Announcement

Collapse
No announcement yet.

قصص للكاتبة الجزائرية ليلى رابح ( ظل امرأة في ظل رجل )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصص للكاتبة الجزائرية ليلى رابح ( ظل امرأة في ظل رجل )

    ليلى رابح عبّرت عن الواقع الذي تكابد آلامه بطريقة فنية غير مباشرة
    "ظل امرأة في ظل رجل".. قصص تقتحم عوالم مخفية من حياة المرأة العربية




    فراس حج محمد

    "ظل امرأة في ظل رجل".. يشكل هذا البناء اللغوي عنوانا لمجموعة قصصية للكاتبة الجزائرية ليلى رابح1، وتضم هذه المجموعة التي وصلتني عبر البريد الالكتروني اثنتي عشرة قصة قصيرة، يسيطر عليها الطابع التقليدي لهذا الفن، وتختار الكاتبة اسم مجموعتها من اسم إحدى القصص التي تضمها هذه المجموعة.


    وقبل الولوج إلى عالم ظلال ليلى رابح في هذه القصص، أسجل هنا أن معرفتي بهذه الأديبة الإنسانة والشاعرة المرهفة كان عبر مواقع الإنترنت التي شاركنا فيها، وكان بداية ذلك قراءتي نصوصها المنشورة في موقع "رابطة أدباء الشام"، وبعد ذلك كلما حللت في منتدى أدبي عبر الانترنت أجد الكاتبة ليلى رابح قد سبقتني في الحضور والمشاركة، وكانت قادرة على فرض إبداعاتها على الآخرين، لأنها صاحبة قلم يفيض عذوبة ورقة، حتى اختيرت في موقع "المعهد العربي للدراسات والنشر" كاتبةً صاحبة قلم متميز، وأفرد لها منتدى خاص، يسطر فيه قلمها أنفاسا تنبض وجدا.

    تعالج هذه القصص في أغلبها مواضيع متداخلة تمس حياة المرأة، فقد جاءت ثماني قصص تعالج مثل هذه الموضوعات؛ فقصة قارئة الأكواب تعالج موضوعا شعبيا اجتماعيا معروفا في بلاد العرب، وهو قراءة فنجان القهوة من قبل امرأة تدعى "البصّارة"، ولكننها لا تقرأ هذه المرة الفنجان، إنما تقرأ الأكواب والشِّوَك والأطباق كذلك؛ كل ذلك بحكم التطور، وتسجل الكاتبة أيضا موقفا من التكنولوجيا الحديثة؛ فاستخدمتها في التعبير الساخر عن الحب، وذلك في قصة الحب المقتضب، حيث تجعل هذه الوسائل عالم الحب عالماً ضائعاً افتراضياً غير موجود، وجدير بالذكر أن الكاتبة تنجح في هاتين القصتين قارئة الأكواب والحب المقتضب، بتوظيف عناصر التكنولوجيا الحديثة للتعبير عن سَمْت العصر وروحه؛ فقد تطورت قارئة الفنجان من قارئة أكواب إلى أن افتتح لها موقع انترنت، تجني منه الأرباح الكثيرة مستغلة أوهام الناس وجهلهم، بينما تعتمد قصةُ الحب المقتضب اعتمادا كليا عـلى " الشات" والبريد الالكتروني والرسائل القصيرة عبر الجوال، بالإضافة إلى ذلك، فقد زاوجت الكاتبة في هذه القصة بين العنصر التراثي وآخر ما أنتجته الحداثة العالمية بامتياز، فقد كانت شخوص القصة ذات أبعاد تراثية ولو من جهة الاسم فقط، فشخصيات القصة هي جميل ومحبوبته بثينة وقيس وليلى وعنترة وعبلة، ولم تستمر العلاقة بين كل واحد منهم مع محبوبته، وكأنها تريد أن تقول إن هذا الزمن ليس زمن الحب العذري، فكل شيء أصبح عابرا وافتراضيا حتى الحب. مهما احتال الشخص لذلك، فظروف العصر وإمكانياته أقوى من الجميع.

    أما في قصة زغاريد فتعرض الكاتبة قصة امرأة وقعت ضحية رجل مرموق قادر على أن يشترى بمنصبه من شاء من النساء، فتعرض الكاتبة هذا الموقف بتضاد، وذلك بتجاور صورتـين: صورة العروس التي يفتخر بها أهلها ويزفونها إلى عريسها تحت سمع الناس وبصرهم، وصورة هذه الفتاة "تيمة" التي تقع ضحية هذا الشخص المتنفذ، فيفقدها إحساسا جميلا بأن تكون عروسا كـتلك، وتحت وقع الزغاريد وقرع الباب من قبل هذا الرجل المرموق تصارعها تلك الرغبة المدفونة فـي أعماقها، فتقرر عدم فتح الباب له، وتقرر أن تفتح شباكها على المستقبل الواعد بعريس تحتفل به كبقية النساء.

    ويحوز موضوع العلاقة بين الأزواج على ثلاث قصص من هذه المجموعة، وذلك في قصة شمعة وأعواد ثقاب، وظل رجل في ظل امرأة وجرّاح منتصف الليل، فقد عرضت الكاتبة ألوانا لهذه العلاقة، ومن ذلك اختار الوقوف عند صورة الزوجة المثالية، التي تتجلى في قصة ظل رجل في ظل امرأة، التي تبدو فيها "منى" امرأة مكافحة، وحريصة على العلاقة الزوجية تدافع عنها بكل ما تستطيع، منطلقة من ذلك القول المشهور "وراء كل رجل عظيم امرأة"، فقد نجحت هذه الزوجة بنقل زوجها من حالته التي كان يحياها إلى رجل آخر تفتخر به زوجته.

    وتجد العاطفة الجياشة مكانها في قصة دمعة وابتسامة التي تمس موضوع العلاقة بين الأم وابنها الذي يغيب عنها، حتى ظنت أنه قد مات، فيأتي الخبر بأنه حي، فتصور الكاتبة تلك الأفكار والهواجس التي تدور في ذهن الأم قبل الموعد المضروب لرؤية ابنها.

    وتعالج الكاتبة في هذه القصص حياة المواطن العربي الذي يعيش حياة البؤس بامتياز، عندما تعرض قصة مواطن من الدرجة السابعة، الذي تحول إلى حالة نمطية تصلح لكل مواطن، ليكون هذا المواطن الذي يعاني من أزمات مالية ونفسية، فيقضي نحبه جراء هذه الحالة المزرية، إن الكاتبة هنا تسجل موقفا رافضا لهذا البؤس العربي القاتل.

    وتستخدم الكاتبة في قصة صياد العصافير الرمز الشفيف، فتجعل العصافير مقابلا للنساء، ومن خلال هذه الرموز الشفافة تستطيع الكاتبة توصيل فكرتها عن العلاقة بين الرجل والمرأة في موضوع الحب القائم على احترام كل القيم التي يجب أن تفرزها هذه العــاطفة النبيلة، ويقف على رأس هذه القيم "الإخلاص للمحبوبة"، وتتويجـه بالـزواج، والرضا بأسر الحب ضمن مؤسسة حتمية اجتماعية، هي مؤسسة الزواج!

    وبالأسلوب نفسه، تعبر الكاتبة عن فكرتها بصورة رمزية شفافة في قصة الطائر الجريح والهرة وقصة حمى الأرانب، فالطائر الذي وقع ضحية الهرة، تصبح الهرة نفسها ضحية في اليوم التالي، وكأنها تريد أن تقول: إن الصراع من أجل البقاء قد يكون مبررا أحيانا، مما دفع السارد بأن يتعاطف مع الهرة، وتقدم لها ما تستطيع تقديمه من طعام، عندما رأت القطةَ تتضور جوعا، بينما تحمل القصة الثانية حمى الأرانب نَفَسا سياسيا، ولكن بأسلوب لطيف، بحس التحريض، ولكن دون نبرة تهويشية عالية، ضد السلطة التي لا ترضى بأي حال عن الشعب، فتتلاعب بلقمة عيشهم لتضمن بقاءها، ولكن التمرد من خصائص الشعب في نهاية المطاف الذي سيتحول إلى أكل لحم الأسود!!

    وتختم الكاتبة المجموعة بقصة الشاعر والتابع والماجن، تلك القصة الرمزية التي تعيد الاعتبار للشاعر واستخدامه للغة، وأن هذا الشاعر صاحب رسالة وقضية، لا يمتهن الكلمة كالتابع والماجن، ولكنه يتعالى على الواقع، ويفجر ما فيه من إمكانيات الخير، ومن هنا تنطلق القصة من المبادئ الكلاسيكية للفن التي تنظر إلى الأدب، والشاعر هنا يمثل الأدب بشكل عام، بأنه يحرص على القيم الثابتة "الحق والخير والجمال"، موظفة الكاتبة في قصتها بشكل أو بآخر ما أثر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في قوله:" خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم"2، فالشعر"يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي ...2، لهذا نجد الشاعر في نهاية الرحلة التي تكلفهم بها اللغة الأم يفوز بالكلمة ويتزوجها.

    وتحاول الكاتبة في أغلب هذه القصص إيجاد معادل موضوعي فهو "الطريقة الوحيدة للتعبير عن الانفعال في صورة الفن"، فتتحول هذه القصص وما تثيره من مواقف وقضايا ومشاعر ذات صلة بالواقع، وتربط المتلقي بهذا الواقع وتجعله يحس به، وبالقدر الذي تنجح الكاتبة في تصوير الواقع للقارئ تكون قد نجحت في تقديم معادل موضوعي قي أدبها وقصصها، ويلاحظ هنا أن الكاتبة قد عبرت عن الواقع الذي تكابد آلامه بطريقة فنية غير مباشرة، وبذلك تكون قد نجحت في تقديم أدب مؤثر وناجح.

    لا تبدو أن قصص هذه المجموعة قصص شخصيات، بل هي قصص أفكار، تقدمها الكاتبة على لسان شخصياتها، ولذا لا نجد في هذه القصص ملامح شخصية مرسومة ببعديها النفسي الداخلي والخارجي، ولذلك فقد حملت هذه الشخصيات أفكار الكاتبة بشكل مباشر، وأكثر ما يتضح هذا في قصتي "الشاعر والماجن والتابع، ومواطن من الدرجة السابعة"، فالشخصيات هنا نمطية معبرة عن الفكرة، ولأن الشخصيات ذات أبعاد فكرية، فقد كان بعضها رمزيا – من عالم الحيوان والطير-، وذلك في قصص "الهرة والطائر الجريح، صياد العصافير" وربما هذا الذي قادها لتتدخل في رسم هذه الشخصيات، وتحدد مسارها بفكرة مسبقة؛ فلمْ تخلق هذه الشخصيات وتتركها تنمو مع الأحداث، ولذا لم تتمرد هذه الشخصيات على الكاتبة ولا في قصة واحدة.

    لقد جعل هذا الأمر شخصيات ليلى رابح شخصيات باهتة شبحية غير واضحة المعالم الإنسانية، ما عدا قصة "ظل رجل في ظل امرأة"، فقد كادت تمس البعد النفسي لدى الشخصيتين الرئيسيـتين
    "منى، وجواد"، وهنا تجد الكاتبة نفسها مضطرة إلى بسط زمن القصة ومد الأحداث إلى ما يزيد عن "50" سنة، مخالفة في ذلك أحد شروط القصة القصيرة من ناحية زمنية، وفي قصة "دمعة وبسمة" تنجح الكاتبة نوعا ما في رسم البعد النفسي لدى الأم التي انتظرت ابنها الوحيد العائد من رحلة موت مظنونة منذ زمن، فتُظهر اللغةُ عبر توترها الواضح التوجسَ النفسي والخيالات المعبرة التي دارت في عقل الأم ليلةَ اللقاء الموعود. وعلى الرغم من ذلك تبقى هذه القصص قصص أفكار ومواقف، وليست قصص شخصيات من دم وروح.

    ويحسن بالدارس هنا أن يقف عند صورة المرأة في هذه المجموعة القصصية؛ لما لها من حضور بارز في هذه القصص موضوعا وشخصية وقضية، على الرغم من أنها كبقية شخصيات القصص لم تكن ذات ملامح إنسانة كاملة، إلا إن لها ظلالا مغايرة ومتعددة، كون من كتب هذه القصص امرأة، وهي بالتالي تمثل المرأة من وجهة نظر المرأة نفسها، فالسارد في هذه القصص ليس رجلا ؛ لنقول : إنها امرأة بعيون رجل، بل يصح أن نقول: إنها امرأة بعيون أنثى أو أنثى بعيون امرأة، وهي تعبر عن أشكال الحياة الإنسانية التي تعرضت إليها أو التي يمكن أن تتعرض لها مستقبلا.

    وأول هذه الصور تدهمنا صورة المرأة الأنثى الساعية وراء الحب، بدوافع أنثوية مشاعرية، نابع من كونها امرأة لا تحيا بدون حب، وهنا تسجل الكاتبة وجهة نظر مغايرة لما استقر في وعي المجتمع العربي من أن المرأة لا تعبر عن هذا الحب، بل لا بد أن يظل مقموعا مخبوءا في الظل، فتأتي الكاتبة وتتناول هذا الموضوع بشفافية محببة وعدم تهتك معهود في الرواية والقصة العربية؛ لتقدم صورة نبيلة لمشاعر المرأة مع من تحب، ولا يخفى أن الكاتبة كانت تقف على مفترق من الكتابة حافظت من خلاله على النفَس المحافظ، وإن ابتعدت قليلا إلا أنها لم تحاول الإفلات من دائرة المسموح به في النظرة الاجتماعية للأنثى، والتي أصبحت غير مستغربة.

    وتبدو هذه الصورة واضحة في بدايات قصة "ظل رجل في ظل امرأة"، حيث تتخلى "منى" عن طبيعتها القديمة، وتؤدي طقوس الحب والغرام مع "جواد"؛ فتظهر "منى" أنثى ممتلئة حيوية ونشاطا، أما في قصة "زغاريد"، فتظهر المرأة الأنثى المستغلة جنسيا، فقد وقعت "تيمة" تحت سلطة أحد النواب المتسلطين، ولم يحترم فيها إنسانيتها وأوهمها بكلام الحداثة البراق، ولكنها لا تتابع الشوط إلى آخره، بل ترجع إلى طبيعتها كأنثى تبحث عن الاستقرار في أحضان زوج يُزَغْرَد لها وله كبقية الفتيات، ولا تبتعد هذه الصورة عن صورة المرأة في قصة "صياد العصافير" التي تبدو فيها المرأة المحبوبة التي تبحث عن مستقرها داخل مؤسسة الزواج.

    وبجانب هذه الصور، تظهر صورة المرأة المخلصة لعش الزوجية، وذلك ما آلت إليه شخصية "منى" في قصة "ظل رجل في ظل امرأة "، وصورة المرأة في قصة "جرّاح منتصف الليل"، التي راحت ضحية زوج لم يحترم إنسانية المرضى، وتحول إلى تاجر يتاجر بأرواح البشر؛ ليجمع المال الذي كان يراوده في حلم أن يكون تاجرا! إلى صورة الأم التي تترقب رؤية ابنها في قصة "دمعة وبسمة"، بعد غياب طويل عنها ظنته غياب الموت.


    والآن، وبعد الحديث عن موضوعات هذه القصص وشخصياتها، نصل إلى أهم ما يميز العمل الأدبي ألا وهو اللغة، فكيف عبرت اللغة عن الموضوع؟ وما هي تقنيات السرد في هذه المجموعة؟ وقبل ذلك لماذا كل هذا الألق للغة العمل الأدبي؟

    يُنْظر إلى لغة العمل الأدبي إلى أنها جزء حيوي وأصيل فيه، بل مميز من مميزاته، لأن اللغة هي قالب أفكار الكاتب، ومنها يتشكل أسلوبه، وربما يكون غاية في الصحة "أن الأسلوب هو الكاتب نفسه"، وعليه تكون لغة الكاتب هي جزء من عمله شكلا ومضمونا.

    لم تكن اللغة الأدبية يوما ما مجرد حامل فكرة، بل هي جماع العمل الأدبي، فلولا اللغة وتشكيلاتها ومصفوفاتها الخطية أو منظوماتها اللفظية ينعدم الإبداع الكتابي أو الشفوي، وحتى أنه ينعدم كل إبداع مهما كان شكله ولونه، إذا ما تجاوزنا في مفهوم اللغة الحروف الكتابية إلى الرموز العامة والمتعددة لإعطاء المعاني!!

    إذن، فاللغة هي كل العمل الأدبي، وعليها يجب أن يكون مدار النقد والتحليل، فبها يُقَدَّم المضمون، وبها تُرْسم الشخصيات، وبها يُتَواصل مع النفس ومع الآخرين، وينبغي للكاتب أن يبحث عن تلك اللغة التي تناسب عمله، وأن يتخير ألفاظه؛ لأنه يريد أن يحفر له مكانا بين ركام المبدعين أو المتطفلين على الإبداع، فكيف له ذلك إن لم يتقن اللغة ويعتني بها أشد العناية، ويضفي عليها من سحره وأسلوبه ما يجعله متميزا.

    وحتى لا نمخر بعيدا، ونجدف خارج مجوعتنا القصصية، وننسى كاتبتنا فيما كتبت، نتغيا هنا أن نرى لغة الكاتبة ليلى رابح هل كانت لغتها في هذه المجموعة "ظل رجل في ظل امرأة"، لغة أدبية رابطة لعقل المتلقي، لا سيما وأن الكاتبة قد نشرت هذه القصص أو معظمها في مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، ورواد هذه المواقع لا يُحْصَوْن عددا؟ فهل نجحت الكاتبة في استقطاب أعداد كبيرة من القراء والمعلقين على ما تكتب؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال لها، ونتفرغ للحديث عن اللغة في هذه القصص القصيرة، ونتعامل معها كرزمة من الورق، نتلقاها بوصفنا قرّاء تقليديين، فما هي إذن، ملامح لغة الكاتبة في هذه المجموعة؟

    لعل أول ما يلاحظه الدارس على اللغة في هذه المجموعة هو اعتماد الكاتبة على اللغة الواقعية المألوفة، أو ما يصح أن نطلق عليه المستوى الأول من التوظيف اللغوي، حيث خلت التراكيب اللغوية والبنى اللفظية من الانزياحات البلاغية، فهي لذلك لغة تقليدية بسيطة، تنحو منحى الخاطرة أحيانا في لغتها الشاعرية وأثيريتها الشفافة، وتحمل أحيانا أخرى بعضُ تلك اللغة التصويرية ملامحَ القصة الفكرية، ويكفي أن نضرب لذلك مثلا من قصة " قارئة الأكواب"، وذلك في هذا المقطع "لكن قارئة الفنجان لم تتعود ارتياد النوادي، ولم يكن أحب إليها من جلسة البيوت الدافئة تتسلّى وتسلّي غيرها وهي توقن كما توقن زبوناتها أن حبات القهوة المطحونة أضعف من أن تتحمل حرارة أسرار الماضي أو المستقبل، هي التي لم تقو على الصمود أمام حرارة الماء الساخن الذي أذيبت فيه". ففي هذا المقطع يظهر الربط المحكم بين عناصر اللغة، التي اختلطت فيها الحقيقة بالمجاز، وصارت تتصل بالواقع بأكثر من رباط.

    وتتحول اللغة أحيانا في القصة إلى لغة الخاطرة الخالصة، مما يحول المشهد القصصي إلى فن الخاطرة، وتغيب ملامح القصة الفنية، كما يظهر جليا في قصة "شمعة وأعواد ثقاب"، فقد تحولت القصة إلى مشهد مرسوم باللغة ليس له من القصة سوى سرده من قبل الكاتبة، وحديثها عن شخص يدعى عماد.

    وتتوتر اللغة في قصة "جرّاح في منتصف الليل"، فنحس بهذا التوتر ونحن نقرأ هذه القصة، فتظهر النبرة العالية والتوتر النفسي الذي تعيشه "سعدة"، وهي تخاطب نفسها "أتراه يعاشر امرأة أخرى؟ أيعقل أن يقدم على خيانتي بعد كل سنين الحب والعطاء هاته؟ كلاّ .. لا أصدق هذا فهو متيّم بي و لا يزال؟ هل يعمل حقا بالمستشفى كل ليلة؟ هل ينتقم مني لأني دفعته لامتهان الطب بعد ما كان يميل لممارسة التجارة والأعمال الحرة، فهي أسرع ربحا وأكثر راحة على حد قوله؟ كلا .. كلا .. هذا غير منطقي بتاتا، يتأخر كل هذا الوقت وطيلة هذه الأيام من أجل إغاظتي فقط؟ لم يفعل ذلك الآن؟ لمَ لم يفعل هذا في أصعب المراحل التي مررنا بها؟ كلا .. كلا لقد صرت أخلط الأمور ولم يعد فكري واضحا أبدا. لكن لم يكذب؟ لو لم يكذب ويدّعي أن بسّام مسافر لما كنت لأشك به ثمة لغز لا بد لي من حلّه وسأفعل".

    وتتلاعب الكاتبة في اللغة؛ فتمازح الجناس بصورة لبقة غير منفرة، اقرأ معي هذا المقطع من قصة "مواطن من الدرجة السابعة"، " في الحقيقة هو لم ينس لكنه يرجئ شراء حاجياته لحين قبض مرتبه الذي قبض عليه من قبل حتى أن يقبضه"، فهذا الترداد لكلمات ثلاث "قَبَض، قُبِض، يَقْبِضه" زاد العبارة ألقا، وساهم في شد انتباه القارئ، وغلب كل هذا أن هذه الجملة جاءت في موقعها كحجر الزاوية في البناء؛ فقد أتت في نهاية الفقرة لتعلق في الذهن، وتكون أكثر تأثيرا.

    وتنهل الكاتبة من مَعين التراث فتوظفه في حدود القصص والموضوع؛ فتتناص معه تناصا معبرا، محورة النص الأصلي ليتلاءم مع سياق القصة ومدلولات هذا التوظيف، فقد جاء أحيانا ساخرا، وذلك في قول السارد معبرا عن دهشة المواطن من الدرجة السابعة :" والأذن قد تذهل قبل العين أحيانا"، ولعل وجود كلمة "قد" الزائدة على النص الأصلي قد كسر شاعرية الجملة ووزنها وأدخلها في باب النثر القصصي، واستبدالها بكلمة " تعشق" كلمة " تذهل" لتدل على المشهد القصصي الذي تحياه القصة وتتحدث عنه، وبالتالي نجحت الكاتبة في التوظيف التراثي لبيت بشار بن برد المشهور:
    يا قَومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا3

    ويشير النص في مواطن أخرى من طرف خفي إلى موروث أدبي، لا يظهر واضحا في القصة، ولكنه لا شك أنه يشير إلى نص مخبوء في وعي الكاتبة، انظر إلى قولها مثلا في قصة "ظل امرأة في ظل رجل": "سكتت كل الكلمات في لحظة تعانقت فيها العيون ومن دون أن تدري نزعت منى نظارتها لتذوب نظراتها في عمق نظراته"، ومن يتتبع الشعر العربي يرى أن لغة العيون بين العاشقين صورة معروفة مطروقة، لا بد أن الكاتبة وهي شاعرة أيضا لديها علم بهذا فوظفته في مكانه الصحيح المعبر، وكأنها تنشد في سرها، وهي تكتب هذه الجملة بيت شوقي:
    وَتَعَطَّلَت لُغَةُ الكَلامِ وَخاطَبَت عَينَيَّ في لُغَةِ الهَوى عَيناكِ4

    ويلفت النظرَ بشكل واضح، اتكاء لغة الكاتبة على النص القرآني في بنائها لكثير من الجمل، وتوظف هذا التناص توظيفا يزيد العبارة سحرا، ومن ذلك قولها في قصة "صياد العصافير" لكنه كان يكابر و يخاف الوقوع في الأسر، فكّر وقّدر وفكّر وقـــــدّر" لا شك أن هذه الجمل تحيل القارئ على قوله تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، ويزداد ولع الكاتبة بالنص القرآني إلى حد أنه بدا يشكل ملمحا أسلوبيا في قصتها "الشاعر والماجن والتابع"، وتتصرف الكاتبة بالنص الأصلي، لتتمكن من تطويعه للسياق واللغة الأصلية؛ لتتوافقا معا ويذوب كل منهما في الآخر، فلا تكاد تشعر بهذا التناص.

    وأزعم أن كثرة اعتماد الكاتبة على النص القرآني في مثل هذه القصة، التي تبحث في اللغة والكلمة ومن يستحقهما لهو جدير بالملاحظة؛ إذ إن القرآن أعلى النصوص أدبيةً وإبداعاً، ويكفي أنه معجز! ولذا فإنه يحسن الاتكاء هنا على لغة القرآن؛ لأن الموضوع يناسبه تماما، ومن ذلك قولها: "حاول الماجن استمالتها فلم تعطه إلى أن جاء الشاعر واستظل بها وقبّلها وسألها عن حالها وهو يناديها يا عمتنا النخلة وراح ينشد فيها أشعارا رائعة وما أن هزّ جذعها إليه حتى تساقط عليه رطبها جنيّا، أكل الشاعر من ثمارها وأطعم غريميه وهما متعجبان من أمره وأمرها"، إنه تناص واضح مع قصة قرآنية ومشهد كامل في تلك القصة، قصة مريم عليها السلام، ومشهد هزها للنخلة، قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}، ثم ما لبثت أن عادت للنص القرآني، وذلك في قولها: "سار ثلاثتهم إلى أن آنس الماجن نارا على بعد يسير منهم، تهلّل وجهه فرحا، تقدم ثلاثتهم من النار فوجدوا مضارب قبيلة ووجدوا عند مشارفها حراسا أشدّاء. توّجس الماجن والتابع خيفة بينما أقدم الشاعر على مخاطبتهم وطلب عونهم"، فهي توظف هنا ذلك المشهد القصصي القرآني، الذي يظهر فيه سيدنا موسى عليه السلام عندما كان عائدا من مصر، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، كما يحيل المقطع السابق من القصة كذلك على قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى}.

    وتعود الكاتبة إلى النص القرآني مرة أخرى في القصة نفسها، وذلك عند حديثها عن السلطان المتجبر؛ فتصفه بأوصاف القرآن لفرعون، تقول عنه: "فسلطانها جائر، ظالم، لا يرحم فقيرا ولا ضعيفا ولا يحنو على مسكين، يستعبد رجالها ويستحي نساءهم ويقتل أبناءهم وفي ذلك بلاء شديد، "وهذا ما قاله القرآن عن استضعاف فرعون لقوم موسى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.

    وقبل أن أختم الحديث عن لغة الكاتبة، أسجل ملاحظة حول الأسلوب السردي في هذه المجموعة "ظل رجل في ظل امرأة"، فقد صيغت هذه القصصُ بأسلوب السرد التقليدي، التي تحتل فيه الكاتبة شخصياتها، وتكون عليمة بكل خفايا الشخصيات، وهذا ما يُعرف في فن القص بأسلوب السارد العليم، ولذا فقد جاءت هذه القصص مسرودة بضمير الغائب، وتراجع فيها الحوار كثيرا؛ وذلك لأن هذه القصص -كما سبق أن قلت في مستهل هذه القراءة- هي قصص أفكار.


    وأخيرا؛ فإن هذه القصص فيها الكثير من الإبداع، وتحمل صاحبتها الكثير من الموهبة، وتبدو في هذه المجموعة بذور أعمال قصصية ناجحة، قد تكون أكثر نضجا، لو عملت الكاتبة على تفجير ما في هذه القصص من إمكانيات موضوعية وإشكالية وأسلوبية لتتوصل إلى ما يشبه الدراما المسرحية، وأخص هنا قصتها " الشاعر والماجن والتابع"، التي لا تخلو بأي حال من الأحوال من التأثر بالتراث القصصي العربي، ولو عملت الكاتبة على تثوير ما في القصة من مناطق إبداع كامنة، ليظهر ذلك في عمل جديد مرسوم بعناية فسيكون أمرا محسوبا للكاتبة في أعمالها الأدبية القادمة، وهذا ليس غريبا فالتجربة الأولى لأي كاتب تحمل بذور حياته الأدبية، ومن خلالها يستطيع رسم مشروعه الأدبي الخاص وتطويره بما يلائم شخصيته ومواهبه ورسالته.

    1- ليلى رابح أو ليلى الجزائر حاصلة على ليسانس في الترجمة عربي – فرنسي – انجليزي من جامعة الجزائر 1994.. عملت بالتعليم أستاذة للغات العربية والفرنسية و الانجليزية، كما مارست الترجمة في عدة مجالات الإعلامية منها و القانونية و الاقتصادية و الدبلوماسية.. لها مساهمات عديدة في مجالات القصة القصيرة والشعر و الخاطرة عبر الجرائد الوطنية و بعض المجلات العربية و الجزائرية، بالإضافة لمشاركتها الفعالة في الأمسيات الشعرية و الندوات الأدبية.. تتمتع بحضور مميز و مكثف على شبكة الانترنت من خلال مساهماتها في عدة مواقع و منتديات افتراضية أدبية وثقافية.

    2- البيان والتبيين، الجاحظ .. جاء هذا القول أيضا على لسان عمر بن الخطاب في رسالة بعثها إلى أبي موسى الأشعري، زهر الآكام في الأمثال والحكم، نور الدين اليوسي. **** يُنظر كتاب " مجدي وهبه"، معجم مصطلحات الأدب.
    3- ديوان بشار بن برد.
    4- ديوان أحمد شوقي
Working...
X