Announcement

Collapse
No announcement yet.

في روايات برهان الخطيب السياسة والأخلاق

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • في روايات برهان الخطيب السياسة والأخلاق

    روايات الخطيب صور حية للتاريخ


    السياسة والأخلاق في روايات برهان الخطيب
    يوسف الصفار
    في الإلياذة والأوديسة والإنياذة نقرأ عن أبطال ساهموا في خلق وجدان أوربا القديم إلى الحديث بطريقة وأخرى، وفي ملحمتنا العراقية التي يكتبها الأديب الكبير برهان الخطيب منذ نصف قرن تقريبا ثمة أيضا أبطال وعبر ودروس، فماذا من أمر أولئك وماذا من أمر هؤلاء.. لماذا أرفع هذا الموضوع الآن؟ ذلك طبيعي، كعرب نحن في وقت ومنعطف نحتاج، كذلك العالم، للبحث في علاقة صارت مهمشة مهشمة حاليا أو تكاد، لموضوعين شديدي الارتباط، بعضهما ببعض، أو هكذا يجب، هما موضوعا الساعة، أي السياسة والأخلاق والجدل بينهما، وتأثير ذلك على حياتنا العامة في شكل أزمات وانقلابات وحروب.
    مكتبتنا العربية، مرجعيتنا في ذلك، فقيرة البحوث والدراسات من ذلك النوع مع الأسف، لتهوين الثقافة والنشر، ولا عجب من ذلك مع هوان الساسة والسياسة بارتشاء وارتماء وجهل وأخطاء، مجمل تأريخنا الحديث لم يحظ بما يستحق من تحليل واستخلاص حقائق وتوصيات بلسما لجروح نازلة فينا من وهن إلى وهن. في الآونة الأخيرة تناول روائيون جوانب من حياتنا السياسية والاجتماعية مسرحا لأحداث، بتحفيز من رواد في هذا المضمار كنجيب محفوظ، توفيق عواد، برهان الخطيب، الطاهر وطار، عبد السلام العجيلي، غسان كنفاني، حبيبي، وغيرهم.. منفذا أيضا إلى أهم مشكلات وإرهاصات المنطقة والعصر، أسوة كذلك بما أبدعه قبلهم كتاب انجليز وفرنسيون وروس وأمريكان كديكنز وستندال وتولستوي وشتاينبك.
    في مقدمة الروائيين الجادين من الأمس إلى اليوم نرى كاتبنا العربي الكبير برهان الخطيب مع آخر روايتين له "ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس" و"على تخوم الألفين"، ضمن سلسلته الطويلة الممتدة نصف قرن تقريبا، يحشد أهم المشكلات الفكرية والاجتماعية في منطقتنا وراء أبطال حقيقيين من أهالينا، وأرضية تحركوا عليها فسيحا رغم محدودية إمكانياتهم وبشجاعة مواجهين معوقات تكبحهم، لكنهم يرتفعون عليها بقوتهم الروحية وقيمهم.
    إن أبطال الملاحم الأسطورية مثل الملك بريام واخيل واوديسوس وأغسطس في الإلياذة والأوديسة والإنياذة فيهم من آلهة وخوارق ما يجعلهم مخلوقات فوق الواقع، لكن الحال غير ذلك بالواقعية الجديدة المشبعة بالحداثة في ملحمتنا العراقية المعاصرة التي يسطرها لنا الكاتب الكبير والروائي اليافع على طول السنين برهان الخطيب بدءا من روايته "شقة في شارع أبي نؤاس" 1972 إلى روايته "نجوم الظهر" 1986 فرواياته التالية ”بابل الفيحاء” 1991 "الجسور الزجاجية" 1975 "ليلة بغدادية" 1992 "سقوط إسبارطة” 1993 "الجنائن المغلقة" 2000 بجزأيها الراسخَيْن ثم ”ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس" 2009 وأخيرا "على تخوم الألفين" 2011 حيث البطل في جميع هذه الروايات واحد منا، وهو بطل لأنه يسعى إلى الخير لنفسه ولغيره غير راضخ لمصير محدود عابث محاولا تغييره، متجاوزا بذلك الخاص إلى العام في رصانة لها شروطها.
    سالم، مزعل، صلاح، حميد، شريفة، شمس، أميرة، وغيرهم.. كلهم سعوا لحياة أفضل من غير تحول إلى أشرار، من غير التخلي عن قيمهم، التي هي أعلى من نفاق اجتماعي يسود حولهم، من هنا قوتهم وحضورهم المطلوب على مسرح الأحداث وقبول القارئ لهم، رغم حساسية قد تنشأ عنده من تداخل للقيم عندهم، ولأن ذلك خيارهم ومن غير تشويه، طالما قام على صدق ومنطق وإحساس بمسؤولية، يغدو التغير في تفكيرهم ومصائرهم حتميا وضرورة، بلحظة تاريخية وعاطفية منيرة داخليا، معتمة خارجيا، في مواجهة آخرين ينزعون إلى قسر وقسوة، بيك ذياب، رفيق عدنان، شيخ حافظ، وغيرهم، يريدون بل يقومون باغتصاب الواقع، بتسخير غيرهم لمصلحتهم وتوتير الأوضاع ودفعها نحو تصادم، لكن وكما في الطبيعة نرى في المجتمع أيضا قوى تحاول، من خلال ضبط السلوك في فترات الجموح، كما في شخصية خالد، إياد، يعرب، رجاء، إعادة التوازن لأنفسهم كما لما حولهم، أي الحفاظ على النوع والأرضية الاجتماعية تحته، معنوية إنسانية ثقافية من قيَم، ومادية ملموسة، متمثلة بالبيت وإطاره أو سوره الطبيعي، الوطن، ذلك كقاعدة ثابتة وأساس للمصير، متشبثين كالجذور أوقات العواصف والاضطرابات بها بقوة.
    إن رصانة تلك الروايات من مكانة لها في تطور الفكر، ومن تكوين مؤلفها النفسي والأدبي، الناضج مبكرا في ظاهرة لها علاقة بنضج الحياة السياسية في العراق عموما ـ قبل تخريبها بفسخ الجبهة الوطنية بعد ثورة 1958 ـ إلى نضج الحياة الثقافية في البيت والمدن التي تنقل بينها الخطيب لاحقا، وقد رافقته بحكم المصادفة حينا والدراسة حينا آخر في ثلاث منها أساسية له، أثناء دراستنا الجامعية في بغداد، وكبناة مهندسين مشاركين للسد العالي في أسوان ومتدربين بمعامل إسكندرية مصر، فموسكو التي واصل هو بمعهدها الأدبي طريقه الإبداعي، وأنا الهندسي.
    في الروايات التي أشرت إليها توا نجد تأريخا حقيقيا، صادقا، عايشناه ونعرفه نحن المقتربين إلى السبعين من عمرنا، ونقلا موضوعيا لسِفر شعب عريق، عانى ويعاني من التقلبات المتكررة لأهواء حملة الأيديولوجيات ومرتزقة السياسة ومتآمري كواليسها، أهواء تبتعد مرة أو تقترب حتى التطابق مع أهواء أصحاب قرار في دوائر عليا، وطامعين طامحين لهم نزعات سايكوبائية محنطة، عن إرادات تخفي تحت ظواهرها الواضحة تفسيرات مبطنة بستار الحرية والعولمة والأممية والدين، نحو الانخراط في خدمة الشركات الاحتكارية ذات المنافع العالمية المتشعبة والأثر السلبي بتلويث بيئة كوكبنا الجميل وقولبة البشر في أنماط فاقدة إنسانيتها، الذي قد يصبح مع التعنت والقيود يشبه كوكب قرود، صورته هوليوود في أحد أفلامها المشهورة.
    إلى أصدقائي وزملائي..
    في ملحمة برهان الخطيب، تحديدا قلبها أي سداسيته.. "بابل الفيحاء، الجسور الزجاجية، ليلة بغدادية، سقوط اسبرطه، الجنائن المغلقة، على تخوم الألفين" هكذا هو ترتيبها الزمني الصحيح للقراءة، ويحسن إغفال سنوات نشرها فمؤلفها قدم وأخر بالكتابة والنشر حسب الإلهام والظروف، نجد الحقول والفصول تتسع لبطله، وهو الإنسان العراقي في انتصاراته وانكساراته، تطرفه وتخاذله، تهوره وحكمته.. توضح ما عجز آخرون عن تسطيره بسبب بسيط، هو عدم إمكانيتهم من إن يكونوا موضوعيين وحياديين، رغم إن الكاتب وعلى قدر معرفتي به ليس خارج المعمعة، هو يتماوج وسطها سابحا مع التيار أو ضده حسب بوصلة صنعها بنفسه، لا حسب حرارة التيار واتجاهه. ولموضوعيته وتفاعله العقلاني مع الأمواج والأحداث تجد أبطاله ينزعون أيضا إلى التعبير عن ذاتهم أو تمثيلها برؤى واضحة، لا مجال للزيغ فيها..
    نتساءل من أين جاءت لبرهان تلك المقدرة على التحليل والاستنباط والرؤية الواضحة للأحداث مبكرا.. والرد انطلاقا من معرفته عن قرب أيضا انه بحكم تربيته ودراساته للهندسة والرياضيات والفلسفة، والتي تعني وقتها تفوقا واضحا على أقرانه، ثم لغات أجنبية إضافة للغة الأم، كل ذلك قد جعله يعالج نصوصه بتحسب دقيق راعيا لها إلى آفاق فسيحة متشعبة في مراعي الخيال.
    وإن اللذة التي يبعثها برهان في قارئه ومعارفه مستمدة من قوة امتناعه الشخصي، وإخلاصه لمحيطه، ووفائه لأخلاقه العالية.
    أول سنة دخولنا كلية الهندسة كان هنالك اتحادان للطلبة، احدهما يمثله الشيوعيون والآخر يمثله البعثيون، وقد جرت العادة آنذاك أن تكون هناك حفلتان لاستقبال الطلبة الجدد، واحدة للشيوعيين وأصدقائهم والأخرى للبعثيين وذوي الميول القومية... وكانت العادة أن يجري الاحتفال في نادي الكلية، يتسع بهوه لأكثر من احتفال، وكان ممثل الشيوعيين يلقي كلمته على مسامع الطلبة الجدد، بينما أنصت لممثل البعثيين في الجانب الأخر من البهو جمهرة من أنصاره... ممثل الشيوعيين أصبح فيما بعد برجوازيا كبيرا من أصحاب المشاريع افتخر بأنه أخذ منهم كيف يتحدث ويصل إلى درجة عالية من الغنى المادي، بينما تبوأ ممثل البعثيين مناصب سيادية في عهد البعث الثاني، ليكون ممثل العراق الدائم في الأمم المتحدة، وتوفي قبل الاحتلال بمرض السرطان متنبئا بما سيحدث للعراق لاحقا... نعود لبرهان طالبا هناك وبداياتنا ونقول حينما اتخذت الخطب آنذاك طابعها الحماسي والانفعالي لتأجيج مشاعر الطلبة لم تتحمل الأطراف المتنازعة فكريا الفعل ورد الفعل، أخذت الجهتان تتضارب بالكراسي والقناني الزجاجية الفارغة، انقلب الحفل إلى ما يشبه المعركة، فآثرت الخروج من هذه المعمعة بأسرع وقت والذهاب إلى بيتي، في نفس الحي الذي سكنه برهان حين ذاك، حي البياع، وما حدث لاحقا إننا التقينا دون موعد مسبق في محطة الحافلات العمومية، برهان سبقني بالانسحاب من حفلة العنف تلك بعد يأس من إصلاح الحال. كان ذلك أول لقاء لي معه، ثم ربطتنا أواصر الرؤية الواحدة والرغبة في الكتابة وتذوق الفن واندرجنا منذ ذاك الحين في مساجلات فلسفية وأدبية، تقترب بنا آراؤنا حينا وتبتعد حينا أخر، لكن بالنتيجة لا نختلف أو نفترق لرؤية عقلانية للأمور رغم عدم تطابقها كليا.
    الغريب تكررت تلك الحادثة بصورة أخرى عند التخرج أيضا صيف 1967 إثر هزيمة حزيران، عدة مظاهرات تهيأت في ساحة الكلية لاجتياز الشارع المقابل إلى وزارة الدفاع القريبة، برهان وصديقه من الطرف الآخر إياد حاولا توحيد المتظاهرين.. دون طائل، تعب برهان منهم وانسحب مع صديقه إلى الرصيف ومرت المظاهرة الجرارة أمامهما، حتى ذلك اليوم كان برهان قد نشر مجموعة قصص "خطوات إلى الأفق البعيد" ثم رواية "ضباب في الظهيرة" وفي ذلك اليوم قرر: بالكتاب نغير الواقع جذريا، بالهتافات نتألب بعضنا على البعض الآخر، عليه الانحياز كليا إلى الكتابة، هكذا بالضبط وعد برهان صديقه السياسي العريق فيصل الربيعي في ليلة مقمرة عند قناة الجيش، قرب بيت الخطيب المقام حديثا بمدخل حي جميلة، وكذلك التزم. ومن إيفادنا إلى مصر قبيل ذلك نشر بعض قصصه مثل "النسر الأبيض" ثم روايته "ذلك الصيف في اسكندرية" التي سمعت عنها كثيرا ولم أقرأها حتى الآن في كتاب، لعدم وصولي إليها أو وصولها إليّ، ولها إهداء قيل منه على أول صفحة من الرواية نصه: إلى أصدقائي وزملائي... يوسف، أياد، سعدون... وبقية "الرجالة" الذين كانوا هناك.. في ذلك الصيف الماتع في اسكندرية....
    وتتالت بعد ذلك رواياته..
    رواياته صور حية للتاريخ
    لقد ربطتنا أواصر فكرية وإنسانية ساهمت في تكوين صداقة دائمة امتدت إلى يومنا هذا رغم السنين الطويلة التي افترقنا فيها بحكم الضرورة للأوضاع السياسية التي اضطرته للهجرة إلى الخارج للكتابة والدراسة ثم العمل بدار نشر... وما ذكرني بتلك الحادثتين صلتهما بما يحدث اليوم في العراق من مشاكل متكررة لفقدان تفاهم بين أطراف وطنية، أيضا بوضع عام للمنطقة يتغير في الظاهر ويبقى في الجوهر، لعدم تغير أنماط تفكير وتدبير فيها، لتسلط على الداخل في الخارج، كما في نفوس الأفراد كما حولهم، لها مَشاهد ثرة باختصار في رواياته، وأرضية لا بد منها مؤثرة على ما يدور ضمنا كلام أبطاله.
    قراءتي لروايتيْ برهان الخطيب "الجسور الزجاجية" و "ليلة بغدادية" عن قضية تحرر المرأة وآفاقها وذيولها على خلفية الجمهورية الأولى، اللتين أقدم لهما دراسة نقدية لاحقة، فيهما تلميح وتصريح بشكل وأخر إلى وسط جماهيري عايشناه ونعايشه بأحداث تلكم الأزمان إلى يومنا، منها الانقلاب على الحكم الملكي ثم الانقلاب على الحكم الجمهوري الأول... أحداث ووسط ظلا عموما متشابهين على مر التاريخ السياسي للعراق الحديث الذي سطره لنا برهان الخطيب صورا حية عابرة للأفاق بموضوعيته المعروفة التي تؤلمنا حينا، وتفرحنا حينا آخر، بما تتركه من أثر على البصيرة، كشعاع شمس باهر.
    إن الأفعال التي مارستها وتمارسها جماهير مسيسة خطأ تدفعنا إلى التساؤل عما وراء ذلك أو عن الأسباب الموجبة لكل أنواع إيذاء النفس والآخرين، يقرعها برهان من فصل إلى فصل في رواياته كناقوس ينذر من بعيد بخطر قادم، بينما تساعدنا التلميحات المركزة والمبثوثة في صور بين السطور على التفكير في حل لذلك اللغز، في إجراء التغيير بأساليب عقلانية، في علاقة المتنور الموسوعي بالسياسي المحنط، وفق رؤية معينة وطنية تنسحب عليها علاقة الثقافة بالسياسة، بكل شيء في حياتنا.
    إن برهان الخطيب ينبهنا في كل رواياته إلى أن الزاوية الفاحصة، خاصة عند التزام بإنسانيتنا قاعدة للحركة، تعطينا علاجا لعلل كثيرة حدثت وتحدث الآن في مجتمع غير متوازن، ذلك لكون المثقفين فيه والسياسيين غير متناغمين وينزعون دائما إلى الرؤية الأحادية الجانب إلى درجة إن برهان يبين على لسان احد أبطاله بأنك قد تجد الخير والشر في بوتقة واحدة، وإن الموقف الإنساني يتضح عنده شيئا فشيئا لا يعني حيادا بين الشر والخير، الفصل بينهما واضح عنده: لا تسبب أذى لغيرك. أي الوقوف دائما مع الخير الذي هو أعلى من الجميع، حتى لو أدى ذلك إلى وقوف في وجه الجميع.
    إن الروائي الجيد هو الذي يدفعنا إلى التفكير في مصائرنا والآخرين وهو الذي يجعلنا نراجع الفلسفة والتاريخ السياسي عموما لنخرج برؤية جديدة للأحداث، وهذا ما دفعنا إليه كاتب كبرهان الخطيب...
    إلغاء الفلسفة إلغاء العقل
    في التاريخ نجد المجتمع المتوازن ينمو حين يكون المثقفون والسياسيون منسجمين متناغمين بمعنى الاستجابة الفاعلة لحقيقة إنسانية صديقة فوقهم. في أثينا القديمة كان عصر ابركليس عصرا ذهبيا كما إن أغسطس في روما أعطى زخما قويا لاستمرارية الإمبراطورية الرومانية بكل زهو، كذلك في تاريخنا الإسلامي عند العصر العباسي الوسيط حيث ازدهرت الثقافة والعقلانية للدين وثمة بوادر لهما اليوم أيضا رغم خراب، والعكس حينما نجد المثقف لأسباب شتى يلهث وراء السياسي يحدث الاضطراب والتمزق.
    الثقافة رؤية متكاملة تتسم بشمولية متحركة فاعلة وسط المجتمع والعالم بعيدا عن أهواء ونزوات، بينما السياسة وهي علم الممكن نجدها في مجملها، خاصة في مجتمعات متخلفة، ولو بدت متحضرة، ديماغوغية النزعة، ميكافيلية الرؤية، في معظم أزمانها، هناك أمثلة كثيرة في تاريخنا المعاصر لدول شمخت وسط حماس الجماهير ثم خبت وانتكست، لأنها فقدت التناغم الذي نوهنا عنه. فلو أخذنا "لينين" كمثال للقائد المحنك والذي كان سياسيا بامتياز حين أراد أن يبرهن عن صدق المادية الجدلية بعد ظهور نظريات جديدة في الفيزياء نراه اخذ يدرس الرياضيات والفيزياء النووية فتحولت دراسة المجتمع والإنسان من هذا المنظور إلى ما يشبه مركبات عضوية يستلزم إجراء تجارب مختبرية عليها لمعرفة اتجاهاتها وتوضيح معالمها، كذلك "ماركس" الذي مارس نفس الدور حين تجاوز الفلسفة وتعامل مع المجتمع على أسس طبقية ومادية بحتة وقبلهم فعلها الغزالي حين عزل الدين عن الفلسفة للمحافظة على الدين فحصر الذات الإلهية في زاوية مغلقة، كذلك يفعل أديب اليوم المدرك عالمه جيدا.
    شيء واحد ينبهنا إليه برهان الخطيب في جميع مدلولات رواياته وكأنه يحذرنا بأننا حين نلغي الفلسفة نلغي العقل، لم أجد كاتبا تناول مساعي فلسفية معقدة وبحوار مبسط سلس كما وجدته في كتاباته.
    إن أكثر الحركات الدينية المتنورة مسيحية كانت أو إسلامية هي تلك التي اقتربت إلى الفلسفة فكما نجد اليهودية تقوقعت بفعل عزلتها نجد الإسلام والمسيحية انتشرتا بفعل انفتاحهما.
    في هذا الخضم الهائل من التفاسير، الذي يحتاج إلى أكثر من مقالة أو كتاب، نجد برهان ينوه لنا في صفحات رواياته الملحمية، التي تعتبر جزء من ملحمة تاريخية متعاقبة للمجتمع السياسي المعاصر في العراق، إلى إن الدراسات المستفيضة البعيدة عن التطرف والانحياز، وهو ما ندعوه بالموضوعية، ما هي إلاّ الأسلوب الناجع الذي ينبغي للمثقف الموسوعي اعتماده في معالجته الأزمات وتجاوزها.
    فكم سيحتاج الكاتب الموسوعي من الوقت والجهد لخلق هكذا نماذج، حتى نتمكن من وضع لبنات أولية لمجتمع متوازن متراص... برهان يعلمنا، أو هذا ما نستنبطه من كتاباته، إن الاهتمام بالمجتمع له الأولوية على السياسة، لأن السياسة الصالحة هي نتاج لمتطلبات الواقع الاجتماعي، لا لافتراسه. وأضيف لتكون سياسات صالحة يجب أن تكون معاهد لها، تعد سياسيين صالحين بدل سياسيي الصدفة.
    احتكار المعلومة انتهى
    في إحدى زياراتي للاتحاد السوفيتي السابق كنت أسير في احد شوارع "روستوف" حين وقع نظري على أطفال صغار كالزهور البيضاء موشحين بأربطة حمراء تسير معهم كوكبة من أهاليهم مودعين إياهم إلى القطار، بغية إدخالهم لأحد معسكرات الإعداد والتأهيل الصيفية... كانت الطبول تدق والأمهات والإباء فرحين مستبشرين.
    ذهلت حين ذاك واندهشت بتلك التجربة الفذة، وعند عودتي وسعادة غامرة تملأ صدري بمستقبل جميل اتمناه لبلدي تعثرت وانا في الطريق من المحطة إلى الفندق بشاب مخمور مرمي في الشارع، بين الأوساخ والقاذورات، أدهشني المنظر وتساءلت كيف تسنى لتلك التربية التي شاهدتها قبل قليل إن تعطي هكذا نتاج من البشر، تولد هكذا ممارسة؟ حينها أدركت أن السياسة مهما وصلت إلى مدارك متطورة لبناء الإنسان أو المجتمع على العموم تصطدم أيضا بشيء اسمه التخلف، يولّد الأنانية والطموح غير المشروع، هكذا الجمود العقائدي، هكذا الجمود الأخلاقي، أكان في الشرق أم الغرب، يؤدي إلى تمزق المجتمع وانهياره ومنه ما حدث بعد عقود من السنين.
    عندما تقرأ لبرهان الخطيب تجد أحكاما رصينة بفعل إحساس سليم وتحليل نابع عن تجربة مريرة، عن مجتمع مقهور فقير كمجتمعنا فيه أفكار مستقبلية ومتطرفة تدعو إلى عدالة اجتماعية أيضا لكن عن انزواء غالبا يؤلب الباقين فتفشل، ونجد ذلك عند اشتراكيين عموما وشيوعيين بوجه خاص، بينما تجد البعثيين سابقا التزموا بالقومية كنظرة أحادية الجانب، تراوح أيضا في حلم بقيام وطن عربي كبير قادر مقتدر، وفي الوقت الذي أنكرت الشيوعية ما عداها من أفكار حجمت نفسها في حدود، بينما غالت القومية بعصبية عرقية درجة أنكرت عند احتدادها حقوق أقلية، اصطدمت الأيديولوجيتان بعد أن ساهمتا بتغيير الحكم الملكي الدستوري إلى حكم جمهوري ثوري منافعي، بدأ عراك، والنتيجة لم يجد المثقف غير المرتفع فوق هزائم رؤية مؤثرة واضحة، متأثرا بواقع غير مستقل غير قادر للقيام بفعل التغير، والرغبات والإرادات تجاوزت العقل إلى الأنانية.
    في وضع احتكار المعلومة اخذ السياسي زمام المبادرة، قاد خلفه مثقفين أصحاب مصالح آنية إلى متاهات مظلمة وحركات مضطربة، لا قرار لها ولا قاع تستند عليه.. هنا برهان لا يقول لنا كثيرا عن ما هو الحق والباطل، ما هي الحقيقة، لكنه يدفعنا دفعا قاسيا ومؤلما أحيانا لشحذ هممنا، لإيقاظ عقولنا، ولسان حاله يقول: انتبهوا أيها السيدات والسادة، إمامكم هاوية لا تذهبوا إليها..
    في الوقت الذي نجد الأفكار المسبقة تعتمد الميتافيزيقيا مطمئنة للإنسان ونزعاته المشتة، بإيمان من القلب، من وراء حدود العقل، يحذرنا هو على لسان احد أبطاله بأن لا نحول الدين إلى أيديولوجية، لأن الدين أيضا سيعاني في ذلك الحال كما السياسة من هرم واسع وتشوه.
    أصحاب المصالح وجمهرة المنتفعين والانتهازيين والغوغائيين نجد بعضهم في روايات برهان الخطيب خصوصا بعد التغيير الذي حدث في الجمهورية الأولى، إنهم مع أي مد سياسي، يسحبون معهم الجماهير محركين عواطفها في أكثر الأحيان نحو مصالح ضيقة، أما القادة السياسيون ذو الواقعية الواضحة والقيم تجدهم في ذهول مع انحسار فعاليتهم، لا يمكنهم مسك لجام الجموح الطاغي، يضطر معظمهم في النهاية إلى اللهاث وراء انفعالات وشعارات من حركة الديماغوغية، يطفو على السطح قادة جدد، محدودو الثقافة، ينقادون ويقودون لأهداف غير متوافقة وتطلعات الناس، غير مضمونة الاتجاه، أي ما يتسبب في نكبات وانتكاسات في عالمنا العربي المضطرب قديما وإلى تاريخه الراهن، لكن.. وفي حومتها ودوامتها تمكن أيضا كاتبنا برهان الخطيب من وضع عمله الإبداعي الكبير، سداسية الخطيب أسميتها، مرجعا لهذا اليوم وفي المستقبل لطالبي ثقافة ومعرفة بمتعة جمالية، استجمع وركّز خبرات ونسقها، عسى أن لا تمر ولا تعود تلك النكبات والنكسات في منطقتنا، ذلك ممكن كبحه لو قرأنا الماضي حسنا.
    البطل الأسطوري في ملحمة برهان الخطيب هو "خالد" فهو الفعل والفاعل في ضمير المتكلم وهذه ليست صيغة نحوية بقدر كونها استعارة لواقع هذه الشخصية، التي تلازم عقل وضمير المؤلف دائما في مجمل رواياته واسم "خالد" ذاته يعطي دلالة الخلود، فهو بتكوينه الفكري وإيماءاته الحسية أزلي باق مع الزمن، هو ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، هو بالتالي أملنا الشبيه بالإنسان الأعلى لو أخذناه بصيغته المجازية لإنسان "نيتشه" مع الفارق الأدبي والأخلاقي بلحظة فكرية هنا عن هناك، فمن يكون هذا الخالد الذي لا تجده في رواية ليالي الأنس؟ انه سامي الجنوب والشرق، وحميد الشمال والغرب، مجتمعان على حبهم للخير والفضيلة ونكران الذات وتقديسهم للفن.
Working...
X