Announcement

Collapse
No announcement yet.

في قصص ( الموتى لا يكذبون ) للكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • في قصص ( الموتى لا يكذبون ) للكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن

    تجربة لها خصوصيتها
    الآخر في "الموتى لا يكذبون"




    شوقي بدر يوسف*

    " أنا لا أولد إمرأة ولكني أتعلم أن أكون ذلك"، سيمون دي بوفوار في " الجنس الآخر "


    تثير الكتابة الأنثوية في تجلياتها الإبداعية العديد من التساؤلات الجوهرية، والجدل حول مدي وجود خصوصية ذاتية فيما تكتبه المرأة من إبداع، ومدي التوافق والتناغم الذي تحدثه هذه الخصوصية في نسيج النص الأدبي عما يرفده الرجل في كتاباته السردية على وجه الخصوص.

    ولعل معالم صورة الذات في الكتابة الأنثوية، وهواجسها الخاصة، تبرز، وتتجسد من خلال احتفائها الدائم، وبالدرجة الأولى بعالمها الخاص، وهو العالم المكوّن من خطوط متداخلة ومتقاطعة مع ذاتها تعبر عنها المرأة الكاتبة بصدق ووضوح، ثم يأتي بعد ذلك، التعبير عن صورة الآخر الذي يعتبر مرآة عاكسة لوعي تجربتها التي تكسر بواسطتها حاجز الصمت الخاص بها فيما تعبر عن رؤيتها تجاهه، وعن المسكوت عنه في تجربتها الإبداعية معه، وهي في ذلك إنما تعبر من خلال أحد طرفي العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة عن المشكلات والقضايا التي يثيرها إشكاليات تلك العلاقة.

    وترتبط صورة الرجل في قصص الكاتبات بنفس منظور الكاتبة ذاتها، وبنفس تجربتها الحياتية التي تعتبر نتاجا لموقفها الشخصي تجاه بنيتين متفاعلتين في الحياة، بنيتها الأنثوية ذاتها، والبنية المقابلة لها وهي تجربة الرجل المشارك معها في نفس محيط التفاعل الإنساني.

    ولعل جماليات القصة القصيرة على وجه التحديد والتي تكتبها المرأة تكمن في هذا التعبير الأنثوي صاحب الخصوصية، والمليء بسحب الذاتية، والمتمحور دائما حول البوح بما يخصها من مسكوت عنه ومضمر في ذاتها، وحول ما هو مصرح به ومعلن عنه ذكوريا. كما تكمن هذه الجماليات أيضا في إيجاد مناطق، وتقنيات غير مألوفة، يعتمد عليها النص القصصي الذي تكتبه المرأة وتتمظهر فيه الشخصيات والأشياء التي تكون عادة متلبسة بالأحداث والمواقف تبعا لعوامل التعرية الذاتية والنفسية المتصلة بحساسية الكاتبة وهواجسها التعبيرية، وكذلك الرؤية الفلسفية والفكرية والإنسانية المرتبطة بتجربة حياتية قد تكون مليئة عادة بالممارسات والعلاقات المتفاعلة بين الذات والآخر. ولعل التجريب الدائم والمستمر في بنية السرد في القصة القصيرة والمعتمدة أولا وأخيرا علي طبيعة اللغة المحكية، والموقف، وعمق التجربة، والملامح التعبيرية في تجربتها المنصهرة مع الواقع والذات، هو الذي يولّد ملامح هذه الجماليات في النص القصصي المعاصر خاصة فيما تكتبه المرأة من إبداع سردي يعبّر عن التجربة الأنثوية في تجلياتها الخاصة خاصة ما تكتبه المرأة في علاقاتها مع الآخر "الرجل". ولعل معظم كتابات المرأة الإبداعية في مجال السرد أيضا تتجسد من خلال رؤى مستمدة من طبيعة العلاقة الرابطة بينها وبين الرجل، ومدى التفاعل المستمد من صلب هذه العلاقة بما تحويه من حقائق وأوهام وتناقضات وحميمية وعواطف ومشاعر تحكم أطراف العلاقة بكثير من الوشائج الملتبسة والمسببة للعديد من الإشكاليات المألوفة والمتحلقة حول عدة قضايا إجتماعية وبيولوجية وإنسانية.

    والسؤال المثار دائما حول كتابات المرأة، هو إلى أي حد نجحت الكاتبة في وضع رؤية جديرة بالمناقشة والجدل حول تجربة كتابتها الإبداعية عن صورة الرجل. لا شك أن كتابات المرأة جميعها بدون استثناء تتمحور حول الآخر "الرجل". ولاشك أن هناك الكثير من الدراسات التي طرقت هذا الباب من خلال التنظير والنقد التطبيقي حول الإبداعي النسوي وعلاقته بصورة الرجل أو الآخر كما يحلو لنا أن نطلق عليه.

    ففي مجموعة "الموتى لا يكذبون" للكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن والصادرة عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة 2006 والتي جاءت امتدادا عضويا لمجموعتها القصصية الأولى "أوهام شرقية" التي صدرت عام 2003، في توجهها العام، وبنفس مضامين العلاقة الأزلية السائدة بين المرأة والرجل، نجد رؤية جديدة، أو بمعنى أدق تجربة لها طزاجتها، ولها خصوصيتها في التعبير عن صورة الرجل في الإبداع القصصي من خلال نفس العلاقة التي تصدت لها جميع الكاتبات دون استثناء، حيث تقف الكاتبة على نفس واقع التجربة الأنثوية النابعة من استنطاق وعي الذات الكاتبة عن ماهية رؤيتها للعالم بصفة عامة، وماهية رؤيتها لصورة الرجل بصفة خاصة، وهي تعبر في هذه المجموعة من الناحية الفنية عن واقع تجربة الفانتازيا والعبثية في انتقاء أحداث قصصها وحكاياتها المبتسرة، وكذلك من خلال البحث عن الخيالي في الواقعي في بنية النص ودلالته، كما أنها تحاول رصد بعض الأنماط البشرية لتجسد من خلالها استلاب الواقع في حياة المرأة من خلال الإجابة عن العديد من التساؤلات المطروحة حول طبيعة العلاقة بين طرفي العلاقة الرجل والمرأة، ومدى عبث كل منهما بالآخر، ومدى ما تطرحه هذه النصوص القصصية من توجهات وتجليات تسبر أغوار ذاكرة الجرح، جرح العلاقة مع الذات ومع الآخر، كما تقول هي، وكما تذّيل بذلك مجموعتها، فهي تقول في هذا التذييل إنها تحاول في مجموعتها القصصية الثانية – الموتي لا يكذبون - القبض على تفاصيل يومية صغيرة لمعيش ممهور بالغربة وقلق العالم، وتحّول هذه التفاصيل إلى قصص تلعب فيها الفانتازيا واللامعقول دورا أساسيا ينسج الحبكة الأساسية للحدث، بذاكرة تتشكل لحمتها من تجاور المرايا بين الخيال والواقع. ولعل قيمة الوعي بماهية صورة الرجل في كتابات المجموعة له دور كاشف من خلاله تتضح ملامح الرؤية إلى إدراك ذات الرجل من خلال الذات الكاتبة، ومن خلال الذات المسرود عنها تجليات الكتابة نفسها.

    وكما تعني المجموعة بتجربة المرأة/الكاتبة في حيز علاقتها بالرجل من زوايا متعددة. من خلال الإحساس باللامألوف على مستوى الواقع، والوعي بماهية صورة الرجل من منظور المرأة/الكاتبة والذي يعتبر في الحقيقة هو امتدادا للوعي بالذات، فإنها تصّور "الآخر" أيضا وهو امتداد لتصور "الأنا" تصويرا يجسد العلاقة المتبادلة والمتناقضة بينهما في نفس الوقت، وهذا يعتبر نتاج النظرة الملتبسة بين الطرفين والتي تنعكس عليهما بكل أبعادها النفسية والإقتصادية والإجتماعية بل والسياسية أيضا.
    فالكاتبة في هذه المجموعة، وأيضا في مجموعتها الأولى "أوهام شرقية" 2003، احتفت بالآخر واتكأت على دوره الفاعل في الحياة، ولم تقم بتهميش هذا الدور في قصص المجموعتين بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك فقد حاولت أن تبرز وتجسد علاقته بالمرأة من خلال مركزيته في الحياة ودوره الرجولي المهيمن على وضعية حصاره المضروب حولها والممنوح له من الشرائع والقوانين الوضعية، وهي في ذلك تحقق ما قالته سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الآخر" إن المرأة في نظر الرجل مجرد جنس.. إنها تعرف بالنسبة إلى الرجل، وليس بالنسبة إليها، إنها عرض وبلا أهمية في مقابل ما هو جوهري، فالرجل هو الذات وهو المطلق والمرأة هي الآخر".

    ففي قصة "الموتى لا يكذبون" الذي حملت عنوان المجموعة يبرز نشاط لغوي ذو إيقاع سريع يحمل معه شحنة ذاتية لفضاء التوتر والانفعال الذي ملء ساحة النص منذ بدايته، فهذا الخال الذي مات منذ عام شاهدته الراوية فجأة في الطريق، بل وتحدثت معه فعلا، فهل كان الأمر رؤية منامية أم هي حقيقة واقعة، وكيف تفسر هذا الحديث المباشر الذي ملء عليها كيانها كرمز لعلاقة أبوية قوامها الإعجاب والتماهي والإحتماء: "إذن هو خالي، ويذكرني جيدا ويذكر والدتي، لم أشأ القول "أنا أعرف أنك مت"، بل قلت له وأنا علي وشك البكاء:
    - أنا بخير يا خالي كيف أنت؟
    ولكنه أردفني بسؤال آخر فقال:
    - أنت تتعجلين في قرارتك، لماذا تفعلين ذلك لقد كنت متهورة، لم وافقت على هذه الخطوبة؟ هذا الرجل لم يكن لك، وأنت لست له" "ص6"
    -
    وتقف شخصية الراوية وهي مشدوهة من هول المفاجأة فخالها إذن لم يمت، وهذا الحديث هو أكثر من واقعي فعلا بالنسبة لها، ربما هو لم يسترسل في حديثه حول الرجل الآخر الذي يقصده، ولكنها حاولت البحث عن الإجابة من خلال بحثها عن خالها بكل الوسائل الممكنة، سألت أمها، والرجل الذي قيل أنه حضر غسله، وذهبت إلى مكتب الصحة المختص للحصول علي شهادة وفاة له، ولكن الذي حيرها أكثر أنها لم تستدل على مستند وفاته، لذا فإنها كانت مصممة على استكمال البحث عن الخال الذي قيل إنه مات بيولوجيا ومعنويا، وخوفا من اتهامها بالجنون حاولت لملمة أمورها حتى زارت شقته التي كان يقطن بها قبل وفاته وهناك وجدت علبة سجائره المعتاد أن يشتريها فارغة برمادها، وهنا أيقنت أن هناك رسالة خاصة بأن يتحول الأمر إلى نقيضه فكانت أنت خلعت دبلة الخطوبة التي سبق أن حذرها منها قبل ذلك. القصة رمزية وتبدو في مضمونها وكأنها تخترق ما وراء حجب الواقع، وإن كانت رؤية المرأة هنا تتحرك من خلال الإحساس بنذر خطر وشيك الوقوع، وما رؤية الخال في هذا الوقت بالذات إلا إحساس وحجة للنكوث عن أمر الزواج التي كانت مقبلة عليه. القصة بنهايتها المفتوحة تطرح العديد من التساؤلات حول علاقة المرأة بالرجل، "الخال" الذي رحل والذي لا زالت تنبؤاته تنتاب هواجس هذه المرأة، ربما لحميمية كانت تربطه بها، ربما لأنه حل محل والدها ربما لأشياء كثيرة تربط الفتاة برجل من الأسرة يتولي شأنها، و"الخطيب" الرجل الغائب الذي ظهرت سيرته فقط علي لسان الخال، بل علي خاطر هذه المرأة، وجسد لها هذه الرؤية حتي تنال منه بهذه الطريقة. وهكذا في جدلية الحضور والغياب تتفجر ملامح وجوانب خفية حول الشخصية، وحول علاقة ما تربط بين الرجل والمرأة من منظور غير واقعي ورمزي في نفس الوقت، علاقة الأنا بالآخر في تماهيها الخفية وفي علانيتها المشوبة بالاحتدام والتطرف في النظرة والرؤية وشفافية التجربة.

    وفي قصة "صور" تستخدم الكاتبة "الراوي" أو "الراوية" مستهلة خطابها القصصي إلي الآخر كما هو الحال في معظم قصص المجموعة حيث تتنامى في وعي الراوية ذكريات مضت ولكنها سرعان ما تقفز فجأة إلى المخيلة في واقع طفولي قديم حمل معه تنامي في الذكريات وتداعي للخواطر في مونولوج داخلي حقق أمامها الواقع الآني المرتبط بالرجل الأول في حياتها أيام الدراسة، من حيث هي طبيبة تعالج مرضاها الآن، وكانت ابنة أخته هي الصدفة التي جمعت بينهما في هذا الوقت بالذات، فقد كانت إحدى المريضات اللاتي عالجتهن. والقصة المقسمة إلي عشر مقاطع يتبلور النمو الحكائي للحدث من خلال هذه الرؤية التي عصفت بها على نحو فجائي حينما ظهر أمامها في المستشفى، ويبدأ استهلال النص والمقطع الأول منه بهذه الهواجس التي فجرت داخلها شحنة كانت متوارية وراء آكام النفس فإذا بها فجأة تعصف بكل شئ أمامها وتجعلها تستدعي شخوصا سبق أن سببوا لها ندوبا وجروحا علي مر الزمن: "الصور مرايا في ذاكرتي، تنعكس، تنقلب، تنكسر، وتتشظي رغباتي للكتابة عنها، فأحاول لملمة ما تبقي، تعصفني الحاجة للنماذج مع فنجان قهوة ساخن بعد أن بللني مطر أيلول عقب مغادرتي للمستشفى وسيري في ذاك الشارع الطويل الأملس كجسد أفعى. أمشي على أسفلت الطريق كأنني أسير على الخط الذي رسمته لي الأقدار، فيما الأبنية حولي أشباح تتعالي توهمني ببرد أيلول ودفء أوراقي""ص49". هذه الهواجس التي قفزت فجأة حين طالت منطقة مضمرة من الوعي حول الحب الأول أو حب المراهقة، وصورة الرجل الذي حرك لأول مرة مكامن الأنوثة في حياتها، لذا كانت هذه القصة، كما في قصص كثيرة تعبر عن مرآة عاكسة للماضي خاصة في مرحلة الدراسة والبواكير الأولي لمرحلة الأنوثة.

    وفي قصة "عيد ميلادي" يبدو هذا الصوت المتفرد في الحكي وهو صوت الرجل في هذه القصة وهو في حوار مع كاتبة حول حياته الخاصة، وتظهر شخصية صاحبة الحوار من خلال ظلال باهتة غير مرئية، وخيط رفيع للغاية يمثله حرارة الحوار الآحادي الموقف الذي يؤديه هذا الرجل بهذه الطريقة في سرد حكائي متواتر يبرز الوجه الحقيقي لهذا الطبيب الملياردير النرجسي المتصابي صاحب الزيجات الثلاث والذي يعاني مشاكل السن، وبداية أعراض الزهايمر، وهو يسرد في عيد ميلاده جزءا من سيرة حياته، مبينا طبيعة ارتباطه بزوجاته الثلاث "أمينة" زميلته في الدراسة، أولي زوجاته التي ساعدته في الحصول على أول قرض بدأ به حياته العملية في بناء مستشفي استثماري، و" ساندي " الجراحة الأفريقية الماهرة التي تشبه عارضة الأزياء السمراء "نعومي كامبل" والذي استفاد من خبرتها في الكثير من مشاريعه، وزوجته الأخيرة التي يعرف جيدا أنها تستغله حتي تستطيع بعد ذلك أن تتزوج من أبن خالتها الوسيم. القصة تجسد في رؤية واضحة هيمنة الرجل علي المرأة من خلال زيجات ثلاث ارتبط بها، هذا الزوج المأزوم المستغل والذي يبحث عن الزوجة الرابعة في شخص الكاتبة التي يحاورها في عيد ميلاده إنما هو صورة من صور الرجال التي تخفي داخلها أبعاد غير إنسانية، فكل امرأة تقابل معها وجد فيها ضالته لذا فهو يتعامل معها من منطلق الصياد والفريسة، وقد ظهرت الملامح الداخلية لهذا الرجل من خلال مشاريعه ومدي استفادته منها، حتى وهو يبث حواره مع الكاتبة وجد فيها ضالة جديدة فعرض عليها الزواج تاركا نهاية القصة مفتوحا للرد: "قولي لي ألا يبدو عليّ الشباب؟ وأنت ألا تريدين الحفاظ على شبابك؟ هل أنت مرتبطة، لا أرى في أصابعك خاتما، يبدو أنك عزباء، هل تتزوجينني؟""ص68". القصة بها حراك خاص حول الرجل، كرمز للآخر المتسلط ومحاولتة الهيمنة عن طريق الجاه والمال، وتقوقع خاص حيال المرأة التي تقع فريسة لمحاولات الهيمنة والتسلط وشهوة المال والسلطة.

    وفي قصة "موت الحواس" يعلن الراوي موت حواسه بسبب عبثية الحياة التي يحياها فهو يشعر بوطأة الأيام علي عقله وجسده لأنه اكتشف أنه كائن مفرغ من الرغبة والتمني عاجز عن فعل أي شيء، لذا فهو يحاول التذكر دائما حتى يستطيع أن يقف على أسباب هذا التأزم الذي يرزح تحته: "أحاول التذكر، ذاكرتي لا تسعفني للقبض على اللحظة الحاسمة، كل ما أعيه أنني فاقد لحواسي تماما، وأنني عاجز عن الإحساس بروح الأيام، واستشراف لحظاتي منها رغم كل الأحداث التي عصفت بحياتي" "ص41،42". القصة على النقيض من قصة "صور" فالرجل هنا مأزوم أيضا ولكن بطريقة مغايرة فهو صحفي عانى الكثير من متاعب المهنة، فصل من عمله، وتركته عشيقته "ماجي" بسبب شذوذه الذاتي، ويديه الناعمتين دلالة الضعف والخنوع بعد أن تحجبت، مات أخوه في حرب الخليج، وسببت له كتاباته العديد من المشاكل، لذا فقد كان لزاما البحث عن حل لفقده لحواسه، ذهب إلى الطبيب النفسي ليساعده، ويقف على أسباب علته. المضمون في هذه القصة مضمون نفسي يعكس التوتر الذي أصبحت عليه الشخصية بعد تعرضها للعديد من المواقف في علاقتها العاطفية وعلاقة العمل، إن موت الحواس بهذه الطريقة إنما هو موت مبكر، وربما يتماهى الحدث مع ذاكرة الشخصية في كل ما جرى لها من توترات ومواقف أدت إلى وصولها إلى هذه الحالة النفسية المتردية، يبدو الآخر هنا في هذا النص وكأنه يمثل حالة من حالات التماهي المتداخلة مع علاقة الأنثى لها والرافضة لطبيعتها ومكوناتها الذاتية.

    وفي قصة "السابعة إلا ربع" تجسد هذه العلاقة بين الراوية وجارتها "أمينة" نوعا من المتناقضات الاجتماعية المتواجدة دائما في بنية المجتمع من خلال الوهم والوساوس التي تثيرها الجارة في ثرثرتها اليومية للراوية، والتي تحاول فيها الراوية أن تبتعد عن عالمها الكاذب، وحكاياتها المختلقة التي تحكيها "أمينة" في عفوية وتلقائية ساذجة وفي نفس الوقت تكون هي أول من تصدقها وتقتنع بها، فهي تختلق قصص عن عصابة تسكن في الشقة المجاورة، وعن الصيدلية التي تحقن الشباب بالمخدر، وعن الشقة التي تنبعث منها رائحة الدعارة، وغير ذلك من الحكايات المختلقة المثيرة، وتحاول الراوية في كل مرة تطرق بها أن تتهرب من مقابلة هذه الجارة الثرثارة بكل الطرق ولكنها تفشل، كما تحاول أن لا تنزل إلي مستواها الثقافي والإجتماعي المتدني قدر المستطاع، إلا أن الحالة كانت مستعصية عليها بسبب تداخل العلاقات وتقاطعها في هذه البيئة. إلا إنها بمرور الوقت والعشرة تتلبسها نفس الحالة، حين ينقل لها وهمها مشهد القبض علي "أمينة" نفسها علي مسمع من الجيران والناس، وتواجد الشرطة في الشارع لهذا السبب، وتتزامن هذه الواقعة مع حضور زوجها من عمله والذي ينكر في نفس الوقت رؤيته لأي مشهد من هذا القبيل: " مفتاح يدور في الباب، ووجه زوجي يبحث عن وجهي في العتمة، ينادي علّي، اسأله مباشرة ماذا جرى؟ ماذا هناك؟ ولماذا يقبضون على أمينة؟ اطلب منه الإجابة، يهز برأسه نفيا بأنه لا يعرف وبأنه لم يشاهد أي سيارة بوليس أسفل العمارة " "ص79". القصة في دلالتها تثير إشكالية خاصة عند تلقيها، فهي قصة واقعية عادية جدا، إلا التفسير المنطقي لحدثها هو أن الخواء النفسي لدى الزوجة هو الذي حولها إلى أمينة جديدة تكذب وتصدق ما تكذبه، وهي عادة انتقلت إليها من جارتها أمينة ذاتها التي نجحت الكاتبة في رسم شخصيتها بحيث انتقلت عدوى الكذب والصدق منها إلى شخصية الراوية فتلبستها الحالة وأصبحت أمينة ثانية. تثرثر وتحكي وتختلق الأحداث والحكايات وتكرر التباس الآخر الأنثوي بذاتها، وتصبح حالة من حالات النساء المتكررة في بيئاتنا الاجتماعية شاءت أم لم تشأ.

    وفي قصة "رعشة" تتجسد تجربة أنثوية خالصة تبدأ من بكارة الرعشة الأولى عند الفتاة والتي ترى العالم من حولها يمور بالممارسات الأنثوية بين نساء المنزل، وفي الطريق حيث ترى العشاق يتقابلون أمام عينيها بينما هي تجلس بجانب النافذة تراقب وتشاهد فقط دون أن تكون طرفا في أي من هذه المشاهد، وحين تمر هي بالتجربة مع ابن الجيران تجد هذه التجربة وكأنها الحياة بأكملها من خلال الرعشة الأولى التي انتابتها حين قبلها علي سلم المنزل، وأسلمتها هذه الرعشة إلى قدرها بعد ذلك بحيث استسلمت إلى أول طارق يطرق بابها للزواج، وكانت أن اصطدمت بواقع الحياة دون أن تعاد إليها الرعشة الأولى التي مرت بها لأول مرة. القصة بها بعد يتجسد فيه الآخر دون أن تظهر ملامحه، ولكن ملامحه ظهرت من خلال النهاية المفتوحة التي تركتها الكاتبة لتعبر من خلالها عن وضعية الحياة بالنسبة للمرأة خاصة في المجتمعات المهمشة والنازفة لجرح الواقع.

    بعد هذا التحليل لبعض نماذج من مجموعة "الموتى لا يكذبون" نعود إلى التساؤل الذي سبق أن طرحناه في بداية هذه الدراسة. هل نجحت الكاتبة في التعبير عن صورة الآخر في مجموعتها التي تعتبر كما قلنا إمتداد عضويا للنصوص الواردة بمجموعتها السابقة "أوهام شرقية" حيث تمثل المجموعتان محاولة ذاتية للتعبير عن الوجع المتواجد في الصراع اليومي للحياة، وهذه العلاقة الملتبسة التي يحياها الإنسان بين الآنا والآخر كما قالت الكاتبة في تذييلها لآخر المجموعة الأولى. ولا يسعني في النهاية إلا أن أقول على لسان شخصية قصة "إعتراف" آخر قصص مجموعة "الموتى لا يكذبون": "حسنا يا لنا"...

    ها أنا أفاجئك من جديد بما كنت تخشينه، أبين في عالمك مرة أخرى لأكشف الحقائق وأعلن أمام الجميع أنني ما زلت حية، متمردة على علبة الصفيح الأسود التي عبأتني فيها لتلقين بي إلى البحر عبر حبل كلماتك الذي ربطتني فيه حتى حين". في هذه القصة التي أنهت بها الكاتبة مجموعتها الثانية تبدو الذروة التي ربطت بها الكاتبة مجموعتيها القصصيتين "أوهام شرقية" و"الموتى لا يكذبون" برباط خفي وهم الإرتداد إلى العالم الداخلي للمرأة لتعبر من خلاله عن ذاتيتها وعن صورة الآخر في حياتها وعن التأزمات التي تنتاب الجميع علي مستوي الواقع والخيال حيث تدفع الكاتبة بأبطالها وشخوصها إلى زوايا نفسية وإجتماعية وثقافية لتحدد من خلالهم رؤيتها الخاصة تجاه هذا المنظور المتفاوت في التشكيل الفني للنص القصصي في عالمها الإبداعي.

Working...
X