Announcement

Collapse
No announcement yet.

الفناء والبقاء - عند ابن عربي - إعداد المحامي : بسام المعراوي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الفناء والبقاء - عند ابن عربي - إعداد المحامي : بسام المعراوي

    الفناء والبقاء - عند ابن عربي
    إعداد المحامي : بسام المعراوي

    في نظر ابن عربي لا يستطيع الإنسان العادي رؤية الحقِّ في صوره المتنوعة بسبب التفرُّع الأصلي لوعيه إلى ذات وموضوع؛ إذ إن الذات المتميِّزة عن الموضوع، أي الأنيَّة، مصنوعة بحيث إنها لا تتعرف في عالم الظواهر إلا على تكتلات من الأشياء المتكثِّرة بوصفها موضوعات عديدة للمعرفة. بذلك فإن على المرء، لكي يتخطَّى صعيد الكثرة الأونطولوجية، أن "يمحق" وعي أنيَّته. وإن السلوك الروحي الشاق، المحفوف بالأهوال، باتجاه هذا المقصد يقود المرء أخيرًا إلى اختبار ما يصطلح الصوفية على تسميته بـالفناء. و"الفناء"، اصطلاحًا، يعني اضمحلال الأنية، وينطوي على تلاشي عالم الوجود بأسره؛ إذ إنه حيثما لا توجد أية ذات عارفة لا يوجد، بالتالي، أيُّ موضوع معروف. والفضاء المطلق الذي يتحقق فيما يتعدى تفرُّع الوعي البشري إلى ذات وموضوع يتراءى بوصفه حقيقة سابقة على الوجود في لاتعيُّنها الغيبي، يدعوها ابن عربي الأحدية.
    و"الأحدية"، المشتقة من الاسم الإلهي الأحد، نفيٌ كلِّي غير مقيَّد لكلِّ الأشياء دونما استثناء؛ وهي "الغيب المطلق" قبل أن يتجلَّى في شكل محدَّد، اللاتعيُّن قبل أن يتعيَّن، واللامتصوَّر قبل أن يتصوَّر في صورة معيَّنة. وحتى الله، باعتباره نسبيًّا، هو واحد من الصور المتعيِّنة للأحدية المطلقة.
    بذلك لا يدرك الصوفي الذي بلغ حال "الفناء" إلا الأحدية، فيرى الأحدية في كلِّ شيء، ولا شيء سواها. وفي حال الإدراك الإلهي هذه يتحول العالم بأسره إلى "الأحد" بدون أدنى أثر للتصوُّر أو للتعيُّن. تلكم هي، بالمصطلح الصوفي، وحدة الشهود، التي كان الحلاج أبرز ممثِّليها. لكن الصوفي، كما يُحاجِج ابن عربي، ينبغي ألا يتوقف عند هذا الشوط من الخبرة الصوفية؛ إذ مَن لا يرى إلا الأحد، مَن يرى العالم برمَّته راجعًا إلى حالة أونطولوجية من اللاتمايز التام، مازال ناقص الإدراك. على الصوفي الكامل أن يخطو خطوة أخرى ليصبح ذا العينين، أي الإنسان القادر بحق على رؤية عالم الوجود بوصفه الجامع بين الضدَّين: الوحدة والكثرة. وإن حال الحقيقة هذه تتحقق بالخبرة في حال البقاء التي تتخطَّى حال الفناء.
    من الواضح بأن الكثرة، في هذا السياق، تشير إلى البعد الظواهري للوجود، عالم الأشياء الظاهرة المتعيِّنة في تنوع لانهائي؛ إلا أن من الجلِّي أيضًا أن الكثرة، كما تتحقق في خبرة "البقاء"، ليست "الكثرة" بوصفها ضد "الوحدة". ولعل في وسعنا تقريب "الجمع بين الضدَّين"، الذي نحن في صدده، إلى الأذهان – على الرغم من تعذر ذلك – بالقول إن "ذا العينين"، بالمصطلح الصوفي، هو القادر على رؤية الحقِّ في الخلق والخلق في الحق؛ أو باستعمال استعارة أثيرة إلى ابن عربي، بوسعنا القول إن "ذا العينين" هو القادر على رؤية كلا المرآة والصور المنعكسة فيها، حيث الحقُّ والخلق يلعبان، على التناوب، دور المرآة ودور الصور المعكوسة. إن رؤية الكثرة الملوِّنة للأشياء الظاهرة ليست، كما هي لدى العامة، "حجابًا" أونطولوجيًّا يحول دون رؤية الصوفي للحقِّ المحض في حالة لاتعيُّن قصوى. كذلك لا تحول رؤيةُ "الأحد" دون ظهور الكثرة؛ فعلى العكس، يتمِّم كلُّ واحد منهما الآخر في إظهار البنيان الكلِّي للحقيقة، من حيث إنهما وجهاها الأصليان: الوحدة تمثِّل مظهر الإجمال والكثرة مظهر التفصيل. ومادمنا لا ندرك على هذا النحو جدلية العلاقة بين الوحدة والكثرة، في فعل معرفة إلهي–أونطولوجي، فإننا نبقى محرومين من رؤيةٍ كلِّية للحقيقة كما هي عليه حقًّا.
    التجلِّي
    إن ما حاولنا أن نترسَّمه لتوِّنا في بسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لـ"وحدة الوجود". فهي مذهب خاص يقوم على رؤيا إلهية يختبرها الصوفي بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة. والمصطلح الدال على هذا التفاعُل هو التجلِّي، الذي يُدعى في مذهب ابن عربي بـالتعيُّن أيضًا.
    وبالنسبة إلى تأرجح الوعي بين حالي "الفناء" و"البقاء"، يمضي "الأحد" المطلق متدرِّجًا، متحولاً إلى الكثرة الظاهرية، عبر فعل تجلِّيه وتعيُّنه؛ وبعبارة أخرى، ثمة في الوحدة نزوع أصلي أو ضرورة أونطولوجية، أو نوع من الطاقة المبدعة، التي يرمز إليها الأمرُ الإلهي كُنْ، هي التي يطلق عليها ابن عربي اسم الحب أو المحبة. فعالم الوجود بأسره يُعتبَر بهذه المثابة تجلِّيًا للـنَّفَس الرحماني.
    جدير بالذكر هنا أن أول مظاهر الطاقة المبدعة للوحدة هي "الوحدة" نفسها؛ أي أن بنيان الوحدة، في حدِّ ذاته، ذو بعدين، ويحمل بهذه المثابة اسمين اثنين: الأحد والواحد. وهاتان الكلمتان المشتقتان من الجذر نفسه ليستا مترادفتين في لغة ابن عربي الاصطلاحية، حيث "الأحد" هو الوحدة المحضة – حقيقة الوجود في حالة لاتعيُّن مطلقة، بينما "الواحد" هو حقيقة الوجود نفسها في طور تبدأ فيه بالتوجُّه إلى الظهور.
    بذلك يكون "الأحد" هو الوحدة فيما يتعدى كلَّ التعيُّنات وكلَّ الصفات؛ وبالتالي، فهو عصيٌّ على أيِّ علم، إنسانيًّا كان أو إلهيًّا. وبلغة الإلهيات يمكن وصف الأمر بالقول إنه حتى الله عندئذٍ لا "يعرف" نفسه. وإن وعي الله لنفسه لا يظهر إلا عند عبور وصيد الواحدية. "الأحد"، بهذه المثابة، غيب؛ بل هو الغيب المطلق أو غيب الغيب.
    أما "الواحد"، على العكس، فهو الوحدة مضافةً إليها الصفات الإلهية. وهذه الصفات المنطوى عليها في الوحدة تتحقق بوصفها أعيانًا ثابتة أونطولوجية. وهذه "الأعيان الثابتة" (أو "الأنماط البدئية"، بالمصطلح الفلسفي) تعيِّن الصور التي تتمخض بها الطاقة المبدعة للحقيقة المطلقة باستمرار عن أشياء عالم الظواهر عند المرحلة التالية من التجلِّي الإلهي.
    تلكم هي الخطوط العريضة لسيرورة "تجلِّي" المطلق، كما انكشفت لابن عربي، بدءًا من غيب الغيوب نزولاً حتى عالم الشهادة. وأهم نقطة يجدر الوقوف عندها في هذا الصدد هي أنه، بمقتضى ميلها الذاتي الباطن، تتفتَّح الوحدة عن الكثرة – أو، بدقة أكبر، تتحول إليها – عبر سيرورة متدرِّجة من التجلِّي. فعلى الوحدة، بالضرورة حتمًا، أن تتجلَّى في صور ظاهرية؛ بعبارة أخرى، فإن الله لا يستطيع إلا أن "يخلق". والمطلق لا يستطيع أن يستغني عن عالم الظواهر، مثلما أن هذا الأخير لا يستطيع أن "يبقى" إلا بفعل تجلِّي المطلق.
    تجديد الخلق مع الأنفاس
    ما يهمُّنا من كلِّ ما تقدَّم هو المستفاد منه لفهم نظرية الخلق عند ابن عربي، فيما يدعوه تجديد الخلق مع الأنفاس – وهو ذو صلة مباشرة مع جدلية "الفناء" و"البقاء". إن "الأعيان الثابتة"، أو الممكنات المحضة التي يتجلَّى فيها الله لنفسه، تظل في حكم العدم؛ إذ وحدها مظاهرها المتعيِّنة – جميع "النسب" الممكنة التي تنطوي عليها – تنتشر في الكون. وهذه التعيُّنات في الحقيقة لا "تخرج" من "أعيانها"، ولا يُستهلَك تنوعُها أو يُستنفَد، مثلما أن مويجات النهر لا تني تغيِّر من شكلها فيما هي، في الوقت نفسه، تنصاع للقانون المفروض عليها برسم مجرى النهر.
    في تشبيه النهر هذا – وهو ناقص بالضرورة – يمثل ماء النهر فيض الوجود المتواصل، ويمثل مجرى النهر "العين الثابتة"، بينما تقابِل المويجات الصورةَ، المحسوسة أو اللطيفة، الناجمة عن هذه القطبية الأونطولوجية. وبالوسع كذلك مقارنة "العين الثابتة" بموشور عديم اللون، يحلِّل ضوء الوجود الأبيض إلى أشعة ألوان قوس قزح جميعًا، بحيث يتوقف لون الأشعة على طبيعة كلٍّ من الضوء والموشور.
    إن تنوع انعكاسات "عين ثابتة" واحدة في العالم الذي يتعدى الصور (عالم الأرواح أو الجبروت) يظهر كـ"غنى" في مظاهره المحتواة بعضها في بعض، شأنها في ذلك شأن المظاهر المنطقية العديدة لحقيقة واحدة أو الجمالات اللانهائية المحتواة في جمال واحد. وإن تنوعها على مرتبة الوجود هذه هو أبعد ما يكون عن التكرار لأنه يعبِّر تعبيرًا مباشرًا عن "الواحدية" الإلهية. وفي الوقت نفسه فإن "الأعيان" المختلفة يشتمل بعضها على بعض. أما في عالم التعيُّن فإن انعكاسات "العين" الواحدة تتجلَّى على التوالي لأن تعيُّن الصور يتدخل هاهنا ليفرز المظاهر بعضها عن بعض. إن هذا العالم – وهو يشتمل على صور نفسانية مثلما يشتمل على صور جسمانية – هو الذي يُدعى عالم المثال لأن الصور التي تتجلَّى فيه على التوالي، أو في آنٍ معًا، يماثل كلٌّ منها الأخرى من جراء كونها مماثلة لـ"عينها" المشتركة.
    وإذا نُظِرَ إلى تنوع انعكاسات "عين" واحدة على التوالي، يقال إن "خلع" هذه "العين" على الوجود يتجدد كلَّ آنة تجددًا لا تلبث فيه حالة الوجود هذه على حال واحدة. فكأنها تنعدم وتتجدد، تفنى في لحظة، لتُخلَق من جديد في اللحظة التي تليها، دون انقطاع زمني بين الحالتين؛ ترتد إلى الذات الإلهية في كلِّ لحظة من لحظات التقلص، لتعود إلى الظهور والتجلِّي في حالة التمدد.
    أما الأنفاس فهي كيفيات لـنَفَس الرحمن، الذي يُفهَم منه، بحسب اصطلاح ابن عربي، المبدأ الإلهي الذي "ينفِّس" عن الممكنات النسبية أو ينشرها بدءًا من "الأعيان الثابتة". وهذا "التنفيس" لا يظهر كذلك إلا من وجهة نظر نسبية تظهر فيها حالة بطون الممكنات باعتبارها كَرَبًا. وإن "النَّفَس الرحماني" متصل بصفة الرحمة الكلِّية التي يعيِّنها الاسم الرحمن، من حيث إن الوجود يفيض بالرحمة "أعيانًا" لا حصر لها. [6]
    هذا ويربط ابن عربي جدلية "الفناء" و"البقاء" بتجديد الخلق، بما يحلُّ إشكالية التعارض الظاهري بين القائلين بـ"وحدة الشهود" والقائلين بـ"وحدة الوجود": الفئة الأولى تختبر الحق لحظة انعدام التجلِّي في الذات فقط، فلا تُثبِت إلا الحق، بينما تختبره الفئة الثانية لحظة انعدامه ولحظة إيجاده على التوالي، فترى الوجود واحدًا، وتُثبِت الخلق أيضًا كما تُثبِت الحق.
    ***
    يبقى أن عقيدة ابن عربي لا تزال مدار جدل كبير. فلقرون طوال ظلَّ العديد من الفقهاء – وعلى رأسهم ابن تيمية – يعتبرون الشيخ الأكبر زنديقًا و"ماحي الدين". [7] لكنْ على الرغم من هذا النقد الدائم، تخلَّلت عقائدُه التصوف اللاحق برمَّته؛ وحتى الصوفية الذين لم يوافقوه على مذهبه لم يتورَّعوا عن إدراج دقيقِ تعريفاته في تصانيفهم. وتأثيره هو الذي يضفي على الآداب الصوفية، ولاسيما الشعر المقروض في حلقات الدراويش، تجانسه في المعنى والمبنى.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــت
Working...
X