قدم للخفير جواز السفر فيما ارتحلت الأسئلة بحثاً في الزمن الضائع . و في سراديب العفة و المبادئ ، حالة وضعته أمام انقسام خلوي منتهك ملوث . راحت الأحاديث التي كان قد سمعها عن البعض تختلط بالواقع بشكل موارب ، فيغدو الانهدام حالة حاضرة جاثمة لتقتلع منه حضوره ، غير أن الخفير رفع رأسه عن جواز السفر و هو يقارن ما جاء من معلومات عن ورقة في يديه . و قال :
    ـ ثمة برقية من المدعو محمد الدرويش .. و أعطاه إياها .
    محمد الدرويش كان أباه ، هاجر و لم يعد يعرف عنه شيئاً ..كيف ظهر اليوم ؟
    قرأ : و لدي الحبيب عد ، فلدي مفاجأة لك ، لقد رحلت كل هذه السنين لأجلك و أنا بحاجة لك بعد هذا العمر .
    داهمه انقباض ، وشعور مجوف ألقاه في بحر الحيرة كقنديل بحر يطفو على سطح ماء معتكر الأمواج . وهوى على الأرض ، و تناثرت الأوراق . في المشفى ثمة رجل هرم كان يمسد لحية ابنه ، فيما دمعات حارة كانت ترطب خده و أنفه .

    كوخ على رصيف البحر

    داخل وميض الذاكرة، ثمة كوخ يبحث عن نبضه ، عله يعيد تلك النهارات التي تستحم بمياه البحر و هي خارجة من قلب الأمواج ، مودعة أجنتها التي تنزلق على الجسد كأنها دموع على خد طفلة تبكي يالروحي التي ترسم البوح فتتدفق الكلمات خافتة ترحل في زبد سرمدي .. حروفاً قتيلة غير أنها تلد غابات ، و ثمة نافذة تشعل الامتداد اللانهائي لهذه الزرقة التي سكنتني لتتحول إلى أضرحة ، فأسافر في نزوات ما فتئت تنكشف عن أرق يكسر القلب ، و نورس يبحث في الأمواج عن غايته في الصباحات المشمسة ، فأبدو و اهناً إذ لا أملك إلا بعض رضوخ لعصارات تمسح و جهي ودم يرتعش بارداً ، يرسم ذكرى بألوان تشكيلية عبقة برائحة أشجار الليمون المترامية ، انتبه لوقع خطوات بإيقاع بطيء رتيب ، سأل عني قالوا له لا تبحث كثيراً إنه هناك فوق نتوءات الصخرة تراءى المشهد ، و أنا الذي قلت للصخرة أن تصمد أمام غربة النفس و كانت العناق و ما أعظم صداقة الرجال .
    على ضوء النار المتقدة ضحك البحر و ترامت الأمواج بعيداً فأولدت أحلاماً تسترجع طموحات غير ناضجة و ثمة صورة السندباد تأخذ أنظار صديقي في حكايا غريبة من الصعب تدوينها و قد تبددت في أحلام الزمن .
    كانت ذقنه العريضة تكسبه مهابة غامضة و عينان بحريتان ، بينما مسحة من حزن تتراءى وخاصة عندما يتكلم فتبدو كلماته مقاطع من شعر أو قصيدة مهداة لعاشقة .
    شربنا حتى تحولت الزجاجات المنتشرة حولنا ، كأنها قذائف في مربط مدفع .
    حفظ عن ظهر قلب كل طرقات الكؤوس الممزوجة بالأمل و الحب و المغامرة ، قال لي :
    ـ انظر إلى هذا الامتداد الرائع للبحر .. هذا المد اللانهائي يختلط النظر بعيداً بين الزرقتين وكأنه اختلاط الأنا في النحن .. الجزء في الكل .. و لكن كيف يمكن للأنا أن تذوب في النحن إذا كانت خاوية .
    كنت أسمع كلماته و لم أشأ مقاطعته ، لقد علمتني الغربة في الوطن سهولة الغربة في الغربة .
    ـ كم تحتاج ؟
    كانت الشمس قد غرقت في اللُّجَّة .. وأوت إلى مخدعها بعد أن تزينت في احمرار الأفق .. نامت الشمس وقالت للبشر ( ناموا ) غير أن القمر حضر بعد هنيهة و أتى العشاق و طلبوا منه البقاء و بقي القمر ، و هو يداعب بين الفينة و الفينة سحابات الليل ، و كأنه سراج يداعب الفراشات كان يروي لي قصة عروس البحر ، ورويتُ له قصة إله البحر و بين طرقات الكؤوس تسلل ملك النوم إلى جفوني و بدت الصور أمامي مبهمة ، لكنه تركني ممدداً في مكاني تاركاً نصف الكأس و غادر .
    في الصباح كانت الشمس الخريفية ترسل إشعاعاتها فوق جسدي المهمل ، و ثمة رسالة صغيرة كتبت بخط واضح : وداعاً سأعود كريماً يا صديقي .
    بعد سنين ، و فيما أنا جالس أراقب زوارق الصيادين المليئة بالأسماك ثمة نساء عشقن البحر كنَّ يكتبن على الرمال ذكرياتهن ، غير أن البحر كان يمدُّ لسانه و يلعق كل ما كتبن محتفظاً بالأسرار .
    دخلت إلى الكوخ و وضعت كأسين و الذكرى ناقوس لمعبد ما يفتأ يهز حبله ذلك الرجل المجهول الذي يوقظ الآهات . في تلك اللحظة أتى ساعي البريد و أعطاني رسالة من صديقي خلف البحار .
    فضضت الرسالة كانت مكتوبة بخط رديء و ثمة نقاط من عرقه توزعت على الصفحة فبدت آثارها و كأنها نقاط دماء جفت عندها نفرت من عيني الدموع ، و حين رفعت رأسي و نظرت بعيداً في اللجة .. كانت عروس البحر تلوح لي من بعيد و ثمة كأسان أمامي واحدٌ لي و الثاني لصديقي .

    العروس
    الشمس تومئ في القبة عروساً أدركها الخصب و غيومٌ تعبر السماء مدفوعة بالريح التي ألفَّت على الأرض نسيماتٍ عليلةً ، فأسدل الناس فوق النوافذ ستائر تداعب الظلال ، بينما امرأة كانت تحاول أن تحول الفراغ بساحة دارها الكبيرة إلى خيالٍ من صباحاتٍ مضت ، و ها هي في دفقات الدم ترتحل عبر شرايين الذكرى لتغتسل في شواطئها معلنةً أنشودة البقاء ، في حين استطالت شجرة ليمون أسلمت أغصانها لعصافير راحت تقيم ضجيجاً في احتفالية معلنة فرح العصافير التي لم تدرك بعد ما أصاب المحيط من ورعٍ و خوف .
    ثمة امرأة كانت جالسةً مطبقة الشفتين بإحكام ، و قد ارتسم عِرقٌ في الجبين فبدت كأنها أدمنت الحزن و الغضب ، و ما إن سألتها الجارة سؤالاً حتى استسلمت للدموع . اقتربت منها في محاولةٍ لتخفيف وطأة الزمن فتململت في جلستها و سألتني :
    ـ هل تعرفها ؟
    ـ لا .
    ـ البارحة كان عرسها .. نعم لقد عقدنا لها العرس قبل أن يدركها الحلم . كانت تقف هناك ، و أشارت الأم إلى جدار يواجه الشمس ثم تابعت ، كانت تدير ظهرها للشمس و وجهها للجدار و تبدأ تبتعد شيئاً فشيئاً حتى يشبُّ خيالها طولاً على الجدار ليأخذ شكل صبية بقامة هيفاء و تقول :
    ـ انظري أمي هأنذا عروسٌ .. أليس كذلك ؟
    و لأنها لم تكن عروساً ، قلت لها في دعابة :
    ـ هذا ظلك و ليس أنت يا غشاشة .
    فجمعت شفتيها .. هل تعلم ماذا يعني أن تجمع طفلة شفتيها ؟!
    يعني أن ثمة خللاً في هذا العالم .
    كنت أنظر إليها بدهشة ، إذ كيف تتبلور الكلمات من هذه المرأة ، و تصبها لهباً في عروقي ، غير أنها تابعت ترسم ذلك المشهد الأليم . و لكي لا أبدو أمامها أماً قاسيةً قلت لها :
    ـ انظري .
    كانت ثمة غرسة ليمون في الأرض ما زالت في طورها الأول . غير أنها ركضت باتجاه البيت لفكرة ومضت في رأسها و أقبلت على تنفيذها ، فأحضرت كرسياً و وقفت عليه قائلةً :
    ـ هأنذا أصبحت طويلة مثلك .
    ـ هل تشاهدين غرسة الليمون .
    نظرت بعينيها اللتين تلونتا بلون الطبيعة خضراوين مبللتين تبرقان .
    ـ نعم أشاهدها .
    ـ اعتني بها جيداً وحين تصبح هذه الغرسة شجرة ستكونان عروسين .
    ـ هل يمكن للشجرة أن تكون عروساً .
    ـ بالطبع .. و سأقطف لك من زهورها و أضعها تاجاً في عرسك ، ضحكت الطفلة و راحت تعدو خلف حلم بعيد ، بعد ذلك رأيتها تجلس قرب غرسة الليمون الصغيرة ، و بيدها كأس ماء ترشه على التراب و تقول مخاطبة :
    ( يالله اكبري يا ليمونه .. نوَّارة ستصبح عروساً يالله بسرعة يا ليمونه ) .
    غير أن شبحاً ارتسم على الأرض أخذت شكل غمامة بجناحين ركض الأطفال وركضت معهم يمتطون ظلها غير أن الظل لم يكن سوى ظل لطائرة إسرائيلية وكان المصاب الرهيب .
    نأت الأرض .. و في غيبة الورود الربيع و تنداح أغاني الفرح أحسست بأن المرأة و صلت طور العصاب ، حاولنا بشتى السبل منعها من الوصول إلى حالة الانهيار ، لكنها دخلت في دوامته و في ذروة الحالة انقلب المشهد، بدت هادئة رفضت تلك الصور المبعثرة لجسد ابنتها الطري المختلط بأجزاء الليمونة في بحيرة من الدم . ثم ما برحت ترفضه بصوت أقوى فأقوى ( هذا فستانها ! هي لم تمت كانت قد خلعته و علقته على أغصان غرسة الليمون أما هي فإنها دخلت لترتدي فستان العروس بعد قليل ستأتي انتظروا إنها ستأتي كالربيع و أنا لا أقول إنهم لا يفعلونها أو لا يقتلونها أو أن يضعوها على راحتي كجذع للحريق ، لكنها لم تمت هذا فستانها و هذه يدها و .. لا .. و امتدت يدها إلى الأرض ترفع التراب و تلقيه على رأسها و صدرها و تصرخ سأنتشلها من باطن الأرض .
    سأعيدها إلى شراييني مطراً .

    غرق الأحلام الصغيرة
    كان يسير في الأزقة الضيقة والمتعرجة حسب تضاريس الجبل الذي بنيت عليه بيوت القرية المترامية بطريقة عشوائية ، ميممأ وجهه صوب الحقل ، و قد قصد المرور أمام بيت تلك الفتاة التي و ضع صورتها في صدره . وراح يخطط للاقتران بها حسب عادات و تقاليد مجتمعه .
    و ها هو يخرج من القرية و قد ودع أبويه ، فوقف قليلاً عند تلك الهضبة التي ظهرت القرية تحتها و كأنها طبقٌ وضعت فيه أصناف من الخضرة والألوان الزاهية التي لا حصر لها ، فبدت البيوت و كأنها تقف على رؤوس أصابعها بحركة ملامسة وأليفة للتراب ، وكأنما هناك خشية عميقة من أن تتألم الأرض أو تنجرح . تلك الصورة جعلته يتأمل طويلاً ويحلم ، يحلم ببناء غرفة واحدة . يجمعه مع تلك الفتاة سقف واحد ، ليؤسس عائلة كنواة لعائلة كبيرة تضج فيها روح الطفولة و الدعابة و المرح ..عكس والده الذي اكتفى بولد واحد .
    انحنى إلى بندقية الصيد و وضعها عل كتفه ، و صعد ذلك الطريق الصغير المتعرج بين الشجر و قد رسمته آثار الأقدام و مرور الماشية ، حتى بدا خطاً كأفعى ملتوية يصعد و يهبط .
    قطع سلسلة أفكاره مشهداً لأرنب بري ، مما جعله يرفع بندقيته و يصوب .. غير أنه لم يكبس الزناد ، فضحك وتابع سيره ، و قد وقف الأرنب مشيعه خائف مرتعباً ، فيما هو تابع خطواته و صورة القرية مازالت تمرح في رأسه ، و كأنها صورة لعالم غير عالمه . و حين وصل إلى رأس الجبل عاد ليتأكد من الصورة العالقة في ذهنه فوقف وراح يتأمل سائلاً :
    ( ما أعجب النظر .. فما أن نقترب من القرية حتى نرى البؤس و الفقر المدقع و حين نبتعد عنها تبدو و كأنها جنة عدن أم لعلني الوحيد الذي يرى ذلك ) . هذا جائز بسبب تعلقي بهذه القرية التي ولدت فيها و ترعرعت .
    آه يا أيام الطفولة .. كم مرة اجتمعنا و ذهبنا إلى ذلك المستنقع .. و كم مرة بحث عني أبي ليجدني مع أقراني نسبح في تلك المياه المتجددة مع كل فصل . و مع أن أبي كثيراً ما نبهني لخطر المستنقع لكني كنت أفضل سباحٍ بين أقراني و فلتت منه ضحكة ... لم أمتنع عن السباحة إلا منذ خمس سنوات ، حين بدأت أعرف أضرار الجراثيم والأمراض التي يمكن أن أصاب بها ....
    و سار ميمماً و جهه شطر ذلك المستنقع عله يعيد ذكرى عابرة اندثرت ، حيث كان يجتمع مع تلك الفتاة على ضفافه ... يلعبان بالحصى و يؤلفان بيوتاً و همية ، و كأنهما يدركان بفطرتهما البريئة حقيقة الإنسان وسعيه نحو بناء عالمه . و راحت هواجس الغرفة التي أسسها تطرق ذاكرته فراح يجرد ذلك الحلم راسماً نوافذها و بابها و اتجاهها .. هنا سأضع خزانة الثياب ، لها مرآة في و سطها كلما عبرت و أيما تحركت و في أي زاوية لا تغيب عن ناظري متمتعاً بأجمل وجهٍ ، و أجمل شعر . و على الجدار سأعلق صورة أمي و صورة أبي ، أما صورتي مع حبيبتي فستكون مباشرة فوق السرير الذي وضع عليه غطاء عليه رسومات الأزاهير و الورود ..
    و سأترك الزاوية المقابلة للباب للجلوس هناك ، حتى إذا قرع الباب أحد أصدقائي أستطيع الوقوف لاستقباله . و على الشجرة المجاورة لابد و أن أعلق أرجوحة أربطها بأنشوطة كي لا يسقط الطفل ، بينما أنا و حبيبتي نجلس نراقب الأطفال .. ( كن حذراً لا تدفع أختك بقوة حتى لا تسقط ) .
    و نسرق بعض القبل كلما أشاحت عيون الأطفال عنا .
    أيقظته خشخشة أعشاب يابسة على مقربة منه و فجأة رفع بندقيته و صوب ثم أطلق النار ، كانت الأفعى تتقلص و قد ظهر أمامها عش عصافير كانت قادمةً لتأكله ، بينما كانت العصفورة الأم تطير مرتعدة ثم تعود و هي تطلق صيحاتها على شكل زقزقات متتالية . فاقترب من العش و داعب عصفوراً صغيراً ، ثم نظر إلى العصفورة الأم و خاطبها بفرح : لن يصيبهم أذى .
    و تابع سيره محدثاً نفسه .. يا الله حتى العصفورة تسعى لبناء بيت أما أنا و مع أنني تعبت كثيراً حتى أسست هذه الغرفة .. لم يبق إلا السقف .. اليوم سيكون البناء قد أنهى عمله .. و بعدها سأرتب الأمور بطريقة لا تبدد ما جمعت من مال لإكمال ما أحلم .
    كان قد وصل إلى مشارف المستنقع لفت نظره تخبط داخل مياهه .. فاندفع راكضاً ثمة جثة كانت تغوص ثم ترتفع .. قذف بنفسه لإنقاذها وهو السباح الماهر ، و حين وصل إلى الجثة انتشلها من شعرها و ما إن وصل إلى حافة كانت عالية نسبياً ، احتضن الجثة و قذف بها خارج المياه .. حاول أن يمسك بحجر ثابتة من أصل الحافة ليسعف الغريق لكن الصخرة فلتت من ركائزها و انسلخت عن محيطها و سقطت فوقه .. حاول الابتعاد عنها لكنها أصابته و قد تهشم رأسه . كانت عيناه تنظران إلى السماء ، و ثمة سرب لطيور كانت ستحط ثم غاب عن الوعي و قد تراخت أعصابه و تبددت قواه وغار في الماء الراكد ...
    هناك على مبعدة من المستنقع شاهده الفلاحون ، فتراكضوا بعضهم قام بإسعاف الطفل، والبعض الآخر حاول إنقاذه غير أنه قضى نحبه .
    اجتمع الناس على خبرٍ هز القلوب ، أيقظ في النفوس الحزن ...
    و اتجه رجال القرية يقدمون التعازي و يقومون بواجب الدفن .
    كان رئيس البلدية في تلك اللحظة قد أحضر عماله و معاونيه ، وكانت الغرفة التي أسسها تنهار شيئاً فشيئاً مع ضربات ساعد الآلة الجبار، لعدم توفر شروط البناء المناسبة .
    غير أن صوتاً ارتفع فوق كل الأصوات ، و صراخاً وقفت العيون جاحظة لهوله :
    ـ يا بن الـ.. صاحب الغرفة مات .. مات و هو ينقذ ابنك ألا تخجل ؟
    اقترب رئيس البلدية من المرأة الأم و هو يسأل : ما باله ابني ؟
    تقدم رجل مسن من رئيس البلدية و قال :
    ـ لقد مات الشاب وهو ينقذ ابنك من الغرق .

    عازف الكمــان

    كلما انداحت نجمةٌ خلف الخرائب أو ارتمى ظلٌ عند الفجر ، أو هجره الضوء بفعل الغيوم النازفة .. يجلس يراقب حينئذٍ حواشي السحب التي تهيج مشاعره ، فيمسك آلة الكمان و يجلس خلف تلك النافذة القديمة ، وقد سقط الوادي تحته فيبدو إليه كما لو أنه الفاصل بين عالمين .. في الأمس تسلل من طريقٍ يعرفه متحاشياً الألغام إلى أن وصل إلى بيتها و واجهها ، صحيح أنه لم ينفرد بها لكنه استطاع أن يحظى ببعض النظرات . التي رسمت أمامه ذلك الأمل الذي كثيراً ما راح يفكر و هو يدوزن أوتار كمانه الحزين . و اليوم و قد جلس كعادته في بيته ذي النافذة التاريخية التي تكلم الماضي بقضبانها الحديدية ، و ذلك المسند الحجري الذي رقد فوقه فانوس ربما يعود تاريخه إلى زمن حكايا جدته .
    و حين أمسك قوسه و وضع ذقنه على مسند الكمان و ارتعشت الأوتار لأغنية عشقية فيما صوت خضيض اللبن الذي تصنعه أمه في ساحة الدار يؤلف مع صوت الكمان معزوفة جعلته يحلق بعيداً في متاهات هواجس و أفكار كثيراً ما كانت تطرق أبواب دماغه ، و كأنها وقود لمرجل داخل تلك الجمجمة التي ما عرفت الراحة ، و هو يعاني صامتاً ثقل الاحتلال . يعيش في تناقضٍ مع تلك المعزوفات التي يرتجلها و كأنها منقوشةٌ على صفحات قلبه . و كم كان يحلو له العزف عندما تنداح موسيقاه إلى خلف الحدود سارحةً مع تيارات الهواء المضطرب ، فتجلس هناك على صخرة دهرية تسمع ذلك الصوت الحنون ، الذي ينبش من الذاكرة حياة الطفولة . عندما لم يكن ثمة أسلاك شائكة .
    ذات يوم ، كانت أمه تضع الجرة أمامها و تهز بها لتنتج الزبدة العربية من أجل الفطور . فاندفع الباب بقوة ، و دخل ضابط إسرائيلي و معه ثلاثة جنودٍ راحوا يعبثون بالبيت . قلَّبوا مكتبته ، طيروا الدجاج .. فلم يجدوا شيئاً . و حين خروجهم قام رئيس الدورية بركل الجرة و الأم تجلس وراءها .. ثارت ثائرته ، حاول التصدي ، رأى فوهة البندقية في صدره . فتدخلت أمه و راحت تستجدي ، لم يشعر بالخوف . راحت عيناه السوداوان ترميان الدورية بوابلٍ من نار ، غير أن الأم لم تتوقف عن الاستجداء . مما أثار لديه الحفيظة و التوتر ، غير أن الاحتلال هو الاحتلال. و حين خرج رئيس الدورية أطلق ضحكاته العاهرة والأم ممسكة بابنها الوحيد.في مثل تلك اللحظة لابد من العزف ، فخرج إلى حيث النافذة وأمسك قوسه وراح يحز على أوتار الكمان مرسلاً أنغاماً باكيةً و قهراً لا حدود له ، و حين انتهى جلس صامتاً يحاكم أمره ، فحمل آله الكمان و خرج إلى حيث متجر لبيع الآلات الموسيقية و لم يعد مضت عدة أيام .. كانت خلالها الأم وحيدة وفي ذات مساء ، كان البدر يضيء الكوكب بلونه الفضي. نظر إلى ذلك المشهد الرائع وسأله رفيقه :
    _ألا تحس بجمال الطبيعة .
    _كيف لا.. ولكن ينقصها الحرية .
    تمنى لو أن الكمان بين يديه .. غير أنه ظل صامتاً كي لا يتهمه أصحابه بالرومانسية وقال في نفسه : ( يمكن أن يعزف المرء ألحاناً جديدة بأدوات جديدة يفهمها هذا الغاشم المستبد ) . و تقدم رئيس المجموعة و قال :
    _خذ مكانك ..
    و اندفع إلى ستار حجري قديم .. و مد رشاشه تاركاً مساحةً للتحرك ، حاول نسيان كل شيءٍ ، لكن الكمان كان ينتصب أمامه ، و أحس بزناد الرشاش و هو يقبض عليه أنه ذلك القوس الذي هجره لثلاثة أيام خلت .
    تلقى إشارة من قائد المجموعة عرف أن المعركة قد بدأت ، راح يتلمس المقبض الخشبي .. غير أن الأمر يتوقف على الإشارة الثانية عند توقف العربة .
    هاهي القدم التي كسرت جرة أمه تتقدم لتكسره ...
    هاهو الحذاء العسكري بوجهه القبيح يتخطى عتبة بيته .. ها هو باب الثأر ينفتح بقوة . عند توقف العربة تلقى الإشارة و راح الرشاش بين يديه ينفث لهيبه كان القوس يحز على الوتر فيبتهج القلب ، فيما استجداء الشفقة من أُمه يتحول إلى صفعات . و انسحب القوسُ نحو الوراء قليلاً .
    غير أن حوامات العدو راحت تحوم فوقه ، وقد ارتسمت ظلالها على الأرض كوحوش من عالم آخر جاءت لتفجر الكوكب ، في ذات اليوم كانت الأم مضطربةً ، حزينةً ، محاولةً تذكر كلمات ابنها ...
    غير أنها سمعت بكاءً و نداءات ، فخرجت لتستكشف الأمر . و إذا بموكبٍ كبيرٍ يحمل جنازة لفت بالعلم الفلسطيني و ثمة صورة لابنها الوحيد تحملها فتاةٌ في أول الموكب .

    ضحك على منصة الموت

    _ 1_
    عشرون عاماً مضت ، ومضت الليالي تهرش قلقه ، امتدت أمامه أصابع وهمية عملاقة ، بدت كفكي تمساح وقبضت على عنقه في رحلة الهواجس المحبطة .
    راح يعد على أصابعه ما تبقى لينهي محكوميته ، و قال : خمس سنوات .
    تمدد .. تقلب يميناً و يساراً ، مر الشرطي يتفقد الأبواب مصطحباً بخشخشة المفاتيح ، و شكاوى المحكومين في الزنزانات الأخرى ، شيعه من وراء الشبك و هو يعبر الممر كمن يعبر دهليزاً في مقبرة، غير أنه أحس باضطراب .
    و هو يعود إلى جلسته : لنفرض أنني خرجت من هذا السجن اللعين فإلى أين سأذهب ، لا أهل لي و الأصدقاء الذين كنت أعرفهم نسوني .
    هل أخرج للتسكع على أرصفة المدينة .. هل أستجدي ( عوذل و حوقل ) و تقلب من جديد أحس بنفسه مجرد حيوان داخل قفص لكنه سرعان ما زفر زفرة قوية و قال : الحياة هي الحياة .
    في تلك اللحظة شاهد نملة من الحجم الكبير تهبط من أعلى الجدار ، نظر إليها ، كانت مغرية .. جذابة .. ها هو كائن يدخل إليه .. تركها تسير كما تشاء وراح يكلمها كما لو أنه يكلم إنساناً فيما عيناه تلاحقها بشغف .
    ( أهلاً وسهلاً لعلك قاتلة .. من قتلت ليدفعوك إلى السجن ، أم لعله الحاكم ذو الرأس الأصلع هو من حكمك .. لا بد أن حكمك خمسةٌ و عشرون عاماً .. هذا يعني أنك ستقضين عشرين عاماً لوحدك ، تكلمين الجدران ، أنا كلمت الجدران و السقف ، و خيالات كانت تأتيني كأنها أطياف ..
    وصلت إلى الأرض مشت إلى قدمه اليسرى .. دبت فوق الجلد ، ثم ارتفعت إلى ثيابه ، سارت باتجاه الصدر ، توغلت في الشعر الكثيف تفتح ممرات للعبور ، و حين لم يعد يراها مدَّ سبابته تسلقت عليها رفعها و وضعها أمام عينيه ..
    و مضت فكرة في رأسه ، أحضر الصحن المعدني المخصص لوجباته الغذائية ، و ضعها داخل الصحن ، و راح يدق دقاتٍ خفيفة على حافة الصحن ،كانت النملة تنطرب تارة وتهز رأسها تارة أخرى .. كرر العملية بحث في الزوايا القذرة عن حبات الرز .. لملمها و وضعها في الصحن .. اقتربت النملة منها ، فيما كان ينزع عن أفكاره ستاراً كان عالقاً بين الأمل المحبط في داخله و الحرية التي سينالها بعد خمس سنوات و انتظم قلقه المفعم ، أشعل سيجارة و وضع علبة الكبريت قربه ثم عاد إلى الدقات المتناغمة مع حالته النفسية ، و جدها متسارعة ، حاول أن يعيد الهدوء إلى داخله ، و حين خبت تلك الانفعالات المضطربة ، راح يقرع على حافة الصحن قرعاً خفيفاً ذا إيقاع رتيب و حينها بدأت النملة تستجيب لدقاته ترفع يدها ثم ما تفتأ تهبط بيدها و ترفع قدمها تخيلها راقصة باليه ، سمع صوت أقدام الشرطي تقترب منه ، أطل من وراء الشبك أخذ المخصصات وعاد إلى النملة سريعاً .. تركها داخل الصحن و وضع بعض حبات الرز قربها ، بعد قليل و هو يمضغ طعامه رأى النملة تقفز من أعلى الصحن إلى الأرض حاملة حبة رز ، فتركها وراح يراقبها .
    عند الظهيرة وجد النملة تحاول التسلق إلى الصحن و قبل أن تأخذ حب الرز وتقفز راح يقرع على حافة الصحن و بدا الأمر سهلاً في البداية. بعد خمس سنوات وضعها ضمن علبة الكبريت و خرج .
    _2 _
    راح يقف في الزوايا المزدحمة بالمارة ، يضع أمامه شبه طاولة عليها صحناً وبيده زوجٌ من العيدان ، يقرع على حافة الصحن فتستجيب النملة له ، و ما إن تفرغ الشوارع من المارة حتى يكون الصحن قد امتلأ بالنقود المعدنية و بعض الأوراق النقدية .
    في أحد الأيام قرر أن يفقأ عين إبليس و يدخل المطعم ويأكل وجبة محترمة كان لباسه أنيقاً .. يضع قبعته على رأسه ذي الشعر الخفيف ، وضع النملة في الصحن الذي أمامه و صفق مرتين فأتى النادل ، عندها راح يقرع على حافة الصحن أمام النادل ، و حين بدأت النملة ترقص رقصاتها الرائعة ، امتدت كف النادل وصفع النملة ، فانسحقت تحت كفه ( نعتذر عن وجود نملة في الصحن ) .
    هيئ إليه أن العالم أطبق على بعضه ، و أن الأمل الذي حاوره في الليالي المعتمة انقطع ، و أن النادل إنسان مجرم ليس لأنه قتل النملة بل لأنه قطع آماله ، و امتدت يده إلى سكين على الطاولة و طعن النادل .
    بعد عدة أيام أحضروه إلى منصة الموت ، أوقفوه على الكرسي و قبل أن يغمضوا عينيه بقطعة قماش أسود ، نظر إلى الأعلى فرأى ما لم تصدقه عيناه ، كانت نملة أخرى من النوع الكبير تتسلق الصارية و تنظر إليه .
    عندئذٍ أطلق ضحكة بجلجلة راح صداها في سكون الفجر و هي تنداح في أقبية السجن .

    وميض الفجر في المغيب
    قبيل الفجر كانت أبجدية الحروف الملتهبة تتراقص على أوتار الصبا في رقصات أشبه ما تكون برقصات مجوسية حول قداس نار لم تنطفئ ، وكانت حروف الطباعة تسطر على الورق الخبر الذي هطل على الناس كصاعقة قبيل مجيء الودق .
    فتح الجريدة على عنوان عريض فيه فاجعة السنين العجاف . تفقد أوراقه الخاصة و لم ينسَ تلك البطاقة التي تخوله دخول الشوارع التي منع الآخرون من الدخول إليها، وكان قد تعود وداع زوجه و طفليه ، غير أنه هذه المرة خرج متأبطاً حقيبته الصغيرة التي خبأ فيها آلة التسجيل ، و تدلت من عنقه كاميرا التصوير التي رافقته كظله و انطلق ، لم تستطع زوجته كبت مشاعرها فاندفعت وراءه و هي تنادي ( الله معك ) .
    انعطف في الشارع عله يغيب في الأزقة الضيقة بعيداً عن عيون تراقبه و ترصد حركاته منذ مقتل ( أبو علي مصطفى ) تذرَّع بإشعال سيجارة ، وأدار ظهره بشكل موارب ليحمي النار المتصاعدة من الولاعة فيما عيناه من فوق نظارته تراقبان رجلاً كان يراقبه ، عله يتأكد من حقيقة شكوكه . وحين بدأ دخان السيجارة يرسم سحابات فوق رأسه تابع سيره إلى أقرب هاتف .
    صاحب البقالية فهم أمراً لا بد أنه تعود لمثل هذا المشهد ، فابتسم ابتسامة حملت معنى التضامن مع الصحفي و أعطاه علبة سجائر محاولاً تمويه حركاته ، فالعيون مازالت ترصدهم .. و قال بصمت : ( هل أخبِّر ؟ ) أومأ الصحفي برأسه ، فيما كانت ألسنة الإشارة تطلق من الجانب الآخر نداءً برنين قوي جعل الجالسين في تلك الغرفة ذات الإضاءة الخافتة يطوقون الهاتف الذي اكتفى بكلمة واحدة : ( شارع … ) . في ذلك الوقت تأبط شاب وسيم حقيبة في يده وخرج بناءً على إشارة من المجموعة، فيما كان الصحفي يتابع سيره حسب الخطة المرسومة، و حين واجهه من بعيد جنود صهاينة راح يبحث عن مكان يرصد المنطقة ، و عند أول باب دخل بصمت و صعد الدرجات إلى السطح حيث جلس هناك في زاوية يرصد المنطقة عن كثب .
    وضع آلة التصوير على حافة الجدار و راح ينظر من منظارها موجهاً العدسة الأمامية إلى الجنود الذين بدا عليهم التعب والخوف و هم يكابرون مبدين حركات فيها من الميوعة ما جعله يبتسم رغم صعوبة الموقف .
    ثمة أصيص من الورد كان صاحب المنزل قد أحضره لهذا الغرض ، فرفعه و وضعه قرب الكاميرا للتمويه ، و جلس ينظر في حين راحت أفكاره بعيداً في عمق التاريخ ( كان طفلاً ، وكانت أمه تمسك بيديه لتأخذه إلى المدرسة .. صبيحة ذلك اليوم كان جيش الإنقاذ يقاتل على الجبهة في محاولات يائسة لطرد الغزاة . نعم أتذكر ذلك جيداً ، ولم نكن لنميز الجندي البريطاني عن المستوطن الذي جاء من خلف البحار ليأخذ بيوتنا ويقتل أهلنا . و انسحبت ابتسامة من تحت شاربين غليظين لذلك المشهد البعيد الذي مازال في تلافيف الدماغ ، تنتصب أمامه كلما وقع ناظره على أداة من أدوات الدمار الإسرائيلي ( لا أريد المدرسة و قالت أمي : ألم تكن تريد أن تصبح ضابطاً في الجيش العربي؟.. ) غير أنه توقف خياله عندها إذ ظهر من بعيد شاب وسيم في أول الشارع متأنقاً ولكن بدون ذلك الخصر الرياضي الذي كان يعرفه ، فماذا حدث؟.. و قال لا بد أنها الحشوات الإنفجارية هي التي أعطته هذه السمنة ) وصل قرب الجنود الذين اقتربوا منه يريدون السؤال ..
    عند ذلك انحنى على عدسة الكاميرا ، وحدد زاوية الميل .. و ابتعد قليلاً تاركاً كفه فوق الكاميرا .. و ما هي إلا لحظات حتى دوى صوت أشبه برعد قاصف ارتجفت له الأبنية ، و انهارت من النوافذ ألواح الزجاج و تطايرت شظايا أجساد الوحوش ، فلم يستطع كبت فرحه وراح يهلل لدفء الأرض و يصرخ : سنخرج إليكم من تحت الأرض .. و صعد صاحب المنزل إلى السطح تصافحا بحرارة ، و هبط إلى المنزل ثمة غرفة معتمة ، هناك انتزع الفلم و خبأه في صدره و بفرح اجتاز السيارات التي كانت تطلق أبواق النفير مسرعاً إلى المكتب .
    و فيما كانت وكالات الأنباء الصوتية تذيع الخبر كان القلم يتحول في أيدي زملائه إلى شاهد لميلاد الدم وسطوة الوحش و قول الحق .. تلك الكلمة التي راحت بعد ساعة ترتسم على الشاشات الصغيرة و الفضائيات تمجد الشهيد و الشهادة ، و بينما كانت أم الشهيد الثكلى تندب ابنها ، كانت ملايين القلوب فرحة بعزة الوطن و بعزة أبنائه .

    الحصـاد

    لدى عودتي من القرية الواقعة على ضفاف البادية ، حيث السهوب الممتدة بعيداً ، تجعلك تحترف الحنين، تخبئه في لغة المشاوير و عند الأماسي لا تستطيع إلا أن تفتح مخزون ذاكرتك لتخبئ قمراً ، أو تغسل عيونك بالشفق الممتد من موقعك حتى آخر الدنيا .
    ساعتئذٍ طلبت من أبي أن نمر ببيتنا العتيق ، فابتسم من تحت شاربيه الأشيبين واتجهنا بين الأزقة في شهوة الأحلام ، و نحن نعاني صمت جرار الماء المعلقة على الجدران كغدائر المروج محاطة بالنعناع والحبق والورود . و ثمة جمهرة من الرجال يجلسون و أمامهم دلال القهوة المرة ..
    فلا تجتاز المكان إلا و قد ارتشفت فنجاناً أو أكثر حتى لكأننا حللنا ضيوفاً طيبين أينما يممنا وجوهنا ، و مع كل خطوة كنا نخطوها كنت أشعر أنني أقطف من شفير ذاكرتي قصة ، حتى لكأني تركت في تلك القرية الجميلة نصف جسدي ، و نصف روحي و هأنذا ألملم نفسي في رحلة أشبه ما تكون باللازمة داخل جوقة موسيقية .
    مد أبي يده إلى جيبه و هو يبحث عن المفتاح ، في حين كانت عيناي تتسلقان الجدار الذي تشكلت عليه أخاديد ونتوءات تحولت إلى مساكن للطيور الصغيرة . و ما أن انفتح الباب على مصراعيه ، و تخطيت عتبته، حتى طالعني بئر الماء الذي مازالت ترقد فوقه عجلة خشبية ، جعلتني أحرك ما أهمل في زوايا ذاكرتي حتى أحسست وكأنني طفل يدرج خطواته الأولى على بساط نما العشب فيه بشكل عشوائي .. و ما أن دفعت باب أحد الغرف ، حتى فاجأتني صورة كالهلال معلقة على الحائط .. لُفَّت بعناية بالقماش و مددت يدي و رحت أزيل تلك اللفائف التي امتلأت بالغبار و زرق الطيور و شيئاً فشيئاً راح ينكشف بريقه عن قوة كامنة فيه جعلتني أرفعه إلى رأسي وأقبله برغم رائحة الشحم الذي دهن فيه كي لا يصدأ .
    قال أبي : ( بإمكانك تنظيفه و أخذه معك عل جدتك تعيد للحظة أيام صباها .. نعم لقد كانت أفضل حاصدة بين الحاصدين هذا المنجل سيجعلها تعود صبية و هي ترندح الأغنيات و المنجل بين يديها و كأنها تؤدي رقصة على إيقاع أصوات الحقول الرتيب .
    لم أترك مكاناً في البيت إلا و شاهدته و وقفت معيداً تلك البسمات التي سرقها الزمن مستخدماً أسلحة التغيير تاركاً الأحلام في أعشاش العصافير التي مازالت زقزقاتها تصل إلى مسامعي .
    في المساء عدنا إلى المدينة كان الأطفال مايزالون يجلسون أمام شاشة التلفاز في زاوية البيت . و عند دخولنا أمسكت المنجل و وضعته على راحتي يدي وقدمته إلى جدتي التي تكورت في الزاوية بلباسها القديم وكأني أقدم وساماً لقائد في فرقة عسكرية مقاتلة .
    و ما أن لامست بأصابعها النحيلة حديد المنجل حتى رغرغت عيناها بالدموع .. وراحت تطلق آهات مختبئة ، آن انبلاج وميض الذاكرة تراها تنطق بلسان زمنها وكأنها كتابٌ لا تستطيع إغلاقه حتى آخر حرف منه وبصمت مررت باطن يدها على شفرة المنجل وراحت تهز رأسها آسفة على أيام طواها النسيان و هاهي تحاول جاهدة إيقاد الشموع المتبقية في زوايا ذكرياتها ..
    و لم يمضِ وقت طويل حتى جمعت ساقيها و أعادت ترتيب جلستها فبدت شامخة كأنها امرأة ثانية صامدة تحت سياط الزمن الأرعن شامخة متحدية .. و اقترب الأولاد منها في دعابة و صرخوا : ( إن جدتي ستحكي لنا حكاية المنجل ) . غير أن أبي صرخ أيضاً مؤنبا الأطفال : ابعدوا عن جدتكم ، لا تزعجوها . غير أن الجدة وضعت المنجل بين يديها و جمعت رؤوس الأطفال الصغيرة إلى صدرها بحنو عجيب ، و قالت دعهم . ثم نظرت إلى عيون الأطفال البراقة ، و هي تتفتح على مفاجأة كانوا يسمعون بها ، و راحت الصور المشوبة تعيد الجدة صياغتها ، و كأنها فنان تشكيلي يرسم لوحة لإنسان يحتضر . قالت الجدة : في أيام الحر كان هذا المنجل رفيقي ، ( أشكله ) كالسيف في خاصرتي . كنا نستيقظ قبيل الفجر ، نتأزر بثيابنا التي تغطي أجسادنا كاملة ، و كنا نربط سواعدنا و نشد عليها ضاغطين الشرايين ، لأن الحصاد يحتاج لحركات يؤديها الحاصد بمهارة قد تؤثر على الساعدين . لهذا كنا نستعمل هذه الأربطة .
    هذا المنجل يا أولاد أعادني خمسين عاماً خلت ، يوم كان يتجمع الحاصدون عند حافة الحقل الجنوبي بأرض المختار ، و البعض الآخر يجتمع عند جدكم . و لما كان يحدث مثل هذين الاجتماعين في حقلين متجاورين ، كانت العيون تشرئبُّ و تغدو نظرات التحدي و السبق هي القانون السائد .
    في ذلك اليوم وقفت على رأس الحاصدين و هم يعرفوني جيداً .. فلو كان لهذا المنجل لسان لنطق ، و لكني سأروي ما جرى و نتركه يسمع حديثنا .
    كان الحقل المقسم إلى خطوط مستقيمة من القمح أمامك و كأنه مرج يؤلف كوكباً ، في بداية الحصاد لا بد أن يرتاد السؤال قبيل البدء بالحصاد ، هل يمكن أن نحصد كل هذا الامتداد من السنابل ؟
    كانت السنابل تتماوج كبحر خضم ، و بدأت الأغنيات ترندح هنا و هناك . و انحنيت على أول تلك السنابل و قبلت هذا المنجل ، و قلت في ذاتي متحدية ( لن ندعهم يسبقوننا ) و أمسكت أول قبضة و قطعتها .
    و إني أعلمكم أنني كنت ألبس بأصابعي خراطيم من القصب ، و ما ذلك إلا لتطول أصابعي و تصبح قادرة على جمع المزيد من السنابل التي تؤلف ما يسمى ( بالشّمل ) .
    نظرت إلى الأطفال و هم يصغون إلى الجدة ،كانت عيونهم شاخصةً بشفتيها الرقيقتين ، و آذانهم صاغية على تلك الصور التي تقذفها الجدة ، و كأنها لطخاتٌ لريشة فنان على جدران أذهانهم .
    تابعت الجدة : و راحت يدي هاتين تؤديان الحركات و كأنهما تؤديان حركات لرقصة ما . و شيئاً فشيئاً مع صعود شمس الصباح ، كنا نتقدم داخل الحقل ، حتى إذا وصلت الشمس إلى كبد السماء ، ركب جدكم الفرس ،و راحت تعدو خبباً و هو ينادي : ( إلى الطعام ، إلى الطعام ) .
    نترك السنابل واقفةً ، بينما الآخرين كانوا يجمعون الزرع بيادر ، بيادر ..
    و اتجهنا إلى رأس الحقل حيث الطعام وضع على بساط ، راحت تعقد حوله حلقات الحاصدين .
    في حين كان حاصدي المختار قد اجتمعوا إلى الطعام أيضاً . قال أحدهم :
    _ هل سنسبقهم ؟
    _ وكيف لا ؟ سنلقنهم درساً لن ينسوه .
    غير أن أحدهم قال :
    حافظوا على النظافة ، فلا تدعوا سنابل واقفة وراءكم . لكن جدكم لم يقبل بالأمر وصرخ :
    _ لا ، الأرض التي لا تطعم الحيوان و الطير لا بركة فيها .
    و بعد وجبة الطعام التي قضيناها في الدعابات و المرح ، وقفنا جميعاً ، و عدنا إلى تلك الخطوط المتوازية من سنابل القمح ، نقطعها بمناجلنا رزماً رزماً ...
    و ها نحن نقطع آخر ( شمل ) من الحقل ، عندئذ نجتمع وسط عاصفة البهجة و الفرح ، بينما راح جدكم على ظهر فرسه يؤدي رقصةً و لا أعجب ..... بينما الفرس تؤدي بحوافرها إيقاعاً جميلاً مازال يطرق مخيلتي .
    نظرت إلى الأطفال الذين كانوا بأوج انفعالاتهم ، كانت عيونهم ترف و كأنهم أشبالٌ استنفروا لأمر طارئ .
    قطع هذه الحالة دخول أخي معلم الكمبيوتر ، يحمل صندوقاً مصنوعاً من الورق المقوى . و قال :
    هذا هو الكمبيوتر .
    نظرتُ إلى جدتي ، فرأيت عقدةً بين حاجبيها قد تشكلت منذُ لحظات ، و اعترتها مسحةٌ من الحزن لم تستطع إخفاءها ، و بدا عليها توترٌ واضح .
    فجلست قربها كما لو أني أواسيها ، غير أنها ربّتت على كتفي و قالت :
    _ هذا زمانكم .... هنيئاً لكم .
    لم أبرح المكان ، فيما كان أخي يعدّ جهازه و ما هي إلا دقائق حتى كان يعرض فيلماً على جهاز الكمبيوتر عن علم الفضاء .
    ضحكت جدتي و قالت و هي تمسح دموعها :
    ـ ( علّم الإنسان ما لم يعلم ) .
    طيّبت خاطرها ببعض الكلمات و قلت لها :
    ـ هذا من فضلكم يا جدتي ، فأنتم من أسس لهذا كله .
    _ هكذا ترى .....
    _ و هكذا يراه الخيِّرون .

    الفهرس

    المقدمة ……………………………..………………………7
    المسافر …………………………………….…………… 13
    صاحبة القبعة الصفراء …….………………………… 21
    لقاء لم يتم ……..……………………………….……… 33
    الشاغر ………………………………………………… 39
    البرقية …………………………………………...……… 47
    كوخ على رصيف البحر …………………………… 57
    العروس ………………………………………………… 63
    غرق الاحلام الصغيرة ……………………..………… 69
    عازف الكمان …………...…………………………… 77
    ضحك على منصة الموت …………………………… 83
    وميض الفجر في المغيب …………………………… 89
    الحصاد ………………………………………………… 95

    المؤلف في سطور

    سائر جهاد قاسم

    كاتب سوري من مدينة حمص

    صدر له :
    ( المسافر ) دار التوحيدي.
    ( صائدو الأحلام ) وزارة الثقافة.
    تحت الطبع :
    ( مرايا الدمع ) مجموعة قصصية.
    (أطياف من القصة العربية المعاصرة ) إعداد.
    حائز على عدة جوائز :
    جائزة اتحاد الكتاب العرب بحمص 2003.
    جائزة عمريت بطرطوس 2004.
    جائزة عبد الباسط الصوفي بحمص 2005.
    شارك في مجموعات قصصية مشتركة :
    قصص مدينتين - حمص وحماة 2002.
    قطوف قلم جريء 2004.
    شارك بالعديد من الأمسيات القصصية في سوريا.
    أجرى عدة حوارات مع نخبة من الأدباء والمثقفين في سوريا.
    ينشر نتاجه في المجلات والصحف السورية والعربية.
    صورت إحدى قصصه لمسلسل مرايا ياسر العظمة 2004.







    المسافر


    هكذا هي الحياة..

    غابة للنسور المحلقة فوق فنن الأشجار العالية وفي الأرض سلام للأقوى
    وما الحرف سوى ذلك السيف الذي يجرد من غمده لحظة الهدوء حتى توشحه الدماء لتطهره من رجس سقط ذات مرة بغفلة عن فارس الأحلام.






    سائر قاسم



    سائر جهاد قاسم




    المسافر






    قصص


    جميع الحقوق محفوظة للمؤلف



    qالمسافر
    qقصص
    qسائر جهاد قاسم
    qالطبعة الثالثة 2009 م




    الإشراف الفني: مكتبة الشمالي
    سورية - حمص
    هاتف: 2614371/ 031 فاكس: 2635046/031




    الإهداء ..



    إلى المسافر الذي أضاع نفسه وأضاعنا معه.. والدي.
    إلى التي قضت عمرها في التعب والشقاء.. والدتي.
    أختي الغالية فاتن.

    عائلتي الصغيرة
    ( زوجتي الحبيبة سلام.. وابني مارسيل )
























    [IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/Jammoul/LOCALS%7E1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_image002.jpg[/IMG]








    دفء الرجل .. دفء النصوص


    المقدمة بقلم الأديب الدكتور : حسن حميد


    -1-
    لم أكن من قبل قد قرأت شيئاً لكاتب اسمه ( سائر قاسم ) بل لم يلفت أحد انتباهي إلى هذا الاسم الذي يكتب القصة القصيرة . و لم أقرأ له شيئاً إلا عندما جاء إليّ يحمل بين يديه مخطوطته القصصية الأولى ، شاب في مقتبل العمر ، هادئ هدوء شيخ ، صامت على الدوام ، حيي و خجول . ينظر إلى محدثه بعينين لا تخلوان من الشرود و التشتت .. طلب إلي أن أقرأ قصصه ، و أنا أكتب مقدمة لها لأنه يود نشرها إن وجد تشجيعاً . و لا أدري ، وأنا في فوضاي العجيبة التي أكرهها كثيراً ، كيف ضيعت مخطوطته دون أن أقرأ منها حرفاً .. فتألمت كثيراً متخوفاً من أن تكون النسخة الوحيدة لهذا الشاب قد ضاعت . و حدث أن هاتفني بعد أكثر من أربعين يوماً و سألني عن المخطوطة ، فاحترت ماذا أقول له ، فأحس الرجل بارتباكي ، و قال لي منقذاً : سأسألك بعد أسبوع . قلت : طيب . و رحت من لحظتي أبحث عن المخطوطة فلم أجدها . و انتظرت هاتفه مرة أخرى ، لكنه و بعد أسبوع جاءني و معه نسخة جديدة من مخطوطته القصصية و فرحت به و بها معاً .
    قدمت بهذا لأقول :
    إن ( سائر قاسم ) ليس نزقاً ، و لا برماً ، و لا هو من أصحاب المذهبيات المسبقة التي تسيء الظن بالمتقدمين عليهم بالتجربة ، من الناحية الزمنية في الحد الأدنى . و لا هو من الذين يتجاهلون المشهد الثقافي جملة و تفصيلاً . إنه قاص يريد أن يرى قيمة نصوصه و صورها في مرايا الآخرين . يريد أن يدرك أدراك المتصوفة للمعنى ، هل أدى الوظيفية ، و حبّر المتعة ، و جسد الإقناع في نصوصه ، أم أنه يطير على أكف الأصدقاء و المقربين بعدما مدحوه و اثنوا عليه . لهذا جاء بقصصه لأقول فيها كلمة . و لا أدري إن كان قد قدمها لأحد من أصحاب التجارب الأدبية أو النقدية .. غيري .
    المهم ، هو أنني توسمت في دفء هذا الرجل دفئاً مستجراً إلى نصوصه ، و هكذا كان فعلاً ، فـ ( سائر قاسم ) قاص يعي غايات النص القصصي ، كما يعي موجباته من إتقان للغة ، و التقاط المؤرق و الموحي و المتواري ، و التخلص من جهامة الموضوعات الكبيرة ، و صنع حياة لها طقوسها ، و ناسها ، و هواؤها ، و أرواحها النائية ، و ألوانها .. على قد الأحداث ، و وفق جولان النفوس القلقة العطشى لنهارات ملأى بالضوء ، و الحرية ، و الغايات الدانية كعناقيد العنب .
    -2-
    قصص ( سائر قاسم ) ذات رشاقة بادية ، جملة قصيرة و موضوعاته حيوية ، تمضي دونما عثار إلى خواتيمها السامية . ثمة وعي في الاستهلالات تجميلاً ، و تزويقاً ، و شداً للانتباه ، و ثمة ثنائيات متصادمة ما بين الخير و الشر ، و الضحية و جلادها ، و العادات و التمرد عليها ، و الموات و الثورة .. الخ . كما أن القصص طراً متخففة من ثقل الأفكار تجسيداً و حواراً .. فهي أقرب في تكوينها إلى حديقة صغيرة مشغولة بأيدي بستاني عينه اليقظى ، و يده الماهرة تعملان دائماً في تشذيبها ، و مدها بالرواء ، و هي بذلك تعطي انطباعاً طيباً عن قاص يتقدم بثقة ، و قد وعى دور الأدب ، و قيمة الإبداع كرسالة في الحياة .. يكرز لها ، و يعمل عليها ، لتصير أشد تأثيراً و فاعلية في الذات الإنسانية المصابة بحمى الوقت ، و الذوبان ، و الرخاوة ، و الانطفاء المؤسي . قصص تقارب الواقع و تحتفي به تخوفاً من غمره بالأنفاس الحامضية المستلة من ( ثقافة المادية ) و إفرازاتها الغثة المتكاثرة يومياً ، و هي بذلك ترتب لنفسها موقعاً في خندق المدافعين عن القيم النبيلة ، و الأرواح التي جرحها الجري اللاهث تلبية للدوافع العضوية كالطعام و الماء و الأمن .. الخ .
    -3-
    قصص ( سائر قاسم ) المجموعة في هذا الكتاب أشبه بيد مرفوعة و صوت يتعالى .. علامتها الأبرز الإعلان عن تشوف أدبي ، و حضور في المشهد الثقافي و الإبداعي .. يراد له أن يكون مسيجاً بالانتباه العميق و الصحو الدائم ، و المساهرة الإنسانية لعذابات الروح و قد صارت كلاماً يضيء بعض مواضع العتمة ، و قلقاً يهز القناعات المريضة ، و معنى تجتمع عليه من اجل الحياة المشتهاة .





    د. حسن حميد



























    المســافر














    ينعطف في الشارع و بيده حقيبة ، فيها كل أوراقه و ما جنته يداه . تطالعه الحشائش اليابسة على أسطح المنازل ، لا شيء تغير ، كل شيء كما تركه ، يصعد الدرجات ، يمد يده إلى جيبه ، ثم إلى الحقيبة ، يتذكر أنه لم يأخذ المفتاح معه .
    يهبط الدرك و ينعطف يمينا ليسأل جيرانه .
    يقرع أول باب ، يسمع صوتا من الداخل ، يدخل ، امرأة تجلس على المصطبة ترف بيدها :
    _ من .. أنت ؟ الحمد لله على السلامة .
    كان صامتا كأنه اخرس ، مكتفيا ببعض العبارات التي لم تسمعها المرأة ، لكنها لم تقف . اقترب منها بناء على طلبها ، قبلته على لحيته البيضاء الكثيفة ، عرف أن سمعها قليل :
    _ كيف حالك يا ... و رفع صوته بما ينسجم و الحالة التي هو فيها .
    _ ماتت و لسانها ينطق باسمك .
    أحس بأن يدا تقبض على عنقه ، و ثمة دمعات نفرت من عينيه ، حاول ألا تلاحظ المرأة هذه الدموع ، وأشاح بوجهه قليلا .
    قالت :
    _ حين تبكي الرجال تصاب النساء بالخيبة .. لا تبكي أمامي فأنا لا أستطيع المقاومة .
    كفكف دمعاته . و مدت المرأة يدها إلى عبها ، و أخرجت كيسا مصنوعا من القماش معلقا في عنقها . راحت يداها المرتجفتان تبحثان في زوايا الكيس ، و أخرجت مفتاحا ذا لون اصفر .
    _ يا حسرتي .. قالت لا تعطيه لأحد غير ابني إذا عاد !. و ها أنت قد عدت .. عليك بالصبر .
    لم يحسن تقديم الشكر ، انحنى إلى حقيبته ، حملها ، ثم اخذ المفتاح و عاد .
    يفتح الباب ، تطير العصافير داخل البهو ، تخرج من نافذة صغيرة دائرية تستعمل لبواري المدفأة .. ثمة ثوب نسائي معلق ، يقترب منه ، يدفعه شيء بداخله لشم رائحته . الكرسي الخشبي الوحيد الذي يمكنه أن يجلس عليه ، يهزه، يتطاير الغبار مشكلا سحابات راحت تنتشر في أرجاء الغرفة تتعلق على خيوط العنكبوت المتأرجحة في الزوايا.
    يفتح النافذة ، يقع نظره على أصيص الورد ثمة زنبقة كانت قد تحولت إلى يباس . يتقدم باتجاه صنبور الماء ، يحاول فتحه ، كان جافا و قد بنت الحشرات في داخله مساكن لها .
    يقترب من المرآة ، ينظر بداخلها منع الغبار إظهار الصورة يرفع منديلا من جيبه يمرره على وجه المرآة ثم يدعه يتأرجح نحو الأرض ككل الأوراق الصفراء . يحدق من داخل الخط الذي مسحه إلى داخل المرآة .. رجل في الخمسين من العمر .. ذو لحية بيضاء يتخللها بعض السواد و عينين دامعتين فيهما كآبة . يرفع قبعته بدا الجبين عاليا ، أما اللحية فقد غطت الحفر غير أن كرسي الخدين ظهرا لامعين تحت عينين معذبتين . راح يتلمسهما فيما أفكاره ، رحلت إلى خمسة و عشرين عاما خلت .
    هنا كانت تجلس والدته سألته :
    _ أكان يجب أن تذهب هكذا و تتركنا ؟
    _ أنا لا أترككم يا أمي سوف ابعث لكما ما يكفيكم لتعيشوا بسعادة .
    _ نحن سعداء بوجودك .. فكر في قلب أمك .. أبوك كاد يطير عقله حين سمع قرارك هذا .
    _ أبي و أنت و من لي غيركما .. أما السفر فهذا لأجلنا جميعا .. هل تريدين لابنك أن يعيش العوز فيما غيره من الشباب يؤسس حياته .
    _ برضاي عليك .. لا تنسانا .
    أيقظته حركة من وراء المكتبة عرف أنه فأر . كتبه ما زالت داخل الزجاج حبيسة فوق المكتبة اتكأت آلة موسيقية في زنزانتها ( حقيبتها السوداء ) .
    صرخ بأعلى صوته :
    _ اللعنة !
    و رفع الكرسي و ضرب زجاج المكتبة فانهارت القطع صارخة ، ضحكت من داخلها الكتب ، كل كتاب راح يصرخ كان يسمع الصرخات و كأنها صرخات داخل نفسه التي امتشقت ساعتئذ . مد يده من بين الكتب إلى مصنف كان يستعمل لجمع الصور ، فتحه ، هذه صورته وجهه مجدور طلب من المصور أن لا يضع عليها أية رتوش ، هذه أمه ، و هذا أبوه . راحت الصور توقظ سيل الذكريات ، غير أن حركة الفأر ما زالت وراء المكتبة الخشبية . جثا إلى الأرض محاولا طرده ، لكنه تركه ، و فتح أول درج ( لقد تكدست رسائله التي تركتها أمه ) حمل أعلاها ، و فض الغلاف ، كانت بقايا مذكراته ، و ثمة رسالة كان قد خطها بقلمه ( إلى حبيبتي ريم ) و انفتحت شفتاه عن ابتسامة سرعان ما انكمشت ، أين أصبحت ؟ من تزوجها ؟ لا بد أنها تزوجت . فض الرسالة و قد تراخت يده وسقطت الورقة تتأرجح في أرجاء الغرفة .
    خلع سترته البيضاء الأنيقة و قذف بها بعيدا ، لم يعد يهمه أي شيء ، غير أن نداءا محموما كان يسمعه من عوالم مجهولة تخيلها و كأنها صدى لأوتار كمان ، امسك به ، و أنزله ، و فتح الحقيبة ، ثم وضع ذقنه على مسنده ، واحتوته الآلة .
    امسك بالقوس ، و راح يجر أولى النغمات التي لم تعزف من قبل ، كانت الآلة فرحة بتحررها غير أنها انصاعت لإرادته لتنتج صرخات اقرب ما تكون إلى صرخات ثكلى ..
    و مع حركة القوس راحت الأوتار تترجم حالته ، و ترحل إلى بيوت الجيران الذين عرفوا انه عاد ، و ما أن تجمعوا و قرروا أن يرتقوا الدرجات ويقدموا له التعزية بوفاة والديه ، و يقدمون له التهنئة ، حتى سقطت الآلة من يديه ، و ثمة ورقة مكتوبة مؤرخة بتاريخ قديم منذ خمس و عشرين عاما ، و بقايا صور ، دخل الجيران .. لم يستطيعوا تقديم التعزية .









































    صاحبة القبعة الصفراء














    ما إن عصفت في رأسه تلك الأفكار الهوجاء ، ورفع رأسه عن الوسادة المليئة بالغبار حتى دب السعال في حنجرته ، وكأنها قطاع طرق تصادر قوافل تتدفق نحو المدينة ليعاد إلى تصديرها في صناديق مغلقة لا يفتحها إلا ذوي الألباب . ولكن ما هي إلا لحظات حتى هدأ السعال ، وعادت الأفكار تخب في محيط الذاكرة قارعة طبول الحرب ، وكأني بها كانت تدرك حالة صاحبها الذي أشعل لفافة وراح يعب منها .
    وقف متجهاً صوب ألوانه وريشاته الملقاة بعشوائية . كثيراً ما لام نفسه . غير أنه أمسك لوناً قاسياً ثم أعاده، و أخذ حوجلة أخرى وصب منها ، وحرك ريشته ثم صب قليلاً من أخرى وراح يحركها حتى تلونت بذلك اللون الأرجواني. فغط منها ورفع يده و شطب بريشته ، فإذا هي شكل لشعاع .. هبطت يده إلى الأسفل وغير اللون ، فصعدت شمس من خدرها ، رسم أهرامات كسراب ثم ما فتئ يمزج ويلون ، وهو يعب من لفافته تارة ويجرع الخمرة تارة أخرى . وبين مزج الألوان والخمرة راحت تنتصب خيوطاً و وشائجاً داخل ذهنه ، هكذا حتى هدأت حركة الأشياء وصمت الكون من حوله ، وأسدل الليل ستائره. ولم يبق غير ذلك الضوء من جهاز الإسقاط يضيء داخل المرسم بقعة ضوء دائرية ، ورجل يتحرك فيما تتشكل سحابات من دخان فوق رأسه . لقد شرب حتى أحس بثقل في رأسه ، وتمددت في تلك اللحظة أنامل النعاس تدب في عروقه فانتفض كيف ينام وغداً صباحاً سيقرع الباب ذلك الوغد يطلب إيجار المرسم .
    اتجه إلى صنبور الماء ، بلل رأسه ، ثم عاد إلى ريشته ولكن عبثاً تنطق الألوان .
    التفت إلى اللوحة ، شطب شيئاً وعاد إلى سيجارته التي راحت تحترق في مكمنها ثم وضع قطعة من الثلج في الكأس والتي راحت تدور في بحر لا قرار له . وبحركة انفعالية سكب كل ما في الكأس داخل جوفه وكأنه يقول : ( لتنفجر هذه الجمجمة التي لا تستحق إلا فأساً يطيح بهذا العالم في داخلها ) .
    وسط الغرفة عبرت في خاطره تلك الأسطورة : ( في الزمن غير المكتوب على رقم أو جلد ثمة نحات كانت الفتيات يجتمعن حوله و يسألنه :
    ـ من منا الأجمل .
    غير أنه كان صامتاً لم يبد رأيه ، فأصبح سخرية بالنسبة لهن . و في يوم من الأيام نحت تمثالاً وراح يكلمه صارخاً فلتخرج الصورة من الصورة فيما يمسد جسد التمثال ويحف به بجميع ما لديه من أدوات ، حتى إذا رأى الرخام يستظل بالحمرة شيئاً فشيئاً نطق التمثال ، قيل أن هذا النحات كان بجمالون ) .
    و لكن ما هي إلا لحظات حتى أحس بدبيب نمل وخدر في شفتيه وأوداجه .. و نطقت الخمرة قائلة : ( هيه ، هيه ) واقترب طيفه يمسك يده التي تقبض على الريشة .
    و هو ينظر بعينين واسعتين متفحصاً اللوحة وما آلت إليه ، فكان يكلمها كما لو أنها إنسان يسمعه . وفجأة سمع ذلك الصوت الذي هبط إليه من غيهب مجهول، بدأ ينظر حوله لا أحد، وما إن عادت نظراته إلى اللوحة حتى وجد فتاة جالسة على سراب الأمواج ، وبيدها كتاب ممزق .
    ارتعشت الريشة بين أصابعه ، ثم اقترب يخط خطوطاً خفيفة من سحابات الذاكرة التي راحت تمطر عرقاً ، وتنفث روحاً ما فتئت تتكامل حتى لتكاد تصرخ به ( أكملني ) .
    في الصباح حمل لوحته وأغلق المرسم وهبط الدرك ميمماً وجهه صوب الجسر . هناك حيث السياح والأجانب يبتاعون ما هو جميل و خلاق .
    أسند اللوحة على السور ، ووقف ينتظر قدوم من يشتري اللوحة ، فيما كانت دوائر من الدخان ترتسم فوق رأسه مشكلة صوراً خرافية ، ما فتئت تترادف لتشكل جيشاً في سراب مغمور بالآهات .
    و من بعيد ومن وراء رؤوس المارة ، بدت سيدة قادمة .. ترك اللوحة وراح يتأملها ، وجهها المشحون بالفتنة .. قامتها الفارهة .. عيناها اللتان تظللهما قبعة صفراء ، و تحت ظل بدا كالغسق لمعت شفاه كرزية وشعر ينساب كشلال مياه لونته الطبيعة بألف لون ، على عنق صافٍ يحمله صدر عارم، اندفع منه نهدان يشدان الثوب ، كل ما فيها ينطق حتى حركاتها العفوية كانت توحي بأنها امرأة غير عادية .
    تنحَّى لتعبر ، غير أنها توقفت تتأمل اللوحة، تبتعد عنها تارة و تقترب تارة أخرى . سيدة جاءت من وراء البحار تبحث عن معنى جديد للحياة ..
    اقترب قائلاً بلسان أجنبي :
    ـ هل أعجبتك اللوحة .
    لكن اعترته الدهشة عندما أجابته بلغة عربية فصيحة :
    ـ هل أنت صاحب هذه اللوحة ؟
    ـ نعم سيدتي أنا صاحبها .
    ـ هل أستطيع أن أشاهد بعض أعمالك ؟
    ـ بالطبع ، بكل سرور .
    و بفرح أشار إلى سيارة عابرة ، حمل اللوحة و صعدت السيدة داخل السيارة . أغلق الباب وجلس هو قرب السائق .
    في مكان قصي يشرف على البحر وحقول التبغ والزيتون ، كانت السيارة تعبر حتى إذا ما توقفت فتح الباب وهبطت السيدة تحمل بيدها حقيبتها . ركض باتجاه الباب، فتحه ودخل الاثنان في صمت .
    و قفت السيدة و الدهشة ترتسم على محياها . كان المرسم عبارة عن غرفة واحدة ، وثمة نافذة تشرف على البحر .
    في ركن هذه الغرفة سرير قديم وقربه مكتبة صغيرة وضعت عليها منفضة معبأة برماد السجائر . كان كل ما في المرسم يوحي بالفوضى و الفقر ، غير أن اللوحات المعلقة في كل مكان أضفت على المكان السكينة و بعض الجمال . كانت السيدة تتوقف عند كل لوحة ، ثم تنتقل إلى لوحة أخرى . و حين انتهت قالت :
    ـ اسمي ريم وأنت ؟
    ـ مارسيل .
    ـ آه أنت فنان كبير سيد مارسيل .
    ـ شكراً .
    ـ سأشتري كل هذه اللوحات .
    ـ كلها ؟
    ـ هل هناك من مانع ؟
    ـ لا . المرسم كله على حسابك سيدتي .
    لم تهدأ عيناها عن الإبحار في تلك اللوحات المعلقة .
    ـ كم تريد ياسيدي ؟
    وقف عن النطق . غير أن السيدة فتحت حقيبتها و أخرجت مبلغاً مغرياً وقدمته ، لكنه أغلق يدها على ما تقدمه وتوقف .
    كانت تعاين حركاته ، يده المرتجفة عندما امتدت لتغلق كفها ..
    ـ لا سيدتي ولكن لا أستطيع بيع جميع اللوحات .
    ـ ولم ؟ أنت سترسم غيرها ، أليست جميعها من إبداعك ؟
    ـ بلى و لكن ..
    ـ إن كلمة ولكن تزعجني .
    ـ لا ، أنا لا أريد إزعاجك ولو قدر لي أن أبيع جميع اللوحات لتخليت عنها دون أن آخذ قرشاً واحداً .
    صمتت السيدة تشغلها الحيرة ، وامتنعت الكلمات عن التعبير .
    قدم لها الكرسي لترتاح . جلست السيدة فقال لها :
    ـ ماذا تشربين سيدة ريم ؟
    ـ لا بأس بالقهوة .
    وضع على سخانة كهربائية دلة القهوة ووضع البن وراح يصنع فنجانين .
    و عندما شعرت السيدة بالراحة وبدت عليها الطمأنينة أحس أنه فعل شيئاً جميلاً ، وبينما كانت ترفع الفنجان إلى شفتيها ، كانت تنظر إليه متأملة هذا الرجل ( لا بد أنه رجل مختلف ) .
    في الجانب الآخر من جمجمته ثمة من كان يصرخ به : ( المبلغ مغر هو يكفي لبناء مرسم وبيت فخم ، بع أيها المتسكع على هامش الحياة )
    أما في عقله الحاضر فكان ثمة من يقول : لا ، الفن لا يكون للبيع . الفن ليس للارتزاق . قطع الحوار في داخله كلام السيدة :
    ـ أنا أقدر الفنان وأعلم أن الفن ليس للارتزاق غير أن الحياة تحتاج للمال ، و أنت لا مال لديك . ليوناردو دافنشي قبض ثمن لوحاته .
    ـ أنا لم أقل أنني لا أقبض ثمن ما صنعت ، ما هكذا يجب أن تفهمينني سيدتي . صحيح أنا إنسان بحاجة للمال ، و لكن أي انفصام في عالم الروح حين أجد نفسي أبيع كل شيء . خذي بعضها ليس لدي مانع ، ولكن جميعها يجعلني أنشطر هل تفهمينني سيدة ريم ؟
    ـ نعم معك حق ولكن خذ هذا المبلغ أولاً .
    كانت السيدة تضع حزمة المال على المرسم وتتأهب للرحيل .
    ـ هذا غير معقول سيدتي .
    ـ إذن أعطني ماشئت من اللوحات على أن تكون هذه اللوحة بينهم. وأشارت إلى اللوحة التي اصطحبها معه إلى الجسر .
    ـ هأنذا أتركك لتنتقي ما شئت .
    راحت تحمل بعض اللوحات وتضعها إلى جانب جدار قريب ، حتى فرغت الجدران ولم يبقَ إلا ثلاث لوحات وانبرت قائلة :
    ـ هذا يكفي ؟
    هز رأسه موافقا ، ودعاها لشرب كأس شمبانيا و هو يعيد المال . فامتدت يدها وأخذت حزمة المال و حشرتها داخل حقيبتها ، غير أنه استأذنها ليتناول من حانة قريبة زجاجة شمبانيا ، وحين خرج أفرغت حقيبتها من المال ، وضعته على المرسم و خرجت .
    حين عاد وجد المال واللوحات جميعها باستثناء اللوحة التي اصطحبها إلى الجسر . خرج إلى الشارع لكنه لم يجدها .
    و قف يتأمل ما جرى معه ، كان يرتجف من الداخل وسيماء الغضب قد ارتسمت على وجهه ، وهو ينظر إلى حزمة المال التي بدت إليه كأفعى تطوقه . فأمسك بزجاجة الشمبانيا وقذفها لتنكسر وتلوث المكان . راح يلتقط قطع الزجاج المتكسر بأصابعه ، و في لحظة بين ارتجاف أصابعه وإرادة الصبر خدشته أحد القطع ، فسال الدم . حاول إيقافه ، اقترب من حوجلة الألوان محاولاً رفعها ليعود إليها ثانيةً وقد امتلأت الحوجلة بالدم ، فأمسك بإصبعه وضغط على الجرح وخرج ليعالج جرحه الذي لم يتوقف عن النزيف .
    حين عودته كانت الشمس ترفل للمغيب ، وثمة خطوط حمراء تشد قرص الشمس ، غير أنه دخل المر سم و أمسك بريشته ، غطها في الحوجلة المملوءة بالألوان والممزوجة مع دمه وراح يرسم لأيام متتالية .
    انتهت اللوحة من الرسم وخرج حاملاً رأسه الذي فرغ ، وذهب يبحث عن مكان يأوي إليه بعد عدة أيام من العمل المضني .
    وهناك قرب منعطف عبرت سيارة يقودها أحمق ، فسحبته وسقط رأسه على حافة الرصيف .
    و بعد أن غسلت عجلات السيارات دمه من الطريق ، طلب صاحب الغرفة من الشرطة فتح المرسم .
    فاجأتهم لوحة ما زالت على المرسم ، عبارة عن حديقة غناء فيها جميع أنواع الورود بمختلف الألوان وخلف هذه الحديقة أبنية تدل على وصول الحضارة إلى حالتها في هذا العصر .
    و في الحديقة تقف فتاة تضع قبعة صفراء وحولها أطفال ، لوث هذه اللوحة صوراً لأوراق نقدية غطت جمال اللوحة ، فبدت كأنها تكلم موضوعاً عن جمال حضارة متألقة شوهها المال .























    لقاء لم يتم














    كانت الدقائق تمر سريعة و عقارب الساعة التي ما فتئت تتقافز مع دقات رتيبة منتظمة تحثه على الإسراع ، كانت المرآة أمامه مصقولة و قد الفت ذلك الوجه المجدور و هو يوارب وجهه و قد انشغل في ترتيب أدوات الحلاقة و الماء الساخن و بين الفينة و الأخرى يطل الوجه من داخل المرآة مبتسماً تارة و عابسا تارة أخرى فيما خيوط الشمس الذهبية التي توشي الأرض بدوائر غير منتظمة راحت تشكل في داخله مجموعة من المرايا الخفية لتدفع الإرهاصات الداخلية إلى سطح الشعور فتبدو شخصيته أمامه كأنها شخصية أخرى لا علاقة له بها لاسيما و أنه دائما كان يقف يتجرد عن محيطه ليرى ما إذا كانت ثمة عيوب في الشبيه فيتلقاها و يعود منغمسا بكل أفكاره التي تطرق على سندان مخيلته فتنتشي الآمال و تتبرج الذات في لحظات تعيدها إلى تماسكها .. كل ذلك و موسيقا ( عمر خيرت ) تنساب في البيت ناعمة حريرية موشاة بالحب و المواعيد الوهمية التي يفتقدها ذلك الذي لم يعرفها .
    وضع كأس الماء الساخن و بلل الفرشاة و راح يمررها على شعر ذقنه التي راحت تتحول إلى لون ابيض ليرى شبيهه و كأنه لبس ثياب ( بابا نويل ) كانت آلة الحلاقة الحادة تكشط الصابون عن هضبات الجدري فتسحب تلك الشعيرات لتحول جلدة الوجه إلى قطعة مغسولة تظهر تحتها براءة لم يرها من قبل فتعود الطفولة إليه و كأن عشرين سنة قد زالت فيها ذلك العبث الطفولي يعود إليه فيغفل للحظة و فجأة تميل الآلة فتجرحه فيشعر بوخذة أعادته إلى حيث هو أمام المرآة يحلق ذقنه و قد فرت الطفولة هاربة إلى عشرين سنة خلت . وقف و نظر إلى قطرات الدم التي سالت مشكلة خيطا أحمر داكنا فوق هضاب الثلج الموشى بالسواد فسأل نفسه ( لماذا أتأنق ؟.. أنا لست على موعد معها.. البارحة التقيت بها و لم اكن متأنقا .. تراني أرغب في الترتيب خوفا من ملاحظة .. أم ثمة قلق ينتابني على تلك المجموعة القصصية ؟؟.. ) لا بد أنه الخوف من الفشل فأستاذ جليل لا بد أن يكون للمظهر الخارجي شأن عنده و قال : ( لا .. لا .. أنها مجرد أوهام فهو يهمه الجوهر و ليس المظهر فالجوهر في القصص التي كتبتها بأحرف من لهاث و لا بد أن أحافظ على الشكل الإبداعي فكما يقولون أن الكاتب لا يكتب سوى ذاته .. قرأت عن كتاب يرشون العطور قبل أن يجلسوا على طاولة الكتابة .. إذا لا بد من صلة وصل بين الكاتب و محيطه ذلك المحيط الذي ينقله الكاتب إلى الآخرين بواسطة الحرف المزين بالأمل و الحب .
    عاد إلى المرآة .. أزال بواسطة الكحول آثار الجرح البسيط و تأمل نفسه جيدا .. و راح يحسن من ياقة القميص فحمل الحقيبة و مضى حريصا على ألا ينخدش ذلك الأمل و ما زالت أفكاره تسبقه إلى الناقد تراه ما سيكون موقفه من الوصف ؟.. و ما موقفه من الحبكة ؟.. تراه هل سيتساءل عن مغزى قصصي آواه .. هاأنذا أتخيل و قد نظر إلي من تحت نظارتيه يتفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي و أنا مندفع صوبه أتأمل خيرا .
    في تلك اللحظة ظهرت الحافلة في أول الشارع فبدأ قلبه يدق دقات الساعة الجدارية فتلمس صدره لا خوفا بل محاولة لاطمئنان الآخر فيه و فجأة تنفث الحافلة غبارا و هي تتوقف بفعل الفرامل يفتح الباب و يصعد محاذرا ألا يزعج أيا من الركاب و ها هو يجلس بأريحية مستدعيا أحلامه إليه محملة بباقات الزهور راحت تنثر عبقها في نفسه فتظهر على سرائر وجهه و تنفلت ابتسامة قطعها المعاون يطلب أجرة الحافلة و بهدوء دفع الأجرة و أشاح بوجهه إلى النافذة يستطلع محيطه الذي بدا كأن الربيع قد حل فرأى الرصيف يتحرك و ثمة ابتسامات راحت تتوزع على الأرصفة و جذوع الأشجار الهاربة فيما الحافلة تأكل الإسفلت بعجلاتها فتمضي معها الذكريات ( لقاءاتي معها قليلة فكل شيء مقيد بعلاقتي معها .. فهل أستطيع أن اجلس و أحدثها في الشارع و التقاليد سلسلة تقيد كل شيء من حولنا حتى الأشجار و الزهور و الياسمين كل شيء مصادر فإذا كنت كتبت فلأنها هي صاحبة تلك القصص التي ترفدني بحركاتها ألم تكن هي صاحبة القبعة الصفراء ؟.. سوف يأتي ذلك اليوم الذي ستقرأني من خلال تلك القصص و لكن الأستاذ و رأيه هو الذي سيمهر علاقتي بتوقيع قلمه .. آواه .. ما أجمل تلك اللحظات التي سأقدم نفسي إليها مكتوبا في كتاب ‍.. و افتر فمه عن ابتسامة سرعان ما غرته سعادة حقيقية و هو يسمع أغنية لم يدر لمن تكون غير أنها كانت تتخلل مسامات وجهه و جلدته فتبعث أملا دفينا راح يدغدغ كل شيء في كيانه .. و فجأة بدأت الحافلة بالتأرجح ذات اليمين و ذات الشمال و عند حاجز الجسر تقتحم الحاجز و تهوي .. ثوان تتغير الأغنية ، تعيده إلى تلك المقطوعة الموسيقية لعمر خيرت ( اللقاء الثاني ) ثوان مضت سريعة اختصرت خمسة وعشرين عاما و هو يهوي مع الحافة و يهوي و صوت الاستغاثة يأتيه من كل حدب و صوب أما هو فكان يودع حروفه بكلمة الوداع الأخيرة ..
    (( ملاحظة : في المشفى سلمت الجثة إلى ذويها و حقيبة فيها بطاقة شخصية و صورة لفتاة كتب عليها من الخلف ريم و بعض الأوراق و التي كانت تتحدث عن لقاء لم يتم )) .




















    الشــاغر














    كان محبطاً حين وضع سترته وخرج هارباً من المدينة والازدحام ..
    و في الحقول التي تحيط بالمدينة ، استظل تحت شجرة وارفة .. ثم استلقى على ظهره، فيما الغيوم تركض لتشكل أرخبيلاً ما فتئت تتجمع لتشكل لوحةً راح يقرؤها، وكأنها علامات طالعه ، و مع تفكيره وهاجسه بالعمل ، ارتسمت الغيوم لوحةً رائعةً لقراءة أفكاره . قال : ( العمل .. العمل ) .
    إلى متى سأظل أقترض من أبي ..كان يقول لي : اقرأ تحصل ، و من طلب العلا سهر الليالي ، و سهرت الليالي و حصلت على الشهادة و لكني حتى الآن بدون عمل .. إلى متى ؟
    امتدت غيمة كأنها كف آدمي تشير بسبابتها إليه راحت أفكاره تغزو بتعرجاتها غير أن قطعاً من الغيوم راحت تتراكض مشكلة بمجموعها رقماً .. قرأه . انبهر ..كان الرقم هو ذاته رقمه التأميني للحصول على الوظيفة .. هبَّ واقفاً ، كاد أن ينسى سترته ، غير أنه حملها وراح يعدو نحو شاطئ الأمل .
    مرَّ إلى البيت .. سألته أمه سؤالاً لم ينتبه جيداً ، ومضى و هي تناديه .
    يعدو مدفوعاً بالرقم الذي علق عليه آماله كونه ذات الرقم التأميني في بطاقة الترشيح للوظيفة ، وصل مكتب العمل .. قفز الدرجات الصخرية . واحتكَّ جسده بالباب الخشبي الذي يكلم الدهر ، بينما يافطة المدخل تحدق إليه ساخرةً . كأنها عجوزٌ رقطاء لكثرة الصدأ الذي حولها إلى نقوش .
    حين وصل إلى حيث اللوائح معلقة ، و جد اسمه في اللائحة .. فدخل إلى الموظف المسؤول وحمل أوراقه ، و خرج و هو يقبض على استمارته كأنـه يقبض على مصيره . كان يبتسم ، لقد فتحت أبواب الحياة .. هاهي بوابة الفولاذ قد فتحت ، فأي خبر ؟.. أية بشرى سأقدمها لأمي .
    سبقته روحه إلى البيت ووقفت أمام والدته أول راتب سأجلب لك هدية . آه يا أمي .. سأجعلك أميرة . و فتح الإضبارة وراح يقرأ :
    الاسم .... العنوان .... الشهادة التي يحملها ....
    قرأها عشرات المرات ليتأكد من أنه خارج الأحلام . و صل إلى آخر موقف للسيارة ، و نزل . رأى نفسه يركض .. يدخل البيت ، يبحث عن أمه ، تحول إلى طفل .. هاهو يجد ضالته .. أية فرحة .. الأرض ، الغرف لم تعد تتسع لحركاته ورقصاته .
    خرجت والدته من المطبخ وقالت :
    ـ الله يعطينا خيرك .. ماذا أصابك ؟
    ـ توظفت .
    و اندفع يحتضن أمه التي راحت تقبله مهنئةً .. و عند أقرب مكان للجلوس ، تراخى وجلس، وما زالت أحلامه تسبق تلك اللحظة بعشرات السنين ، وتراءت إليه السعادة على شكل حمامة طائرة .
    قال مكلماً ذاك الحلم الذي كثيراً ما فكر به .. غداً سيكون أول أيام الدوام .. سأعمل كما فعل جارنا .. حصل على بيت من البنك .. سأدفع أقساطه ولن أتأخر قسطاً واحداً . ولماذا أتأخر ؟
    بعد ذلك سأذهب لأتقدم لخطبة ريم ابنة أبو محمد . و سأدخل بيتهم وستقابلني بذات الابتسامة ، وسأقول لأبيها : هأنذا جهزت بيتاً ولي راتب ، وأنا على ما يرام ولا ينقصني سوى ابنة الحلال ، التي أعيش وإياها تحت سقف واحد .
    نعم .. هذا ما يجب أن يحصل. عندئذٍ أرتاح من تلك النظرات المختلسة التي تسرقها عيناي من عينيها ، وكأن ثمة آلاف الأميال بيننا ...
    آه متى سأضمها إلى صدري في رحلة الحب .
    في الصباح استيقظ نشيطاً معافى ، نظف أسنانه ، لبس ثيابه وسرح شعره ، و لم ينس أقلامه وودع أمه متجهاً إلى وظيفته . قاسماً بشرفه بينه وبين نفسه أنه سيعمل بجدٍّ وإخلاص .
    وكان بين الفينة والفينة ينظر إلى ساعته قائلاً :
    ( هكذا يجب أن أبدأ .. يجب ألا أتأخر ، كم أعجب من أولئك الذين يتغيبون .. الواحد منهم ينتظر طويلاً كي يحصل على العمل ، وما إن يبدأ حتى يتغير .... ) .
    يدخل الدائرة ، الفتيات يتضاحكن ، يدخلن الغرف و يخرجن و المزاح هنا وهناك . وثمة امرأة تركت الأوراق على طاولتها مكدسةً ، وراحت تنظر في مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبتها لتطمئن بأنها مازالت الأجمل . فيما كان رجل خلف الطاولة المجاورة قد أمسك بجريدة ، وراح يبحث عن الكلمات الضائعة .. سأله :
    ـ بالله عليك لمن أقدم هذه الأوراق .
    رماه بنظرة من تحت نظارته ومد يده متناولاً الإضبارة .. بحث فيها وثمة ابتسامة ساخرة خرجت من شفتين تقبضان على سيجارة مازالت تحترق. أشار له إلى غرفة مجاورة محاطة بالرخام .
    فتقدم وقرع الباب ثم فتح ليدخل ، كان ذلك الرجل صغير الجسد يجلس على كرسيه الدوار ، يتأرجح تارةً ويتمايل تارةً أخرى .
    راحت عيناه تجوبان الغرفة ، كان الرجل يمسك سيجاراً و يدندن أغنيةً لم أفهم كلماتها .
    لم تكن إلا يده اليسرى ظاهرةً من وراء الطاولة ، تقدم من اليد ببطء و قال :
    ـ هذه الأوراق .
    أدار كرسيه إلى وضعه الصحيح .. تنحنح ثم أخذ يتفحصه بنظرات الازدراء ، والانزعاج بادٍ على هيئته .
    ـ أية أوراق .
    فتشها .. وأجاب بلهجةٍ فيها شيءٌ من السخرية :
    ـ لا يوجد شاغر .
    ـ لا يوجد شاغر!! .. و هذه الأوراق وهذا الختم .. و أمي .. و ريم .. و .. و ...
    لكن الرجل وقف صارخاً : ألا تفهم لا يوجد شاغر .
    ـ ورقم الترشيح المعلن في اللوائح .
    ـ ما هي إلا عبارة عن إحصائية لعدد العاطلين عن العمل .






































    البرقيـــة














    في التماعات الفضاء ، انشطر القلب ، وخيمت سحابة فوق الحافلة ، فأسند ساعده على حافة النافذة. وفي العمق ، وراء أصوات العجلات وضجيج المحرك صوت ينحني فيتمدد، ويلهو بالصمت ، و هذا الأصيل المبلل بالذكريات يدفعه إلى خلوة تقيمها أعراف السفر ، فيعدو وراءها خلف الصدى ، يسافر في الغيم و يضرم النار في جذوة الروح فيشتعل المدى علها تحرق الهشيم والرتابة .. علها تزيل الغبش الليلكي من أمام ناظريه .. عله ينام ، و كيف ينام و صورة تلك الطفلة تدخل إليه و جدائلها كسعف النخيل ، سألته :
    ـ أين ابنتك ؟
    يحملها بين ساعديه ، ويهبط حذراً من انزلاق قدمه أو اصطدام جسدها بحافة الباب الخشبي و حين وصل إلى وسط الشارع يفاجأ بأمها و اقفة ببابها تناديها .. غير أنه تابع إلى أن وصل إلى البقال في أول الشارع .. ابتاع شيئاً للطفلة و عاد يقرع باب البيت .
    خرجت مكللة كزنبقة الندى.. قال :
    ـ كم تشبهك .
    و أنزل الطفلة ودفعها برفق نحو أمها ، هزت الأم رأسها موافقة و تذكرت أن عليها أن تقدم له التعزية .
    ـ كانت نعم الأمهات ، رحمة ..
    و غصت ببقية الكلمات فاحتضنت ابنتها و دخلت إلى بيتها ، فيما وقف هنيهةً وعرج نحو بيته ، كانت الكلمات الأخيرة من الأم التي كان يريدها عشيقةً وزوجةً بمثابة وخزة أحس بها وهي تدخل إلى الصدر ، كما يدخل عصفورٌ إلى عشه ..
    قال في نفسه : ( ماذا سيفعل طيرٌ إذا فاجأه المطر ) و اندفع في الشارع يرمي آخر النظرات إلى بيته الذي يشرف على الانهيار ذلك البيت الذي ما إن تصعد الدرجات حتى تصل إلى باب خشبي ، فإذا أردت الدخول لا تدفع الباب بقوة فلربما سقط الباب وقد ينهار السقف ، وبمحاذاة الباب غرست دالية امتد جذعها نحو الأعلى و انتشرت فروعها على قضبان حديدية ، فإذا أردت التمتع بمنظر الطبيعة فقط اجلس تحت تلك الدالية، فتشعر بالراحة و أنت تشاهد الأفق ، فيما الشمس تسحب خيوطها وكأنها شباك صيد من البحر .
    لم يكن يملك غير تلك الحقيبة التي أودعها قرب الجدار فحملها ومضى ، و ثمة حكاية خاوية كانت تقطن أديم القلب ، فإن أطلق سرب الضلوع ، راحت تخفق ممزقة سكينة الوقت . كان يبكي مشهراً حزنه ، مختفياً في ضفائر وهمية كانت ذات يوم تمرح في تلافيف دماغه مشكلة أملاً في صحارى الجسد ....
    ذلك الجسد الذي أدركه اليباس وقطعت مروجه حافلة تنقل الأحزان في الأماسي الراعفات . الحافلة تسبح فوق الطريق الإسفلتي ، و حزنٌ يواكب حزناً جاء مع أول بارقة للشمس ، بعد أمطار الليل الذي ألف بحيرات صغيرة على جانبي الطريق فغدت كعيون محملقة تناديه قائلهً له بلغة الإيماء ، وربما لغةً أخرى : ( عد .. فليس لك طاقة باغتراب الحنين .. ما الزمن إلا سبيكة قاسية جبلت من عروق الانتظار ) فيما مضى قالت له أمه :
    ـ سأخطبها لك ولو كلفني ذلك أن أعمل خادمة .
    ـ لا يا أمي لن أدعك تكونين إلا سيدة منزلنا الجميل .
    التقى بها بعد حواره مع أمه ..كان يدرك أنه أخطأ في بوحه لها بحبه ، كان يمكن للفاجعة أن تردم تحت ذرائع معينة .. ولكن هل كان يدرك أنه مجرد احتياط ...
    كان يحترق بذاته ، تكتنفه بلحظة العزلة وترخي ستائرها الأرجوانية على صفحات مضت وانطوت في تلاشي الزمن ...
    هاجر أبوه و لم يكن قد دخل الحلم . ترك له بيتاً حجرياً وأماً حنوناً وأختاً ..
    راح يعمل ، عمل أجيراً لدى فران ، باع الصحف و قد تورمت قدماه و هو يركض خلف السيارات الفارهة ، ليقدم وردة لفتاة تجلس قرب سائقٍ أرعن، غير أن أحجار البيت كانت تنزاح و تتخلخل في صمتها بينما تنمو الدالية وتزداد اتساعاً .. و تتقدم أخته فتغدو صبيةً و تتزوج ، و يخطف الموت أمه .... يتركه و حيداً مغموراً بالحزن و الحاجة ، متصدعاً مع تصدع جدران المنزل الذي كان يشرف على الانهيار .
    وراء زجاج نافذة الحافلة ، ترندح الشمس غبطة و إشراقاً و تهاجر نحو القبة السماوية ، غير أن الريح تدفع السحب مشكلةً ستاراً رمادياً راحت تتكسر من خلاله ، وعلى أطراف الحواشي خيوطاً مصحوبةً بجلجلة رعد ما فتئ يدوي خلف الأفق .
    بقايا ورود ذابلة مازالت في أصيص فخاري تركن في الزوايا ، وثمة جوربان تركتهما الأم قبل أن تنهي حياكتهما وبقايا قلب محطم هاجر ، وكانت الهاجرة ترنو مبددة ظلمة الظلال ، إلا ظلمة قلبه الذي أغلق برتاج قوي .
    و تنفس الصعداء حين الحافلة هدأت من سرعتها لتتوقف في استراحة على الطريق .
    لم يكن يشتهي أي طعام ، كل ما فعله فنجان قهوة مع حبة دواء لصداع الرأس . و من خلال الجلبة ، و الضوضاء ، و الازدحام ، انبثقت الأهوال، جاءت مع رعدٍ قاسٍ ارتجف الكأس أمامه لهوله .. و صعباً بدا الجواب على كل ما مر في حياته ..كل ما يذكره الوجه البريء الذي جاء يسأله عن ابنة له مفترضة ، و لم يكن غير الوهم و الوهن يحمله في ترحاله الذي لم يعد يوقن متى ينتهي .. و ثمة عبارة هوت مصادفة فوق الطاولة ، قرأها على ورقة التقويم ( خذني أيها الهارب إلى بلادٍ لا حزن فيها ) .
    و تهاوى رأسه على الطاولة و ثمة صرخة بعيدة وصلته ( نعم .. نعم .. و ليأت الطوفان ) . غير أنه كان في قلب الطوفان ، و هاهي الحافلة تطلق العنان لأبواقها ، تدعو المسافرين إلى الصعود . يحمل ما تبقى من حبات آلام الرأس ، يحشرها في جيبه ويغادر بهو الاستراحة .
    انكشحت السحب عن فراغات تتيح للنظر أن يعبر السماء و على ضفاف السحب كانت الشمس تغسل جدائلها قبل انسكاب الدموع . تعبر الحافلة جسراً فوق نهرٍ ، و ثمة صور و أعلام و زينات ، بعد ذلك هبطت ستائر سوداء غطت الكون ، و لم يبق إلا بعض ذبالات لمصابيح بعيدة كانت ترتجف وراء خيوط المطر الذي علق على النافذة كشلالات، فأوحت له بذلك اليوم الذي التقى به لأول مرة مع من كانت تسكن القلب ...
    في ذلك الزمن الذي كانت تفوح منه رائحة الأمل و الحب و العذرية و العذوبة قال لها :
    ـ أنا لا أريد لك غير السعادة .
    ـ وأنا لا أريد لأحد أن يشاركني حبي .
    ـ مهلاً ... هناك أمي .
    ـ هي أمي أيضاً .
    ـ وأختي .
    ـ ستكون أختاً لي .
    و لأنه كان سادراً في الذكريات أيقظه نادل الحافلة يقدم له كأس ماء ارتشفه دفعةً واحدة ، و أعاده و قدم الشكر .. ثم انطفأت أضواء الحافلة ، و رنا صمتٌ في الظلام الدامس .
    في السر ، في الجانب الآخر ، ثمة رجل اشترى مدية ، بحث عن مكان خالٍ من بني البشر ، رفع مديته نصب عينيه ، ثم هوى بها نحو أحشائه . انتفض كطائر أصابه طلق ناري و هو يحلق في الأعالي ، و ها هو يهوي و يرتطم على الأرض . لكنها كانت مجرد فكرة عابرة ، مضت كما تمضي قصته مع الذكريات ..
    و ها هي الحافلة من جديد تهدئ من سرعتها استعداداً للوقوف ، و ما هي إلا برهة حتى ناداه الخفير للمثول بين يديه . هبط متجهاً صوب غرفة كانت تضم مجموعة من شرطة الحدود .
    ـ ما اسمك الثلاثي ؟
    ـ مفيد محمد الدرويش .
    ـ اسم أمك ؟
    ـ سعدة .
    ـ أعطنا جواز سفرك .
    قدم للخفير جواز السفر فيما ارتحلت الأسئلة بحثاً في الزمن الضائع . و في سراديب العفة و المبادئ ، حالة وضعته أمام انقسام خلوي منتهك ملوث . راحت الأحاديث التي كان قد سمعها عن البعض تختلط بالواقع بشكل موارب ، فيغدو الانهدام حالة حاضرة جاثمة لتقتلع منه حضوره ، غير أن الخفير رفع رأسه عن جواز السفر و هو يقارن ما جاء من معلومات عن ورقة في يديه . و قال :
    ـ ثمة برقية من المدعو محمد الدرويش .. و أعطاه إياها .
    محمد الدرويش كان أباه ، هاجر و لم يعد يعرف عنه شيئاً ..كيف ظهر اليوم ؟
    قرأ : و لدي الحبيب عد ، فلدي مفاجأة لك ، لقد رحلت كل هذه السنين لأجلك و أنا بحاجة لك بعد هذا العمر .
    داهمه انقباض ، وشعور مجوف ألقاه في بحر الحيرة كقنديل بحر يطفو على سطح ماء معتكر الأمواج . وهوى على الأرض ، و تناثرت الأوراق . في المشفى ثمة رجل هرم كان يمسد لحية ابنه ، فيما دمعات حارة كانت ترطب خده و أنفه .































    كوخ على رصيف البحر














    داخل وميض الذاكرة، ثمة كوخ يبحث عن نبضه ، عله يعيد تلك النهارات التي تستحم بمياه البحر و هي خارجة من قلب الأمواج ، مودعة أجنتها التي تنزلق على الجسد كأنها دموع على خد طفلة تبكي يالروحي التي ترسم البوح فتتدفق الكلمات خافتة ترحل في زبد سرمدي .. حروفاً قتيلة غير أنها تلد غابات ، و ثمة نافذة تشعل الامتداد اللانهائي لهذه الزرقة التي سكنتني لتتحول إلى أضرحة ، فأسافر في نزوات ما فتئت تنكشف عن أرق يكسر القلب ، و نورس يبحث في الأمواج عن غايته في الصباحات المشمسة ، فأبدو و اهناً إذ لا أملك إلا بعض رضوخ لعصارات تمسح و جهي ودم يرتعش بارداً ، يرسم ذكرى بألوان تشكيلية عبقة برائحة أشجار الليمون المترامية ، انتبه لوقع خطوات بإيقاع بطيء رتيب ، سأل عني قالوا له لا تبحث كثيراً إنه هناك فوق نتوءات الصخرة تراءى المشهد ، و أنا الذي قلت للصخرة أن تصمد أمام غربة النفس و كانت العناق و ما أعظم صداقة الرجال .
    على ضوء النار المتقدة ضحك البحر و ترامت الأمواج بعيداً فأولدت أحلاماً تسترجع طموحات غير ناضجة و ثمة صورة السندباد تأخذ أنظار صديقي في حكايا غريبة من الصعب تدوينها و قد تبددت في أحلام الزمن .
    كانت ذقنه العريضة تكسبه مهابة غامضة و عينان بحريتان ، بينما مسحة من حزن تتراءى وخاصة عندما يتكلم فتبدو كلماته مقاطع من شعر أو قصيدة مهداة لعاشقة .
    شربنا حتى تحولت الزجاجات المنتشرة حولنا ، كأنها قذائف في مربط مدفع .
    حفظ عن ظهر قلب كل طرقات الكؤوس الممزوجة بالأمل و الحب و المغامرة ، قال لي :
    ـ انظر إلى هذا الامتداد الرائع للبحر .. هذا المد اللانهائي يختلط النظر بعيداً بين الزرقتين وكأنه اختلاط الأنا في النحن .. الجزء في الكل .. و لكن كيف يمكن للأنا أن تذوب في النحن إذا كانت خاوية .
    كنت أسمع كلماته و لم أشأ مقاطعته ، لقد علمتني الغربة في الوطن سهولة الغربة في الغربة .
    ـ كم تحتاج ؟
    كانت الشمس قد غرقت في اللُّجَّة .. وأوت إلى مخدعها بعد أن تزينت في احمرار الأفق .. نامت الشمس وقالت للبشر ( ناموا ) غير أن القمر حضر بعد هنيهة و أتى العشاق و طلبوا منه البقاء و بقي القمر ، و هو يداعب بين الفينة و الفينة سحابات الليل ، و كأنه سراج يداعب الفراشات كان يروي لي قصة عروس البحر ، ورويتُ له قصة إله البحر و بين طرقات الكؤوس تسلل ملك النوم إلى جفوني و بدت الصور أمامي مبهمة ، لكنه تركني ممدداً في مكاني تاركاً نصف الكأس و غادر .
    في الصباح كانت الشمس الخريفية ترسل إشعاعاتها فوق جسدي المهمل ، و ثمة رسالة صغيرة كتبت بخط واضح : وداعاً سأعود كريماً يا صديقي .
    بعد سنين ، و فيما أنا جالس أراقب زوارق الصيادين المليئة بالأسماك ثمة نساء عشقن البحر كنَّ يكتبن على الرمال ذكرياتهن ، غير أن البحر كان يمدُّ لسانه و يلعق كل ما كتبن محتفظاً بالأسرار .
    دخلت إلى الكوخ و وضعت كأسين و الذكرى ناقوس لمعبد ما يفتأ يهز حبله ذلك الرجل المجهول الذي يوقظ الآهات . في تلك اللحظة أتى ساعي البريد و أعطاني رسالة من صديقي خلف البحار .
    فضضت الرسالة كانت مكتوبة بخط رديء و ثمة نقاط من عرقه توزعت على الصفحة فبدت آثارها و كأنها نقاط دماء جفت عندها نفرت من عيني الدموع ، و حين رفعت رأسي و نظرت بعيداً في اللجة .. كانت عروس البحر تلوح لي من بعيد و ثمة كأسان أمامي واحدٌ لي و الثاني لصديقي .



































    العروس














    الشمس تومئ في القبة عروساً أدركها الخصب و غيومٌ تعبر السماء مدفوعة بالريح التي ألفَّت على الأرض نسيماتٍ عليلةً ، فأسدل الناس فوق النوافذ ستائر تداعب الظلال ، بينما امرأة كانت تحاول أن تحول الفراغ بساحة دارها الكبيرة إلى خيالٍ من صباحاتٍ مضت ، و ها هي في دفقات الدم ترتحل عبر شرايين الذكرى لتغتسل في شواطئها معلنةً أنشودة البقاء ، في حين استطالت شجرة ليمون أسلمت أغصانها لعصافير راحت تقيم ضجيجاً في احتفالية معلنة فرح العصافير التي لم تدرك بعد ما أصاب المحيط من ورعٍ و خوف .
    ثمة امرأة كانت جالسةً مطبقة الشفتين بإحكام ، و قد ارتسم عِرقٌ في الجبين فبدت كأنها أدمنت الحزن و الغضب ، و ما إن سألتها الجارة سؤالاً حتى استسلمت للدموع . اقتربت منها في محاولةٍ لتخفيف وطأة الزمن فتململت في جلستها و سألتني :
    ـ هل تعرفها ؟
    ـ لا .
    ـ البارحة كان عرسها .. نعم لقد عقدنا لها العرس قبل أن يدركها الحلم . كانت تقف هناك ، و أشارت الأم إلى جدار يواجه الشمس ثم تابعت ، كانت تدير ظهرها للشمس و وجهها للجدار و تبدأ تبتعد شيئاً فشيئاً حتى يشبُّ خيالها طولاً على الجدار ليأخذ شكل صبية بقامة هيفاء و تقول :
    ـ انظري أمي هأنذا عروسٌ .. أليس كذلك ؟
    و لأنها لم تكن عروساً ، قلت لها في دعابة :
    ـ هذا ظلك و ليس أنت يا غشاشة .
    فجمعت شفتيها .. هل تعلم ماذا يعني أن تجمع طفلة شفتيها ؟!
    يعني أن ثمة خللاً في هذا العالم .
    كنت أنظر إليها بدهشة ، إذ كيف تتبلور الكلمات من هذه المرأة ، و تصبها لهباً في عروقي ، غير أنها تابعت ترسم ذلك المشهد الأليم . و لكي لا أبدو أمامها أماً قاسيةً قلت لها :
    ـ انظري .
    كانت ثمة غرسة ليمون في الأرض ما زالت في طورها الأول . غير أنها ركضت باتجاه البيت لفكرة ومضت في رأسها و أقبلت على تنفيذها ، فأحضرت كرسياً و وقفت عليه قائلةً :
    ـ هأنذا أصبحت طويلة مثلك .
    ـ هل تشاهدين غرسة الليمون .
    نظرت بعينيها اللتين تلونتا بلون الطبيعة خضراوين مبللتين تبرقان .
    ـ نعم أشاهدها .
    ـ اعتني بها جيداً وحين تصبح هذه الغرسة شجرة ستكونان عروسين .
    ـ هل يمكن للشجرة أن تكون عروساً .
    ـ بالطبع .. و سأقطف لك من زهورها و أضعها تاجاً في عرسك ، ضحكت الطفلة و راحت تعدو خلف حلم بعيد ، بعد ذلك رأيتها تجلس قرب غرسة الليمون الصغيرة ، و بيدها كأس ماء ترشه على التراب و تقول مخاطبة :
    ( يالله اكبري يا ليمونه .. نوَّارة ستصبح عروساً يالله بسرعة يا ليمونه ) .
    غير أن شبحاً ارتسم على الأرض أخذت شكل غمامة بجناحين ركض الأطفال وركضت معهم يمتطون ظلها غير أن الظل لم يكن سوى ظل لطائرة إسرائيلية وكان المصاب الرهيب .
    نأت الأرض .. و في غيبة الورود الربيع و تنداح أغاني الفرح أحسست بأن المرأة و صلت طور العصاب ، حاولنا بشتى السبل منعها من الوصول إلى حالة الانهيار ، لكنها دخلت في دوامته و في ذروة الحالة انقلب المشهد، بدت هادئة رفضت تلك الصور المبعثرة لجسد ابنتها الطري المختلط بأجزاء الليمونة في بحيرة من الدم . ثم ما برحت ترفضه بصوت أقوى فأقوى ( هذا فستانها ! هي لم تمت كانت قد خلعته و علقته على أغصان غرسة الليمون أما هي فإنها دخلت لترتدي فستان العروس بعد قليل ستأتي انتظروا إنها ستأتي كالربيع و أنا لا أقول إنهم لا يفعلونها أو لا يقتلونها أو أن يضعوها على راحتي كجذع للحريق ، لكنها لم تمت هذا فستانها و هذه يدها و .. لا .. و امتدت يدها إلى الأرض ترفع التراب و تلقيه على رأسها و صدرها و تصرخ سأنتشلها من باطن الأرض .
    سأعيدها إلى شراييني مطراً .




























    غرق الأحلام الصغيرة














    كان يسير في الأزقة الضيقة والمتعرجة حسب تضاريس الجبل الذي بنيت عليه بيوت القرية المترامية بطريقة عشوائية ، ميممأ وجهه صوب الحقل ، و قد قصد المرور أمام بيت تلك الفتاة التي و ضع صورتها في صدره . وراح يخطط للاقتران بها حسب عادات و تقاليد مجتمعه .
    و ها هو يخرج من القرية و قد ودع أبويه ، فوقف قليلاً عند تلك الهضبة التي ظهرت القرية تحتها و كأنها طبقٌ وضعت فيه أصناف من الخضرة والألوان الزاهية التي لا حصر لها ، فبدت البيوت و كأنها تقف على رؤوس أصابعها بحركة ملامسة وأليفة للتراب ، وكأنما هناك خشية عميقة من أن تتألم الأرض أو تنجرح . تلك الصورة جعلته يتأمل طويلاً ويحلم ، يحلم ببناء غرفة واحدة . يجمعه مع تلك الفتاة سقف واحد ، ليؤسس عائلة كنواة لعائلة كبيرة تضج فيها روح الطفولة و الدعابة و المرح ..عكس والده الذي اكتفى بولد واحد .
    انحنى إلى بندقية الصيد و وضعها عل كتفه ، و صعد ذلك الطريق الصغير المتعرج بين الشجر و قد رسمته آثار الأقدام و مرور الماشية ، حتى بدا خطاً كأفعى ملتوية يصعد و يهبط .
    قطع سلسلة أفكاره مشهداً لأرنب بري ، مما جعله يرفع بندقيته و يصوب .. غير أنه لم يكبس الزناد ، فضحك وتابع سيره ، و قد وقف الأرنب مشيعه خائف مرتعباً ، فيما هو تابع خطواته و صورة القرية مازالت تمرح في رأسه ، و كأنها صورة لعالم غير عالمه . و حين وصل إلى رأس الجبل عاد ليتأكد من الصورة العالقة في ذهنه فوقف وراح يتأمل سائلاً :
    ( ما أعجب النظر .. فما أن نقترب من القرية حتى نرى البؤس و الفقر المدقع و حين نبتعد عنها تبدو و كأنها جنة عدن أم لعلني الوحيد الذي يرى ذلك ) . هذا جائز بسبب تعلقي بهذه القرية التي ولدت فيها و ترعرعت .
    آه يا أيام الطفولة .. كم مرة اجتمعنا و ذهبنا إلى ذلك المستنقع .. و كم مرة بحث عني أبي ليجدني مع أقراني نسبح في تلك المياه المتجددة مع كل فصل . و مع أن أبي كثيراً ما نبهني لخطر المستنقع لكني كنت أفضل سباحٍ بين أقراني و فلتت منه ضحكة ... لم أمتنع عن السباحة إلا منذ خمس سنوات ، حين بدأت أعرف أضرار الجراثيم والأمراض التي يمكن أن أصاب بها ....
    و سار ميمماً و جهه شطر ذلك المستنقع عله يعيد ذكرى عابرة اندثرت ، حيث كان يجتمع مع تلك الفتاة على ضفافه ... يلعبان بالحصى و يؤلفان بيوتاً و همية ، و كأنهما يدركان بفطرتهما البريئة حقيقة الإنسان وسعيه نحو بناء عالمه . و راحت هواجس الغرفة التي أسسها تطرق ذاكرته فراح يجرد ذلك الحلم راسماً نوافذها و بابها و اتجاهها .. هنا سأضع خزانة الثياب ، لها مرآة في و سطها كلما عبرت و أيما تحركت و في أي زاوية لا تغيب عن ناظري متمتعاً بأجمل وجهٍ ، و أجمل شعر . و على الجدار سأعلق صورة أمي و صورة أبي ، أما صورتي مع حبيبتي فستكون مباشرة فوق السرير الذي وضع عليه غطاء عليه رسومات الأزاهير و الورود ..
    و سأترك الزاوية المقابلة للباب للجلوس هناك ، حتى إذا قرع الباب أحد أصدقائي أستطيع الوقوف لاستقباله . و على الشجرة المجاورة لابد و أن أعلق أرجوحة أربطها بأنشوطة كي لا يسقط الطفل ، بينما أنا و حبيبتي نجلس نراقب الأطفال .. ( كن حذراً لا تدفع أختك بقوة حتى لا تسقط ) .
    و نسرق بعض القبل كلما أشاحت عيون الأطفال عنا .
    أيقظته خشخشة أعشاب يابسة على مقربة منه و فجأة رفع بندقيته و صوب ثم أطلق النار ، كانت الأفعى تتقلص و قد ظهر أمامها عش عصافير كانت قادمةً لتأكله ، بينما كانت العصفورة الأم تطير مرتعدة ثم تعود و هي تطلق صيحاتها على شكل زقزقات متتالية . فاقترب من العش و داعب عصفوراً صغيراً ، ثم نظر إلى العصفورة الأم و خاطبها بفرح : لن يصيبهم أذى .
    و تابع سيره محدثاً نفسه .. يا الله حتى العصفورة تسعى لبناء بيت أما أنا و مع أنني تعبت كثيراً حتى أسست هذه الغرفة .. لم يبق إلا السقف .. اليوم سيكون البناء قد أنهى عمله .. و بعدها سأرتب الأمور بطريقة لا تبدد ما جمعت من مال لإكمال ما أحلم .
    كان قد وصل إلى مشارف المستنقع لفت نظره تخبط داخل مياهه .. فاندفع راكضاً ثمة جثة كانت تغوص ثم ترتفع .. قذف بنفسه لإنقاذها وهو السباح الماهر ، و حين وصل إلى الجثة انتشلها من شعرها و ما إن وصل إلى حافة كانت عالية نسبياً ، احتضن الجثة و قذف بها خارج المياه .. حاول أن يمسك بحجر ثابتة من أصل الحافة ليسعف الغريق لكن الصخرة فلتت من ركائزها و انسلخت عن محيطها و سقطت فوقه .. حاول الابتعاد عنها لكنها أصابته و قد تهشم رأسه . كانت عيناه تنظران إلى السماء ، و ثمة سرب لطيور كانت ستحط ثم غاب عن الوعي و قد تراخت أعصابه و تبددت قواه وغار في الماء الراكد ...
    هناك على مبعدة من المستنقع شاهده الفلاحون ، فتراكضوا بعضهم قام بإسعاف الطفل، والبعض الآخر حاول إنقاذه غير أنه قضى نحبه .
    اجتمع الناس على خبرٍ هز القلوب ، أيقظ في النفوس الحزن ...
    و اتجه رجال القرية يقدمون التعازي و يقومون بواجب الدفن .
    كان رئيس البلدية في تلك اللحظة قد أحضر عماله و معاونيه ، وكانت الغرفة التي أسسها تنهار شيئاً فشيئاً مع ضربات ساعد الآلة الجبار، لعدم توفر شروط البناء المناسبة .
    غير أن صوتاً ارتفع فوق كل الأصوات ، و صراخاً وقفت العيون جاحظة لهوله :
    ـ يا بن الـ.. صاحب الغرفة مات .. مات و هو ينقذ ابنك ألا تخجل ؟
    اقترب رئيس البلدية من المرأة الأم و هو يسأل : ما باله ابني ؟
    تقدم رجل مسن من رئيس البلدية و قال :
    ـ لقد مات الشاب وهو ينقذ ابنك من الغرق .








































    عازف الكمــان














    كلما انداحت نجمةٌ خلف الخرائب أو ارتمى ظلٌ عند الفجر ، أو هجره الضوء بفعل الغيوم النازفة .. يجلس يراقب حينئذٍ حواشي السحب التي تهيج مشاعره ، فيمسك آلة الكمان و يجلس خلف تلك النافذة القديمة ، وقد سقط الوادي تحته فيبدو إليه كما لو أنه الفاصل بين عالمين .. في الأمس تسلل من طريقٍ يعرفه متحاشياً الألغام إلى أن وصل إلى بيتها و واجهها ، صحيح أنه لم ينفرد بها لكنه استطاع أن يحظى ببعض النظرات . التي رسمت أمامه ذلك الأمل الذي كثيراً ما راح يفكر و هو يدوزن أوتار كمانه الحزين . و اليوم و قد جلس كعادته في بيته ذي النافذة التاريخية التي تكلم الماضي بقضبانها الحديدية ، و ذلك المسند الحجري الذي رقد فوقه فانوس ربما يعود تاريخه إلى زمن حكايا جدته .
    و حين أمسك قوسه و وضع ذقنه على مسند الكمان و ارتعشت الأوتار لأغنية عشقية فيما صوت خضيض اللبن الذي تصنعه أمه في ساحة الدار يؤلف مع صوت الكمان معزوفة جعلته يحلق بعيداً في متاهات هواجس و أفكار كثيراً ما كانت تطرق أبواب دماغه ، و كأنها وقود لمرجل داخل تلك الجمجمة التي ما عرفت الراحة ، و هو يعاني صامتاً ثقل الاحتلال . يعيش في تناقضٍ مع تلك المعزوفات التي يرتجلها و كأنها منقوشةٌ على صفحات قلبه . و كم كان يحلو له العزف عندما تنداح موسيقاه إلى خلف الحدود سارحةً مع تيارات الهواء المضطرب ، فتجلس هناك على صخرة دهرية تسمع ذلك الصوت الحنون ، الذي ينبش من الذاكرة حياة الطفولة . عندما لم يكن ثمة أسلاك شائكة .
    ذات يوم ، كانت أمه تضع الجرة أمامها و تهز بها لتنتج الزبدة العربية من أجل الفطور . فاندفع الباب بقوة ، و دخل ضابط إسرائيلي و معه ثلاثة جنودٍ راحوا يعبثون بالبيت . قلَّبوا مكتبته ، طيروا الدجاج .. فلم يجدوا شيئاً . و حين خروجهم قام رئيس الدورية بركل الجرة و الأم تجلس وراءها .. ثارت ثائرته ، حاول التصدي ، رأى فوهة البندقية في صدره . فتدخلت أمه و راحت تستجدي ، لم يشعر بالخوف . راحت عيناه السوداوان ترميان الدورية بوابلٍ من نار ، غير أن الأم لم تتوقف عن الاستجداء . مما أثار لديه الحفيظة و التوتر ، غير أن الاحتلال هو الاحتلال. و حين خرج رئيس الدورية أطلق ضحكاته العاهرة والأم ممسكة بابنها الوحيد.في مثل تلك اللحظة لابد من العزف ، فخرج إلى حيث النافذة وأمسك قوسه وراح يحز على أوتار الكمان مرسلاً أنغاماً باكيةً و قهراً لا حدود له ، و حين انتهى جلس صامتاً يحاكم أمره ، فحمل آله الكمان و خرج إلى حيث متجر لبيع الآلات الموسيقية و لم يعد مضت عدة أيام .. كانت خلالها الأم وحيدة وفي ذات مساء ، كان البدر يضيء الكوكب بلونه الفضي. نظر إلى ذلك المشهد الرائع وسأله رفيقه :
    _ألا تحس بجمال الطبيعة .
    _كيف لا.. ولكن ينقصها الحرية .
    تمنى لو أن الكمان بين يديه .. غير أنه ظل صامتاً كي لا يتهمه أصحابه بالرومانسية وقال في نفسه : ( يمكن أن يعزف المرء ألحاناً جديدة بأدوات جديدة يفهمها هذا الغاشم المستبد ) . و تقدم رئيس المجموعة و قال :
    _خذ مكانك ..
    و اندفع إلى ستار حجري قديم .. و مد رشاشه تاركاً مساحةً للتحرك ، حاول نسيان كل شيءٍ ، لكن الكمان كان ينتصب أمامه ، و أحس بزناد الرشاش و هو يقبض عليه أنه ذلك القوس الذي هجره لثلاثة أيام خلت .
    تلقى إشارة من قائد المجموعة عرف أن المعركة قد بدأت ، راح يتلمس المقبض الخشبي .. غير أن الأمر يتوقف على الإشارة الثانية عند توقف العربة .
    هاهي القدم التي كسرت جرة أمه تتقدم لتكسره ...
    هاهو الحذاء العسكري بوجهه القبيح يتخطى عتبة بيته .. ها هو باب الثأر ينفتح بقوة . عند توقف العربة تلقى الإشارة و راح الرشاش بين يديه ينفث لهيبه كان القوس يحز على الوتر فيبتهج القلب ، فيما استجداء الشفقة من أُمه يتحول إلى صفعات . و انسحب القوسُ نحو الوراء قليلاً .
    غير أن حوامات العدو راحت تحوم فوقه ، وقد ارتسمت ظلالها على الأرض كوحوش من عالم آخر جاءت لتفجر الكوكب ، في ذات اليوم كانت الأم مضطربةً ، حزينةً ، محاولةً تذكر كلمات ابنها ...
    غير أنها سمعت بكاءً و نداءات ، فخرجت لتستكشف الأمر . و إذا بموكبٍ كبيرٍ يحمل جنازة لفت بالعلم الفلسطيني و ثمة صورة لابنها الوحيد تحملها فتاةٌ في أول الموكب .























    ضحك على منصة الموت














    _ 1_
    عشرون عاماً مضت ، ومضت الليالي تهرش قلقه ، امتدت أمامه أصابع وهمية عملاقة ، بدت كفكي تمساح وقبضت على عنقه في رحلة الهواجس المحبطة .
    راح يعد على أصابعه ما تبقى لينهي محكوميته ، و قال : خمس سنوات .
    تمدد .. تقلب يميناً و يساراً ، مر الشرطي يتفقد الأبواب مصطحباً بخشخشة المفاتيح ، و شكاوى المحكومين في الزنزانات الأخرى ، شيعه من وراء الشبك و هو يعبر الممر كمن يعبر دهليزاً في مقبرة، غير أنه أحس باضطراب .
    و هو يعود إلى جلسته : لنفرض أنني خرجت من هذا السجن اللعين فإلى أين سأذهب ، لا أهل لي و الأصدقاء الذين كنت أعرفهم نسوني .
    هل أخرج للتسكع على أرصفة المدينة .. هل أستجدي ( عوذل و حوقل ) و تقلب من جديد أحس بنفسه مجرد حيوان داخل قفص لكنه سرعان ما زفر زفرة قوية و قال : الحياة هي الحياة .
    في تلك اللحظة شاهد نملة من الحجم الكبير تهبط من أعلى الجدار ، نظر إليها ، كانت مغرية .. جذابة .. ها هو كائن يدخل إليه .. تركها تسير كما تشاء وراح يكلمها كما لو أنه يكلم إنساناً فيما عيناه تلاحقها بشغف .
    ( أهلاً وسهلاً لعلك قاتلة .. من قتلت ليدفعوك إلى السجن ، أم لعله الحاكم ذو الرأس الأصلع هو من حكمك .. لا بد أن حكمك خمسةٌ و عشرون عاماً .. هذا يعني أنك ستقضين عشرين عاماً لوحدك ، تكلمين الجدران ، أنا كلمت الجدران و السقف ، و خيالات كانت تأتيني كأنها أطياف ..
    وصلت إلى الأرض مشت إلى قدمه اليسرى .. دبت فوق الجلد ، ثم ارتفعت إلى ثيابه ، سارت باتجاه الصدر ، توغلت في الشعر الكثيف تفتح ممرات للعبور ، و حين لم يعد يراها مدَّ سبابته تسلقت عليها رفعها و وضعها أمام عينيه ..
    و مضت فكرة في رأسه ، أحضر الصحن المعدني المخصص لوجباته الغذائية ، و ضعها داخل الصحن ، و راح يدق دقاتٍ خفيفة على حافة الصحن ،كانت النملة تنطرب تارة وتهز رأسها تارة أخرى .. كرر العملية بحث في الزوايا القذرة عن حبات الرز .. لملمها و وضعها في الصحن .. اقتربت النملة منها ، فيما كان ينزع عن أفكاره ستاراً كان عالقاً بين الأمل المحبط في داخله و الحرية التي سينالها بعد خمس سنوات و انتظم قلقه المفعم ، أشعل سيجارة و وضع علبة الكبريت قربه ثم عاد إلى الدقات المتناغمة مع حالته النفسية ، و جدها متسارعة ، حاول أن يعيد الهدوء إلى داخله ، و حين خبت تلك الانفعالات المضطربة ، راح يقرع على حافة الصحن قرعاً خفيفاً ذا إيقاع رتيب و حينها بدأت النملة تستجيب لدقاته ترفع يدها ثم ما تفتأ تهبط بيدها و ترفع قدمها تخيلها راقصة باليه ، سمع صوت أقدام الشرطي تقترب منه ، أطل من وراء الشبك أخذ المخصصات وعاد إلى النملة سريعاً .. تركها داخل الصحن و وضع بعض حبات الرز قربها ، بعد قليل و هو يمضغ طعامه رأى النملة تقفز من أعلى الصحن إلى الأرض حاملة حبة رز ، فتركها وراح يراقبها .
    عند الظهيرة وجد النملة تحاول التسلق إلى الصحن و قبل أن تأخذ حب الرز وتقفز راح يقرع على حافة الصحن و بدا الأمر سهلاً في البداية. بعد خمس سنوات وضعها ضمن علبة الكبريت و خرج .
    _2 _
    راح يقف في الزوايا المزدحمة بالمارة ، يضع أمامه شبه طاولة عليها صحناً وبيده زوجٌ من العيدان ، يقرع على حافة الصحن فتستجيب النملة له ، و ما إن تفرغ الشوارع من المارة حتى يكون الصحن قد امتلأ بالنقود المعدنية و بعض الأوراق النقدية .
    في أحد الأيام قرر أن يفقأ عين إبليس و يدخل المطعم ويأكل وجبة محترمة كان لباسه أنيقاً .. يضع قبعته على رأسه ذي الشعر الخفيف ، وضع النملة في الصحن الذي أمامه و صفق مرتين فأتى النادل ، عندها راح يقرع على حافة الصحن أمام النادل ، و حين بدأت النملة ترقص رقصاتها الرائعة ، امتدت كف النادل وصفع النملة ، فانسحقت تحت كفه ( نعتذر عن وجود نملة في الصحن ) .
    هيئ إليه أن العالم أطبق على بعضه ، و أن الأمل الذي حاوره في الليالي المعتمة انقطع ، و أن النادل إنسان مجرم ليس لأنه قتل النملة بل لأنه قطع آماله ، و امتدت يده إلى سكين على الطاولة و طعن النادل .
    بعد عدة أيام أحضروه إلى منصة الموت ، أوقفوه على الكرسي و قبل أن يغمضوا عينيه بقطعة قماش أسود ، نظر إلى الأعلى فرأى ما لم تصدقه عيناه ، كانت نملة أخرى من النوع الكبير تتسلق الصارية و تنظر إليه .
    عندئذٍ أطلق ضحكة بجلجلة راح صداها في سكون الفجر و هي تنداح في أقبية السجن .
















    وميض الفجر في المغيب














    قبيل الفجر كانت أبجدية الحروف الملتهبة تتراقص على أوتار الصبا في رقصات أشبه ما تكون برقصات مجوسية حول قداس نار لم تنطفئ ، وكانت حروف الطباعة تسطر على الورق الخبر الذي هطل على الناس كصاعقة قبيل مجيء الودق .
    فتح الجريدة على عنوان عريض فيه فاجعة السنين العجاف . تفقد أوراقه الخاصة و لم ينسَ تلك البطاقة التي تخوله دخول الشوارع التي منع الآخرون من الدخول إليها، وكان قد تعود وداع زوجه و طفليه ، غير أنه هذه المرة خرج متأبطاً حقيبته الصغيرة التي خبأ فيها آلة التسجيل ، و تدلت من عنقه كاميرا التصوير التي رافقته كظله و انطلق ، لم تستطع زوجته كبت مشاعرها فاندفعت وراءه و هي تنادي ( الله معك ) .
    انعطف في الشارع عله يغيب في الأزقة الضيقة بعيداً عن عيون تراقبه و ترصد حركاته منذ مقتل ( أبو علي مصطفى ) تذرَّع بإشعال سيجارة ، وأدار ظهره بشكل موارب ليحمي النار المتصاعدة من الولاعة فيما عيناه من فوق نظارته تراقبان رجلاً كان يراقبه ، عله يتأكد من حقيقة شكوكه . وحين بدأ دخان السيجارة يرسم سحابات فوق رأسه تابع سيره إلى أقرب هاتف .
    صاحب البقالية فهم أمراً لا بد أنه تعود لمثل هذا المشهد ، فابتسم ابتسامة حملت معنى التضامن مع الصحفي و أعطاه علبة سجائر محاولاً تمويه حركاته ، فالعيون مازالت ترصدهم .. و قال بصمت : ( هل أخبِّر ؟ ) أومأ الصحفي برأسه ، فيما كانت ألسنة الإشارة تطلق من الجانب الآخر نداءً برنين قوي جعل الجالسين في تلك الغرفة ذات الإضاءة الخافتة يطوقون الهاتف الذي اكتفى بكلمة واحدة : ( شارع ) . في ذلك الوقت تأبط شاب وسيم حقيبة في يده وخرج بناءً على إشارة من المجموعة، فيما كان الصحفي يتابع سيره حسب الخطة المرسومة، و حين واجهه من بعيد جنود صهاينة راح يبحث عن مكان يرصد المنطقة ، و عند أول باب دخل بصمت و صعد الدرجات إلى السطح حيث جلس هناك في زاوية يرصد المنطقة عن كثب .
    وضع آلة التصوير على حافة الجدار و راح ينظر من منظارها موجهاً العدسة الأمامية إلى الجنود الذين بدا عليهم التعب والخوف و هم يكابرون مبدين حركات فيها من الميوعة ما جعله يبتسم رغم صعوبة الموقف .
    ثمة أصيص من الورد كان صاحب المنزل قد أحضره لهذا الغرض ، فرفعه و وضعه قرب الكاميرا للتمويه ، و جلس ينظر في حين راحت أفكاره بعيداً في عمق التاريخ ( كان طفلاً ، وكانت أمه تمسك بيديه لتأخذه إلى المدرسة .. صبيحة ذلك اليوم كان جيش الإنقاذ يقاتل على الجبهة في محاولات يائسة لطرد الغزاة . نعم أتذكر ذلك جيداً ، ولم نكن لنميز الجندي البريطاني عن المستوطن الذي جاء من خلف البحار ليأخذ بيوتنا ويقتل أهلنا . و انسحبت ابتسامة من تحت شاربين غليظين لذلك المشهد البعيد الذي مازال في تلافيف الدماغ ، تنتصب أمامه كلما وقع ناظره على أداة من أدوات الدمار الإسرائيلي ( لا أريد المدرسة و قالت أمي : ألم تكن تريد أن تصبح ضابطاً في الجيش العربي؟.. ) غير أنه توقف خياله عندها إذ ظهر من بعيد شاب وسيم في أول الشارع متأنقاً ولكن بدون ذلك الخصر الرياضي الذي كان يعرفه ، فماذا حدث؟.. و قال لا بد أنها الحشوات الإنفجارية هي التي أعطته هذه السمنة ) وصل قرب الجنود الذين اقتربوا منه يريدون السؤال ..
    عند ذلك انحنى على عدسة الكاميرا ، وحدد زاوية الميل .. و ابتعد قليلاً تاركاً كفه فوق الكاميرا .. و ما هي إلا لحظات حتى دوى صوت أشبه برعد قاصف ارتجفت له الأبنية ، و انهارت من النوافذ ألواح الزجاج و تطايرت شظايا أجساد الوحوش ، فلم يستطع كبت فرحه وراح يهلل لدفء الأرض و يصرخ : سنخرج إليكم من تحت الأرض .. و صعد صاحب المنزل إلى السطح تصافحا بحرارة ، و هبط إلى المنزل ثمة غرفة معتمة ، هناك انتزع الفلم و خبأه في صدره و بفرح اجتاز السيارات التي كانت تطلق أبواق النفير مسرعاً إلى المكتب .
    و فيما كانت وكالات الأنباء الصوتية تذيع الخبر كان القلم يتحول في أيدي زملائه إلى شاهد لميلاد الدم وسطوة الوحش و قول الحق .. تلك الكلمة التي راحت بعد ساعة ترتسم على الشاشات الصغيرة و الفضائيات تمجد الشهيد و الشهادة ، و بينما كانت أم الشهيد الثكلى تندب ابنها ، كانت ملايين القلوب فرحة بعزة الوطن و بعزة أبنائه .



























    الحصـاد














    لدى عودتي من القرية الواقعة على ضفاف البادية ، حيث السهوب الممتدة بعيداً ، تجعلك تحترف الحنين، تخبئه في لغة المشاوير و عند الأماسي لا تستطيع إلا أن تفتح مخزون ذاكرتك لتخبئ قمراً ، أو تغسل عيونك بالشفق الممتد من موقعك حتى آخر الدنيا .
    ساعتئذٍ طلبت من أبي أن نمر ببيتنا العتيق ، فابتسم من تحت شاربيه الأشيبين واتجهنا بين الأزقة في شهوة الأحلام ، و نحن نعاني صمت جرار الماء المعلقة على الجدران كغدائر المروج محاطة بالنعناع والحبق والورود . و ثمة جمهرة من الرجال يجلسون و أمامهم دلال القهوة المرة ..
    فلا تجتاز المكان إلا و قد ارتشفت فنجاناً أو أكثر حتى لكأننا حللنا ضيوفاً طيبين أينما يممنا وجوهنا ، و مع كل خطوة كنا نخطوها كنت أشعر أنني أقطف من شفير ذاكرتي قصة ، حتى لكأني تركت في تلك القرية الجميلة نصف جسدي ، و نصف روحي و هأنذا ألملم نفسي في رحلة أشبه ما تكون باللازمة داخل جوقة موسيقية .
    مد أبي يده إلى جيبه و هو يبحث عن المفتاح ، في حين كانت عيناي تتسلقان الجدار الذي تشكلت عليه أخاديد ونتوءات تحولت إلى مساكن للطيور الصغيرة . و ما أن انفتح الباب على مصراعيه ، و تخطيت عتبته، حتى طالعني بئر الماء الذي مازالت ترقد فوقه عجلة خشبية ، جعلتني أحرك ما أهمل في زوايا ذاكرتي حتى أحسست وكأنني طفل يدرج خطواته الأولى على بساط نما العشب فيه بشكل عشوائي .. و ما أن دفعت باب أحد الغرف ، حتى فاجأتني صورة كالهلال معلقة على الحائط .. لُفَّت بعناية بالقماش و مددت يدي و رحت أزيل تلك اللفائف التي امتلأت بالغبار و زرق الطيور و شيئاً فشيئاً راح ينكشف بريقه عن قوة كامنة فيه جعلتني أرفعه إلى رأسي وأقبله برغم رائحة الشحم الذي دهن فيه كي لا يصدأ .
    قال أبي : ( بإمكانك تنظيفه و أخذه معك عل جدتك تعيد للحظة أيام صباها .. نعم لقد كانت أفضل حاصدة بين الحاصدين هذا المنجل سيجعلها تعود صبية و هي ترندح الأغنيات و المنجل بين يديها و كأنها تؤدي رقصة على إيقاع أصوات الحقول الرتيب .
    لم أترك مكاناً في البيت إلا و شاهدته و وقفت معيداً تلك البسمات التي سرقها الزمن مستخدماً أسلحة التغيير تاركاً الأحلام في أعشاش العصافير التي مازالت زقزقاتها تصل إلى مسامعي .
    في المساء عدنا إلى المدينة كان الأطفال مايزالون يجلسون أمام شاشة التلفاز في زاوية البيت . و عند دخولنا أمسكت المنجل و وضعته على راحتي يدي وقدمته إلى جدتي التي تكورت في الزاوية بلباسها القديم وكأني أقدم وساماً لقائد في فرقة عسكرية مقاتلة .
    و ما أن لامست بأصابعها النحيلة حديد المنجل حتى رغرغت عيناها بالدموع .. وراحت تطلق آهات مختبئة ، آن انبلاج وميض الذاكرة تراها تنطق بلسان زمنها وكأنها كتابٌ لا تستطيع إغلاقه حتى آخر حرف منه وبصمت مررت باطن يدها على شفرة المنجل وراحت تهز رأسها آسفة على أيام طواها النسيان و هاهي تحاول جاهدة إيقاد الشموع المتبقية في زوايا ذكرياتها ..
    و لم يمضِ وقت طويل حتى جمعت ساقيها و أعادت ترتيب جلستها فبدت شامخة كأنها امرأة ثانية صامدة تحت سياط الزمن الأرعن شامخة متحدية .. و اقترب الأولاد منها في دعابة و صرخوا : ( إن جدتي ستحكي لنا حكاية المنجل ) . غير أن أبي صرخ أيضاً مؤنبا الأطفال : ابعدوا عن جدتكم ، لا تزعجوها . غير أن الجدة وضعت المنجل بين يديها و جمعت رؤوس الأطفال الصغيرة إلى صدرها بحنو عجيب ، و قالت دعهم . ثم نظرت إلى عيون الأطفال البراقة ، و هي تتفتح على مفاجأة كانوا يسمعون بها ، و راحت الصور المشوبة تعيد الجدة صياغتها ، و كأنها فنان تشكيلي يرسم لوحة لإنسان يحتضر . قالت الجدة : في أيام الحر كان هذا المنجل رفيقي ، ( أشكله ) كالسيف في خاصرتي . كنا نستيقظ قبيل الفجر ، نتأزر بثيابنا التي تغطي أجسادنا كاملة ، و كنا نربط سواعدنا و نشد عليها ضاغطين الشرايين ، لأن الحصاد يحتاج لحركات يؤديها الحاصد بمهارة قد تؤثر على الساعدين . لهذا كنا نستعمل هذه الأربطة .
    هذا المنجل يا أولاد أعادني خمسين عاماً خلت ، يوم كان يتجمع الحاصدون عند حافة الحقل الجنوبي بأرض المختار ، و البعض الآخر يجتمع عند جدكم . و لما كان يحدث مثل هذين الاجتماعين في حقلين متجاورين ، كانت العيون تشرئبُّ و تغدو نظرات التحدي و السبق هي القانون السائد .
    في ذلك اليوم وقفت على رأس الحاصدين و هم يعرفوني جيداً .. فلو كان لهذا المنجل لسان لنطق ، و لكني سأروي ما جرى و نتركه يسمع حديثنا .
    كان الحقل المقسم إلى خطوط مستقيمة من القمح أمامك و كأنه مرج يؤلف كوكباً ، في بداية الحصاد لا بد أن يرتاد السؤال قبيل البدء بالحصاد ، هل يمكن أن نحصد كل هذا الامتداد من السنابل ؟
    كانت السنابل تتماوج كبحر خضم ، و بدأت الأغنيات ترندح هنا و هناك . و انحنيت على أول تلك السنابل و قبلت هذا المنجل ، و قلت في ذاتي متحدية ( لن ندعهم يسبقوننا ) و أمسكت أول قبضة و قطعتها .
    و إني أعلمكم أنني كنت ألبس بأصابعي خراطيم من القصب ، و ما ذلك إلا لتطول أصابعي و تصبح قادرة على جمع المزيد من السنابل التي تؤلف ما يسمى ( بالشّمل ) .
    نظرت إلى الأطفال و هم يصغون إلى الجدة ،كانت عيونهم شاخصةً بشفتيها الرقيقتين ، و آذانهم صاغية على تلك الصور التي تقذفها الجدة ، و كأنها لطخاتٌ لريشة فنان على جدران أذهانهم .
    تابعت الجدة : و راحت يدي هاتين تؤديان الحركات و كأنهما تؤديان حركات لرقصة ما . و شيئاً فشيئاً مع صعود شمس الصباح ، كنا نتقدم داخل الحقل ، حتى إذا وصلت الشمس إلى كبد السماء ، ركب جدكم الفرس ،و راحت تعدو خبباً و هو ينادي : ( إلى الطعام ، إلى الطعام ) .
    نترك السنابل واقفةً ، بينما الآخرين كانوا يجمعون الزرع بيادر ، بيادر ..
    و اتجهنا إلى رأس الحقل حيث الطعام وضع على بساط ، راحت تعقد حوله حلقات الحاصدين .
    في حين كان حاصدي المختار قد اجتمعوا إلى الطعام أيضاً . قال أحدهم :
    _ هل سنسبقهم ؟
    _ وكيف لا ؟ سنلقنهم درساً لن ينسوه .
    غير أن أحدهم قال :
    حافظوا على النظافة ، فلا تدعوا سنابل واقفة وراءكم . لكن جدكم لم يقبل بالأمر وصرخ :
    _ لا ، الأرض التي لا تطعم الحيوان و الطير لا بركة فيها .
    و بعد وجبة الطعام التي قضيناها في الدعابات و المرح ، وقفنا جميعاً ، و عدنا إلى تلك الخطوط المتوازية من سنابل القمح ، نقطعها بمناجلنا رزماً رزماً ...
    و ها نحن نقطع آخر ( شمل ) من الحقل ، عندئذ نجتمع وسط عاصفة البهجة و الفرح ، بينما راح جدكم على ظهر فرسه يؤدي رقصةً و لا أعجب ..... بينما الفرس تؤدي بحوافرها إيقاعاً جميلاً مازال يطرق مخيلتي .
    نظرت إلى الأطفال الذين كانوا بأوج انفعالاتهم ، كانت عيونهم ترف و كأنهم أشبالٌ استنفروا لأمر طارئ .
    قطع هذه الحالة دخول أخي معلم الكمبيوتر ، يحمل صندوقاً مصنوعاً من الورق المقوى . و قال :
    هذا هو الكمبيوتر .
    نظرتُ إلى جدتي ، فرأيت عقدةً بين حاجبيها قد تشكلت منذُ لحظات ، و اعترتها مسحةٌ من الحزن لم تستطع إخفاءها ، و بدا عليها توترٌ واضح .
    فجلست قربها كما لو أني أواسيها ، غير أنها ربّتت على كتفي و قالت :
    _ هذا زمانكم .... هنيئاً لكم .
    لم أبرح المكان ، فيما كان أخي يعدّ جهازه و ما هي إلا دقائق حتى كان يعرض فيلماً على جهاز الكمبيوتر عن علم الفضاء .
    ضحكت جدتي و قالت و هي تمسح دموعها :
    ـ ( علّم الإنسان ما لم يعلم ) .
    طيّبت خاطرها ببعض الكلمات و قلت لها :
    ـ هذا من فضلكم يا جدتي ، فأنتم من أسس لهذا كله .
    _ هكذا ترى .....
    _ و هكذا يراه الخيِّرون .




























    الفهرس

    v المقدمة ……………………………..………………………7
    v المسافر …………………………………….…………… 13
    v صاحبة القبعة الصفراء …….………………………… 21
    v لقاء لم يتم ……..……………………………….……… 33
    v الشاغر ………………………………………………… 39
    v البرقية …………………………………………...……… 47
    v كوخ على رصيف البحر …………………………… 57
    v العروس ………………………………………………… 63
    v غرق الاحلام الصغيرة ……………………..………… 69
    v عازف الكمان …………...…………………………… 77
    v ضحك على منصة الموت …………………………… 83
    v وميض الفجر في المغيب …………………………… 89
    v الحصاد ………………………………………………… 95
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Working...
X