Announcement

Collapse
No announcement yet.

الأيام الأولى في الأندلس - لإبن عربي - المحامي بسام المعراوي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الأيام الأولى في الأندلس - لإبن عربي - المحامي بسام المعراوي

    الأيام الأولى في الأندلس - لإبن عربي

    المحامي بسام المعراوي

    تلقى ابن عربي تعليمه الإسلامي المبكر في ذلك المركز العقلي والروحي الكبير الذي كانتْه إشبيلية التي وفد إليها وعمره آنذاك لا يتجاوز الثماني سنين، وأقام فيها نحو ثلاثين سنة. هناك كرَّس نفسه، على بعض أكابر علماء المدينة، لدراسة العلوم النقلية: القرآن، الحديث، فقه الشريعة، الكلام والفلسفة. وقد كانت إشبيلية أيضًا من أهمِّ مراكز التصوف، يقيم فيها عدد من مشاهير مشايخ الصوفية. وهكذا فقد انجذب ابن عربي، انجذابًا جدَّ طبيعي، إلى سلوكهم ورياضاتهم وتعاليمهم. ولدى بلوغه العشرين، كان مكتمل الإدراك لطبيعة "بعثته" الروحية الفريدة، ودخل طريق الصوفية دخولاً لا رجعة عنه.
    ومما يستلفت النظر بصفة خاصة، في هذا الصدد، لقاؤه مع الوليَّة الشيخة فاطمة القرطبية، التي ظهرت له في الرؤيا محاطة بهالة سماوية. كان يشعُّ من شخصها باستمرار جوٌّ من الجمال الباهر، بحيث كانت تترك في ناظرها انطباعًا بأنها لم تتخطَّ عقدها الثاني، على ما يروي ابن عربي؛ فكلما مَثُلَ الفتى محمد بين يديها تعذَّر عليه ألا تحمرَّ وجنتاه حياءً في حضرتها. وقد قالت له فاطمة: "أنا أمك الإلهية"، معترفة به ابنًا روحيًّا. وبذلك، بوصفه واحدًا من مريديها المقرَّبين، بويِع بأول أسرار الطريقة. وإنه لذو مغزى أن مبايعته بطريقة التصوف تمَّتْ عبر خبرة حبٍّ روحي من هذا المستوى؛ إذ إن أولى خبراته في الحبِّ تدل سلفًا على إلهيات المحبة التي بسطها محيي الدين فيما بعد في مكة طائفًا حول الكعبة الشريفة.
    وبوصفه فتى أمرد، اعتنق ابن عربي حياة الدَرْوَشة، وطفق يقوم بسياحات طويلة في إسبانيا وشمال أفريقيا – قرطبة، ألمرية، تونس، فاس، مراكش – حيث اجتمع إلى كبار مشايخ التصوف فيها. وتجدر الإشارة، بصورة خاصة، إلى زيارته لقرطبة، حيث كان بينه وبين ابن رشد، الفيلسوف المشَّائي الكبير، ممثِّل التيار الأرسطي الصحيح في الفلسفة الإسلامية، لقاءٌ عجيب. فالمقابلة التي تمَّت بينهما بمبادرة من ابن رشد كانت حاسمة الأهمية لكلا الصوفي الشاب والفيلسوف الكهل، من حيث إنها ألقت الضوء على التبايُن والتلاقي بين طريق النظر العقلي المنطقي وبين طريق الخيال العرفاني، مما كان لا بدَّ له أن يؤدي إلى انشعاب الفكر الإسلامي برمَّته فيما بعد. [3] زِدْ على ذلك أن واقعة أنه كانت للصوفي الشاب اليدُ الطولى على الفيلسوف المشَّائي في تلك الحادثة، تاركًا الأخير في النهاية مُفحَمًا، تجيز لنا وضع إصبعنا بدقة على الفيصل بين عقيدة ابن عربي وبين خبرة الصوفية، فيتبيَّن لنا كيف يتصل التصوف كحياة والعقيدة المعبِّرة عنه واحدهما إلى الآخر في الإدراك الروحي. فالأمر لم يكن مجرَّد غلبة التصوف على الفلسفة؛ إذ إن خبرات ابن عربي الصوفية الرؤيوية كانت وثيقة الصلة إلى حدٍّ كبير بنظر عقلي بالغ الدقة، متَّكئة عليه ومدعِّمة له على حدٍّ سواء. فابن عربي صوفي كان، في الآن نفسه، معلِّمًا حقيقيًّا في الفلسفة، في شقَّيها المشَّائي والأفلاطوني، بحيث إنه استطاع – أو بالحري كان لا بدَّ له – أن ينظِّر لخبراته الروحية في عقيدة كلِّية تشمل الكون بأسره، كما سنحاول أن نبيِّن بإيجاز، فيما يتعلق ببنيان إلهياته في وحدة الوجود التي ستكون لنا عودة إليها في سياق المقال.

Working...
X