Announcement

Collapse
No announcement yet.

د. جميل حمداوي ( آليــــة التوصيف ) - روائية ألواح خنساسا - لــ بنسامح درويش

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • د. جميل حمداوي ( آليــــة التوصيف ) - روائية ألواح خنساسا - لــ بنسامح درويش

    د. جميل حمداوي ( آليــــة التوصيف )
    - روائية ألواح خنساسا - لــ بنسامح درويش



    آليــــة التوصيف:


    من المعلوم أن الوصف ينصب على الشخصيات، والأمكنة، والأشياء، والوسائل. ومن هنا، فقد حظيت الشخصيات في رواية:"ألواح خنساسا" بحصة الأسد، باعتبارها كائنات أسطورية فانطازية غريبة غير مألوفة في عالمنا الواقعي هذا. بمعنى أنها شخصيات تألهت وتأسطرت لتسحق بني البشر بالقوة الخارقة والبطش النووي.وقد استعمل الكاتب في وصفه الاستعارة، والتشبيه، والنعت، والتمييز، والحال، واسم التفضيل، والمجاز، والسخرية:" كان خنساسا هائج الأبعاد،صاعق النظرات، متوفز الملامح، بادي الكشكوشة عند ملتقى الشفتين، لايستطيع أحد أن يقترب منه ؛ وهو يصرخ باسترسال ولهفة في وجوه الجماهير: إلى أين؟ إلى أين؟ فأحسست أن هذا السؤال الذي يسكن خنساسا نابع من صلب رؤيتي للعالم، كنت أنا نفسي سأجعله في موقف ما يطرحه في وجه الإنسان، ووسعت إدراكي لمحنتي، واهتديت إلى رحابة الصدر وضرورة التعامل مع أوقاتي العصيبة بمزيد من السياسة والدهاء، عسى أن يعود خنساسا من تلقاء عصيانه إلى مجرى الواقع كما هي مسطرة في تصميم الرواية. كان يسقسق وراءه عدم خاطف!

    يضرب في أعماق المدينة وأنا أتبعه..

    يجوب الأزقة والشوارع والساحات مثل فرس جموح، أو كأنما تسكنه صاعقة مراهقة، يجوب الأمكنة وأنا أتبعه على مضض، ينسف السابلة بسؤاله، يصافح الجدران مثل أشخاص يعرفهم، يحيي الفراغ، يقف على قدم واحدة، يرشف بلا استئذان من فناجين الجالسين حول طاولات المقاهي، يسير إلى الخلف، يقلد هرير السيارات بفمه، يقهقه، يرقص بلا ضوابط على إيقاعه الخاص، يقبل الشبابيك الأوتوماتيكية للأبناك بحرارة، يفرد ذراعيه كأنهما جناحان ويهم بالطيران، يصيح بأسماء الآلهة..حكير، زوا، بدودو، زرزا، يوران، بلوتونيوس، دديس، حتشو...ويتخذ في أماكن بعينها هيئة نصب تذكاري."#

    وقد أسبغ الكاتب على شخصياته صفات القبح، والسوداوية، والفضاضة، والدناءة، والخساسة، بل إن شخصياته شخصيات فانطازية مرحاضية تقتات البراز، والقيح، والحيض، وتتلذذ بالأوبئة والأمراض الفتاكة. أي: إنها شخصيات ملوثة منحطة وموبوءة كشخصيات ألبير كامو، وكافكا، وبنسالم حميش في روايته:"سماسرة السراب"، ويحيى بزغود في روايته:"الجرذان".. وفي هذا الصدد، يقول السارد واصفا شخصياته المرحاضية الدونية:"كان خمبي بكوبه البلاستيكي ذاته قد شرع في نقل رحيق القصعة الرقطاء إلى شفاه الآلهة،وبدأت باحة المرحاض تمور بكائنات وشخوص لم تكن مسجلة بالمرة في جذاذتي الخاصة بهذه الرواية، كائنات تتفتق تباعا من رحم الظلمة، وتتحرك في ألفة وتبرج وغنج في أحضان القوس الإلهي، كائنات شرشفت عيون الآلهة بشراشف الشبق وخلبت ألبابهم، وصرفت أنظارهم عن طلعة خنساسا، ودب في عروق الأنوناكي نسغ النزوات، وانفتحت أسارير الآلهة عن مشاعر القرف والاشمئزاز، حتى كدت أهب واقفا من لسع الحنق ولطم المهانة، وضنك تدبير العيش والسرد لشخوص جديدة بتلك البشاعة والكثافة، واستحضرت بيني وبين نفسي- بالموازاة مع مأساتي- مقياسا راجحا لدرجات الحنق، من خلال استحضار مشهد امرأة يفاجئها بعلها بكوكبة من الضيوف قبيل ميقات النوم، فلا تجد سوى المطبخ مكانا مناسبا للانفجار!"#

    وهكذا، ينقر الكاتب من خلال وصفه هذا على ثنائية المقدس والمدنس، والهامش والمركز، للتنديد بعالم التناقضات الذي انحط فيه الإنسان، وتقزم وجوديا، وتهاوى قيميا في الحضيض. علاوة على ذلك، يصف الكاتب كذلك أفضية فانطازية تتأرجح بين الغرابة والألفة، وبين الواقع واللاواقع.ويعني هذا أن التخييل الفانطاستيكي الغريب هو الذي يتحكم في تقنية الوصف المكاني، حينما يفتقد المعنى، وتغيب الدلالة، ويتحول المعقول إلى لامعقول:"كان الضوء المنظم لحركة المرور جاحظا في أعلى العمود الحديدي الأخضر يغير لونه بانتظام وانضباط؛ لكن بلا معنى، وكنت أحدث نفسي في لجة اللغط المتنامي: هل كنت قادرا على زرع كل هذه البلبلة والفوضى بمجرد وضع الكون في حضن طقس فانطازي؟ هل كنت قادرا على استفزاز سهو الناس وصحوهم في نفس الآن، بمجرد خيانة طفيفة اقترفها في حقي إله حقير؟ هل أفجر نفسي- هكذا- في فضاء عمومي، وأصيح في الناس أن هو إلا كائن من علكة الخيال؟ هل يمكن أن يكون هذا الذي أرى كله كابوسا سينطفىء بعد حين؟.. هل أكون قد جننت من غير أن أعلم؟!"#

    وقد يختلط الوصف الشخوصي بالوصف المكاني، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرواية ذات طبيعة مزدوجة: رواية شخوصية ورواية مكانية بامتياز. لكن تشترك الأوصاف كلها في البشاعة والغرابة والقبح:" جلس خنساسا واضعا يديه فوق ظهري الممهد، وقد تحلقت حوله الآلهة في هيئة قوس تلقائي بديع،- لم تكن هندسته مسطرة بذلك الشكل في جذاذتي الخاصة- قوس يبدأ من اليسار برب المجاري حتشو الفتي الممسك بباب المرحاض في مباهاة وخيلاء،ويمتد من خلال حكير القاعد أرضا قعدة المنصهر في طقوس اليوغا، فربة الضوضاء ميرا المشرئبة بعنقها بحثا عن جرعة ضجيج تداري بها هدوء المجلس، فبدودو المفتون في نفس الآن بسيد الآلهة، وبما يعتمل فوق المصطبة من أنين وزفرات وسعال، فزوا الجذلان دوما بسريان شريعته في أرجاء الأرض، فيوران المعتد بفحولة أكاسيده، وينتهي القوس إلى اليمين عند بلوتونيوس المستلقي باستهتار فوق دولاب شاحنة؛ مشيحا بوجهه قليلا عن سيد الآلهة الذي تعلقت بمقامه العيون في انتظار إعلانه عن افتتاح الحفل الكبير، وقد وقفت زرزا بانضباط إلى جانبه قريبا جدا من رأسي المعقوف فيما كان خمبي يقتعد طوبة إسمنتية مجوفة بباب المرحاض العمومي المخنوق، والسكري ينتصب كالحارس المتوفز الحواس عند نقطة منحنى القوس الإلهي؛ مندغما بمعطفه الأسود بحلكة الظلال الليلة التي رسمت حدودها الثابتة الأضواء الهاربة وجدران المحطة العتيقة، فاصلا بين عالم الإنس فوق المصطبة، وعالم الآلهة في باحة المرحاض."#

    ولم يقتصر وصف الكاتب على الشخصيات والأمكنة والأشياء، بل اهتم أيضا بوصف الوسائل، كوصفه للسيارات في مدينة موبوءة بالعبث والفوضى والضجيج:" كنت محشورا بطريقة هتشكوكية بين الجمهور الواقف ببلاهة على الأرصفة، يتابع ذلك المشهد في توتر وحرج وانفعال محتدم تحت ضغط جعيق السيارات والشاحنات والحافلات المكبوحة في صف طويل يندى له الجبين؛ من غير أن أتمكن من السيطرة على الموقف، أو اقتناص فرصة جانبية للتفاوض مع الإله خنساسا المنفلت من عقال الكتابة."#
Working...
X