Announcement

Collapse
No announcement yet.

لأداء اللغوي:هيمنة الصـوت الواحد، وصخـبه وضيق العالم الروائي - حيدر حيدر

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • لأداء اللغوي:هيمنة الصـوت الواحد، وصخـبه وضيق العالم الروائي - حيدر حيدر

    الفصل الثاني الأداء اللغوي
    هيمنة الصـوت الواحد، وصخـبه وضيق العالم الروائي - حيدر حيدر-


    توطئــــة‏

    قد يكون حيدر حيدر روائياً مُقلا؛ ذلك أنه لم يصدر حتى العام ألفين؛ أي خلال فترة تمتد نحو اثنين وثلاثين عاماً، من صدور عمله الأول "الفهد"‏

    (1968) سوى ستة أعمال روائية، اثنان منها قصيران، وقد صدرا أولاً ضمن مجموعتين قصصيتين هما: "الفهد" في مجموعة "حكايا النورس المهاجر"، و "الوعول" في المجموعة التي تحمل اسمها عام (1978).‏

    غير أنه على إقلاله، يُعَدُّ واحداً من أبرز الروائيين السوريين، وما من دراسة معنية بالنتاج الروائي السوري، يمكن أن تغفل عن الحيز والموقع والرواج الذي تميزت به أعماله، وخاصة في السبعينيات. فهو صوت متميز له نكهته وجاذبيته وتأثيره، ولاسيما في الأوساط الشابة عموماً، هذه الأوساط التي تتجاوب لأسباب مختلفة مع نمط حساسيته الأسلوبية، ومع جرأة موضوعاته وراهنيتها. وقد أعيدت طباعة أعماله غير مرة؛ فالزمن الموحش –مثلاً- قد طُبع بين عامي 1973 و 2000 خمس مرات. وهو رقم له أهميته في مجتمع لا تزال الأمية تسود حيزاً لا يستهان به في أوساطه. كما اختير عمله الروائي الأول "الفهد" عام 1969؛ أي في العام التالي لصدوره، ليكون موضوع أول فيلم روائي سوري طويل ينتجه القطاع العام. وقد حصد الفيلم بعد إنجازه عام 1972 عدداً من الجوائز الهامة في محافل سينمائية وإعلامية عديدة (مهرجان دمشق لسينما الشباب عام 1972، مهرجان كارلو فيفاري، ومهرجان لوكارنو للعام نفسه، استفتاءين لصحيفة "الثورة" السورية عام 1975 عن أفضل فيلم وأفضل مخرج...)(1).‏

    يثير النتاج الروائي لحيدر حيدر، على قلته وأهميته، بعض التساؤلات الجمالية؛ إذ يتجلى في ملامحه العامة نتاجاً يعاني عدداً من المشكلات السردية الروائية، التي تتصل على نحو أو آخر بنمط أدائه اللغوي.‏

    تتصدر هذه المشكلات: مشكلة "هيمنة الصوت الواحد"؛ وهو الصوت الذي تتماهى عبره لغة حيدر حيدر الأدبية الخاصة بلغة شخصياته الروائية، على مستوى الشكل والدلالة غالباً. كما تتماهى بالمواقع الأخرى للنص؛ أي السرد والوصف.‏

    يتصل بهذه المشكلة ما يمكن الاصطلاح عليه بمشكلة "الرواية الصاخبة"، التي تعود إلى ضجيج القول وتوتره الدائمين، وعلو نبرته على الحدث الروائي.‏

    أما ثالثة هذه المشكلات، وهي ضيق العالم الروائي، الذي يتجلى عبر تكرار الثيمة Theme السردية، وتكرار بعض التفاصيل، فعلى الرغم من أنها تبدو بعيدة نسبياً عن الجذر اللغوي للمشكلتين السابقتين، فهي تتصل في النهاية بهذا الجذر؛ إذ تدفع إلى استنتاج يلوح مشروعاً بصددها، وهو الدور التعويضي الذي يحاول الاحتفاء اللغوي الشديد أن ينهض به لمداراة ضيق العالم الروائي.‏

    نسعى فيما يلي إلى تقصي هذه المشكلات، والبحث في تجلياتها المختلفة في نتاج حيدر حيدر الروائي.‏

    أولاً- هيمنة الصوت الواحد:‏

    أ- الرواية، الواقع، التنوع الكلامي:‏

    كنا أكدنا علاقة الرواية الوطيدة بالواقع والحياة والتجربة الإنسانية عموماً، هذه العلاقة التي شكلت مواطن تمييز الجنس الروائي عن أجناس سردية أخرى تتقاطع معه في بعض الخصائص والمقومات، أهمها: "الرومانس". وقد يكون من المفيد هنا –ابتداءً- التذكير بمركزية هذه العلاقة في تاريخ المقاربات النقدية للرواية أو "الرومانس". ففي القرن الثامن عشر –مثلاً- ميزت الناقدة الإنكليزية "كلارا ريف" Reave في كتابها "تطور الرومانس" (1785) بين الرواية و"الرومانس"، على النحو التالي:‏

    "الرواية صورة عن الحياة الواقعية وعادات الناس وعن العصر الذي كتبت فيه. أما "الرومانس"، المكتوب بلغة رفيعة منمقة، فيصف ما لم يحدث أبداً وما لا يحتمل حدوثه"(2).‏

    وفي القرن التاسع عشر عرّف الروائي والناقد الإنكليزي الشهير هنري جيمس James (1843- 1916) الرواية في محاضرة ألقاها عام 1884 بعنوان "فن الرواية"(3)، فقال: "الرواية في أوسع تعاريفها انطباع مباشر مشخص عن الحياة، تستمد منه قيمتها، التي تقل أو تكثر تبعاً لقوة هذا الانطباع"(4).‏

    أما الجمالي الإنكليزي الأكاديمي المعاصر "غراهام هو"، فقد شدد في الستينيات من القرن العشرين على علاقة الرواية بالواقع في كتابه "مقالة في النقد"، فقال:‏

    "إن علاقة الرواية بالواقع حصراً هي التي تؤلف خصوصيتها. وهذا نوع أساسي من التمايز، ويبدو أنه يفصل الرواية عن معظم الأنواع التقليدية –عن المأساة والملهاة والشعر البطولي والرعوي"(5).‏

    تأسيساً على ما تقدم كله، يمكن تأكيد اتفاق منطق الرواية مع منطق الحياة، فيما يدعوه الروائي الألماني "توماس مان" Mann (1875- 1955) ديمقراطية الرواية(6).‏

    فكما تتنوع في الحياة، وتختلف، وتتحاور، الأزمنة، والأمكنة، والأحداث، والأشخاص، والأساليب، كذلك تتنوع وتختلف وتتحاور في الرواية الأزمنة، والأمكنة، والأحداث، والأشخاص، والأساليب، وما يعنينا من هذا فيما يتصل بمشكلتنا المطروحة، هو تنوع أنماط الكلام ومستوياته، وخصائصه، واختلاف ذلك كله، وحواره في الرواية، كما في الحياة.‏

    فإذا كان على الملحمة أن تُعنى بلغة شعرية مفارقة، وموحدة، تستمد قيمها من خصائص شكلية مطلقة، وإذا كان على "الرومانس" أن –يُعنى هو الآخر- بلغة رفيعة ومنمقة وموحدة، فإن على الرواية، بشكل خاص، إذا ما أرادت أن تتمثل أخصّ خصائص جنسها الأدبي ومقوماته، أن تنشد لغة نثرية محايثة للواقع والحياة، متنوعة ومتباينة بتنوع المتكلمين بها، وتباينهم؛ لغة ريبية، ونسبية، وحوارية ضرورةً، عبر تعايشها وحوارها مع غيرها من اللغات. وهنا يكمن جوهر تناول الجمالي السوفياتي "ميخائيل باختين" للمسألة، وهو يشدد على قضية التنوع الكلامي في العمل الروائي، فيرى أن التفكك الداخلي للغة، وتنوعها الكلامي الاجتماعي، والتباين الفردي للأصوات، شرط النثر الروائي الحقيقي(7).‏

    إنه إذ يؤكد أن الروائي لا يمكن أن يتعامل مع لغة واحدة وحيدة، يقينية وفوق الشك، فهو يلاحظ في الوقت نفسه أن الروائيين الذي يُعملون لغتهم الواحدة والمستقرة، يدركون أن هذه اللغة بحاجة إلى تعليل كما هي بحاجة إلى الدفاع عنها. هكذا تغدو مثل هذه اللغة لغة مترابطة مع التنوع الكلامي، فالتنوع الكلامي إما أن يدخل العمل الروائي مباشرة عبر المتكلمين، أو يدخله بوصفه خلفية للحوارية(8).‏

    ب- حيدر حيدر وأحادية اللغة الروائية:‏

    إذا كانت مسألة التنوع الكلامي شرط النثر الروائي الحقيقي، وفقاً لـ "باختين"، أو لمنطق الرواية في اتفاقها مع منطق الحياة، إذ مامن أحد يمكن أن يستعير لغة سواه، دون أن يفقد مصداقيته في الحياة والرواية معاً، فإننا نلاحظ بوضوح، ونحن في صدد أعمال حيدر حيدر الروائية، إلى أي حد تبدو معه هذه القيمة مهملة في هذه الأعمال، وإلى أي حد لا يكون من المبالغ فيه القول: إن نتاج حيدر حيدر الروائي، على أهميته في بعض جوانبه، يبدو مستلباً للغة واحدة وحيدة، تسود وتهيمن، فتحرم شخصياته حق التعبير بما يتفق مع مقامها وخصائصها.‏

    لغة واحدة وحيدة، لها منطقها السردي الخاص، وحساسيتها الخاصة، التي تنتمي أولاً وأخيراً إلى حساسية مبدعها، وذائقته اللغوية، تسود وتنمو وتتطور من نص روائي إلى آخر، مطمئنة إلى جمالياتها الأسلوبية وحرفيتها اللافتة جداً؛ لغة تبتعد بقدر ما تتكامل مع منطقها الخاص، عن منطق العمل الروائي، وضروراته، فتقع بتفردها، وهيمنتها على مفاصل العمل الروائي وعناصره كافة، في المطب الذي حذّر حيدر حيدر نفسه من مغبة الوقوع فيه؛ أي قطع جدل الموضوع، والتحول إلى إنشاء بلاغي صرف(9)، لغة يمكن إيجاز أبرز خصائصها بالنقاط التالية:‏

    1- احتفاء واضح بمفردات وتراكيب يستقطبها حدا الدلالة الأعظمان: قسوة شديدة أو رقة شديدة، مع إهمال ملحوظ للمتوسط والعادي والمألوف من مستويات التعبير، مثل: قتل، احتضار، دمار، انفجار، اجتياح، خيانة، وحشة، تسفيل، دم، روث، حيض... زمن يرشح بالموت، شظايا الماضي، السطوة الوحشية، القتل العميم، فصد الدم، الزمن الموحش.‏

    أو: غسق(10)، عبق، عطر، نقاء، دفء، انتعاش، إشعاع.. نقاء الحقول، الدفء الحريري، زهرة الحلم، أوراق العشب(11)، أشعار الندى، امرأة الورد.. الخ.‏

    2- احتفاء مماثل بالمجازات، يمكن رصد نموه المتصاعد من عمل روائي إلى آخر، وصولاً إلى عمله الروائي الأخير "شموس الغجر" (1997) الذي يشفُّ عن حرفية عالية في ميدان الخلق المجازي.‏

    إن هذه الحرفية، إذ تحتل موقعاً هاماً في بعض حقول الكتابة الشعرية، فهي، فيما يتصل بالنثر الروائي، واحدة من أبرز عيوبه، وخاصة حين تكون لغة للحوار Dialogue أو المناجاة "الحوار الداخلي" monologue؛ ذلك أنها تحول دون إيصال دلالات دقيقة للكلام، كما أنها تحرم الشخصيات من قدر كبير من مصداقيتها؛ أي لمستها الواقعية، أو "صلابة التحديد" التي يعتبرها "هنري جيمس" ميزة المزايا، كما قدمنا. ولعله لا يكون تكراراً بغير ضرورة أن نستعيد في هذا الصدد، تعريض "جون دانيز" الذي قدمناه في الفصل الأول، بشأن مصداقية التعبير المجازي عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية:‏

    "ليس هنالك أي نوع من أنواع اللغة المجازية يصلح أن يكون لغة التعبير عن الحزن. وإذا ما سمعت إنساناً يتوجع بلغة البيان فإنني إما أن أسخر منه أو أغط في سبات عميق"(12).‏

    2- استهداف إيقاعات لفظية خاصة في بناء الجمل، وذلك عبر اللجوء إلى عدد من الصيغ اللغوية التعبيرية:‏

    أ- استخدام (ما) النافية في مواقع (لم) غالباً: "لماذا حدث ذلك. لماذا؟ وما كان قادراً على استيعاب أو امتصاص الصدمة"(13).‏

    ب- استخدام واو الاستئناف ابتداءً: "لو يطلع عليهم الآن! ومن التلال وخلف الصخور راقبهم"(14).‏

    ج- تأخير الفعل والفاعل، أو اسمه، أو المبتدأ، وتقديم بقية أركان الجملة: الظرف، الجار والمجرور، خبر الفعل الناقص، المفعول المطلق... الخ: "في تلك الأغساق الشفافة [...] كانت ترتدي..."(15)، أو: "وحيداً كان يصارع الموج والأنواء"(16).‏

    د- استخدام تقنية وافدة من أميريكا اللاتينية في أواخر السبعينيات مع ترجمة عمل الروائي الكولومبي "غبرييل غارسيا ماركيز": "مائة عام من العزلة" (1979)، وهي تقنية الاستشراف؛ أي الإعلان المسبق عن أحداث سوف تحصل في وقت لاحق.‏

    هذه التقنية استخدمها حيدر حيدر بإسراف في فصل "ظهور اللوياثان" من رواية "وليمة لأعشاب البحر" (1983)، وبإسراف أشد في فصل "زمن التتويج ومرايا الظلمات" المحذوف بعد الطبعة الأولى (1992) من رواية "مرايا النار". وهذان الفصلان، ينمّان –على نحو خاص- عن تأثر واضح برواية ماركيز المذكورة، وروايته "خريف البطريرك" من جهة الموضوع والأسلوب الساخر في عرض الطقوس الإعلامية غير المعقولة التي رافقت ظهور "اللوياثان" وصعوده، إلى جانب تقنية الاستشراف المشار إليها:‏

    "في ذلك الزمن الغريب، الخارج بلا معقوليته عن تقاويم الفصول، سيحدث ذلك الشيء الرهيب المخجل للعصور والبشر، عندما سيسقط من سياق التاريخ [...] ذلك المسخ الغريب"(17).‏

    بمثل هذه اللغة التي حاولنا الإحاطة بأبرز خصائصها، تتحدث شخصيات حيدر حيدر وتفكر. وبمثل هذه اللغة يمضي السرد والوصف الروائيان، فتتوحد مستويات القول، وتضطرب دلالاته. وفي هذا التوحد والاضطراب تضيع الحدود بين كلام الراوي وكلام الشخصيات، كما تضيع بين كلام الشخصيات أنفسها. إن لم يكن ثمة قرائن أخرى دالة على هذه الحدود.‏

    هكذا تبدو ملاحظة الروائي والباحث المغربي "سعيد علوش" حول الإحساس بهيمنة الطابع الثقافي على الرواية العربية وأبطالها، مع كل قراءة لهذه الرواية(18)، ملاحظة صائبة إلى حد بعيد فيما يتصل بأعمال حيدر حيدر الروائية وشخصياتها. إنها لمسة الثقافة السحرية التي تسم بميسمها كل شيء، تماماً كما هي لمسة "ميداس" الملك التي تُحيل كل ما تقع عليه ذهباً خالصاً، حتى ابنته(19):‏

    "- شاهين يا أبا اليتامى!‏

    - شفيقة. يا أرضا يضرب ضلعها الغزاة!‏

    أتراه القتل هو البدء على أرض مشروطة العلائق.‏

    أكان يجب أن يحدث ذلك الشيء المؤسف فوق أرض سيغاتي المسكينة؟"(20).‏

    على الرغم من أن المقبوس السابق يعود إلى "الفهد" أقل أعمال حيدر حيدر الروائية إغراقاً في المجاز، ربما لكونه العمل الروائي الأول، إذ لم تكن الخصائص الأسلوبية لمبدعه قد تبلورت تماماً. وربما بسبب المرجعية الواقعية المعروفة شعبياً وتاريخياً لموضوعه (حكاية المتمرد الفلاح "بوعلي شاهين")، على الرغم من ذلك، فإننا إذ نلاحظ مفارقة الملفوظ لمستوى اللافظ، ومقام تلفظه (فلاح يحاور زوجته) في عبارة "شفيقة. يا أرضاً يضرب ضلعها الغزاة"، فإننا نلاحظ –أيضاً- عدداً من نقاط التعمّل الأسلوبي الذي لا يلائم خصائص السرد أو الحوار الروائي عموماً، مثل:‏

    أ- توازن مقول طرفي الحوار: شفيقة وشاهين، وخضوعه لإيقاع واحد يمتح من حساسية صوتية بلاغية واحدة، عبر التركيب التالي: المنادى + أداة النداء + الوصف المجازي.‏

    ب- توازن السطرين الأخيرين تبعاً للاحتفاء الإنشائي نفسه، عبر الصيغة الاستفهامية المكرورة فيهما.‏

    ج- غلبة الاحتفاء بجمال الصياغة على ضرورات المعنى، في التركيب الأخير من السطر الثالث: "أرض مشروطة العلائق". فهل ثمة في العالم كله أرض مأهولة غير مشروطة العلائق؟‏

    د- اختلاط الحدود، بفقدان القرائن الاصطلاحية الدالة، بين كلام المتحاورين، وكلام الراوي في السطرين الأخيرين؛ وذلك بسبب تماثل مستوى الكلام، وخصائصه في السطور الأربعة المقبوسة.‏

    غير أن تماهي لغة حيدر حيدر الأدبية بلغة شخصياته، يتصاعد على نحو أشد وضوحاً بدءاً من روايته الطويلة الأولى "الزمن الموحش" (1973). وهذا التماهي ليس مأثرة على الطريقة الجويسية –نسبة إلى الروائي الأيرلندي الشهير جيمس جويس- كما يبدو وكأن نبيل سليمان يعدّه، إذ يشير إليه في تناولـه النقدي للرواية المذكورة بالقول: "تغري(الزمن الموحش) لحيدر حيدر إلى حد كبير باعتبارها (صورة الفنان في شبابه) عربياً، بكل ما يحمل هذا الاعتبار من دلالة فنية وذاتية [...] أما الدلالة الذاتية، فتتجلى في تلك المماهاة التي تفرض نفسها بين بطل الرواية، راويتها، وكاتبها"(21)؛ ذلك أن المماهاة في "الزمن الموحش" لغةً تتجاوز بطل الرواية إلى شخصيات العمل الروائي كافة. والمماهاة عموماً، بين الراوي وشخصيته المحورية شائعة بكثرة، وليست وقفاً على "جويس" أو "حيدر"، وهي من ثم، لا تدعو إلى عدها قرينةً ذات أهمية لدى إثارة مسألة تشابه أو إقرارها.‏

    أما "الذاكرة الجويسية" قرينة التشابه "الفنية" التي يعتمدها نبيل سليمان(22)، فهي لدى حيدر أكثر تطرفاً بكثير مما هي لدى "جويس" في هذا العمل. إنها إذا كانت تُخضع نفسها لتتابع زمني يتوافق فيه اتجاه زمن السرد مع اتجاه زمن الحكاية في "صورة الفنان في شبابه"، فهي في "الزمن الموحش" تنفلت من هذا التوافق، فتتداعى الذكريات، وتتداخل الأزمنة بين السابق واللاحق في حركة لا تهدأ حتى السطور الأخيرة؛ أي حتى الملحق الذي يحمل عنوان "من مذكرات منى"، والذي يمكن أن نقرأ فيه –مثلاً- التسلسل التالي لترتيب زمن المذكرات: 29/10 ثم 9/11 ثم 27/10(23).‏

    إذا تجاوزنا إشكالية نقطتي التشابه اللتين يثيرهما نبيل سليمان، فإننا نتساءل: أي تشابه يمكن أن يعقده القارئ بين عملين روائيين يتباينان تبايناً شديداً، موضوعاً، ولغةً، وتقنيةً؟!.‏

    فلكم يبدو "جويس" الشهير بكونه أحد أبرز المجددين الروائيين في القرن العشرين –إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق- متشدداً في تطلبه الواقعي في "صورة الفنان في شبابه" عبر لغة تستمد قيمتها أولاً وأخيراً، من دقة دلالاتها، ودقة تعبيرها عن خصائص أصحابها، لغة تتنوع وتختلف سماتها من شخصية إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ومن مقام إلى مقام، وفي تنوعها واختلافها تواكب ذلك الغنى اللافت في تنوع هذه الشخصيات، ونموها، وتنوع مقامات التلفظ بها.‏

    ففي حين توحّد اللغة شخصيات تتباين مواقعها في "الزمن الموحش" مثل: شبلي، وراني، ومسرور، ووائل، وسامر، في حواراتها، فتبدو وكأنها تخوض مباراة ثقافية، شرطها الأول: لغة طقسية مجازية مطلقة متعالية، فإننا فيما يتصل بعمل "جويس" لا نملك إلا أن نمتلئ رهبة ونحن نستعيد –مثلاً- عبر ذاكرة "ستيفن ديدالوس" الفتى لغة تلك الموعظة الكنسية بترهيبها المروّع للجسد والروح للأب "آربال"(24)، في الوقت الذي تفتننا فيه تلك العفوية والتلقائية المستسلمتان لنقاء الفطرة الإنسانية وبراءتها، عبر حكاية "دافن" الطالب الريفي الساذج لـ "ديدالوس" عن امتحان الخبرة النسائية المخفق الذي مر به، بعد ذلك بصفحات قليلة"(25).‏

    إنها –ببساطة- اللغة التي تصادر تنوع الشخصيات وتعددها، وتنوع مقاماتها وتعددها في عمل حيدر حيدر، واللغة التي تطلق هذا التنوع والتعدد، وتطلق معه مصداقية شخصياتها ومقاماتها إلى أبعد مدى سردي ممكن في عمل "جيمس جويس".‏

    ج- أحادية الصوت في أحادية اللغة الروائية:‏

    ما يلاحظ بصدد هذه القضية، أن تماهي لغة حيدر حيدر بلغة شخصياته، لا يقتصر في خطورته على اضطراب الدلالة، أو عدم دقتها، بل يتعدى ذلك إلى ما يمكن عده: انحراف الدلالة، أو بتعبير أكثر تفصيلاً: تقديم دلالات مخالفة لخصائص الشخصيات؛ ذلك أن الأسلوب، ليس عنصراً حيادياً في الكلام، بل عنصراً فاعلاً في تحديد الفكرة، وفي التعريف بخصائص المتكلمين ومقاماتهم. إنه الرجل نفسه وفقاً للتعبير المعروف للأديب الفرنسي بوفون Buffon‏

    (1707- 1788).‏

    إن شخصيات تجترح عبر حديثها أو تداعياتها، لغة مجازية ذات إيقاعات خاصة، وصياغة ذات قيم جمالية شكلية لافتة، لا يمكن أن تتجلى في السياق السردي، إلا بوصفها شخصيات ذات مواقع معرفية وأدبية أكيدة.‏

    وإذا كان تقبل مثل هذه الخصائص، فيما يتصل بالشخصية المحورية في بعض هذه الأعمال، أمراً ممكناً بوصفها شخصية أدبية، أو سياسية: شبلي عبد الله، الراوي، مهدي جواد، ناجي العبد الله –مثلاً- في كل من "الزمن الموحش"، "الوعول"، "وليمة لأعشاب البحر"، "مرايا النار"، على التوالي، فإنه فيما يتصل بالشخصيات الأخرى أمر غير مقنع على الإطلاق نظراً لغياب أي بعد ثقافي ملحوظ لديها؛ فـ "دميانة" –مثلاً- في "مرايا النار" خياطة(26)، وزوجها رجل عادي تماماً، يستعد لفتح محل قرطاسية(27)، وليس من إشارة إلى اهتمام ثقافي ما لدى أي منهما.‏

    هكذا يبدو غير مفهوم، أو مقنع، تقويل دميانة أو زوجها كلاماً ذا بناء شعري مجازي، يفوق بكثير موقعهما الفكري.‏

    من جهة أخرى، إذا ما تبدت لغة "ناجي العبد الله" في العمل المذكور، لغةً تمتلك بعض الإقناع بتركيبها الثقافي، الأدبي، العاطفي، بوصفه مناضلاً سياسياً ناجياً بمصادفة قدرية من مذبحتين، حاملاً –أينما حل- عذابات ماضٍ خاص وعام، عصيّ على الفهم، فليس من المقنع أن تنتفي كل حدود لتمايز لغته عن لغة الراوي، وإلا، فأي مسوغ يتبقى لوجودهما معاً في عمل روائي واحد؟.‏

    نقتطع من رواية "مرايا النار" ما يفترض أنه أصوات ثلاثة، في امرأة واحدة (دميانة) يتفرد كل منها أسلوبياً، للراوي، والزوج، والحبيب، ونلاحظ كيف تتوحد هذه الأصوات خالية من كل تفرد أسلوبي مفترض، يميز أياً منها عن الآخر، خلا ذلك التفرد الأسلوبي الخاص بحيدر حيدر نفسه، الذي يعمم عبرها لغته المتماثلة مع نفسها، أينما وكيفما حلت، مفردات وتراكيب وإيقاعات ومجازات:‏

    الراوي (حيدر حيدر):‏

    "في تلك الأغساق الشفافة كنسيج شمس على حافة المغيب، كانت ترتدي فستاناً موشى بورد البنفسج، أرومتا نهديها العقيقتان تشعان كما ماستين نتأتا من رمل بحري غسل للتو بموجة مزبدة. وهي على الديوان المقابل له، وهو غارق في بخار دم موتاه واشتهائها، تروي عن الحب الذي يجتاح امرأة في لحظة عمياء. الأقدار المهلكة التي تهبط في الظلمات..." (ص.ص51، 52).‏

    الزوج (عبد الرحمن التاجي):‏

    "هي الآن تعبر الممرات والجدران والشوارع والشطآن، تخطو فوق جثث الضحايا، والمدن المحترقة، والبلدان الغارقة في وحل العار والجوع وسطوة الوحش، حاملة هذا الجسد النبيل والملوث، وليمة للرجل الغريب" (ص112).‏

    الحبيب (ناجي العبد الله):‏

    "وكنت أراها في الأغساق، وقرارات الظلمات السحيقة. نجمة أو لؤلؤة تتوهج وتضيء فضاءات البحر العميقة وتخوم المسام. هي أو شبيهتها كانت حلم أسفاري قبل المذبحة. امرأة المدن البعيدة التي هويتها وعانقتها. أنثاي التي هَجَسَتْ برائحتها أجنحة السفر وأنا طالبُ على مقاعد الدراسة، من أجلها كتبت أشعار الندى على أوراق العشب..." (ص96).‏

    وإذا ما تخلقت الأصوات الثلاثة التي تقدمت، صوتاً روائياً واحداً مولعاً بتعميق الإحساس المأساوي والجمالي معاً، بالعالم والأشياء، عبر مفردات تكرر نفسها من طراز: "الأغساق" و"الظلمات"، وعبر صيغ جموع تتوالى مع أحرف مدّها بتوقيعاتها الموسيقية والنفسية، وعبر تلك التحليقات المجازية المتعالية –غالباً- عن كل ملامسة أرضية صلبة، فإن صوت دميانة هو الآخر في "مرايا النار" يخضع للخصائص الشعرية نفسها، متجاوزاً موقعه الاجتماعي الثقافي الذي سبقت الإشارة إليه:‏

    "لابد أنني امرأة ممسوسة بسحر أو لعنة خرافية. كيف استوطنني هذا الغريب كما يستوطن الجسد فيروس يسري في الدم؟ آن تتمور الشهوة نحوه ويبدأ جسدي هيجانه أسحبه من صقيعه الشتائي ونرحل معاً نحو بلاد حلمت بها [...] سوف نطير في فضاءات زرقاء وحيدان كما طائرين انفلتا من عقال الزمن ومرمى الطلقات (ص.ص114ـ 115).‏

    د- الإقناع، وشعرية السرد الروائي:‏

    الإقناع.. هذه هي القيمة التي يعليها حيدر حيدر، إذ يأخذ على "نجيب محفوظ" هوّةً من البناء الأسلوبي الرشيق والتلقائي والمقنع –على حد تعبيره- في "أولاد حارتنا" تفصله عن أعماله السابقة (الثلاثية، اللص والكلاب، ميرامار، ثرثرة فوق النيل)، فهي؛ أي "أولاد حارتنا" مركبة ومصنوعة وخاضعة لنسق فكري –أيديولوجي بإيقاع بلاستيكي. و"في المحصلة أيّ عمل روائي هو مقنع أو غير مقنع"(28).‏

    مما تجدر ملاحظته أن يأخذ حيدر حيدر عام 1984 على "أولاد حارتنا" عدم إقناعها، كونها تفتقد تلقائيتها، فتغدو مركبة ومصنوعة في خضوعها لنسق فكري –أيديولوجي، ثم يصدر بعدها بثمانية أعوام (1992) روايته "مرايا النار"، مهملاً تماماً مسألة القدرة على الإقناع في إخضاعه لغة شخصياته إخضاعاً مطلقاً لتفرده الأسلوبي!‏

    قد تكون هي المسافة بين النظري والتطبيقي، في الأدب كما في الحياة. وقد تكون هي المسافة بين آلية النقد ودوافعه ومحرضاته، وآلية الإبداع ودوافعه ومحرضاته، لدى الشخص الواحد. ما يهم هنا، هو أن حيدر حيدر يسوّغ أداءه اللغوي هذا، تحت عنوان "المناخ الشعري أو قريب من الشعر في الأسلوب الروائي"، وذلك في إجابته عن سؤال مندوب مجلة "الهدف" الفلسطينية، الذي يلاحظ الخصوصية الشعرية للغته الروائية، ويسأله فيما إذا كان مع تطوير الرواية العربية إلى رواية شعرية، فيجيبه فيما يجيبه قائلاً:‏

    "أنا لست مع تطوير الرواية العربية إلى رواية شعرية أبداً. لكنني مع خلق مناخ شعري أو قريب من الشعر في الأسلوب الروائي. الأسلوب المكثف والموحي. التشكيلي والسيمفوني والملحمي. أسلوب مغاير لأسلوب رواية عصر النهضة الواقعي والفوتوغرافي البليد"(29).‏

    مثل هذا الفهم للمناخ الشعري في العمل الروائي، لا يمكن تجاوزه دون مساءلة تحمل قدراً من التفصيل؛ ذلك أنه يتصل مباشرة بمشكلتنا المطروحة؛ أي بمشروعية اللغة التي يستخدمها حيدر حيدر روائياً.‏

    نلاحظ أولاً أن عرضه للقضية يحمل قدراً من اللبس؛ إذ ما من أحد باستثنائه هو نفسه، يمكن أن يدرك ما المقصود بالأسلوب التشكيلي والسيمفوني والملحمي؛ ذلك أن لكل من هذه التعبيرات الفنية خصائص عديدة ومتنوعة. فأياً منها يقصد حيدر بقوله هذا؟.. أما أن يكون الأسلوب مكثفاً وموحياً، فهي مسألة ليست وقفاً على الشعر، كما هو معروف، بل هي من خصائص كل عمل أدبي ذي قيمة، بل كل عمل فني ذي قيمة عموماً، وذلك حين يسبر موضوعه بعمق، فيكتنه أخص خصائصه؛ أي ما هو جوهري، وأصيل، وصلب، ومستمر فيه، لا ماهو ثانوي وسطحي، وهش، وعرضي.‏

    مثل هذا الاكتناه المعمق للحياة، ممثلة في البشر والظواهر والعلاقات، في تخليقه أدبياً (روايةً أو شعراً، أو مسرحية، أو قصة قصيرة... الخ)، هو ما يحقق الكثافة في العمل الإبداعي، هذه الكثافة الموحية ضرورة؛ لأنها في عمقها وأصالتها وقوة تأثيرها، تتجاوز مستوى الدلالة الأولى، على أهميته القصوى، وبخاصة في العمل الروائي، إلى مستويات أخرى للدلالة يختزنها العمل الإبداعي فيثيرها، أو "يشعها" حوله، وفقاً للتعبير الأثير إلى نفس حيدر حيدر. إنها –في النهاية- طاقة التعميم والنفاذ الشديدة التي تفيض عن الامتلاء المعرفي- الجمالي لكل عمل إبداعي أصيل.‏

    أما فيما يتصل بـ "خلق مناخ شعري أو قريب من الشعر في الأسلوب الروائي" فما يلاحَظ أن "حيدر" لا يقدم مناخات شعرية متفقة مع خصائص الفن الروائي، بوصفه جنساً أدبياً، سردياً، مقروءاً، بل يقدم نمطاً من الكتابة الشعرية ذات الخصائص الشفهية بالدرجة الأولى، باعتمادها أولاً، على الرنين الخاص للمفردات، والتركيب المموسق للعبارات، إضافة إلى ما تقدم من خصائص أسلوبية لغوية تمت الإشارة إليها وتفصيلها، غير مرة.‏

    إن مسألة التأثيرات أو الاستلهامات المتبادلة بين الفنون، ليست مسألة مطلقة من كل قيد، بمعنى أنها تتحرك في فضاء حر، بل هي خاضعة –أولاً وأخيراً- لاعتبارات كل جنس فني أو أدبي وخصائصه؛ أي هي مشروطة بخصائص الجنس الذي يستقبلها. كما أن استقبال مثل هذه التأثيرات يُفترض أن يتم وفقاً لمعيارية دقيقة. وإلا، لوصلنا إلى هجنة عقيمة، ضاعت معها أهم الخصائص والميزات، التي تجعل من الرواية رواية، ومن الشعر شعراً، مهما تنامت درجة النزوع التقني فيهما.‏

    ثمة نقاط التقاء بين الفنون، وثمة نقاط افتراق، وثمة مساحات لاستقبال التأثيرات، وثمة مساحات منغلقة حكماً دون هذه التأثيرات، بوصفها مقومات ومميزات أساسية في كل نوعٍ أو جنس. هكذا يمكن القول: إن ما هو مطلوب من الشعر في العمل الروائي، استناداً إلى هذه المقومات والمميزات، ليس الجانب اللفظي الذي يتوافق مع شفهية نمط خاص هيمن طويلاً، ولا يزال –على نحو ما- في الصياغة الشعرية، بل هو "المناخ الشعري"، وفقاً لتعبير حيدر حيدر لا لأدائه، في أعماله الروائية.‏

    إن المناخ الشعري، الذي يتقبله العمل الروائي، بل ويتطلبه أحياناً كثيرة، بوصفه –أولاً- عملاً نثرياً سردياً مقروءاً، هو ذلك المناخ الذي تشيعه فيه تلك اللحظات السردية ذات الكثافة الإنسانية العالية، التي نجدها لدى أولئك الروائيين الكبار، عبر مشهد ما، أو حدث، أو شخصية، أو حوار، أو فكرة، تمتلك غنى دلالياً خاصاً يتجاوز العمل الروائي المقروء، بوصفه نتاجاً تخييلياً، إلى أبعاد نفسية، حياتية، خاصة بالمتلقي –القارئ- خالقة لديه تلك الصدمة الجمالية، بما يثيره في نفسه من توافقات مختلفة، بين ما يشعر أنه كان ممتلئاً به، دون أن يستطيع التعبير عنه، وما يجسده الروائي أمامه بأقصى درجات الدقة والصدق والحيوية.‏

    مثل هذه اللحظات السردية التي تشعُّ وتشيع حولها المناخات الشعرية، والتي تؤكد في كل لحظة تواجهنا فيها، أصالة العمل الروائي الذي نقرأ، ودرجة إبداعيته العالية، يمكن أن نتعرف عليها –على سبيل المثال لا الحصر- في تلك الحوارات الداخلية عميقة الغور، بكل ما تحمله من قلق واضطراب وتنازعات نفسية شتى، لدى بعض شخصيات "دوستويفسكي"، تلك الحوارات الداخلية التي تمضي بنا، لا إلى أعماق تلك الشخصيات فحسب، بل إلى أعماقنا أيضاً، بوصفنا بشراً تتنازعنا الخيارات، بكل ما تلقينا فيه من قلق واضطراب.‏

    أو أن نتعرف عليها في تلك العلاقات التعويضية بالغة العذوبة والشفافية، في شخصيات الروائي الياباني "ياسوناري كاواباتا" Kawabata (1899- 1972)، كتلك العلاقة بين الشيخ الستيني "أوغاثا شينغو"، وكنّته الجميلة النقية الشابة "كيكوكو" في رواية "ضجيج الجبل"(30). أو هي تلك العلاقة رباعية الأطراف في رواية "سرب طيور بيضاء" بين السيدة "أوتا" ووالد الشاب "كيكوجي"، ثم بين "كيكوجي" نفسه والسيدة، "أوتا" بعد وفاة والد "كيكوجي"، وأخيراً بين "كيكوجي" و "فوميكو" ابنة السيدة "أوتا" بعد انتحار الأم(31). هذه العلاقات التعويضية الإنسانية الرهيفة، التي تتوافق في العمل الأول مع سعينا الدائم للبحث عن ملاذ، في حياة مادية تحاصرنا، فتجعل من شيخوختنا وجوداً زائداً عن الحاجة. أو تلقي بعواطفنا المتأججة ومشاعرنا في الظل، في زواج غير متكافئ، يهمل أحد طرفيه (زوج الكنّة) الآخر إهمالاً تاماً. والتي تتوافق في العمل الثاني مع الحاجة النفسية الشديدة للامتلاء البديل، بعد فقدان شخص يحتل موقعاً لا يُعوّض في حياتنا، تتوجه معه العاطفة والغريزة نحو شخص تربطه بمن فقدناه نقاط اتفاق كثيرة، تحقق لنا ذلك العزاء الوحيد المتبقي، الذي نسعى كي نقنع أنفسنا عبره، أن خسارتنا ليست مطلقة.‏

    وهي تلك اللحظة التي يتذوق فيها "بروست" المنهك واليائس في روايته الشهيرة "البحث عن الزمن المفقود" رشفة من فنجان شايه ممتزجة بفتات حلوى "المادلين"، فتنتابه رعشة يحار في فهم سببها، تجعله يشعر بانتصاره على الشعور الذي يملؤه بالهشاشة والعرضية والفناء. وإذ يدرك بعد لحظات أن السبب يرجع إلى الاستعادة التي تمت عبر المذاق، للحظات مماثلة من طفولته البعيدة في "كومبريه"، حيث تعود أن يتناول صباح كل أحد قطعة الحلوى ذاتها، مغمسة بكوب الشاي أو الزيزفون لدى العمة "ليوني". آنذاك، يبدأ الماضي بالتفتح أمامه مشهداً بعد آخر، بكل سحره وفننته(32). إنها تلك اللحظة التي تمس فيها رعشة "بروست" أعماقنا، فتوقظ فيها رعشة مماثلة، إذ نستعيد سعي ذاكرتنا الدائم إلى الاستقواء بسحر الماضي على هموم الحاضر، ومتاعبه. ذلك السحر الذي تصنعه ذاكرتنا المتعبة بوصفه ردة فعل دفاعية غريزية ضد هذا الحاضر.‏

    وهي أيضاً، تلك اللحظة العلقمية الحارقة في ثلاثية نجيب محفوظ، التي يتلقى فيها "أحمد عبد الجواد" نبأ استشهاد "فهمي" أقرب أبنائه إلى نفسه، وأكثرهم سعياً إلى نيل رضاه، هذا الرضى الذي ضنّ عليه به قبل ساعات(33). اللحظة التي تلامس فينا ذلك الإحساس المركب بالفجيعة والندم معاً، حين نستعيد معها تلك الفرص المهدورة، التي لن تمنحنا إياها الحياة مرة أخرى، لتصحيح خطأ اقترفناه بحق شخصٍ عزيز علينا غيبه الموت.‏

    مثل هذه المناخات الشعرية، التي يمكن أن نسميها –تجاوزاً- "شعر الرواية"، والتي تذخر بها الحياة تحت قشرة سطحها الخادع غالباً، هي كالأحجار الكريمة تماماً، تتطلب من يجلوها ويكشف ثراءها وبريقها الآسرين، لا من يموهها بطبقات من اللغة الإنشائية التي تستبد بها وبمفردات العمل الروائي الأخرى، فتحرمها دقة دلالتها، وطاقتها التأثيرية العالية.‏

    اللغة في أنقى حالاتها، التي تتحد أقوى الاتحاد مع الفكرة؛ لغة نثرية ضرورةً، شديدة النفاذ والصفاء في الوقت نفسه، تلك التي تستجيب للحكم البلاغي الشائع: "السهل الممتنع"، ولشرط "هنري جيمس" الهام: "اللغة التي يستمتع البسيط بأقل ما فيها، والمدرب بأعظمه"(34). إنها اللغة التي تولد وتتكون عبر الفكرة ومعها، لا خارجها، ولا قبلها. وهي لغة ريبية ضرورة؛ لأنها لا تكف عن مساءلة نفسها عن علاقتها بالفكرة، وهي –للأسف- اللغة التي تمضي سيرورة لغة حيدر حيدر الروائية المتصاعدة وصولاً إلى طريق اللغة المسدود في "شموس الغجر" (1997) في الاتجاه المعاكس لها تماماً.‏

    وإنه لأمر لا يمكن قبوله بغير قدر كبير من التحفظ، أن يقرن حيدر حيدر في بدء إجابته عن سؤال مندوب "الهدف" بين أسلوبه الروائي، وأسلوب عدد من أعلام الرواية، الذين عرفت غالبيتهم بالتطوير التقني في الجنس الروائي (كامو، جويس، أستورياس، كاواباتا، كازنتزاكي، فيرجينيا، وولف، ماركيز، إيزابيل أليندي، ساباتو)(35). غافلاً عن الهوة العميقة التي تفصل أسلوبه عن أسلوبهم؛ ذلك أننا استثنينا المجازات الساخرة المرتبطة بـ "ماركيز"، واستلهامات: "إيزابيل ألّيندي" Allende لها، فإننا نستطيع ببساطة أن نقول: إن لغة هؤلاء جميعاً هي لغة النثر الصافي في أقصى درجات نقاوتها وطاقتها الدلالية. ذلك أن التطوير "التقني" Technic لا يعني، - بأية حال- الاحتفاء باللغة الإنشائية ومناخاتها، هذه التي تتناقض غالباً مع دقة الدلالة وقوة تأثيرها في العمل الروائي.‏

    هـ- الرؤية الشعرية والرؤية الروائية:‏

    يلاحظ الناقد السوري "محمد كامل الخطيب" أن كثيراً "من الكتاب يصبحون أو تصبح رؤيتهم الفكرية مع الأيام أسيرة معجماتهم اللفظية الخاصة، كحيدر حيدر وإدوار الخراط"(36). ويشير في موقع آخر سابق إلى ما يسميه "الصفة الخطابية الإنشائية" للسرد الروائي لحيدر حيدر وآخرين، متسائلاً: "هل هناك رؤية فكرية –اجتماعية تنتج هذه اللغة الأدبية الروائية؟"(37). وإذ يكتفي بإثارة السؤال، فإننا نعود بالسؤال نفسه، إلى حقله الأول فنقول:‏

    هل هناك رؤية جمالية تنتج هذه اللغة الروائية؟ ونترك الإجابة لحيدر حيدر نفسه، إذ يقول في مقالة بعنوان: "الرواية العربية بين حقبتي النهضة والحداثة": "في مجال العمل الروائي ليس الرياضي أو الفيزيائي أو الفيلسوف هو الذي يعمل. إنه الفنان المسكون بالجنون والشياطين والعشق والعصاب والرغبات، والحس البدائي بولادة العالم..."(38)‏

    أليس بوسعنا، ونحن نختتم تناولنا لمشكلة اللغة الروائية لدى حيدر حيدر، أن نشير إلى ما في الشطر الثاني من هذا المفهوم من غياب كل نزعة للحيادية، أو الموضوعية، أو اللاشخصية، أو الصلابة الواقعية، على اختلاف التسميات، لكل ما أكده الجنس الروائي خلقاً إبداعياً، وأدباً نقدياً؟... وإلى إغراق مفهوم العمل الروائي لديه بذاتية صريحة تستبدل مفهوم الشعر بمفهوم الرواية؟.. ألا يكمن في هذه النقطة تحديداً، جوهر المشكلة؟...‏

    (1) انظر: المالح، نبيل: الفهد كذكرى، مجلة الحياة السينمائية، ع(2)، آذار 1979ـ‏

    ص.ص96، 97.‏

    (2)"-انظر: وارين، أوستن وويليك، رينيه، "نظرية الأدب"، ص.ص 281، 477.‏

    (3)"- كونراد، جيمس [,آخرون]" نظرية الرواية في الأدب الإنكليزي الحديث"، ص69.‏

    (4)"- المحاضرة المذكورة في كتاب "النقد، أسس النقد الحديث" لمارك شورد، وجوزفين مايلز، وجوردن ماكنـزي –ج(1) ص118.‏

    (5)انظر: هو، غراهام: "مقالة في النقد"، ص136.‏

    (6)"-مقالة "مان" بعنوان: فن الرواية في كتاب "الرؤيا الإبداعية" الذي أشرف على جمع مقالاته: هاسكل بلوك وهيرمان سالنجر. ص126.‏

    (7) انظر: باختين، ميخائيل: "الكلمة في الرواية"، ص13.‏

    (8) المرجع السابق، ص.ص 108-109.‏

    (9) انظر: حيدر حيدر "أوراق المنفى شهادات عن أحوال زماننا"، ص27.‏

    (10) لحيدر حيدر تعلق خاص بهذه الكلمة –على ما يبدو- وقد خصّ عنوان إحدى مجموعاته القصصية بها: "غسق الآلهة".‏

    (11) "أوراق العشب": يستخدم حيدر حيدر هذا التركيب غير مرة، وهو عنوان معروف لأحد دواوين الشاعر الأميركي الشهير "والت ويتمان".‏

    (12) انظر: واط، إيان: "نشوء الرواية"، ص34.‏

    (13) انظر: حيدر، حيدر: "وليمة لأعشاب البحر، نشيد الموت"، ص27.‏

    (14) "الفهد" في مجموعة "حكايا النورس المهاجر"، ص67.‏

    (15) انظر: حيدر حيدر: "مرايا النار، فصل الختام"، دمشق 1995، ص51.‏

    (16) نفسه، ص95.‏

    (17) "وليمة لأعشاب البحر"، ص227.‏

    (18) انظر مداخلته بعنوان: "الواقع والمتخيل في الرواية العربية" في كتاب "الرواية العربية واقع وآفاق"، ص204.‏

    (19) الملك ميداس في الحكاية الخرافية المعروفة، لشدة ولعه بالذهب يطلب أن يستحيل كل ما يلمسه ذهباً خالصاً، فتدفع ابنته المسكينة ثمن طمعه؛ إذ تستحيل بلمسة منه لها إلى ذهب.‏

    (20) انظر، حيدر، حيدر: "الفهد" في مجموعة" حكايا النورس المهاجر"، ص23.‏

    (21) انظر: سليمان، نبيل: "الرواية السورية"، ص45.‏

    (22) المكان نفسه.‏

    (23) انظر: "الزمن الموحش"، ص306.‏

    (24) "-جويس، جيمس: "صورة الفنان في شبابه"، ص.ص125-150.‏

    (25) "-المصدر السابق نفسه ، ص.ص 201-202.‏

    (26) انظر: "مرايا النار"، ص12.‏

    (27) نفسه، ص105.‏

    (28) انظر حيدر، حيدر: "أوراق المنفى، شهادات عن أحوال زماننا"، ص327.‏

    (29)"-أبو حامد، محمود: الروائي الكبير حيدر حيدر للهدف، مجلة الهدف، 20/9/1992، ع 1117 ص.ص، 35-36.‏

    (30) انظر: كاواباتا، ياسوناري: "ضجيج الجبل"، ص182، وما بعدها.‏

    (31) ": كاوباتا، ياسوناري: "سرب طيور بيضاء"، ص.ص34-36 و 67-68 و 84.‏

    (32) " –بروست، مارسيل: "البحث عن الزمن المفقود": "جانب منازل سوان" ص.‏

    ص87-90.‏

    (33) انظر: محفوظ، نجيب: "بين القصرين" ص.ص471-473 و 478-480.‏

    (34)"-ويميزات، وليام. ك وبروكس، كلينث: "النقد الأدبي" ج4 –النقد الحديث- ص171.‏

    (35)"-مجلة الهدف، المقابلة السابقة نفسها، ص36.‏

    (36) انظر: الخطيب، محمد كامل: "تكوين الرواية العربية، اللغة ورؤية العالم"، ص25.‏

    (37) "-:الخطيب، محمد كامل: انكسار الأحلام، سيرة روائية" ص.ص137-138.‏

    (38) "-: "أوراق المنفى" ص.ص62، 63.‏
Working...
X